المدنية العبرانية

يدين العبرانيون بالجزء الأعظم من حضارتهم لقوم الكنعانيين الذين سبقوهم استيطان بلاد «فلسطين»، فقد أخذ العبرانيون عنهم لغتهم وحروفهم الأبجدية، ولا نزاع في أن الإسرائيليين عندما استقر بهم المقام في موطنهم الجديد نبذوا لهجتهم السامية القديمة، وتكلموا بلهجة القوم الذين سكنوا معهم، وبدهي أن لهجتهم لم تكن تكتب؛ لأنهم لم يكونوا بعدُ يعرفون القراءة والكتابة؛ ولذلك لم يكن لهم في بادئ الأمر إنتاج أدبي أو تاريخي مكتوب.

ونعلم من تاريخ الإسرائيليين القديم أنهم كانوا من البدو أو العرب الرحَّل، ومن أجل ذلك كانوا لا يعرفون الزراعة، وقد تعلموها من الكنعانيين بعد أن استقروا مدة في فلسطين. ويلاحَظ في البلاد الجبلية التي كان يسكنها اليهود أن الكثير من نسلهم استمر في مزاولة حياة الرعاة، أما الجزء الشمالي الخصيب فقد كانت الزراعة فيه أول مورد لحياة سكانه.

وقد نتج عن الاختلاط من جهة الزراعة والتزاوج مع السكان الأصليين أن أخذ العبرانيون من الكنعانيين الشعائر الدينية والعادات التي كان يعدها السكان الجدد ضرورية للخصب وضمان المحاصيل الطيبة، ومعنى ذلك أن العبرانيين قد اتخذوا مجموعة عظيمة من الشعائر والأحفال بما في ذلك تقديس العمد الخشبية و«الشجرة المقدسة»١ التي تدعى «العشيرة» و«المرتفعات»٢ و«عبادة الثعابين»٣ و«العجل الذهبي»، وقد كان الاعتقاد أن الطريقة المثلى للعبادة هي تضحية حيوان وتقديم قربان في المحراب من محاصيل الحقل والقطيع، وهذا الاعتقاد كان عامًّا بين أهالي «سوريا» و«مسبوتاميا» و«مصر» على السواء.

ولا نزاع في أن رقص «داود» أمام التابوت ليس إلا صدى للرقص الكنعاني الخاص بالخصب (راجع سفر صموئيل الثاني الإصحاح ٦ سطر ١٤): «وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب، وكان داود متمنطقًا بأفود من كتان.»

ولا تزال بقايا هذا الرقص موجودة حتى يومنا هذا عند الدراويش (وهو المعروف بالذكر).

أما الشعائر المحرمة التي نقرؤها في «التوراة» فتحمل في ثناياها معنى أنها قبل أن تحرَّم كانت مستعملة عند اليهود الذين أخذوها عن جيرانهم، ثم حرمها فيما بعدُ مرشدوهم؛ لأنها لا تتمشى مع مبادئ الديانة اليهودية. يضاف إلى ذلك أن تحريم طبخ جدي في لبن أمه كان يعد أمرًا غريبًا، وقد فُسِّر تفسيرًا في هذه الجهة (راجع الخروج إصحاح ٢٣ سطر ١٩): «أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك، لا تطبخ جديًا بلبن أمه.» (وكذا نفس السفر إصحاح ٣٤ سطر ٢٦).

ولم يكن الاعتراف «بيهوه» أنه الإله الأعلى بحق الفتح يحرم اعتبار الآلهة المحلية أنهم المراقبون على إنتاج الأرض، وقد كانت سلطة «يهوه» القضائية على الحكومة هي السلطة النافذة، أما شئون الحياة العادية كالزراعة والتجارة فلم تكن همه الأول.

ونجد أحيانًا — وعلى وجه خاص في الجزء الشمالي من المملكة العبرانية — أن «يهوه» كان قد اكتسب عدة صفات من صفات الإله «بعل»، فأصبح يعد رب السماء، ومرسل المطر، ومراقب العواصف. وكان الآباء اليهود يسمون بكر أولادهم باسم «يهوه»، والأصغر باسم «بعل»؛ ولذلك نجد أن نسبة الأسماء العبرانية المركبة مع اسم «بعل» كانت تزداد باستمرار في العهد الأول، فنجد أن «شاؤل» سمى ابنه «أش-بعل» (رجل بعل)، و«يهوناثان» سمى «مري-بعل» (بعل يقاوم)، و«داود» سمى «بعليا راع» (بعل يعرف). (راجع سفر الأيام الأول إصحاح ٨ سطر ٣٣-٣٤): «ونير ولد قيس، وقيس ولد شاؤل، وشاؤل ولد يهوناثان وملكيشوع وأبيناداب وأشبعل وابن يهوناثان مريبيعل، ومريبيعل ولد ميخا.» (وكذا موجود بنفس السفر إصحاح ٩ سطر ٣٩-٤٠ ونفس السفر إصحاح ١٤ سطر ٧): «واليشمع وبعليا داع واليفلط.» وقد كان «ليهوه» مناهض في «بعل» الإله الكنعاني، حتى إنه في عهد «آخاب» و«أزابل» لم يكن يوجد أكثر من ٧٠٠٠ نسمة لم يجثوا على ركبهم لبعل، وهذا العدد على أية حال يَظْهَر أنه قد أرضى «اليشع» (سفر الملوك الأول إصحاح ١٩ سطر ١٨): «وقد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف؛ كل الرُّكَب التي لم تَجْثُ للبعل، وكل فم لم يقبِّله.»

الفن

أما من حيث الفن فإنه لا نزاع في أن الفن الديني والعمارة الدينية عند اليهود مأخوذة من أصل كنعاني؛ فمعبد «سليمان» — وهو الأثر الوحيد الديني الضخم الذي بقي لنا من عهد العبرانيين — لم يُقمه بناءون من «صور» وحسب، بل كذلك قد صُمِّمَ محاكيًا لتصميم محراب كنعاني، وزخرفته كذلك على حسب نماذج كنعانية، والقصر الملكي في «أورشليم» كان من إنتاج عمال فينيقيين كما ذكرنا من قبل، والملكان اللذان صُوِّرا على جدران هذا القصر في شكل إنسانين برأس حيوان يحرسان شجرة الحياة يمثِّلان حلية سامية قديمة، هذا إلى أن فكرة تصوير الملاك في صورة ولد صغير بجناحين ترجع في أصلها إلى فن عهد النهضة الذي أخذ بدوره من بولهول المجنح السوري أو الأسد المجنح برأس إنسان لا من الثور الآشوري المجنح كما كان يظن البعض، وكان برقع «التابوت» وكذلك جدران معبد سليمان محلًّى بصور الملائكة، وكان الإسرائيليون يتصورون إلههم واقفًا متربعًا على عرش فوق ملاك.

وكانت شعائر المعبد تتطلب أنغامًا موسيقية (سفر أخبار الأيام الأول إصحاح ٢٥ سطر ٦): «كل هؤلاء تحت يد أبيهم لأجل غناء بيت الرب بالصنوج والرباب والعيدان لخدمة بيت الله تحت يد الملك إلخ.»

وكان موسيقاروه ومغنوه الأُوَل كنعانِيِّي الأصل، أو تعلموا على يد كنعانيين، وعندما وضع «داود» أنغام الموسيقى المقدسة العبرانية — وهي التي رقاها من بعده «سليمان» — لم يكن لديهما نموذج يسيران على هديه إلا النماذج الكنعانية، ومما يؤكد ذلك أن طوائف الموسيقاريين المتأخرين كانوا يفخرون ويتشرفون بنسبتهم إلى أسر تحمل أسماء كنعانية (راجع Albright, Archeology and Religion of Israel, pp. 14, 162–197).

وتوجد صورة امرأة من بلدة «مجدو» القديمة مُثِّلث تضرب على آلة موسيقية، وهذه الآلة كانت معروفة في «فلسطين» منذ نحو ألفي سنة قبل عهد «داود»، ويعترف لنا مؤلف سفر «التكوين» بقدم الآلات الموسيقية التي كان يستعملها قومه بأنها تنتسب إلى أحد سلالة «قابيل» الذي كان أبًا لكل ضارب على العود أو نافخ في المزمار. (راجع سفر التكوين إصحاح ٤ سطر ٢١). وبعد أن تعلم رجال الدين استعمال هذه الآلات أصبحت تستعمل في الأغراض الدينية وغيرها.

ومن أهم هذه الآلات الإسرائيلية الدف الذي جاء ذكره في جهات كثيرة من كتاب «التوراة» (راجع القضاة إصحاح ١١ سطر ٣٤): «ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص.» إلخ. (وسفر صموئيل الأول إصحاح ١٨ سطر ٦): «وكان عند مجيئهم حين رجع «داود» من قتل الفلسطيني أن النساء خرجت من جميع مدن إسرائيل بالغناء والرقص للقاء «شاؤل» الملك بدفوف وبفرح وبمثلثات.» (والمزامير إصحاح ٦٨ سطر ٢٥): «ومن قدام المغنون، من وراء ضاربو الأوتار، في الوسط فتيات ضاربات الدفوف.»

وكان لديهم كذلك الصفارة والقيثارة والبوق، أما الصفارة أو المزمور فكان كما نعلم قطعة يراع بسيطة أو مزدوجة (الأرغول)، وهو من النوع الذي يستعمله الراعي المصري والسوري الآن، وتصنع الصفارة من قرن الكبش أو التيس، وهي لا تزال مستعملة حتى الآن في المعابد اليهودية (راجع Curt Sachs, The history of Musical Instruments, New York 1940, pp. 110–112). ومن أحب الآلات الوترية عند العبرانيين القيثارة، غير أنه ليس لدينا أية فكرة عن الأنغام التي كانت تضرب على هذه الآلة، وكانت تغنَّى مع الضرب على هذه الآلات الأناشيد، وأقدم أغنية حُفِظَت لنا من هذا العهد هي أغنية «دبورة»، وهي أنشودة تحتفل بنصر بني إسرائيل على الكنعانيين كما جاء ذكره في «سفر القضاة الإصحاح الخامس»: «فترنمت دبورة وباراق أبينوعم في ذلك اليوم قائلين: لأجل قيادة القواد في إسرائيل؛ لأجل انتداب الشعب باركوا الرب، اسمعوا أيها الملوك، وأصغوا أيها العظماء، أنا أنا للرب أترنم، أزمر للرب إله إسرائيل، يا رب، بخروجك من سعير، بصعودك من صحراء أدوم الأرض ارتعدت، السماوات أيضًا قطرت، كذلك السحب قطرت ماء، تزلزلت الجبال من وجه الرب وسيناء هذا من وجه الرب إله إسرائيل إلخ.»
وكذلك نجد أغاني للحجاج استعملوها في طريقهم إلى المعبد، ونجد كثيرًا منها في المزامير (راجع سفر المزامير من إصحاح ١٢٠–١٣٤). وهذه الأغاني كانت بطبيعة الحال شعرًا، ويلاحَظ أن الطباق هو أساس الشعر العبراني كما هي الحال في شعر «أوجاريت» (رأس الشمرة) التي كشف عنها حديثًا.٤ والواقع أن الطباق المستعار من الكنعانيين هو الذي أسبغ على «المزامير» والمؤلفات الشعرية الأخرى في كتاب العهد القديم الكثير من بهائها وفخامتها وجمال أوزانها.

الحياة المنزلية

ودل البحث على أن حياة العبرانيين الدنيوية كانت مشتقة في كثير من الحالات من حياة قوم الكنعانيين الذين عاشوا معهم واختلطوا بهم وتزوجوا منهم؛ ولذلك يجد الباحث أن نظرتهم العامة إلى الحياة في الدنيا وفي الآخرة كانت في الواقع صورة من حياة الكنعانيين، وكانت عادات الدفن في كلا الشعبين واحدة؛ إذ كان الجسم يوضع في القبر ومعه أشياء من التي كانت تستعمل في الحياة الدنيا كالأطباق والجِرار، وكذلك كانت ملابسهم ومجوهراتهم وفخارهم وصناعاتهم تسير على حسب الطراز الكنعاني، فكان ملكهم يرتدي سربالًا طويلًا من نوع خاص، وكان الأنبياء يلبسون نفس السربال، وفيما بعد كان يلبسه النساء، أما لفائف الكتان فكان يلبسها كذلك الطبقة الراقية وتشمل قطعة مستطيلة من الكتان الرفيع.

وكان القوم يغزلون وينسجون عادة في بيوتهم لحاجتهم الخاصة، وهذا العمل كانت تقوم به النساء؛ ولذلك نجد أن الرجل العبراني الحكيم قد وصف الزوجة الصالحة أنها هي التي تبحث عن الصوف والكتان وتعمل طواعية بيديها (فسفر الأمثال إصحاح ٣١ من سطر ١٠–١٣) يقول: «امرأة فاضلة من يجدها؛ لأن ثمنها يفوق اللآلئ، بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة، تصنع له خيرًا لا شرًّا، كل أيام حياتها تطلب صوفًا وكتانًا وتشتغل بيدين راضيتين.»

وتدل ثقالات المغازل العديدة التي وجدت في «كيراجات يسفر» (أي مدينة الكتب وهي «تل بيت مرسيم» الحالي الواقع على مسافة ثلاثة عشر ميلًا جنوبي غرب «حبرون»)، وكذلك قطع خشب المغازل وأدوات الصباغة التي وجدت في «لاخش» على وجود محترفين كانوا يعملون للاستهلاك العام (راجع Barrois, Manuel Vol. I p. 482–7)، وكل من هاتين المدينتين كانتا في بادئ أمرهما من المراكز الكنعانية.

وقد امتاز العبرانيون بدرجة عظيمة عن غيرهم في قطع الأحجار الكريمة وتنسيقها، وتدل أختام من عهد الملكية على مهارتهم الفائقة في هذا الفن، ولدينا إشارات في التوراة عن أسر كتاب ونساجين وبعض الصياغ تدل على وجود نظام يشبه نظام الطوائف الذي يوجد بين أعضاء المهنة الواحدة، وكان مرماه الفائدة الاقتصادية والاجتماعية والدينية المتبادلة (راجع سفر أخبار الأيام الأول إصحاح ٢ سطر ٥٥): «وعشائر الكتبة سكان يعبيص ترعاتيم وشمعانيم وسوكاتيم.» إلخ. (وإصحاح ٤ سطر ٢١): «وعشائر عاملي البَزِّ من بيت أشبيع.» (وسفر نحميا إصحاح ٣ سطر ٨): «وبجانبهما رمم عزئييل بن حرهايا من الصياغين.»

والواقع أن الأنبياء كانوا عادة يحترفون حرفة والدهم، وهذه عادة كانت مستمرة في قوم العبرانيين، وقد وجدناها بصفة منظمة عند المصريين في آخر عهودهم كما تحدثنا عن ذلك من قبل [راجع الأسرة الرابعة والعشرين السيادة الحربية ووراثة الوظائف].

وكان نسيج الكتان يصنع من التيل الذي يُزرَع محليًّا، وهذا النبات القديم كان منتشرًا منذ عهد قديم على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وفي مصر (راجع مصر القديمة جزء ٢)، وكان ينمو في سهل «أريحة» قبل احتلال اليهود له (سفر يشوع إصحاح ٢ سطر ٦): «وأما هي فأطلعتهما على السطح ووارتهما بين عيدان الكتان لها منضدة على السطح.» وكان الكتان العادي قد اختفى فعلًا من فلسطين، ولكن لا تزال أزهار برية من فصيلة الكتان تزين في فصل الربيع وديان «سوريا» و«لبنان» (راجع George E. Post, Flora of Syria, Palestine & Sinai (Beirut 1896) pp. 181–184).
وقد جلب القطن بعد الكتان، ولكن الصوف كان يستعمل قبل ذلك بزمن طويل، وكان الإنتاج المحلي منه يستعمل ملابس يومية للطبقة المتوسطة الغنية، وقد جاء في نتيجة «جيزر» المؤرخة بمنتصف القرن العاشر ق.م ذكر القمح والزيتون والعنب، هذا خلافًا للكتان (راجع Gustaf Dalman, Arbeit und Sitte in Palastina Vol. I p. 7)، وكانت الأرض التي وعد بها «يهوه» هي أرض قمح وشعير وكروم وتين ورمان، وكذلك أرض زيتون وشهد (سفر التثنية إصحاح ٨ سطر ٨): «أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمان، أرض زيتون زيت وعسل.» ولا نزاع في أن القمح كان أهم الحبوب في فلسطين، وكانت غارات الأعداء توجه غالبًا على أجران درس القمح كما هي الحال حتى الآن (سفر صموئيل الأول إصحاح ٢٣ سطر ١): «فأخبروا داود قائلين: هو ذا الفلسطينيون يحاربون قعيله وينهبون البيادر.»
وفي الحفائر التي عُمِلَت حديثًا عُثِرَ على أحجار طاحون لطحن الدقيق، وتدل الأفران التي وجدت في «بيت شمش» على أن بعض عادات خاصة لصنع الخبز قد استمرت حتى يومنا هذا، حيث نجد التنانير٥ تستعمل، وكذلك نجد في نفس المكان بقايا معاصر للزيت والنبيذ، ووجدت حفر زيت كثيرة في «لاخش»؛ مما يدل على أن هذه الصناعة كانت من الصناعات العظيمة في عهد الملكية اليهودية، وكانوا يستعملون مصابيح بسيطة من الطين على شكل طبق صنع في حافته مكان لشريط، ويرجع عهد استعمال هذه المصابيح إلى النصف الأول من الألف الثانية ق.م، فهم بذلك قد نقلوا استعمالها عن الكنعانيين، وكانوا يوقدون بزيت الزيتون، ولم يستعمل اليهود في الإنارة غير هذا الصنف من المصابيح لمدة سبعة قرون، والظاهر أنهم حوالي القرن الخامس ق.م استعملوا نوعًا آخر من المصابيح مجلوبًا من بلاد «مسوبوتاميا»، وقد وجد منه نماذج في «بيت شمش»، وكان بطبيعة الحال أحسن من الذي يستعملونه؛ إذ كان له مقبض على جانبه وغطاء من أعلى وثقب للشريط. هذا، وقد كُشِفَ عن خلية نحل مخروطية الشكل في «تل النصبة»٦ مما يدل على أن القوم كانوا يربون النحل.

وذُكِرَ في «التوراة» أنواع عدة من الخضر مثل: البصل، والثوم، والفول، والعدس، والقثاء، والكزبرة، وغير ذلك من أنواع الخضر والحبوب؛ مما يدل على أن عادات الأكل عند اليهود لم تختلف عن عادات جيرانها. وقد جاء ذكر هذه الخضر والحبوب في القرآن بمناسبة بني إسرائيل: «وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها» (وسفر العدد إصحاح ١١ سطر ٥): «قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانًا، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم.» (وسفر صموئيل الثاني إصحاح ١٧ سطر ٢٨): «قدموا فرشًا وطسوسًا وآنية خزف وحنطة وشعيرًا ودقيقًا وفريكًا وفولًا وعدسًا وحمصًا مشويًّا إلخ.» (وسفر حزقيال إصحاح ٤ سطر ٩): «وخذ أنت لنفسك قمحًا وشعيرًا وفولًا وعدسًا ودخنًا إلخ.»

وكان للعنب ومنتجاته شأن في الشعائر والاقتصاد اليهودي؛ إذ إن شجرة العنب (الكرم) تعني الخصب، هذا، وكان الخمر يستعمل قربانًا في المعبد (سفر اللاويين إصحاح ٢٣ سطر ١٣): «وتقدمته عشرين من دقيق ملتوت بزيت وقودًا للرب، رائحة سرور وسكيبة ربع الهين من خمر.» (والعدد إصحاح ١٥ سطر ٤ إلخ): «يقرب الذي قرب للرب تقدمة من دقيق عشرًا ملتوتًا بربع الهين من الزيت، وخمرًا للسكيب ربع الهين إلخ.»

هذا، وكانت الكروم وعناقيد العنب تستعمل حلية في الصور المحفورة في معابد اليهود الأولى وفي مقابرهم، وكذلك كان الرمان يستعمل في الحلية كما كان يستعمل عصيره شرابًا سائغًا (راجع نشيد الأناشيد إصحاح ٨ سطر ٢): «وأقودك وأدخل بك بيت أمي وهي تعلمني، فأسقيك من الخمر الممزوجة من سلاف رماني.»

وكانت السوسنة (وهي نبات مصري وقد اشتقت من كلمة «سشن») أحسن الأزهار وأجملها وأحبها لنفوس القوم، وقد جاء ذكرها في «نشيد الأناشيد» (إصحاح ٢ سطر ١-٢): «أنا نرجس شارون سوسنة الأودية، كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات.» (وسطر ١٦ من نفس الإصحاح): «حبيبي لي، وأنا له الراعي بين السوسن.» (ونفس السفر إصحاح ٤ سطر ٥): «ثدياك كخشفتي ظبية توءمين يرعيان بين السوسن.» (وإصحاح ٦ سطر ٢-٣): «حبيبي نزل إلى جنته في خمائل الطيب ليرعى في الجنات ويجمع السوسن، أنا لحبيبي وحبيبي لي، الراعي وبين السوسن.»

وكانت هذه الزهرة تزين جدران المعابد اليهودية، ثم رُسِمَت فيما بعد على نقودهم، هذا إلى أن أنشودة «سليمان» حافلة بالإشارات إلى هذه الزهرة وغيرها من النباتات، من المحتمل أن الزهر الذي ذكر في أنشودة «سليمان» كان قاصرًا على الديسم شقيق نعمان)، والأقحوان وأزهاره لا تزال تنتشر خلال الربيع بساطًا من اللون الفاخر على وديان «سوريا» الفيحاء. ولا بد أن «المسيح» كان يفكر في واحدة من هذه الأزهار، عندما قال: «ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو ولا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا «سليمان» في كل مجده كان يلبس واحدة منها.» (إنجيل متَّى إصحاح ٦ سطر ٢٨-٢٩).

هذا، ولم تُجْلَب النقود المضروبة إلى فلسطين حتى القرن الخامس ق.م، وكان التعامل قبل ذلك بالنقد البابلي الذي كان أساسه وحدة الوزن (الشكل)، فنعلم أن الفضة لم تكن تضرب نقودًا، بل كانت المعاملة بها بالوزن، واستعملت لذلك الغرض في كل غربي آسيا، وإن كانت التجارة تسير بالمبادلة. وقد ذكر لنا «سنخرب» (٧٠٥–٦٨٠ق.م) — وهو أحد الفاتحين الآشوريين لبلاد «سوريا» — مثل هذه الموازين عندما قال: لقد صنعت قالبًا من الطين، وصببت بُرُنزًا فيه كما تصنع قطعة تساوي نصف شكل (راجع Daniel D. Luckinbill, The Annals of Sennachrib Chicago (1924) p. 123).

وعندما كانت الأعمال التجارية لا تسير بطريق المبادلة كانت تسير بوساطة الوزن؛ أي إنه كانت توجد موازين مختلفة كوِّنت على حسب نظام الشكل، وقد كُشِفَ عن هذه الطريقة في مواقع أثرية مختلفة.

وفي باكورة القرن الخامس ق.م كانت الفضة الأثينية التي أصبحت وقتئذٍ عملة دولية قد أخذت تستعمل في الشرق الأدنى، وكانت تقلد في «فلسطين وبلاد العرب» (راجع Hitti, History of the Arabs p. 57-58).

أما أول عملة عبرانية فإنها ظهرت في أواسط القرن الخامس ق.م، ومن المحتمل أن الذي ضربها هو «ناحوم».

١  وهي تمثل النبات السرمدي الخضرة الذي يسكن فيه إله الخصب.
٢  وذلك أنه فضلًا عن المعابد التي كانت تقوم في المدينة كان للكنعانيين محاريب معظمها محاريب في الهواء الطلق على قمم التلال، وهذه هي المرتفعات، وقد أنكرها مرارًا كتاب العهد القديم. (راجع سفر الملوك الأول إصحاح ١٣ سطر ٢): «فنادى نحو المذبح بكلام الرب وقال: يا مذبح يا مذبح هكذا قال الرب: هو ذا سيولد لبيت داود ابن اسمه يوشيا، ويذبح عليك كهنة المرتفعات الذين يوقدون عليك وتحرق عليك عظام الناس.»
٣  كانت إلهة الحصاد في مصر تدعى «رنوتت»، وتمثَّل في صورة ثعبان. (راجع مصر القديمة جزء ٥).
٤  في عام ١٩٢٩ كُشِفَ بطريق الصدفة في بلدة «رأس الشمرة» على يد فلاح سوري بعض الآثار، ومن ثم بدأ بعث فرنسي يكشف عن آثار هذا المكان، وقد برهنت الكشوف على أنه تل يتألف من عدة مدن قديمة بعضها فوق بعض، وأقدم هذه المدن يرجع إلى الألف الخامسة ق.م كما يقول البعض، وحوالي عام ١٤٠٠ق.م عندما كانت هذه المدينة في أوج عزها كانت تسمى «أوجاريت»، وتقع على مسافة ميل في الداخل من مينائها التي تسمى الآن «الميناء البيضاء»، وهي تقابل بالضبط «قبرص»، وهذه البلدة مدينة برخائها للتجارة التي كانت تتدفق عليها بواسطة مينائها، وكان ملكها وقتئذٍ يدعى «بمتاد» صاحب القصر التي كانت عُمُدُه موشَّاة بالفضة، وكان يحميه برج ضخم مربع عرضه أربعة عشر مترًا وجدار سميك. ومن أهم الآثار التي عُثِرَ عليها في هذا المكان اللوحات المصنوعة من الطين التي نقشت عليها كتابات بالحروف الأبجدية بالخط المسماري، وقد عثر عليها في رقعة المعبد، وهذه النقوش قد نسخت في مستهل القرن الرابع عشر ق.م، وكان الأصل قد كتب في أزمان أقدم من ذلك بكثير، وكتابة هذه اللوحات تحتوي على ثلاثين حرفًا، وكلامها لهجة كنعانية، ومادة هذه اللوحات في معظمها شعائرية ودينية. وهذا الكشف يعيد لنا جزءًا كبيرًا من الأدب الكنعاني المفقود منذ زمن بعيد.
ومن أهم أشعار «أوجاريت» قصيدة تحدثنا عن الصراع السنوي بين إله النبات «بعل» وعدوه «موت» (الموت)، فنجد في هذه القصيدة أن «موت» يقهر «بعل»، وذلك يتفق مع أرض فيها حر الصيف يقضي على حياة الخضرة، ولكن بعودة المطر في أشهر الخريف ينتصر «بعل» على «موت»، وهذا يتفق تمامًا على ما كان يحدث في مصر؛ حيث كان الإله «أوزير» يمثل الدورة السنوية، أو بعبارة أخرى النيل فكان يحيا النبات بزيادة النيل ويموت في فصل التحاريق، وهكذا.
ويلاحَظ أنه يوجد تماثُل كبير في كلٍّ من لغة «أوجاريت» وكتاب «أيوب» من جهة اللغة والفكر، كما يوجد تشابه بين التراكيب الأدبية لهذه اللغة وألفاظها وأفكارها وأوزانها وبين المزامير العبرانية.
٥  راجع Elibu Grant, Rumeilih p. 49, do. The People of Palestine 1921 p. 78 و«بيت عين شمش» هو الآن قرية «عين شمس» التي تبعد مسافة ٢٠ ميلًا غربي «أورشليم» على الطريق من «يافا» إلى «حبرون»، وبالقرب من «عين شمس» يوجد «تل الرميلة» وهو موقع «بيت شمس» الأصلي.
٦  «تل النصبة» على مسافة ثمانية أميال شمالي «أورشليم»، وعلى مسافة ميلين جنوبي «البيرة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤