الحضارة المصرية في العهد اللوبي

الدِّين

جرت السُّنة على أن تكون الديانة في أي قطر من أقطار العالم من أكبر المظاهر وأدلها على ما لهذا القطر من درجة في الرقي والحضارة؛ فقد بدأ الإنسان بعبادة الأجداد ومظاهر الطبيعة كلٌّ على حسب بيئته، ثم أخذت هذه المعبودات المتعددة تنكمش وتتبلور شيئًا فشيئًا، وكان من جراء ذلك أنْ قلَّ عدد هذه الآلهة، وأصبح لا يعبد منها إلا من كان عُبَّاده لهم نفوذ وسلطان على من جاورهم من الجماعات الأخرى المجاورة لهم، ومن ثم نشأ إله القرية ثم إله المدينة وأخيرًا إله المقاطعة.

وكانت مصر في بادئ أمرها تسير على هذا النظام من أول نشأتها عندما كان لكل مقاطعة إله يعبد فيها ويقدس، ولما اتحدت البلاد وأصبح اتحادها في بادئ الأمر ممثلًا في الوجه القبلي والوجه البحري كان إله كل من هذين القطرين هو المسيطر على الآلهة الآخرين في المقاطعات التي يتألف منها قطره، وأخيرًا عندما تمت وحدة البلاد على يد «مينا» كما يقال أصبح إله العاصمة هو الإله الأعظم في البلاد كلها، وقد كان وقتئذ إله العاصمة المحلي هو الإله «بتاح»، غير أن سيطرة هذا الإله لم تدم طويلًا؛ إذ بعد انتقال العاصمة إلى مكان آخر أصبح الإله المحلي للعاصمة الجديدة هو الإله الأعظم المسيطر على كل الآلهة الأخرى، وهكذا دواليك كلما اتخذ الملوك عاصمة جديدة أصبح إلهها المحلي هو إله الحكومة والإله العظيم للبلاد جميعًا. ومن الغريب أن هذه السُّنة قد بقيت مرعية ثابتة حتى أواخر العهد الفرعوني الأصيل. على أن ذلك لا يعني أن العقائد الدينية المصرية في الداخل لم تتغير وبقيت جامدة، بل على العكس نجد أنه قد حدثت تطورات في المظاهر الخارجية، وكذلك في التفكير الداخلي كان لهما أثرهما الفعال في أخلاق القوم ورقيهم الأدبي وسيرهم نحو فكرة الوحدانية التي طفر إليها «إخناتون» بعد أن مهد إليها السبيل أسلافه بعض الشيء. حقًّا، إن هذه الطفرة جاءت مبتسرة قبل أوانها؛ ولذلك ماتت في مهدها، غير أنها تركت أثرًا عميقًا في عقول المفكرين لا في عقول العامة الذين قالوا وقتئذ: إنا وجدنا آباءنا على دين وإنا على أثرهم لمقتدون.

وعلى الرغم من الطفرة التي قام بها «إخناتون» جهرًا بإعلان وجود إله واحد يتمثل في القوة الكامنة وراء قرص الشمس الذي يعد المظهر العظيم لإلهه الجديد، فإن ديانته لم تكن وحدانية خالصة؛ إذ بالفحص وجدنا أنه كان هو يشرك نفسه مع إلهه «آتون»، فكان «إخناتون» نفسه وأسرته يعبدون «آتون»، وقد قضوا من أجل ذلك على كل الآلهة الآخرين. ولكن من جهة أخرى نجد أن الشعب نفسه كان يعبد «إخناتون» نفسه؛ لأنه فضلًا عن ألقابه الرسمية كان يلقَّب كذلك الإله الطيب، هذا فضلًا عن أنه قد قرر أنه ابن «آتون» من جسده. وتدل كل المناظر التي وجدت في «تل العمارنة» على أنه كان هو يقوم بخدمة قرص الشمس الحي، في حين كان كل رجال بلاطه ينحنون إجلالًا وتعبُّدًا للملك نفسه، فلم تكن صلواتهم موجهة «لآتون» بل «لإخناتون» مباشرة.١ وعلى أية حال، فإن طفرة «إخناتون» كانت خطوة جريئة نحو عقيدة التوحيد، ولما عادت الديانة القديمة إلى مجرى حياتها بعد موت «إخناتون» وجدنا أنها قد تأثرت تأثرًا كبيرًا بعقيدة التوحيد، ولا أدل على ذلك من الأناشيد والقصائد التي كانت تكتب تعبدًا وتضرعًا للإله «آمون» وثالوثه في طيبة؛ فقد جاء في هذه الأناشيد عبارات تدل على أن هذا الثالوث ليس في واقع الأمر إلا إلهًا واحدًا، ولم نكن نعرف هذا مما قرأناه من قبل في ديانة القوم، بل جاء مباشرة عقب الأثر الذي تركته ديانة «إخناتون».
وقد استمرت عبادة «آمون» تعلو وتسيطر على كل العبادات التي كانت منتشرة في البلاد خلال الدولة الحديثة، فكانت الآلهة الأخرى لها مكانتها المرموقة في مدنها التي تقيَّد فيها على حسب مركزها السياسي، ولكن «آمون» بقي هو الإله الأعلى ومركزه الرئيسي «طيبة»، ولما انتقلت العاصمة إلى الوجه البحري كان «آمون» هو إله الدولة وأعظم الآلهة ثروة وجاهًا، ويليه في المرتبة الإله «رع» رب «عين شمس» العاصمة الدينية القديمة، والإله «بتاح» رب «منف» التي كانت عاصمة للبلاد كذلك في الأزمان العتيقة ونقطة الوسط في أرض الكنانة. وقد كان من جراء نقل العاصمة في أواخر الدولة الحديثة إلى الوجه البحري في «برعمسيس» مرة وفي «تانيس» مرة أخرى أن وفدت من بلاد الشرق المجاورة بعض الآلهة عُبِدَت في مصر وتأثرت الديانة المصرية بها؛ غير أنها هضمتهم كلهم وأصبحوا معبودات مصرية لهم صفات الآلهة المصريين. وقد ظلت الحال كذلك إلى أن جاءت الأسرة الواحدة والعشرون التي في زمنها قسمت البلاد إداريًّا ودينيًّا قسمين: الوجه القبلي وعاصمته «طيبة»، والوجه البحري وعاصمته «تانيس»، ومن ثم أخذت عبادة «آمون» تظهر بمظهر جديد؛ فقد أعلن كهنته أنه هو الملك المسيطر على البلاد والحاكم المطلق لها، يفصل في كل شئونها، ويصدر الأوامر في أحوالها الدينية والإدارية بما يوحي به بوساطة تماثيله التي كانت تقوم بهذه الوظيفة كما شرحنا ذلك في مواضع مختلفة، وكما سنفصل القول في ذلك بعدُ. وقد ظلت الحال كذلك حتى نهاية الأسرة الخامسة والعشرين، ولم يكن عجبًا أن نرى في بعض النقوش أن «آمون» اتخذ لنفسه اسمًا ولقبًا كما كان يفعل الملوك، ومن ثم نفهم أن «آمون» قد أخذ يعد نفسه ملكًا حقيقيًّا للبلاد، ولكنه زاد على ذلك أنه كان المعبود الوحيد الذي لا إله غيره يعبد في السر والعلانية وفي كل مكان، ويتضرع له الناس كافة خشية وزلفى، وأن الآلهة الآخرين الذين يوجدون في طول البلاد وعرضها إن هم إلا أعوان له وهو المسيطر عليهم. وهذه مرحلة من المراحل التقدمية في سبيل التوحيد الحقيقي الذي جاء به العبرانيون في تلك الفترة من تاريخ العالم، ولا نزاع في أن العبرانيين هم أول من قال: بوحدانية الإله٢ وأن كل من عداه من الآلهة بِدَع وأشياء صنعها الإنسان، وأنه هو الفرد الأحد الذي يعبد في كل مكان وفي كل زمان ولا شريك له.
وفي حين نجد أن «طيبة» كانت تقترب بإلهها «آمون» من عقيدة التوحيد الحقة كان ملوك مصر في عهد الأسرة الثانية والعشرين يقيمون المعابد، ويحفلون بالأعياد لآلهة عاصمتهم وآلهة المدن الأخرى التي كانت لهم فيها مراكز حربية وقواعد سياسية، هذا فضلًا عن عبادتهم لآمون وتخليده. وأهم هذه الآلهة وأعظمها شأنًا (١) الإلهة «باستت» إلهة «بوبسطة» عاصمة ملك الأسرة الثانية والعشرين (٢) والإله «حرشف» إله «أهناسية المدينة» ثم (٣) الإله «بتاح» إله «منف».
  • (١)

    الإلهة «باستت»: هذه الإلهة ليس لها اسم قائم بذاته، بل مثلها كمثل بعض الآلهة، اشتق اسمها من المدينة التي تعبد فيها وهي «باست» (تل بسطة الحالية)، والاسم هنا يعني الخاصة ببلدة «باست»، وهذه الإلهة تعد ضمن مجموعة آلهة لها رأس أسد أو من فصيلة الأسد، وهذه الآلهة في العادة توحي بالفزع والخوف، غير أن بعضها يدل على الوداعة والسرور؛ فالإلهة «باخت» إلهة «بني حسن»، والإلهة «محيت» إلهة «طينة» القريبة من «العرابة المدفونة» لا تدلان على الفزع، بل كل منهما تعد إلهة الوادي الذي تسكنه. هذا، ونجد الإلهة «باخت» تسكن في الصحراء الغربية وتحرس الوادي، والإلهة «تفنوت» من جهة أخرى كانت في الأساطير إلهة رعب وفزع، ولكنها مع زوجها الإله «شو» إله الفضاء كان لها مظهر آخر وقصة طويلة مع زوجها.

    ولدينا الإلهة «سخمت» القوية التي تُمثَّل بجسم إنسان ورأس لبؤة، وكانت تقطن «منف»، وكانت معروفة بأنها إلهة الحرب، ومثلها مثل الصل الملكي الذي ينفث النار في وجه الأعداء.

    و«سخمت» هذه قد مثِّلت في صورة الإلهة «باستت» التي كانت أحيانًا برأس لبؤة، وأحيانًا برأس قطة، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه كان من الصعب التفرقة بين هذين الرأسين في الفن المصري، غير أن التمييز بينهما كان في معظم الأحيان ممكنًا بوساطة المتون التي كانت تكتب مع كل، وذلك أن المصري كان يميز الإلهة «باستت» بأنها إلهة الفرح والسرور، وتنعت «سخمت» بأنها إلهة الحرب والدمار. والواقع أن «باستت» كان مثلها كمثل الإلهة «حتحور» إلهة الفرح والرقص والموسيقا، فكانت الأولى تمثَّل برأس قطة وبإحدى يديها الصاجات وتحمل بالأخرى سلة، على أنها كانت تظهر أحيانًا برأس لبؤة؛ مما يدل على أنها تكون إلهة قتال وفزع عند الحاجة.٣

    ذكرنا أن هذه الإلهة تنتسب إلى البلدة التي تعبد فيها وهي «بوبسطة»، فهي إذن كانت إلهة محلية، وقد علا شأنها وعظم سلطانها عندما اتخذ ملوك الأسرة الثانية والعشرين «بوبسطة» عاصمة لملكهم، فبُنِيَ لها معبد باسمها ومثِّلت في جميع أرجائه، وكان لها ثالوثها كما ذكرنا ذلك في مكانه، وحتى في العيد الثلاثيني الذي أقامه الملك «أوسركون الثاني» لنفسه نجد أن هذه الإلهة على الرغم من أنها لم تأخذ المكان الأول في الاحتفال بهذا العيد، فإنها كانت توجد في الرسوم في الأجزاء السفلى من جدران قاعة العيد، فنشاهد «أوسركون» يقدم لها الساعة المائية كما يقول «نافيل»، هذا إلى أنها تظهر في كل أطوار الاحتفال واقفة أمام الملك سواء أكان هو واقفًا أم قاعدًا، كأنها هي التي تدير كل عملية الاحتفال مُظهِرة أن كل شيء قد عُمِلَ تحت حمايتها.

    وذكر «نافيل» أن العيد الثلاثيني الذي أقيم في «بوبسطة» كان خاصًّا بالملك، وليس له علاقة باجتماع «بوبسطة» الذي وصفه لنا «هيردوت»،٤ وهو الذي كان يعقد كل سنة. وعلى حسب نقوش «كانوبس»٥ كان يوجد اجتماعان كل سنة: الاجتماع الكبير، والاجتماع الصغير، وكان كل منهما يُحتَفل به في شهر بئونة، والعيد الثلاثيني للملك «أوسركون» لم يكن له أية علاقة خاصة بالإلهة «باستت» إلهة المدينة، إلا أنه من المحتمل إقامته في اليوم الأول من شهر كيهك، وذلك أن كل النتائج تدعو كيهك شهر «سخمت»، وهي أحد الأشكال التي تظهر بها الإلهة «باستت»، وربما كان ذلك صدفة. ومن كل ما سبق نجد أن الإلهة «باستت» لم تكن إلهة محلية وحسب، وأن شهرتها كانت بسبب اتخاذ «بوبسطة» عاصمة للملك، وأنه لما أقيم العيد الثلاثيني كان الإله «آمون» الذي كان الإله المسيطر في كل أنحاء القطر هو الذي يقوم بأعظم دور في هذا الحفل بوصفه الإله الأحد الفرد الصمد، أما الآلهة الآخرون فكانوا أتباعًا له وحسب.
  • (٢)

    الإله «حرشف»: يجد الباحث في تاريخ الآلهة المصريين القدامى ارتباكًا في تمييز الآلهة التي مُثِّلث في صور حيوانات، فكما وجدنا صعوبة في تمييز الإلهة «سخمت» من الإلهة «باستت»، كذلك نجد صعوبة في تمييز الإله «حرشف» الذي كان يمثَّل في صورة كبش من الإله «آمون» رب «طيبة» أو الإله «خنوم» رب «الشلال».

    فالإله «آمون» كان يتميز بالكبش المقدس الذي يمثله بقرنيه الملتويين الساقطين، أما الآلهة الأخرى التي تمثَّل في صورة كبش فكانت تمثِّل قرنيها متوازيين على رأس الحيوان، وبعيدين عن الرأس، ومع ذلك نقرأ أن الإغريق يميزون في الجنس الأخير بين التيس والكبش.

    فمن بين الكباش الكبش الذي يمثل الإله «حرشف» الإله العظيم لبلدة «أهناسية المدينة»، ويعده عُبَّاده بمثابة إله عالمي؛ إذ يطلقون عليه ملك القطرين، وتعد عيناه بمثابة الشمس والقمر، ومن أنفه يخرج الهواء،٦ ويدل معنى اسمه «الذي على بحيرته» على أن معبده يوجد عند بحيرة، وهذا هو الواقع؛ لأن معبد الإله كان مقامًا عند مدخل الفيوم، حيث توجد بحيرة قارون.
    وترجع عبادة الآلهة التي لها رأس كبش مثل «حرشف» و«خنوم» وتيس «منديس» إلى الأزمان القديمة؛ إذ وجدت لوحة من الأسرة الأولى يمثَّل عليها كبش يقبض بيده على الصولجان «واس»،٧ وفي أثناء هذا الوقت كان الإله «حرشف» قد استوطن «أهناسية المدينة»،٨ وقد جاء ذكر هذا الإله على حجر «بالرمو».٩ ولدينا وثيقة من أوائل الأسرة الخامسة تُظهِر أن إقليم الشلال كان ضمن المراكز الرئيسية لعبادة الإله «خنوم».١٠ وفي أوائل الأسرة السادسة نعرف أن الكبش كان يعبد في «منديس»،١١ كل ذلك كان قبل أن يظهر «آمون»، وأنه ورث عنهما بعض الصفات. وعلى ذلك فإن من المهم لدينا أن نفهم أن محرابين من محاريب عبادة الكبش كان لهما علاقة بتدفق المياه، فكان «حرشف» في «أهناسية المدينة»، حيث تتدفق المياه في الفيوم، والإله «خنوم» كان عند «الشلال الأول»، حيث يتدفق الماء إلى مصر نفسها، وقد كان كل من «حرشف» و«خنوم» متصلًا أحدهما بالآخر، ولا أدل على ذلك من أنه عندما قسمت مقاطعة «شجرة نعر» قسمين: «نعر العليا» و«نعر السفلى»؛ أي المقاطعتان العشرون، والواحدة والعشرون، كان من نصيب «حرشف» «نعر العليا»، ومن نصيب «خنوم» «نعر السفلى» (راجع أقسام مصر الجغرافية للمؤلف ص٦٧-٦٨).
    واسم «حرشف» يدل على نفسه؛ أي «الذي على بحيرته»، واسم «خنوم» مشتق من كلمة معناها: «عين ماء» أو «بئر ماء» لا بمعنى «يوحد» أو «غنم»، ومن محاريبه الهامة المحراب الذي في «الفنتين»، حيث كان يوجد الماء الطاهر والأواني الأربعة، وفيما بعدُ كان في الكهوف التي يصب فيها إله النيل الماء في أوانيه. ولدينا قصة من الأسرة العشرين نجد فيها أن تيس «منديس» كان يعبد عند «الشلال الأول»؛ إذ ذُكر في هذه القصة أنه يسكن في جزيرة «سهيل» القريبة من «الفنتين» (راجع Gardiner, The Chester Beatty No. I. p. 15 Note 1).
  • (٣)

    الإله «بتاح»: عندما استولى ملوك الأسرة الثانية والعشرين على زمام الأمور في البلاد لم يألوا جهدًا في أن يسيروا على نهج الملوك السالفين في عباداتهم ومناهجهم في إقامة المباني الدينية في أنحاء البلاد، وبخاصة أنهم كانوا يعلمون تمام العلم أنهم ليسوا من أصل مصري عريق، على الرغم من أنهم كانوا قد اتخذوا مصر موطنًا ثانيًا لهم وأصبحوا مصريين بمرور الزمن، وقد كان الآلهة السائدة عبادتهم في هذا الوقت هم آلهة العواصم الكبيرة في تلك الفترة، وأعني بذلك الإله «آمون» في «طيبة»، والإله «حرشف» في «هيركليوبوليس»، والإلهة «باستت» في «بوبسطة»، ثم الإله «بتاح» في «منف» العاصمة القديمة لمصر، وعلى رأس الكل «آمون». وقد تحدثنا عن عبادة «آمون» وعبادة «باستت» وكذلك عبادة «حرشف»، وبقي أن نتحدث عن عبادة الإله «بتاح» في «منف» في تلك الفترة.

والواقع أن اللوبيين عندما استولوا على زمام الأمور في مصر جعلوا منها مراكز حربية في جهات متفرقة؛ ليكونوا أصحاب النفوذ والقابضين على أعِنَّة الأمور إذا ما دعا داعٍ لقيام فتنة أو نشوب ثورة بين الأهلين، ومن أهم هذه المراكز التي كانت فيها حامية عظيمة للوبيين «منف» العاصمة العريقة في القدم لوادي النيل، وقد كان كما شرحنا من قبل الكاهن الأكبر لإله أي مركز من هذه المراكز الحربية هو في الوقت نفسه القائد الحربي من المشوش، وقد توارث وظيفة الكاهن الأكبر «لبتاح» سلسلة أفراد من أسرة المشوش حتى الفتح الكوشي.

والواقع أن الإله «بتاح» كان الإله الذي يمجَّد في «منف» أكثر من أي إله آخر، وقد كان يطلق عليه اسم آخر هو «تاتتن»١٢ (الأرض المرتفعة)، وقد كان يمثَّل «بتاح» عادة منذ القدم في صورة إنسان مزمِّل برأس أصلع عارٍ، وتظهر يداه كأنهما خارجتان من صدره، ويقبض في يده على صولجان، وليس في صورته ما يحدثنا عن أصله، وقد كان يلقب في النقوش المصرية «نحات النحاتين» و«صانع الفخار» الذي صنع كل صانع فخار، وهو يعد المحترف الأول لكل أصحاب الحرف ورئيسهم، وكان يدعى عند الإغريق «هفايستوس Hephaistos»، وإليه ينسب خلق العالم، وقد وُحد من أجل ذلك مع الإله «نون»؛ أي المحيط الأزلي الذي منه نبع كل شيء، وكذلك كان يسمى «والد كل الآلهة» و«الإله العظيم» منذ الأزل، والذي وجد أولًا بوصفه أول إله أزلي (راجع L. D. III p. 254 c).

وكذلك يقال: إنه قد عاش آبادًا لا حصر لها، أو إنه كان صاحب الأعياد الثلاثينية؛ ولذلك كان كل ملك يعد نفسه صورة منه؛ لأنه هو الملك صاحب الحكم الطويل، وعلى ذلك كان لا بد من قيام الإله «بتاح» بدور في الأعياد الثلاثينية التي كان يحتفل بها ملوك مصر مدة حياتهم كما تحدثنا عن ذلك من قبل.

هذا، ويُلحَظ أنه كان يُعبَد في منطقة «منف» إله آخر يدعى «سكر» يمثَّل بجسم إنسان ورأس صقر، وهو إله الموتى، وعندما عظمت عبادة «بتاح» في منف طغى على «سكر» هذا وأخذ كل صفاته وأصبح يدعى «بتاح-سكر»، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل «بتاح» يمثَّل في صورة مومية تقريبًا. وقد زاد الطين بلة أن «أوزير» أصبح هو إله الموتى الوحيد، فامتزج اسمه باسم إله الموتى «سكر» في هذه الجهة، وأصبح يدعى «أوزير سكر»، فلم يقبل عُبَّاد «بتاح» في «منف» ذلك على ما يظهر، وبخاصة أن إلههم «بتاح» كان قد ضم إليه «سكر» وأصبح بذلك إله الموتى بالاشتراك مع «سكر»، وعلى ذلك مزجوا الآلهة الثلاثة معًا بوصفهم إلهًا واحدًا للموتى وسموه «بتاح-سكرأوزير».

والإله «بتاح» هو ثالث لثلاثة في منف يتألف منهم ثالوث إلهي كما هي الحال في كل المدن العظيمة المصرية التي كان فيها ثالوث، والآلهة الذين يتألف منهم ثالوث «منف» هم: «بتاح»، وزوجه «سخمت» إلهة الحرب، ثم الابن وهو «نفرتم». وتُمَثَّلُ «سخمت» في صورة لبؤة، أما «نفرتم» فيمثَّل في صورة شاب صغير يرتدي على رأسه زهرة البشنين.

وقد كان الإله «بتاح» من الآلهة البارزين في كل عهود التاريخ المصري، وكانت تحبس عليه الأوقاف الكثيرة في عهد الدولة الحديثة هو و«آمون» و«رع» كما تحدثنا عن ذلك من قبل.

ويرجع السبب في ذلك إلى أنه كان إله عاصمة البلاد الرئيسي، ومن أجل ذلك نشأ له لاهوت خاص ينسب إليه خلق آتوم نفسه وكل الآلهة، وسنتحدث عنه عندما نتحدث عن الوثيقة الخاصة به في عهد الملك «شباكا» السوداني في عهد الأسرة الخامسة والعشرين.

الوحي

تدل النقوش التي وصلت إلينا من العهد الفرعوني حتى الآن عن الوحي الإلهي أنه كان يقوم بدور هام في تسيير الأمور في البلاد من الوجهتين: الاجتماعية، والسياسية، والظاهر من المتون التي في أيدينا يدل على أن الذين كانوا يقومون بالدور الهام في توجيه هذه الأبحاث التي كان يدلي بها الإله هم الكهنة، وقد تدرج استعمال الوحي منذ الأسرة الثامنة عشرة فاتُّخِذ أولًا أداة لتنصيب الفرعون على عرش البلاد، ثم انحدر إلى تعيين رئيس الكهنة فكبار الموظفين في المعبد، ثم انتقل بعد ذلك إلى الإفادة منه في الكشف عن السرقات والفصل في الخصومات التي كانت تُرتكَب بين أفراد عامة الشعب، وحتى في المعاملات كتقدير أثمان سلع البيع والشراء. وكانت كلمة الوحي هي العليا حتى فوق أحكام المجالس المحلية التي كانت تقضي في شكاوى الشعب وحقوقهم، وقد رأينا أن الإله «آمون» هو الذي كان يفصل في هذه الأمور عامة في التاريخ المصري منذ الأسرة الثامنة عشرة، وقد أخذت قوته تعظم منذ حكم ملوك هذه الأسرة تبعًا لازدياد نفوذ كهنته في البلاد، حتى انتهى الأمر إلى أن أصبح في عهد الأسرة الواحدة والعشرين هو المسيطر على مصالح الشعب والحاكم المطلق في مصائرهم وأقدارهم، وأطلق عليه كهنة هذه الأسرة ملك البلاد، وكان الكاهن الأكبر وقتئذ آلة لتنفيذ أحكام هذا الإله كما زعم الكهنة.

ولما كان الإله «آمون» هو القاضي الأعلى في البلاد؛ فلم يكن في استطاعة تمثاله في معبد «آمون» الرئيسي أن يفصل في كل قضايا الشعب في كل أنحاء البلاد؛ ولذلك نجد أن كل بلدة أو قرية أو حي من أحياء مدينة «طيبة» أو غيرها من البلدان العظيمة له تمثال خاص «بآمون»، وكان هذا التمثال يحمل اسمًا خاصًّا يميزه عن تماثيل الجهات الأخرى، وإليه كان يأتي المتظلمون في خلال الأحفال والأعياد التي كانت تقام له، ويبثون إليه شكاياتهم، ومن ثم كانت للكهنة مكانة عظيمة وسلطان قوي على سكان البلاد؛ مما أدى إلى جمع السلطة في أيديهم في نهاية الأمر، وأصبحوا بوساطة إلههم «آمون» الأعظم الحكام الحقيقيين لمصر العليا، وأحيانًا لمصر كلها ريفها وصعيدها، ولم يشترك في هذه السلطة الدينية مع الإله «آمون» إله آخر من الآلهة المصريين إلا الملك المؤلَّه «أمنحتب الأول» الذي كان صاحب السلطان في مدينة العمال «بطيبة الغربية»، وقد تحدثنا عن مكانة الإله في غير هذا المكان من حيث الوحي وغيره. والمطَّلع على تاريخ الوحي في الأمم الأخرى يجد أنه كان لكل أمة طريقة في نزول الوحي الإلهي، ولسنا نعرف أمة سبقت مصر في هذا الاتجاه، بل كل الأحوال تدل على أنه كان لها قصب السبق في هذا المضمار، ثم ظهر في البلاد الأخرى المجاورة، فنعلم بوجوده في فلسطين، وفي بلاد اليونان، ثم في بلاد العرب؛ إذ كان «محمد» — عليه الصلاة والسلام — يتلقى تعاليمه الدينية ورسالته عن طريق الوحي بوساطة الملاك «جبريل» الذي كان يُنَزِّل عليه القرآنَ الشريف تنزيلًا، وسنتحدث أولًا عن طريق تبليغ الوحي في مصر، ثم نشير إلى ما كان يوجد من فروق بينه وبين وحي الأمم الأخرى.

والواقع أنه لدينا عدة وثائق هامة عن الوحي في العصر الفرعوني، وقد تحدثنا عن الكثير منها في هذا الجزء من مصر القديمة [راجع الأسرة الثانية والعشرين الفرعون شيشنق الأول].

وهذه المتون على الرغم من أنها تضع أمامنا الأسئلة والأجوبة التي كانت تقدم للإله؛ فإننا من وقت لآخر نجد في ثناياها بعض معلومات ضئيلة عن الطريقة التي كانت تُتَّبَع في عرض الأمور التي طُلِبَ الإجابة عليها، وعن الطريقة التي كان يجيب بها الإله.

أما عن طريقة عرض السؤال أمام الإله فتدل شواهد الأحوال على أنه كان يحدث في كثير من الأحوال شفويًّا، ونجد في المتون التي وصلت إلينا أن الطالب أو الشاكي أو صاحب الرجاء على حسب حالته كان يعبر عنه في المتون: «قال للإله» أو «نادى» أو «أعلن الإله». ونجد في حالتين أنه قد وُضع أمام قائمة بأسماء أشخاص أو بأسماء بيوت (راجع Pap. British Museum 10335, Ostr. Gardiner, 4, 4-5).
ونجد أحيانًا من جهة أخرى أن السؤال كان يقدَّم كتابة، فمثلًا في موضوع محاكمة «تحتمس» الذي سبق ذكره (راجع الجزء الثامن) نجد أنه قد كتب كتابين ذكروا في أحدهما إثبات التهمة، والآخر نَفْيَها عنه، ثم وضع الكتابين أمام الإله. وفي حالة أخرى قيل: إن الكتابين قد وُضِعَا أمام الإله الأعظم حتى يقضي بحكمه السديد (راجع Pap. Turin p. R. 126, 3-4).
وقد كان يوضع أحيانًا اسم شخص غائب أمام تمثال الملك «أمنحتب الأول» المؤله في كل عيد من أعياده للوصول إلى معلومات عنه (J. E. A. XII p. 185).
وهذا كان لا يمكن أن يتأتى إلا بالكتابة، وفي هذه الحالة يجيب كذلك الإله كتابة (راجع Ostr. British Museum 5624 verso 7).

وهذه الطلبات المكتوبة التي كانت تُطْلَب من الإله الإجابة عنها كانت لا بد تحدث كثيرًا على حسب ما يمكن فهمه من الأمثلة القليلة التي وصلت إلينا.

ومن الغريب أنه لم يصل إلينا من العهد الفرعوني الأصيل إلا رقعتان (استراكون) يمكن الإنسان أن يطبِّق عليهما لفظة شكوى أصلية موجهة للوحي: إحداهما بالمتحف البريطاني (راجع J. E. A. Vol. XII p. 183)، وهاك ترجمتها:

تفاصيل عن كل سرقة ارتكبت ضدي بوساطة العامل «نختموت»

لقد ذهبوا إلى بيتي وأخذوا رغيفين كبيرين، وثلاثة أرغفة منوعة، وأهرقوا عطوري، وفتحوا مخزن حنطتي، وسلبوا قطعة قصدير، وذهبوا إلى مخزن المرفأ وسلبوا نصف الخبز — كرشتو الخاص بأمس، وأهرقوا زيت نحح.

وفي الشهر الثالث من فصل الصيف، اليوم الثالث عشر، في أثناء الاحتفال بطلعة الملك «أمنحتب»، ذهبوا إلى المخزن وسلبوا ثلاثة أرغفة (عقو) كبيرة، وثمانية أرغفة (سعب)، وفطيرة «رحو»، وقعب نبيذ، وفتحوا مكيال جعة (بزقت) كانت موضوعة على الماء (لتبقى باردة؟) عندما كنت في بيت «خن» والدي، فاعمل يا سيدي على أن ترد لي كل خسارتي.

والجملة الأخيرة تدل صراحة على أن هذه كانت شكاية صريحة وضعت أمام تمثال العبادة الخاص بالملك المؤلَّه «أمنحتب الأول».

وواضح أن الشاكي كان تاجرًا له مخزن على مرفأ غربي «طيبة»، ويحتمل كذلك أنه كان يملك محل تجارة في «طيبة» الغربية نفسها، وقد سُرِقَ متجره ومخزنه بوساطة «نختموت» وعصابته. وحدث بعد ذلك أنه في مناسبة عيد «أمنحتب» الذي كان يجتمع فيه كل سكان «طيبة الغربية»، وكان الشاكي بين هذه الجموع، وهو يراقب أو يشترك في حفل هذا الإله المحبوب؛ أن اقتحم اللصوص باب مخزنه الذي ربما كان متصلًا بمنزله، وقد ذكر الشاكي أنه كان في بيت والده في اجتماع أسري كان قد عُقِدَ هناك بمناسبة هذا العيد، وبعد انتهاء الاحتفال عاد المحتفلون به لإقامة الولائم في بيوتهم، وقد وجد الشاكي بيته ومخزنه قد سطا اللصوص عليهما، وسلبوا متاعه السالف الذكر؛ ولذلك جاء يطلب النَّصَفَة من تمثال الإله بالكشف عن السارق.

والاستراكون الثانية في متحف برلين (راجع Bulletin de l’Inst. XXVII p. 177-8)، وهاك ترجمتها:

تعالَ إليَّ يا سيدي، لقد بدأت والدتي وأخواتي جميعًا الشجار معي قائلة (والدتها): لقد أعطيتك نصيبين من النحاس كان قد أعطاهما إياي والدي، ويحتويان على سخان وموسى وإناءين «نو»، وكان الكاتب «بنتاور» هو الذي أعطانيها، وقد أخذتها مني واشترت (٦) مرآة بالقيمة التي قدرتها لها (أي للأم وللإخوة)، ويبلغ ذلك مائة دبن (٧) وقد أعطاني والدي خمس حقائب من الحنطة، وحقيبتين من الشعير، وكانت ملك زوجي (أي هذه الأشياء) مدة سبع سنين، ولم يتسلم (من ثمنها) إلا أربع حقائب حنطة، وأنهما رجل وامرأة (وعلى ذلك تسلمت نصيبين وهما لي ولوالدتي).

ويلاحَظ أن هذه الوثيقة تختلف عن الوثائق الأخرى الخاصة بالوحي التي لا نجد فيها إلا ذكر حوادث مضت يقصها الكاتب، على حين أن في الوثيقة التي نحن بصددها نجد الشاكي يقدم لنا شكايته كما نطق بها هو، وبذلك نراه يقول في البداية: «يا سيدي» مخاطبًا الإله مباشرة، ويُفهَم أن المتحدث هنا امرأة.

والواقع أن هذا المتن مبهم المعنى، ولا يمكن حله بطريقة مفهومة تمامًا، ويمكن محاولة تلخيصه كالآتي مع التحفظ التام: وذلك أن والدة المدعية وأولادها تدعي أنها أعطت بنتها على ما يظهر بمناسبة زواجها نصيبين من النحاس بمثابة مهر، ومع ذلك فإن المدعية تقول: إن هذين النصيبين ليسا من والدتها ولكن من والدها، وإن الكاتب «بنتاور» — وهو موظف رسمي — قد قام بتدوين نقل هذه الملكية، وعلى الرغم من ذلك استولت الأم على الأشياء التي يتألف منها هذان النصيبان: مرآة يقدر ثمنها بالمبلغ الذي حددته المدعية وهو مائة دبن، ومن جهة أخرى تسلمت المدعية من والدها دخلًا مقداره خمس حقائب حنطة، وحقيبتان من الشعير، وهو ما كان يخص زوجها، غير أنه لم يتسلم إلا أربع حقائب وأنها لرجل وامرأة؛ أي هي وزوجها، وبهذه الكيفية يكون ما تسلمته هو نصيبان لها ولأمها.

وقد جمع الأستاذ «شرني» عدة استراكا كُتِبَ على كل منها متن قصير جدًّا ليس من السهل حله لأول وهلة، وقد عثر على معظم هذه المتون في «دير المدينة» (راجع Bull De l’InstIt. XXVII p. 43ff). والمقصود من كل متن هو إجابة الإله عليه بما يرى، ولا يدهشنك أن هذه المتون في العادة مبهمة؛ فإن الطالب كان يضع سؤاله للإله في عبارة قصيرة؛ لأنه كان مفروضًا أن الإله على علم بالموضوع، وهاك بعض الأسئلة القصيرة:
  • (١)

    هل سيعين «سبتي» كاهنًا؟

  • (٢)

    هل هو الذي سرق هذه الحصيرة؟

  • (٣)

    هل أناس المقبرة الملكية سرقوها؟ (أي الأشياء).

  • (٤)

    يا سيدي الطيب! هل ستعطي الجرايات؟

  • (٥)

    يا سيدي الطيب، إنه قال ذلك حقيقة.

ويدل كل ما لدينا من وثائق عن الوحي على أن هذه الاستعلامات لم تكن خطابات ترسل للإله، بل كانت إما أسئلة أو ذكر بيانات وحسب.

والواقع أن مسائل الوحي في العهد الفرعوني كانت تختلف كثيرًا عن مسائل الوحي في العهد الإغريقي الروماني؛ لأن الأخيرة كانت تتألف عادة من ثلاثة أجزاء (A. Z. LXVII p. 110–12)، وهي:
  • (١)

    خطاب موجه للإله في صيغة المنادي، أو كانت توجه في صيغة بيان وحسب، وقد ذكرنا حالتين في اللغة المصرية جاءتانا في صيغة المنادي: «يا سيدي الطيب».

  • (٢)

    يكون السؤال نفسه مباشرًا أو غير مباشر، (في حين أنه في العهد المصري تكون صيغة الإثبات أو صيغة الأمر، وهما الحالتان اللتان نجدهما كثيرًا).

  • (٣)

    ذكر صلاة أو دعاء مثل: «اكشف لي يا إلهي عن ذلك» أو ما يشبه هذا التعبير، وهذا مالم نجده قط في الاستراكا الصغيرة التي تحدث عنها «شرني» إلا في حالة واحدة.

إذ نجد في السؤال الموجه للوحي ما يأتي: «هل حور نزل فيه (أي تقمصه)؟ أرسل الحقيقة» (راجع Cerny, Bull. Ibid No. 11).
أما عن كيفية عمل الوحي فقد اقترح الأستاذ «شوبارت» عن العصر الإغريقي الروماني تفسيرًا (A. Z. LXII p. 114) مُرْضِيًا؛ فقد كانت الأسئلة المكتوبة توضع في إناء مختوم الواحدة بعد الأخرى، وعند فتح الإناء ثانية كانت تخرج الأسئلة وتحتها الأجوبة التي كان يُظَنُّ أن الإله قد كتبها.

أما العصور الأقدم من هذا العصر أو بعبارة أخرى العصر الذي تنسب إليه الاستراكا الصغيرة التي نحن بصددها؛ أي عصر الأسرتين: التاسعة عشرة، والعشرين؛ فكانت الطريقة لا بد مختلفة؛ إذ لم نجد في متون الاستراكا أي: جواب أجاب به الإله؛ لأن هذه في الواقع ليست أسئلة حقيقية، بل مجرد ذكر وقائع أو أوامر، وهي بهذه الكيفية كانت لا تتطلب بالضبط جوابًا. هذا فضلًا عن أن المتون الخاصة بالوحي — ولدينا عدد لا بأس به منها — لا تتحدث عن طريقة كالتي ذكرها المؤرخ «شوبارت»؛ إذ كان من الصعب أن يحدث مثل ذلك خلال الأحفال التي كان يظهر فيها الآلهة، وهي اللحظة التي كانت تعد الوقت المناسب إن لم تكن الوقت الوحيد الذي يَعرض فيه المتظلمون شكاياتهم للفصل فيها حالًا، ولا شك في أن جواب الإله كان يأتي في الحال بعد وضع السؤال مباشرة على حسب المتون التي بين أيدينا.

ونعلم أن الجواب بالرضا في العهد الفرعوني كان يعبَّر عنه في المتون المصرية بلفظة «هن»، ونعلم منذ زمن بعيد أن هذه اللفظة تدل على الجواب بالقبول، ويدل مخصص هذه الكلمة وهو الرأس على أن الجواب كان يحدث بتحريك رأس الإله، والمظنون أنه كانت توجد آلة في تمثال الإله فيتمكن الكاهن بوساطتها من تحريك رأس التمثال، وهذه الحركة بالرأس تُستعمَل حتى يومنا هذا علامة على الرضاء، ومن ثم أصبح معنى الكلمة المصرية يدل على القبول.

وكذلك عندما نقرأ في نقوش الكاهن الأكبر «بينوزم» أنه قد وُضِعَتْ أمام الإله وثيقتان مكتوبتان، وأن الإله قد أجاب بأخذ إحداهما؛ فإنه ليس من حقنا أن نفرض أن التمثال قد أخذها في يده؛ إذ إن الفعل «أخذ» هنا في اللغة المصرية يدل على معنى مجازي، وهو على ما يُظَنُّ يختار، وليس لدينا ما يدل على كيفية هذا الاختيار.

وقد ذكرنا من قبل أن الرفض قد يعبَّر عنه بالرجوع إلى الوراء أو التقهقر إلى الوراء؛ أي إن الإله قد تقهقر من الفكرة المعروضة أمامه.

ونقوش الكاهن «بينوزم» الثاني هامة بالنسبة لموضوع الوحي وما يوحَى به إما بالقبول أو بالرفض، وذلك أننا نجد فيها عند الاستشارة في موضوع الموظف الكبير «تحتمس» وللحكم عليه إذا كان مذنبًا أو بريئًا أنه وُضِعَ أمام تمثال الإله وثيقتان مكتوبتان: إحداهما ذُكر فيها أنه بريء مما نسب إليه، والثانية أنه غير بريء مما نسب إليه، وأن الإله كان في يده أن يفصل في أيهما تدل على الحقيقة. وقد لا يكون الحكم بين شيئين وحسب بل قد يكون بين عدة أشياء (كما ذكر من قبل).

وتدل شواهد الأحوال على أننا لو طبقنا هذه المعلومات الخاصة بطلب رأي الوحي الذي كان يوحي به تمثال الإله على مجموعة الاستراكا الصغيرة، التي جمعها الأستاذ «شرني»؛ فإنه يمكننا أن نستخلص أنها كانت تستعمل بالكيفية الآتية: كان المتظلم يكتب ملتَمَسَهُ بوساطة كاتب على استراكونين: إحداهما كتب عليها بالإيجاب، والثانية بالنفي، وذلك في صورة سؤال أو بيان أو أمر؛ فمثلًا إذا أخذنا على سبيل المثال موضوع الزواج فيكون لدينا الحقائق التالية:
  • (١)
    السؤال والجواب: هل سأتزوج؟ هل لا أتزوج؟
  • (٢)
    بيان: سأتزوج لن أتزوج.
  • (٣)
    أمر: تزوج لا تتزوج.

وبعد ذلك كانت توضع استراكونان على الأرض أمام التمثال الإلهي الذي كان يُحمَل على أعناق الكهنة في أثناء الاحتفال به، وكان كل من الاستراكونين على أحد جانبي الطريق التي يمر بها التمثال، وكان التمثال يجيب عند الاقتراب من الواحدة أو الأخرى، أو كانت توضع الاستراكون التي تدل على الإجابة بالموافقة أمام موكب تمثال الإله، والتي تدل على الرفض خلفه، وكان التمثال عندما يتقدم ينتخب الوثيقة التي تدل على الموافقة (هثن) أو التي تدل على الرفض (نعي-ن-حا).

والواقع أن الآلهة كانت تشترك في حياة الشعب المصري القديم اشتراكًا وثيقًا؛ فقد كانت لا تمر حادثة إلا رأيت تأثير الآلهة أو إرادتهم فيها، وبخاصة مع الآلهة المحليين، وقد كان ضمن العادات الدنيوية الشائعة عند عامة الشعب أن يستشيروا الآلهة قبل القيام بعملٍ ما، وبخاصة في عهد الدولة الحديثة كما قلنا من قبل.

وقد كان الآلهة يجيبون عن طلبات استشارات القوم بطرق مختلفة ذكرنا منها الكثير، وكانت إما بالكهنة، أو كان الإله يجيب شخصيًّا، وهذا ما أثر تأثيرًا كبيرًا في المتدينين منهم، وكان يحدث أحيانًا أن يجيب الإله عن سؤال وضع له عن أحلام رآها السائل في نومه، وكان تفسيرها بالإجابة عن السؤال بإحدى الطرق السابقة، أو بالتكلم بصوت خفي سري، إما في الغابات أو في الصحراء، وهو ما يعبر عنه بالهاتف، وكانت تماثيل الإله المقامة أحيانًا في المعابد تقوم بعمل حركات غير منتظرة، وذلك برفع اليد، أو تحريك الرأس كما ذكرنا من قبل، وغير ذلك من الحركات التي كان يخترعها الكهنة.

وقد كان الكهنة هم دائمًا المترجمون لإرادة الآلهة، بل كانوا أحيانًا هم الممثلون والمنظمون لهذا العمل الإلهي، وكان القوم يعلمون ذلك، ومع هذا فإن ذلك لم ينقص من قيمة الوحي أو قوته في أعين المتدينين من الشعب.

وقد ذكر لنا الكاتب «بليني» عند تحدثه عن استشارة الوحي أنه كانت تتخذ كل الاحتياطات بألا يحذف كلمة واحدة من كلامه؛ ولذلك كان ينطق بها حتى لا يرتكب خطأ فيه وكان يفسر كله على حسب صيغ منظمة تمامًا (ارجع Pline, XXVIII, 2 Juvenal, Satire VI, 390).

وقد كان الكهنة أحيانًا يرتدون أشياء تُصَوِّرُهُمْ بصور الآلهة، وبخاصة الرءوس المستعارة التي كانت تصورهم في صور الآلهة الذين كانوا يمثَّلون بصور حيوانات؛ فلدينا في معبد «دندرة» لوحتان غريبتان في بابهما: الأولى نشاهد عليها رجلًا راكعًا على تمساحين، قابضًا بإحدى يديه على عقرب من الذنب، وتدل نسبة الرسم بين الرجل وهذه الحيوانات على أن الأخيرة كانت صناعية، ويلاحظ في الصورة أن رأس الرجل يغطيه وجه مستعار يمثل الإله «حور» أي: الصقر وعلى كتفيه جناحا هذا الإله، وعلى ذلك فهو يمثل الإله «حور» على التمساحين. أما اللوحة الثانية فتمثل كاهنًا واقفًا يغطي رأسَه حتى الكتفين برأس مستعار يمثِّل رأس الإله «أنوبيس» (ابن آوى)، ويوجد في متحف «برلين» «هلدزهيم» في أواسط ألمانيا رأس مستعار مماثل للسابق مصنوع من الطين المحروق، وكذلك يوجد في متحف «اللوفر» بالقسم المصري وجه مستعار من الخشب يمثل رأس «أنوبيس» (ابن آوى)، ويلاحَظ أن فكه متحرك، وهذه الخاصية تسمح للكاهن أن يحرك فكه، وبذلك كان يقلد الإله «أنوبيس» متكلمًا من وراء ستار.

والواقع أننا لا نعرف على وجه التأكيد الاستعمال العادي للوجوه المستعارة التي من هذا الصنف، ولكن يمكننا أن نفرض أنها كانت تستعمل في الأحفال وإقامة الشعائر الدينية.

ويلاحَظ أن عدد الكهنة والكاهنات الذين كانوا يلبسون هذا الرأس المستعار كان كبيرًا في عهد أواخر الدولة الحديثة، وقد ازداد هذا العدد في عهد البطالمة والرومان، ولم تكن كل التماثيل لها ميزة الإجابة عن أسئلة المتدينين الذين يستشيرونهم، بل كان ذلك قاصرًا على التماثيل التي صُنِعَتْ بخاصة لهذا الغرض؛ فقد كان بعضها يُصنَع ومعه آلات خاصة يستعملها الكهنة، وذلك بتحريك عضو من أعضائها كانحناء الرأس وغير ذلك. ولدينا في متن لوحة «بختان» جملة غريبة في بابها، حيث نجد أن الفرعون يخاطب تمثال الإله «خنسو»، ويطلب إليه أن يدير رأسه نحو«بختان»، وقد وافق الإله على ذلك بهز رأسه بقوة مرتين.

وكانت توجد من جهة أخرى تماثيل مجهزة بفوَّهات كان يُرى فيها صدى صوت الكاهن كأنه صوت التمثال أو صوت الإله نفسه، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أنه ليس لدينا أي نموذج من هذا النوع كما يقول «مسبرو»، وكان يَظُن هذا الأثري أن الكاهن كان يتكلم باسم الإله الذي يوحي إليه (راجع Maspero, Causeries d’Egypte 1907, p. 167–173)، ويظن العالم الفرنسي «جارنو M. Garnault» أن الكهنة كانوا يستعملون الطريقة التي كانت تسمى التحدث من البطن، وهذه الطريقة تنحصر في أن أشخاصًا كان في مقدورهم أن يغيروا أصواتهم الطبعية بخنقها بطريقة خاصة عند خروجها من الحنجرة بصورة متقنة تمامًا حتى يخيل للإنسان أن الصوت آت من مكان بعيد نسبيًّا، وقد كان يُظَن فيما مضى أن هؤلاء الذي يحْذِقُون هذه العملية يتكلمون من بطونهم، وكانت المرأة البيثية في «دلفي» تؤدي الوحي الخاص بالأزمان الغابرة بهذه الكيفية، على أنها لم تكن تتحدث من بطنها، بل كان الإلهام بالوحي يصل إلى بطنها، وعندما تحدث «إسترابون» عن كلام الوحي الخاص بمعبد «آمون» القائم في واحة «سيوة»، وهو الوحي الذي كان موجهًا للإسكندر الأكبر؛ فإنه فسره بصورة حقيقية (Strabon, XVII, 43) وهاك ما كتبه: «يقص علينا المؤرخ «كالستن Calisthene» أن الإسكندر قد سُمح له وحده أن يدخل المحراب ليسمع جواب الوحي، وأن الكاهن كما هو مفهوم قام مقام الإله «جوبيتر» (المشتري) ولعب دوره، فأجاب الملك بصوت عال وبوضوح تام بأنه (أي الإسكندر) هو ابن المشتري.»
وقد قص لنا «هيرودوت» (Herod., 1, 139) أن في مصر كان إلهام الوحي في معبد «المشتري» أو «هرقل الطيبي»، ووحي «أبوللون» و«مرفا» و«ديان» و«مارس»، وبوجه خاص في معبد «لآتون» في «بوتو»، وقد ذكر كذلك وحي الإله «بس» في «العرابة» وفي «هليوبوليس» وبالقرب من «أنتنوي» (بالقرب من الشيخ فضل الحالية).
وذكر «إسترابون» (Strabon, XVII, 59) وحي «آمون» المشهور في واحة «سيوة»، وكان وحي معبد «دكه» ببلاد النوبة ذا مكانة عظيمة عند قدماء المصريين، وغالبًا ما كان القوم يطلبون الإيحاء من العجل المقدس «أبيس» الذي كان يعد حاجب الإله «بتاح» في معبده «بمنف»، كما ذَكَرَ ذلك كثير من كُتَّاب الإغريق والرومان (ارجع Pline, XIII, 71; Ammien Marcellin XXII, 14 وغيرهما).
وقد عُثِرَ في سنة ١٩٢٤ في «المدمود» على منظر للعجل المقدس في هذه الجهة، وهو يؤكد وجود وحي في «المدمود» يؤديه الثور المقدس، ونجد فيه تفاصيل هامة عن طريقة استجواب هذا الوحي، فنجد الإمبراطور الروماني (والمحتمل أنه «تراجان») قد مُثِّل في المنظر وهو يخاطب الثور المقدس الذي يتعبد إليه:

يأيها الثور العظيم، إن مكانتك تعظم بصوتي، وإنك تتحرك على حسب كلامي، وإن قلبي راض لأنك تأتي.

ولكن ما هو أكثر أهمية وتوضيحًا لهذا المنظر أنه قد مُثِّل خلف الثور المقدس الإله «منتو-رع» الذي يجاوب الإمبراطور عندما يسلم على الثور، ويعلن تحقيق ما جاء الوحي (في النقوش التي خلف الإله) بالألفاظ التالية:
… إن وحيي الخاص بك هو أن تقرر ما تريد، وإني سأخدم قلبك من أعلى. «عليين Empyree».

وفي عهد الدولة الحديثة نجد الملكة «حتشبسوت» قبل أن ترسل بعثها إلى بلاد «بنت» للبحث عن الروائح العطرية والبخور استشارت وحي الإله «آمون» في «طيبة»، وبعد أن أجابها الإله بالقبول أمرت بسفر البعثة. ونعلم كذلك أن الإله «آمون» قد أوحى بأن يكون «تحتمس الثالث» خلفًا لوالده «تحتمس الثاني» على عرش الملك، وذلك بوساطة أمر أصدره الإله من «فمه في نفس المحراب».

وقد ذكرنا من قبل أن الكاهن الأكبر لآمون المسمى «نبوننف» قد انتُخب بوساطة الوحي في غيابه؛ ليكون الكاهن الأكبر «لآمون»، وقد انتخبه الإله «آمون» نفسه (راجع مصر القديمة الجزء السادس).

وفي عهد الأسرة الإثيوبية التي حكمت مصر كانت نصائح تماثيل الوحي الخاصة بالإله «آمون» وإرشاداته في «نباتا» تلعب دورًا عظيمًا في انتخاب الفرعون المرشح للملك على حسب ما ذكره «ديدور الصقلي» (راجع Diodore III, 5).
وقد ذكر لنا «هيرودوت» عن الفرعون «شبكون» أحد ملوك هذه الأسرة (راجع Herod, II 130–139) أنه قد تولى عن مصر بسبب تنبؤات ونصائح أفضى بها الوحي إليه.

وقد كان الوحي بوصفه صوتًا إلهيًّا يلعب دورًا خطيرًا في انتخاب الملوك والكهنة العظام والقضاة، لا في مصر وحدها بل كذلك عند بني إسرائيل واليونان، كما يقص علينا ذلك كثير من الكتاب الأقدمين.

وقد كَتَبَ أخيرًا «أدولف لودز» مقالًا ممتعًا عن الدور الذي كان يلعبه الوحي في تعيين الملوك والكهنة والحكام عند الإسرائيليين والمصريين واليونان (راجع Melanges Maspero I p. 91–100).

أما عن بني إسرائيل فلدينا متن معروف يقص علينا كيفية تعيين أول ملك وطني إسرائيلي (راجع سفر «الملوك الأول» الفصل العاشر سطر ١٧–٢٤) وهاك نصه: «ثم إن صموئيل استدعى الشعب إلى الحرب في المصفاة (١٨) وقال لبني إسرائيل: قد قال الرب إله إسرائيل: أنا الذي أخرج إسرائيل من مصر وأنقذكم من أيدي المصريين ومن أيدي جميع الممالك التي ضايقتكم، (١٩) وأنتم اليوم قد رفضتم إلهكم الذي هو مخلِّصكم من جميع ويلاتكم وشدائدكم، وقلتم له: أقم علينا ملكًا. فقفوا الآن أمام الرب على حسب أسباطكم وعشائركم. (٢٠) ثم قدم صموئيل جميع أسباط إسرائيل، فأخذ سبط بنيامين (٢١) ثم قدم سبط بنيامين بعشائره فأُخذت عشيرة مطري، وأُخذ شارل بن قيس فطلبوه فلم يوجد، (٢٢) فسألوا الرب أيضًا: هل أتى الرجل إلى هنا؟ فقال الرب: هو ذا قد اختبأ بين الأمتعة، (٢٣) وأسرعوا وخذوه من هناك. فوقف الشعب فإذا هو يزيد طولًا على الشعب كافة من كتفه فما فوق، (٢٤) فقال صموئيل لجميع الشعب: أرأيتم أن الذي اختاره الرب لا نظير له في جميع الشعب؟ فهتف الشعب كله وقالوا: يحيا الملك.»

وهذا المتن على حسب قول بعض المؤرخين يحمل في طياته الخروج على نظام الملكية الغاشمة؛ إذ إن ما جاء فيه يدل على أن الملك في هذه الحالة قد انتُخب بتدخل الوحي على نظام الاقتراع. والواقع أن نظام الرجوع إلى الوحي بطريقة الاقتراع (البخت) كان نظامًا عاديًّا، وقد استمر يُعمَل به عند الإسرائيليين في عهودهم المتأخرة، غير أن الأستاذ «لدز» يميل إلى القول بأن نظام انتخاب الملك في «إسرائيل» كان وراثيًّا في الأسرة الحاكمة حتى عهد «شاوول».

ولا شك في أن كثيرًا من الأمم القديمة قد استعمل نظام الوحي بالاقتراع عند تعيين حكامهم، وأحسن حالات معروفة لنا تاريخيًّا في انتخاب كبار الموظفين في مصر القديمة الكاهن «نب وننف» الذي تحدثنا عنه فيما سبق.

وكذلك نجد أن هذه الطريقة كانت متبعة عند أهالي «أثينا»؛ فقد كانوا يَنتَخِبون بالاقتراع أعضاء مجلس الخمسمائة، وكذلك الأعضاء الذين كانوا يعينون رؤساء له على التوالي، وقد كان كل واحد منهم يتولى رياسة المجلس يومًا، وبهذه الطريقة كان كذلك ينتخب «الأثينيون» قضاتهم وحتى الحكام العظام، والآن يتساءل الإنسان: هل كان أهل «أثينا» خاضعين في انتخاباتهم هذه لعواطفهم الدينية أو كان ذلك لأغراض سياسية مبيتة؟ وفي الحق قد انقسمت آراء المؤرخين في هذا، فيرى بعضهم (راجع Fustel de Coulange. Le Cite Antique p. 213-14) أن هذا يرجع لتفسير ديني، ويرى الفريق الآخر أن الغرض منه المساواة في الحقوق (راجع Les Democraties Antiques, Paris Flammarion (1909) p. 81–83).
وتدل شواهد الأحوال على أن الرأيين كانا يؤخذ بهما معًا حتى في «أثينا» نفسها منذ القدم؛ إذ يقول «أفلاطون»: «فالرجل الذي كانت تقع عليه القرعة فإنا نقول عنه: إنه عزيز لدى الإله. ونجد أنه من الصواب أن يحكم، وفيما يخص كل وظائف الحكم العظيمة التي لها علاقة بالأمور الدينية فإنها كانت بالاقتراع، وكان يترك للإله اختيار هؤلاء الذين يرضى عنهم.» (راجع Lois III p. 690, VI p. 759).
وعلى ذلك كانت المدينة تظن أنها تتسلم حكامها من الآلهة، ومن جهة أخرى يعتبر «أرسطاليس» أن الاقتراع كان إجراءً ديمقراطيًّا أصيلًا؛ لأنه كان يحقق فرصة العدالة بين المواطنين جميعًا، وذلك على عكس الانتخاب، فإنه كان أرستقراطيًّا (راجع Croiset, Les Democraties Antiques p. 81).

وقد أظهر الأستاذ «مسبرو» أسفه لعدم وجود تمثال متكلم من التي كانت تتحدث إلينا بالوحي حتى زمنه، ولكن لحسن الحظ قد وُجد حديثًا عند أحد تجار الآثار تمثال نصفي يغلب على الظن أنه كان من الصنف الذي يبحث عنه «مسبرو»، وهو يمثل الإله «رع حور ماخيس» في صورة إنسان برأس صقر، ويوجد في ظهره حفرة ليمكن تثبيته في الحائط كما قال بائعه، ويبلغ ارتفاعه ٥١ سنتيمترًا، وعرضه ٤٤ سنتيمترًا، وسمكه حوالي ١٧ سنتيمترًا، ويلبس التمثال قميصًا وعباءة ملكية ذات ثنيات، ويشاهَد على التمثال بقايا ألوان، فنشاهد بعض اللون الأحمر على الوجه، واللون الأزرق على الإكليل والعباءة، ويحلِّي رأسَ الإله تاجٌ إمبراطوري من أوراق البلوط عليه تاج صغير مزدوج لملك الوجه القبلي والوجه البحري، وخلف الرأس يسطع إكليل ثور عظيم، وقد نُقِشَ ظهر التمثال بإتقان؛ فقد حُفِرَ عليه من ارتفاع القفا حفرة بيضية حافتها العليا على مسافة ثلاثين سنتيمترًا من قاعدة التمثال، والحافة السفلية على مسافة ٢١ سنتيمترًا، وارتفاع الحفرة ٠٫٠٩ من المتر، وعرضها ٠٫٠٨ من المتر، وعمقها عشرة سنتيمترات.

ويوجد في هذه الحفرة من الجهة اليمنى قناة ضيقة مساحتها ٠٫٠١٥م × ٠٫٠١م، وطولها ٠٫٠٢ من المتر، وتنتهي بالضبط تحت الأذن اليمنى للإله بفتحة بيضية تقريبًا، وهذا الفتحة الصغيرة لا تُرى إذا نظر الإنسان للتمثال من وجهه.

والظاهر أن هذا التمثال النصفي كان يوضع في قديم الزمان على قاعدة مرتفعة، والواقع أن أسفل التمثال مسطح تمامًا؛ مما يدل على ذلك.

وإذا كان الكاهن — الذي كان يقعد خلف التمثال مختفيًا وراء التاج العظيم وجسم التمثال ولذلك لا يراه أحد — يقرِّب فاه من الحفرة ويتحدث، فإن صوته الذي تتغير نبراته كان يرن من الفتحة الصغيرة حتى يخيل للسامع أن التمثال نفسه هو الذي يتكلم.

ولا نزاع في أن هذا التمثال النصفي يمثل الوحي القديم، أو بعبارة أخرى كان يعد تمثالًا متكلمًا، وهو النموذج الوحيد — إذا صح هذا التفسير — لتماثيل الوحي في مصر القديمة التي جاء ذكرها في كثير من كتابات المؤلفين القدامى، ويدل وجود التاج الإمبراطوري المصنوع من ورق شجر البلوط، وكذلك العباءة الرومانية التي يرتديها التمثال والإكليل الذي حول رأسه على أن هذا التمثال النصفي للإله «رع حورماخيس» يرجع تاريخه للعصر المصري الروماني؛ أي ما بين القرنين: الثاني، والثالث بعد المسيح (راجع Lonkianoff A. S. XXXVI. p. 187ff).

هذا، وقد وافتنا الكشوف الحديثة بطريقة أخرى عن كيفية إبلاغ الوحي، وذلك أنه عُثر في «كوم وسط» (مركز المحمودية مديرية البحيرة) على قاعدة تمثال وجزء من نفق مصنوع من البرنز متصل بهذه القاعدة، وهذا النفق مؤلف من جزءين: قاعدة، وغطاء. وأحرف القاعدة متجهة إلى أعلى من كل جهة إلى ارتفاع ٤٫٦سم مكوِّنةً بذلك حواجز يبلغ ارتفاعها ١٧٫٧سم، ويلاحظ أن أحد أطراف النفق قد أُعِدَّ ليُرَكَّبَ في أحد طرفي القاعدة بواسطة مسمار، وهذا الطرف كان سليمًا، والطرف الآخر كان مهشمًا بعض الشئ، أما قاعدة التمثال فيبلغ طولها ٥٨سم، وعرضها ٢٤سم، وارتفاعها ٢٦سم، وتحتوي على ثقوب؛ مما يدل على أنه كان فيها مسامير لوصل النفق بها، وفي أعلى القاعدة توجد أربع حفر لتثبيت أقدام حيوان من ذوات الأربع، ويحتمل أنه كان ثورًا. وتدل الصورة التي أُخذت بعد كشف هذا الأثر مباشرةً أنه كان موضوعًا على الأرض على رقعة من الحجر الجيري، وهذا النفق لا بد كان مخفيًّا تحت الأرض. أما تاريخ هذا التمثال فنعرفه من الآجُرِّ المحروق الذي كانت مبنية به الحجرة التي وجد فيها، وبعبارة أخرى يرجع إلى العصر المتأخر من عهد البطالمة أو العصر الروماني المصري.

وليس لدينا أي تفسير معقول لوجود قاعدة هذا التمثال والنفق المتصل بها؛ إلا أن هذا الأثر كان خاصًّا بالوحي، وذلك أن أصحاب الحاجات الذين كانوا يأتون بقرباتهم ليقدموها أمام تمثال الحيوان المقدس، ويطلبون إليه إجابتهم عن أسئلتهم كانوا يتلقون الإجابة بأصوات، ويحتمل أنها كانت كلمات تخترق النفق، يقولها كاهن يقعد بعيدًا عن النظر عند الطرف الآخر من النفق. هذا، وقد تحدثنا عن الوحي في منظر على أحد جدران معبد المدامود، وقد ظهر فيه قاعدة تمثال بالضبط كالتي نحن بصددها يقف عليها ثور وأمامه إمبراطور روماني يقدَّم له القربان، غير أنه ليس لدينا معلومات عن مكان الوحي في معبد المدامود؛ ولذلك لا نعلم إذا كان يستعمل مثل الأثر الذي نحن بصدده الآن.

ومما سبق يمكن القول بأن «كوم الوسط» قد قدَّم لنا للمرة الأولى تفسيرًا للطريقة التي يمكن أن يجعل بها التمثال يجيب عن أسئلة توضع له.

وقد كان هذا الموضوع مثار بحث وتفكير دائم، وقد اقتُرِحَت عدة اقتراحات مختلفة بعضها مستحيل وبعضها مقبول كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وقد كتب الدكتور «أحمد فخري» عن الوحي في «واحة سيوة» (راجع Siwa Oasis p. 41–14).
وقد قال الأستاذ «ويز» الأثري الإغريقي: إنه كان يوجد في معبد «كورنث» نفق من هذا النوع، غير أنه كان كبيرًا يسع كاهنًا يزحف فيه، وكان يتكلم بصوت يمكن أن يسمعه أي فرد واقف أمام وجه الحائط. هذا، وكان المدخل السري للنفق في هذه الحالة مسدودًا بلوح من الحجر (راجع A. S. T. XLII p. 293ff).
١  راجع Wilson, The Burden of Egypt p. 323.
٢  ويعد الأستاذ «زيته» أن الإله «آمون» كان أو يحتمل أنه كان الصورة الأصلية التي منها اشتق «يهوه» صورته. (راجع Amun und die acht Urgotter Von Hermopolis 258, 260, 281) وذلك أن «يهوه» كان في الأصل يعد إله السماء أو إله الهواء مثل «آمون».
٣  راجع Erman, Der Religion der Agypter p. 33-34.
٤  راجع B. II, 60.
٥  راجع Inscriptions lf Canopus, Greek Text t. I, p. 38.
٦  راجع Stela de Naples Urk II, 3.
٧  راجع Petrie, Abydos II, Pl. V & p. 36; PL 1 & p. 25.
٨  راجع Petrie, Royal Tombs II, Pl VII p. 8.
٩  راجع Ancient Egypt 1914, p. 150 fig 2 note 9 & p. 151 feg 9.
١٠  راجع Borchardt Sahuri, II PL. 18 Book 1 p. 69.
١١  راجع L. R. I, p. 148 VII.
١٢  كان الأهلون في «منف» يسمون إلههم «بتاح-تاتنن» «الأرض المرتفعة»، وهذا التعبير يسير إلى الاعتقاد السائد في مصر أن الخليقة ابتدأت بظهور تل يسمى التل الأزلي فوق سطح مياه المحيط الأزلي، وقد وحد الآلهة «بتاح» الذي يمثل الأرض الخصبة بهذا التل، وهو بداية كل موجود حتى الحياة نفسها، غير أن هذا النعت يشير في الوقت نفسه للأرض التي جففها «مينا» من أراضي المستنقعات بالدلتا؛ ليقيم عليها «منف» ومعبد «بتاح» (راجع Kingship and the Gods. p. 25).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤