السيادة الحربية ووراثة الوظائف

يدل ما لدينا من نقوش على أن حكومة «طيبة» الإلهية التي وضعها «حريحور» وأخلافه تحت سيادة الأسرة التي كان مقرها في الدلتا لم تتغير في أصلها حتى جاء العهد الإثيوبي، وقد كان نفس النظام موجودًا في «منف»، حيث كان يشغل وظيفةَ الكاهن الأكبر عضو من الأسرة المالكة، وكذلك كانت الحال في «هليوبوليس» و«ليتوبوليس» وغيرهما. ولا بد أن نفهم تلك الحالة؛ لِمَا لها من أهمية عظمى لمن يريد أن يصل إلى كنه التغيرات الاجتماعية التي كانت لها علاقة مباشرة بسلطان الفرعون الذي كان ينفذه في مقاطعات الدلتا في نفس الوقت، ونعني بذلك تقسيم السكان وظائف وراثية كما جاء وصف ذلك في التقارير الإغريقية التي كتبها المؤلفون الإغريق ممن زاروا مصر في تلك الفترة، فمن الوظائف الموروثة طائفة الأجناد التي كانت وقفًا على اللوبيين بوجه خاص، ومع ذلك لا نجد في مصر الضباط الذين كانوا يلقبون الأمراء العظام لقوم المشوش أو باختصار «مي» إلا في متون قليلة من عهد الأسرة الواحدة والعشرين وذلك من وقت لآخر. هذا في الدلتا، أما في الصعيد فنجد ذكرهم فقط في «أهناسيا المدينة» التي كانت تعد مركز سلطان أجداد الأسرة الثانية والعشرين، وعلى العكس لا نجد لهم في منطقة «طيبة» آثارًا تذكر، والمتن الوحيد الذي عُثِرَ عليه لهم في «طيبة» هو لأمير لوبي، وقد ذكرناه فيما سبق، حيث نجد فيه أن «شيشنق الأول» كان يحمل هذه اللقب.

ونجد في «أهناسيا المدينة» فضلًا عن ذلك أن طائفة جنود رديف المقاطعة كانوا تحت قيادة الكاهن الأكبر للإله «حرشف»، فكانت «أهناسيا المدينة» تحت رياسة كبير المشوش الذي كان يحكم بوصفه الكاهن الأكبر للإله «حرشف» إله المقاطعة، ولكن هذا النظام الجديد لم ينفذ إلى هذه الجهة؛ وذلك لأن «طيبة» كان قد كسب إلهها «آمون» مكانة عالية في خلال الدولة الحديثة في عقول القوم، وقد استمرت هذه الحال في العهد البوبسطي، غير أن مركز الجاذبية السياسية قد تحول إلى الوجه البحري في تلك الفترة. ويلاحَظ أن المكانة الخاصة التي اكتسبها إقليم «طيبة» في العهد الإغريقي الروماني يرجع أصلها فعلًا إلى بداية الألف الأولى قبل الميلاد، أو بعبارة أخرى حتى نهاية عصر الرعامسة (راجع Schubart, Agypten Von Alexander d. Gr. Bisouf Mohammed).

وكان يوجد في مقاطعات مصر منذ القدم طبقة ممتازة من الكهنة المطهرين «وعب»، والأشخاص الذين كانوا يؤلفون هذه الطبقة كانوا بولادتهم وأصلهم يشتركون في إقامة شعائر العبادة وأحفالها، وكذلك كان لهم نصيب في دخل المعبد وقربانه، وقد قُسِّم رجال هذه الطائفة أربع طبقات، وأفراد كل طبقة يتناوبون العمل في خلال العام لإنجاز الأعمال المقدسة، وهذا النظام بعينه كان معروفًا عند اليهود، وهم الذين كان يتألف منهم طائفة الكهنة الوراثية، غير أن الخدم هنا كانوا يتبادلون العمل بين أربعة وعشرين كاهنًا كل أسبوع، وكان يشرف على هؤلاء الكهنة كهنة محترفون كلٌّ على حسب درجته الدينية، حتى مرتبة الكاهن الذي كان يطلق عليه اسم والد الإله، وعلى رأس كل هؤلاء كان يشرف الكاهن الأكبر، وقد كان من الطَبَعي أن يرث الابن وظيفة والده كما كانت الحال في الوظائف الحكومية، غير أن هذه الوظائف كان من الممكن إسنادها إلى أناس من أصل آخر.

والواقع أنه لم يكن هناك وراثة حتمية معروفة لا في أفراد الكهنة، ولا في طوائفهم عامة في عهد الدولة الحديثة، ولا أدل على ذلك مما حدث في عهد «رعمسيس الثاني» عندما أراد أن ينصب كاهنًا أكبر للإله «آمون» (راجع مصر القديمة الجزء السادس). ولكن في العهد الذي أعقب الدولة الحديثة كانت وراثة ابن الكاهن لأبيه في وظيفته تعد نظامًا متبعًا، وفي ذلك يقول «هردوت»: «كانت لا تؤدَّى خدمة كل إله بوساطة كاهن واحد بل بعدة كهنة، وكان يقوم واحد منهم بأمر الرياسة، وعند وفاة أحد الكهنة كان ينصب ابنه مكانه.» أما أمر إشغال أكبر وظيفة فكان بطبيعة الحال موضوع نقاش، فوراثة وظيفة الكاهن الأعظم التي كانت موجودة في الأسرة الواحدة والعشرين لم يعترف بها ملوك الأسرة الثانية والعشرين، ولكن صفة الكهانة ومطالبها المتزايدة لم نجد فيها مناقشة ولا تغييرًا.

ومن النقوش التي تلفت النظر في هذا الصدد النقش الذي عُثِرَ عليه مدوَّنًا على الجدار الخلفي لقاعة الأعياد التي أقامها «تحتمس الثالث» في الكرنك (راجع L. D. III, 225i; Brugsch Thesaurus p. 1071).
ويلاحَظ أن قراءة «دارسي» لهذا النقش وتصحيحاته للأعلام فيها شك (راجع Rec. Trav. 35, p. 130 f). وهذا النقش يقص علينا أن الكاهن الأكبر «أوسركون» بن «تاكيلوت الثاني» قد أتى في السنة الحادية عشرة إلى «طيبة» لتَسلُّم وظيفة الكاهن الأكبر، وقد جاء الكاهن المطهر بما له من حق الدخول في معبد «آمون» للقيام بالخدمة الشهرية لمعبد «أخمنو» (وهو المعبد الذي نقش على جدرانه النص الذي نحن بصدده)، وهو من الطبقة الثانية من طوائف «حورسا إزيس» جاء ليقول: «لقد كنت واحدًا مطهرًا، ولي حق الدخول في الكرنك، وإني ابن «خلف» الكاهن الأكبر لآمون من جهة أمه، وكنت ابن واحد مطهر … وقد كان والد والدي كاهنًا والد إله وتابعًا للإله القديم، وقد تسلم وثيقتي التي حملتها إلى هنا «على النيل»، فلا تتوانَ فإني من «طيبة» وولدت بها.» (راجع Br. A. R § 753). والكلمات التي تلي ذلك في المتن غير مفهومة، ولكن مكانة الكاهن الأعظم الرفيعة كانت معلومة لموظفيه ولكاتب الوثيقة، فكان في قدرته أن يدخل في معبد «أخمنو» ليقوم بشعائر التطهير، وفي هذا المكان الخفي كان لا يُسمَح لأحد بالدخول إلا شيعة الإله، وقد كتب «حورسا إزيس» هذه الوثيقة على هذا الجدار ليثبت حقه في هذا العمل؛ أي حق الدخول في المعبد. ويدلنا هذا النقش على حقوق الكهنة في وراثة وظائف الكهانة، وعلى إيصاد باب التمتع بوظيفة الكاهن أمام الآخرين.

وتدلنا المصادر الإغريقية من جهة أخرى على الوظائف الحربية التي كانت وراثية، وهي التي كان منشؤها أسرى الحرب في عهد «رعمسيس الثالث» بعد انتصاراته على اللوبيين وغيرهم من الأمم المغِيرة، وكان قد وضعهم في مستعمرات حربية، وكذلك من أتى بعدهم من بلاد لوبيا في عهد الأسرة الواحدة والعشرين، وقد كانت السلطة فعلًا في أيديهم في مقر الملك بالدلتا، ولا أدل على ذلك من المكانة التي كان يحتلها الأمير العظيم لقوم المشوش «شيشنق» الأهناسي في عهد أواخر ملوك «تانيس» كما جاء في نقش الوحي الذي نفذه ملك «تانيس» له ولابنه «نمروت» المتوفى طبقًا لما أوحى به الإله «آمون». وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في «الجزء الثامن من مصر القديمة». وقد خَلَعَ «شيشنق» هذا آخرَ فراعنة الأسرة الواحدة والعشرين من عرش الملك بنفس الطريقة التي خَلَعَ بها المماليكُ في القرن الثالث عشر بعد الميلاد ملوك الأيوبيين من عرش مصر، وفي عهد «شيشنق» وأخلافه أصبحت كل السلطة في أيدي هذه الطائفة العسكرية، وحرم على سائر الأمة الانخراط في سلك الجندية، ومن ثم نشاهد في عهد «بيعنخي» الإثيوبي صورة توضح لنا هذا المبدأ بجلاء، وذلك أننا نرى في الوجه البحري في كل مكان الرؤساء الذين يحملون الريشة في لباس رءوسهم، وهي علامة مميزة لقوم المشوش كما فصلنا القول في ذلك من قبل (راجع مصر القديمة الجزء السابع). وقد كان من جراء ذلك أن أخذت قوة الأسرة تقل شيئًا فشيئًا، وانتهى الأمر بأن تَمَزق شمل البلاد حتى أصبح تقريبًا في كل مدينة رئيس مستقل بذاته من هؤلاء المشوش. وقد ذكر لنا «بيعنخي» في لوحته التي سرد فيها حملته على مصر ما لا يقل عن تسعة عشر من هؤلاء الحكام كما سنرى بعد عند الكلام عن العصر الإثيوبي، أما عن العصر الذي يلي ذلك وعن وصف الحالة الداخلية في عهد الأسرة السادسة والعشرين والعصر الفارسي في مصر؛ فإن المصادر الأصلية تعوزنا تمامًا، وليس لدينا مصدر قط في ذلك إلا ما جاء على لسان الكُتَّاب الإغريق وبخاصة «هردوت».

والواقع أن المعلومات الممتازة عن الحالة الحربية في مصر التي قدمها لنا هذا المؤرخ لا بد أنه استقاها من عهد الأسرة السادسة والعشرين، وكذلك من عهد السيادة الفارسية عندما كانت الحالة لم تتغير بعد، وقد كان الجنود من المشاة، أما عربات الحرب التي كانت في العهد الفرعوني فلم يكن لها وجود، وكذلك كان الخيالة قليلين جدًّا، وقد كانوا يؤلفون طائفة وراثية؛ إذ كان الابن من صغر سنه يدرَّب على فنون الحرب كما كان محرَّمًا عليه الاشتغال بأية حرفة أخرى، وعلى ذلك كان يمنح مثل الكهنة نصيبًا من الأرض دون ضرائب تُجْبَى منها، وذلك بمقدار لا يقل عن ثلاثة هكتارات من الأرض، وكانوا يعيشون في مستعمرات عسكرية على رأسها رئيس طائفة «المشوش» بوصفها حاميات ثابتة، وكانت عند الحاجة تنتقل من مكان لآخر، كما كانت الحال في المستعمرات العسكرية في عهد الفرس وفي سائر الممالك أيضًا.

وقد وجدنا هذا النظام في عهد البطالمة، وفي الوقت نفسه في المستعمرات البحرية التابعة للجمهورية الرومانية، وهي التي كان المواطن الروماني يعمل فيها بوصفها حاميات ثابتة، وقد كان الجندي منهم يُعطَى قطعة أرض مساحتها نفس المساحة التي كان يمنحها المصري (راجع مصر القديمة الجزء السادس)، وهؤلاء الأجناد كانوا ينقسمون قسمين، وهما: «الهرموتبير والكلازيري Hermotybiers. Calasiries»، وكان القسم الأول يتألف من ١٦٠٠٠ والثاني من ٢٥٠٠٠ رجل، وكان يُنتَخَب منهم سنويًّا ألف رجل ليكونوا حُرَّاسًا للفرعون، ومن هؤلاء الأجناد كان يتألف الجيش الذي كان تحت تصرف الفرعون في كل وقت، وقد ظل أصل هذين الاسمين ومعناهما غامضًا جدًّا إلى وقت قريب. ويعتقد الأستاذ «سبيجل برج» أن كلمة «كلازيري» معناها: «الفتى الصغير»، وأنها تتركب من الكلمة النوبية «كال» التي تعني «ابنًا» في بعض أسماء الأعلام مثل «كال آمون» «كال أوزير»؛ أي ابن «آمون» وابن «أوزير»، ومن الكلمة المصرية «شيري» التي تعني «فتى» أو «صغيرًا»، وعلى ذلك فإن كلمة «كلازيري» تقابل في المصرية القديمة كلمة «حونفر»؛ أي المجند الفتى في العهد الكلاسيكي. أما كلمة «هرموتيبير» فإن الأستاذ «سبيجل برج» لم يوفَّق في اشتقاقها من الكلمة الأصلية «رمت حترو»؛ أي رجال العربات، وعلى ذلك يكون معناها «الخيالة» مقابل كلمة «كلازيري» التي تعني المشاة. ولكن الأستاذ «ستروف» تناول حديثًا في مقال له عن أصل كلمة «هرموتيبير» وافق فيه أولًا على اشتقاق كلمة «كلازيري» كما أورده الأستاذ «سبيجل برج»، وقال بعد بحث طويل: «إن كلمة «هرموتيبير» من كلمة «إرم ثوف»؛ أي قوم البردي، وذلك نسبة للإقليم الذي كان يقيم فيه هؤلاء الأجناد، وهي مستنقعات البردي في شمال الدلتا التي كانت تربَّى فيها المواشي بوصفها أهم حرفة للسكان في هذه الجهة، وعلى ذلك سميت جنود الرعاة من إقليم البردي تهكمًا.» (راجع Studies Presented to F. LL. Griffith p. 369ff).

ومن المهم لدينا جدًّا أسماء المقاطعات التي ذكرها «هردوت» وقال عنها: إن هؤلاء الأجناد كانوا يعسكرون فيها. فنجد من بينها أسماء عدة لا نجدها في قوائم أسماء المقاطعات فيما بعد في الكتابات المصرية ولا في نقوش عهد البطالة؛ لأنها تختلف عنها اختلافًا كليًّا.

وهذه المقاطعات تقع كلها في الدلتا عَدَا «طيبة»، وسنضع عند تعداد أسماء تلك المقاطعات رقمًا بين قوسين في قائمة مقاطعات الوجه البحري، فكان جنود «هرموتيبير» في المقاطعة البوصيرية «رقم ٩»، وفي المقاطعة الصاوية «رقم ٥»، والمقاطعة الخمية؛ أي مقاطعة «خميس» وهي الجزيرة التي في «بوتو» (راجع Hekat fr. 303; Jacoby Herod II, 156) حيث نشأ «حور» بن «إزيس» في مستنقعاتها، ومقاطعة «بابرميس Papremis» (راجع Herod II, 59, 63, 71 III, 12) ومقاطعة «بروزوبيتس Prosopitis» و«ناتو» (راجع ما كتب عن هذا المكان في ورقة فلبور مصر القديمة الجزء الثاني) ومعناها كما يقول «إدوارد مير»: مناقع الدلتا. وقد جاء ذكرها في متن «آشور بانيبال ناسو» بوصفها اسم إمارتين، حيث يقول «هردوت»: إنها كانت مزدهرة.
جنود كلازيري: كانوا في مقاطعة «طيبة» ومقاطعة «بوباسطة» (رقم ١٨)، وفي «أفثيتيس Aphthitis» في شرق الدلتا وفي المقاطعة «التانيسية» (رقم ١٤)، وفي المقاطعة «المنديسية» (رقم ١٦)، والمقاطعة «السمنودية» (رقم ١٢)، والمقاطعة «الأتريبية» أي: «بنها» (رقم ١٠)، والمقاطعة «الفربائية Pharbaethis» وهي على حسب «سترابون» (Strabo XVII, 1, 20) تقع في الجنوب الغربي من «تانيس»، والمقاطعة «التيموتية Thmutes» في «منديس»، والمقاطعة «أنوفيس Onuphis» الواقعة شمالي «أتريب»، والمقاطعة «أنيسيس Anysis» (Herod. II, 137) وتقع في مناقع الدلتا وقد نشأ فيها الملك «أنيسيس»، وهي «خبس» الواقعة في الوجه البحري وهي «هيركليو بوليس الصغرى» في «بلزيون» (وهي عاصمة المقاطعة السنيوريتية، وقد كُتِبَت في متن «آشور بانيبال» «هنيشي Hinisi»، وأخيرًا مقاطعة غير معروفة لنا وتقع في جزيرة بالقرب من «بوباسطة» وتسمى «ميسيفونيس Mycephonis».

ويلاحَظ أن الوجه القبلي في هذه القائمة لم يمثل إلا «بطيبة»، وعلى ذلك كان يوجد فيها كما ذكرنا من قبل مستعمرة حربية أولًا في أواخر حكومة الكهنة في مدة الشجار الذي نشب بين مصر والإثيوبيين، أو في عهد «بسماتيك»، ومن جهة أخرى كان الجزء الأعظم من جنود «هرموتبير» يرابطون في معظم الجزء الغربي من الدلتا، وبخاصة في النصف الأوسط، كما كان جنود «كلازيري» يرابطون في وسط الدلتا وغربيها، ومن جهة أخرى لا نجدهم في نهاية الوجه القبلي و«منف» و«ليتوبوليس» و«هليوبوليس»، ويمكن فهم ذلك تمامًا؛ لأن «منف» كانت مثل «طيبة» و«هيركليوبوليس» (أهناسية المدينة) مركزًا للكهنة العظام من بيت الملك، كما كانت مدينة عين شمس المقدسة كذلك من هذا النوع، ولكن «ليتوبوليس» كانت في عهد الفرعون «بيعنخي» تحت سلطان كاهن بلدة «حور بحدت سماتواي»، وهي المدينة الوحيدة التي كان يوجد فيها كاهن بوصفه نائبًا، ومن ثم ثبت لنا السبب في عدم وجود هذه الأماكن الثلاثة في قائمة «هردوت»؛ وذلك لأنها كانت في الواقع تمثل النظام الذي وضعته الأسرة الثانية والعشرون من الوجهة الحربية.

وكانت الوظائف الحربية مثلها كمثل وظائف الكهنة وراثية أصلًا في طبقة خاصة؛ ولذلك كان محرمًا على أصحاب الحرف الأخرى الانخراط في سلكها، وقد كانت الوراثة هنا تتمثل في صورة تامة لها كل حقوقها، وقد كانت طبيعة الحال تدعو إلى ذلك في كل مكان بسبب العلاقات التي كانت بين طبقات الشعب، وبخاصة إذا علمنا أن الفلاحين والموالي والعبيد كانوا مقيدين بأصلهم، وعلى ذلك كانت الحرف الأرقى من حرفهم تجعل الابن يحل محل والده ويسير على نهجه، وقد كانت الحال كذلك في الوظائف العالية كما تُشْعِر بذلك النقوش التي نجدها على لوحات القبور من كل العصور؛ أي إن وظيفة الأب أو مكانته تكون في الغالب إرثًا للابن، ولم يكن من حق الملك وحده أن يرقى للوظائف العالية عندما يريد، بل كان في إمكان كل شخص بما له من المهارة وحسن الأحدوثة أن يرقى للوظائف الكبيرة التي كانت دعامة الوصول إليها النبوغ في الكتابة والقراءة، فكان يُحَثُّ التلميذ على معرفة القراءة والكتابة وترك الحرف الأخرى جانبًا؛ لأنها أقل خطرًا وأحط قدرًا من الكتابة، ولكن كانت الوظائف كما نعلم من الكتابات المصرية في العهد الإغريقي المصري وراثية؛ ولذلك كان تقسيم سكان المدن طوائف كما يقول «أرسطو» — وبخاصة الفصل بين رجال الحرب والفلاحين — نافذًا تمامًا، وقد وازن «هردوت» بين وظائف الحرب العالية الوراثية التي كانت محرمة على رجال أية حرفة أخرى، وبين الحرف الصغيرة كما هي الحال عند معظم الأقوام الهمج، وكذلك عند الإغريق ومعظم أهل «أسبرطة»؛ إذ يقول: «وفي هذه الحالة نجد كذلك أن أهل «لاسبيدمونيا» يُشْبِهون المصريين، فحُجَّابهم وموسيقاروهم وطُهَاتهم يرثون آباءهم في حِرَفِهم، وعلى ذلك يكون الموسيقار ابن موسيقار، والطاهي ابن طاهٍ، والحاجب ابن حاجب، ومن ثمة لم يمكن لآخرين أن يصبحوا بسبب صفاء صوتهم مُغَنِّين؛ لأنهم بذلك يحرمون آخرين من أصحاب الوراثة، بل كانوا يستمرون في مزاولة الغناء بعد آبائهم، وهذا النظام كان متبعًا تمامًا.» (راجع Herod VI, 60). وقد ذكر لنا «هردوت» في كتابه سبع حِرَف (راجع Herod II, 164) فيقول: «توجد سبع طوائف من المصريين، ومن هذه يُسمَّى بعضها كهنة، وآخرون يسمَّوْن محاربين، وآخرون رعاةً، وآخرون رعاةَ خنازير، وآخرون تُجَّارًا، وآخرون مترجمين، وأخيرًا الملاحون، وهذه هي طوائف المصريين. ويشتقون أسماءهم من الأعمال التي يمارسونها.»

ولا بد أن «هردوت» قد وضع هذه القائمة على حسب مشاهداته، ويلاحَظ أنه قد ذكر المترجم الذي وُجِد في البلاد منذ عهد «بسماتيك»؛ ليكون عونًا للإغريق على فهم أحوال البلاد، ولكنه نسي الفلَّاح، وكذلك نسي أصحاب الحِرَف والصناعات.

أما «أفلاطون» الذي كان لا يعرف مصر فقد تحدث لنا في كتابه Timaeos (الفصل ٢٤) بتفصيل عن وظيفة الكاهن وطائفته التي كانت لا تختلط بأية طائفة أخرى، ثم ذكر الرعاة والصيادين والفلاحين، وفضلًا عن ذلك ذكر رجال الحرب الذين كان محرمًا عليهم قانونًا الاشتغال بأية حرفة أخرى، وقد صاغ «دكارس» القانون هكذا: «إنه محرم على أي فرد أن يتخلى عن وظيفة والده التي ورثها منه.»
وقد ذكر «ديودور Diod. I, 74» نقلًا عن «هكاته أبدري» ثلاث طوائف وهم: الرعاة، والفلاحون، وأصحاب الحرف اليدوية، وأنه محرم على سائر السكان قانونًا أن يزاول واحد منهم مهنة لم يمكن قد ورثها عن والده، كما حرم اشتراك جماعةٍ بعضهم مع بعض في حرفة، وكذلك كان محرمًا عليهم الاشتغال بأي نشاط سياسي وإلا وقع عليهم لمخالفة هذه التعليمات عقاب صارم.
ولا ريب في أن هذا النظام كما ورد في المصادر الإغريقية كان لزامًا اتباعه قانونًا، ولا أدل على أهمية الوراثة في الوظائف والمراكز الاجتماعية أكثر مما نلحظه من محافظة المصريين على تسلسل نسبهم ومراعاة ذلك في كثير من الأحوال، كما نجد في شجرات الأنساب التي تركوها لنا منذ عهد الأسرة الثانية والعشرين على اللوحات الجنازية والتماثيل وجدران المقابر، ونقرأ عليها توريث الوظائف من أب إلى ابن عدة أجيال، ونجد ذلك في الكهنة وفي البنائِين، والذين نجد من بينهم في عهد «دارا» الأول الفارسي الذي حكم مصر أن «خنوم ابرع» قد ذكر لنا أجداده الذين كانوا يزاولون مهنة البناء مبتدئًا «بأمحوتب» رئيس أعمال الملك «زوسر» أحد ملوك الأسرة الثالثة، وأكد لنا في سلسلة شجرة نسبه أنه هو النسل الرابع والعشرون في أسرته (راجع L. D. III. 275 a).
ويعتقد الإغريق أن هذا النظام كان قديمًا، أما «أرسطو» و«دكارش» فإنهما يعتقدان أن هذا الزعم من الأساطير التي ترجع إلى عهد «سيزوستريس Sesostris» يقصد به «سنوسرت الثالث».

والواقع أنه كان لكل عصر في التاريخ المصري القديم نظامه وتقاليده الخاصة به في ذلك الموضوع، وإن كنا نجد على الآثار منذ الدولة القديمة أن الابن في كثير من الأحيان قد يخلف والده في وظيفته أو حرفته، وبخاصة صناعة الكتابة، إلى أن أصبح ذلك أمرًا متَّبَعًا في العهد المتأخر من تاريخ البلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤