أصل الأسرة الثانية والعشرين

حكَم فراعنة الأسرة الحادية والعشرين أرض الكنانة قرابة قرن وربع قرن من الزمان، وقد واجهتهم في خلال تلك المدة صعاب كثيرة خلقتها الحروب الداخلية التي قامت بين أهل البلاد والأجانب الذين استوطنوها، وقد اتخذ ملوك هذه الأسرة — كما ذكرنا من قبل — مقرهم الأخير في «تانيس» فأقاموا مقابرهم في خرائب معبد تلك المدينة العظيمة التي هدموها وأقاموا من أنقاضها معابد وقصورًا ومقابر، ولم يكن للإله «ست» فيها أثر يذكر بعد أن كان أهم معبود فيها. ومما يلفت النظر أن مقابر ملوك هذه الأسرة التي أقيمت في هذه البقعة لا تزيد في أهميتها وعظمتها عن مقابر علية القوم وأوساطهم في العصور السابقة لذلك العصر، وبخاصة إذا قيست بمقابر علية القوم في الأسرة الثامنة عشرة، غير أن الموميات الملكية التي عُثر عليها حديثًا من عهد هذه الأسرة كانت تمتاز بجهازها الجنازي الفاخر، وما يتبعه من زينة وزخرف.

وقد ادَّعى ملوك الأسرة الواحدة والعشرين أنهم حكموا مصر من أقصاها إلى أقصاها، غير أنهم في الواقع أحجموا عن منازلة كهنة آمون الأشداء البأس، الأقوياء السلطان في أي أمر من الأمور الدينية أو الأمور الدنيوية الخاصة بمصر العليا، ومن أجل ذلك كانوا يُحِلُّون ثالوث «طيبة» في المنزلة الأولى من حيث الخضوع والتعبد، وكذلك كانوا يعيشون مع جيرانهم اليهود في فلسطين في ود ومصافاة؛ وقد حاولوا أن تكون علاقتهم مع جبيل (ببيلوص) علاقة مُرْضِية أساسها الود والمهادنة، ومن ثم كانت اتصالاتهم مع بلاد سوريا والأقاليم التي يرويها الفرات لا غبار عليها، وقد كان مَثَلُ ملوك الأسرة الثانية والعشرين — الذين تولوا زمام الأمور في مصر بعد الأسرة الواحدة والعشرين — كمَثَلِ فراعنة الرعامسة الذين اتخذوا «بررعمسيس» (قنتير الحالية) مقرًّا لحكمهم مدة طويلة؛ إذ كانوا ينتسبون إلى أسرة قديمة يرجع عهد استيطانها في البلاد إلى أزمان بعيدة، كما تدل على ذلك الوثائق التي في متناولنا حتى الآن.

(١) الوثائق الخاصة بأصل أسرة اللوبيين

لوحة «حور باسن»

تعد لوحة «حور باسن» — التي سنورد ترجمتها والتعليق عليها هنا — أهم وثيقة تحدثنا عن أصل ملوك الأسرة الثانية والعشرين، وهذه اللوحة محفوظة الآن بمتحف «اللوفر» بباريس (راجع Louvre No. 278. Mariette Le Serapeun Memphis III, PI. 31)، وقد عُثر عليها في «السربيوم» (مدافن العجل أبيس) «بمنف»، وقد أقامها «حور باسن» القائد الحربي والكاهن الأعظم للإله «حرشف» (حرسافيس) لمدينة «أهناسية المدينة» في السنة السابعة والثلاثين من حكم الفرعون «شيشنق الرابع»؛ أي عند نهاية الأسرة الثانية والعشرين بمناسبة دفن عجل أبيس.

وهاك ترجمة هذه اللوحة قبل التحدث عن محتوياتها وأهميتها في تاريخ هذه الأسرة.

تاريخ العجل أبيس

قدم هذا الإله لوالده «بتاح» في السنة الثانية عشرة (ويلاحظ أن سلف هذا العجل قد دفن في السنة الحادية عشرة في شهر بئونة) (راجع Le Serapeum de Memphis PI. 30)، في الشهر الرابع من الفصل الثاني، اليوم الرابع من حكم الملك «عا-خبر-رع» ابن «شيشنق (الرابع) معطي الحياة»، وقد ولد (هذا العجل) في السنة الحادية عشرة من عهد جلالته، وقد دفن في مأواه الأخير بالجبانة في السنة السابعة والثلاثين، الشهر الثالث من الفصل الأول، اليوم السابع والعشرين من عهد جلالته.
  • الجيل السادس عشر: من أسرة حور باسن؛ ليته (أي الإله) يمنح الحياة والسعادة والصحة وفرح القلب لابنه المحبوب كاهن الإلهة «نيت» (المسمى) «حور باسن».
  • الجيل الخامس عشر: ابن الأمير حاكم الجنوب، ورئيس كهنة «أهناسية المدينة»، وقائد الجيش «حمبتاح» الذي أنجبته كاهنة «حتحور» صاحبة «أهناسية المدينة» أخته ربة البيت (التي تدعى) «إرترو».
  • الجيل الرابع عشر: ابن مثيله (أي إن والده كان يحمل نفس الألقاب ويشغل نفس الوظائف مثل الابن) «حور باسن» الذي أنجبته حاملة الصاجات التابعة للإله «حرشف» ملك الأرضين وحاكم الشاطئين «بتبتدس».
  • الجيل الثالث عشر: ابن مثيله «حمبتاح» الذي أنجبته مثيلتها، (أي إنها مثيلة «بتبتدس» في ألقابها) (التي تدعى) «ثانقمت».
  • الجيل الثاني عشر: ابن مثيله المسمى «وز-بتاح-عنخ» الذي أنجبته كاهنة «حتحور» صاحبة «أهناسية المدينة» بنت الملك السيدة «تنتسبح».
  • الجيل الحادي عشر: ابن مثيله «نمروت» الذي أنجبته حاملة الصاجات الأولى للإله «حرشف» ملك الأرضين وحاكم الشاطئين، المسماة «تنتسبح».
  • الجيل العاشر: ابن رب الأرضين أوسركون (الثاني) الذي أنجبته «وازمرت-أنخوس» (؟).
  • الجيل التاسع: ابن الملك «تاكيلوت» (الأول) والأم الإلهية «كابس».
  • الجيل الثامن: ابن الملك «أوسركون» (الأول) والأم الإلهية «تاشد خنسو».
  • الجيل السابع: ابن الملك شيشنق (الأول) والأم الإلهية «كارعمعت».
  • الجيل السادس: ابن الكاهن والد الإله الرئيس العظيم «نمروت» والأم الإلهية «تنتسبح».
  • الجيل الخامس: ابن مثيله (في الألقاب) «شيشنق» وابنة والد الملك «محتنوسخت».
  • الجيل الرابع: ابن مثيله «باثوت».
  • الجيل الثالث: ابن مثيله «نبنشي».
  • الجيل الثاني: ابن مثيله «ماواساتا».
  • الجيل الأول: ابن اللوبي (تحن) المسمى «بويوواوا».

فيلبث الرجل ابن الرجل الآخر منهم لبثًا، ويبقى بقاءً، ويُخَلَّد تخليدًا، ويفلح فلاحًا في معبد الإله «حرشف» ملك الأرضين وحاكم الشاطئين دون أن يفنى أبد الآبدين في «أهناسية المدينة».

وأول ما يلاحظ في نقوش هذه اللوحة أنه جاء فيها ذكر ستة أفراد عاشوا قبل «حور باسن» الذي أقامها، وقد عاش «حور باسن» هذا في أواخر الأسرة الثانية والعشرين. والواقع أنه يحدثنا في نقوش لوحته عن أجداده حتى الجيل السادس عشر من أسرته، ويُلحَظ أن قائمة أجداده التي وضعها أمامنا تبتدئ بذكر أربعة أشخاص لا نعلم عنهم شيئًا أكثر من أسمائهم:
  • (١)

    «بويوواوا» وهو من أصل لوبي (تحنو).

  • (٢)

    وابنه «ماواساتا» على حسب قراءة «مونتيه»، و«ماوش» على حسب قراءة «برستد».

  • (٣)

    ثم ابنه «نبنشي».

  • (٤)

    وأخيرًا شخص يدعى «باثوت».

وأول ما يسترعي النظر في هذه الأسماء هو أن الاسمين الأولين ليسا من المسميات المصرية، ولا بد أنهما من أصل لوبي أو زنجي، وعلى أية حال، فهما ليسا من أصل سامي من حيث النطق والشكل، أما الاسمان الأخيران فهما مصريان في تركيبهما وشكلهما. ويُلحَظ فضلًا عن ذلك أنه لم يُذكر لنا في هذه اللوحة ألقاب هؤلاء الأشخاص الأربعة كما لم تُذكر أسماء زوجاتهم، كما هي الحال في الأسماء الأخرى، ولم يبدأ ذكر العلاقات الأسرية في نقوش اللوحة إلا عندما ذكر لنا «حور باسن» كاتبها أن «شيشنق» هو ابن «باثوت». ولا بد من التنويه هنا بأن المصري كان في غالب الأحيان يستعمل كلمة والد أو ابن بمعناها الواسع، وعلى ذلك يجدر بنا أن نعد أربعة الأجداد الأُوَل الذين ذكرهم «حور باسن» في أول اللوحة بمثابة أجداد ينتسبون إلى الماضي البعيد؛ هذا إذا لم نَعُدَّهم من الشخصيات الأسطورية، وعلى هذا الزعم يمكننا أن نضع بينهم وبين الأسماء التي تلي «باثوت» السالف الذكر فاصلًا؛ لأن الأشخاص الذين ذُكروا بعده يعدون شخصيات معروفة لنا تمام المعرفة.

هذا، ونعرف مما لدينا من وثائق أخرى «شيشنق» وزوجه الأم الملكية «محتنوسخت» وابنها الذي يحمل لقب الكاهن والد الإله، والرئيس الأعظم لقوم «مي» المسمى «نمروت»، وكذلك نعرف اسم زوجه، وهي الأم الملكية «تنتسبح»، ويلي ذلك في نقوش اللوحة أسماءُ أربعة الملوك الأُوَل للأسرة الثانية والعشرين، وهم:
  • (١)

    شيشنق الأول.

  • (٢)

    أوسركون الأول.

  • (٣)

    تاكيلوت الأول.

  • (٤)

    أوسركون الثاني.

أما «حور باسن» الذي أقام اللوحة فهو ابن «نمروت» أحد أبناء «أوسركون الثاني»، ولم يكن «نمروت» هذا الوارث لعرش الكنانة بعد والده؛ ولذلك لم تُتَحْ له فرصة حكم البلاد قط.

وقد جاء ذكر أجداد «شيشنق» الأول في وثيقتين أخريين؛ الأولى: لوحة نشرها الأثري «دارسي» (راجع A. S. Tome XVI. p. 177)، فنشاهد على الجزء الأعلى المستدير منها منظرًا مثلثًا فيه شخصية واقفة تتعبد للإله «أوزير» رب السماء، وتلقب هذه الشخصية الرئيس العظيم لقوم «مي» (المشوش) المرحوم، وفي الجزء الأسفل من اللوحة نقرأ المتن التالي: «عمله الرئيس العظيم لقوم «مي»، «عظيم العظماء» «شيشنق» المرحوم، ابن الرئيس العظيم لقوم «مي» (المسمى) «نمروت» المرحوم، وأمه هي بنت الرئيس العظيم لقوم «مي» (وتسمى) «تنتسبح» المرحومة بجوار العائش إبديا.» (يقصد هنا «أوزير» إله الموتى).

ويُلحظ أن هذا النسب الذي على هذه اللوحة يتفق مع ما وجدناه مذكورًا على لوحة «حور باسن»، وكذلك يتفق مع ما جاء في مرسوم «العرابة» (راجع مصر القديمة الجزء الثامن). ونص هذه اللوحة يحدد لنا قراءة اسم والد الملك، ويلحظ كذلك أن لقب «مشوش» أو «مي» قد اختُصِرَ فأصبح يدعى رئيس الأجانب وحسب، وهذا ليس بالمَثَلِ الوحيد الدال على ذلك.

أما الوثيقة الثانية: فهي صدرية عُثر عليها في «تانيس» حديثًا على مومية الملك «حقاخبررع» «شيشنق (الثاني)»، وقد نُقش عليها نَسَبُ هذا الملك (راجع Le Drame D’varis p. 198ff). وهاك ما نُقِشَ عليها: «ليت «آمون رع» — حور أختي يخترق السماء كل يوم ليحمي الرئيس العظيم لقوم «مى» «عظيم العظماء».» والظاهر أن الشخصيتين اللتين ذُكرتا على الصدرية واللوحة السالفة الذكر واحدة، غير أنه من الصعب وضعها في مكانها الأكيد في قائمة الأجداد التي دُوِّنت في لوحة «حور باسن».
والواقع أن علماء الآثار قد اختلفوا في هذا الموضوع؛ فيظن «دارسي» أن اللوحة كانت قد عُملت قبل تولي الأسرة الثانية والعشرين، وأن «شيشنق» الذي ذُكِرَ عليها هو الفرعون الأول الذي حمل هذا الاسم، غير أن مدلول اللوحة لا يوحي بذلك قط. والواقع أننا لا نعرف من مصدر موثوق به إذا كان الملك «شيشنق» يحمل لقب الرئيس العظيم لقوم «مي» قبل توليته العرش أم لا، ولكن من جهة أخرى نعرف أن جد هذا الملك كان يسمى كذلك «شيشنق»، وأنه كان يحمل لقب الرئيس العظيم لقوم «مي»، وعلى ذلك تكون هذه اللوحة قد أُهْدِيَت للجد لا للحفيد، وأن الرحمة التي كان يُرجَى إنزالها من «آمون رع حورأختي» كما جاء في نقش الصدرية كانت لهذا الجد، ومن المهم جدًّا إذن أن نلحظ هنا أن والد هذه الشخصية كان يدعى «نمروت»، وأنه قد تزوج من سيدة تدعى «تنتسبح». هذا، ويلاحَظ كذلك منذ ظهور هذه الأسرة أن اسم «شيشنق» كان يأتي بعده اسم «نمروت» على التوالي؛ وذلك لأن كل ابن بكر كان يسمى باسم جده. ومما سبق يُمْكِنُنَا مما جاء على لوحة «حور باسن» ومن المتون الأخرى أن نضع سلسلة أجداد الأسرة الثانية والعشرين. وهاك سلسلة النسب:١

هذا هو تسلسل نسب الأسرة التي انتهت بتولي «شيشنق الأول» ملك مصر، وأسس الأسرة الثانية والعشرين.

وسنحاول هنا أن نتحدث أولًا عن مملكة طيبة الإلهية في عهد الأسرة الثانية والعشرين، ثم نشفع ذلك بالكلام عن ملوكها بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا، متبعين في ذلك الطريقة التي جرينا عليها عند الكلام على الأسرة الواحدة والعشرين.

١  ويلاحَظ أن الأستاذ مونتيه قد جاء بسلسلة نسب لهذه الأسرة كان للخيال فيها مجال واسع (راجع Le Drame D’Avaris. p. 200).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤