تمهيد

هذا الكتاب سيتناول أهمَّ الأسئلة — وأكثرها شيوعًا وتكرارًا — المتعلقة بتطوير الأسلحة النووية، إلى جانب السياسات التي تمخضت عنها. وترتكز هذه المناقشة على فرضية منطقية واحدة مفادها: أن الأسلحة النووية لا تزال مهمة. صحيح أن الأسلحة النووية لم تُستخدَم في أعمال الحرب منذ أن أُلْقِيَت القنبلتان الذريتان على كلٍّ من هيروشيما وناجازاكي منذ أكثر من ستين عامًا، إلا أن المخاوف الواقعية بشأن إمكانية استخدام هذه الأسلحة ظلَّتْ حاضرةً على نحو جَلِيٍّ على المسرح العالمي. وقد عبَّرَ ليزلي أسبن — أول وزير دفاع في إدارة الرئيس بيل كلينتون — عن الأمر على نحو ملائم بقوله: «لقد انْقَضَت الحرب الباردة، وذهب الاتحاد السوفييتي إلى غير رجعة. لكن بكل تأكيد لا يعني انقضاء الحرب الباردة أن الحقبة النووية قد ولَّت هي الأخرى.» فرغم كلِّ الجهود المبذولة لتقليص مخزون الأسلحة النووية إلى الصفر، فإنه في المستقبل المنظور ستظلُّ القنابل النووية موجودة. فربما ولَّت الأيام التي كان فيها التعايش مع وجود القنابل النووية يعني — حسب كلمات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت — أننا «كنا نعلم كل ليلة أنه في غضون دقائق — ربما بسبب سوء فهمٍ ما — من الممكن أن ينتهي عالمنا ولا نرى ضوء النهار.» لكن رغم تراجع خطر نشوب حرب نووية، فإن هذا الخطر لم يتلاشَ تمامًا. فرغم الجهود المبذولة لم تتعدَّ فكرةُ العالم الخالي من الأسلحة النووية كونَها مجرد حلم جميل. بل في الواقع، ووفق استطلاع لآراء الخبراء النوويين أَجْرَتْه لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي في عام ٢٠٠٥، فإن احتمال أن يشهد العالم ضربة نووية في غضون السنوات العشر القادمة يصل إلى ٢٩٪. ولا يخالف هذا الإجماع في الرأي إلا قليلون.

تظل التهديدات النووية جزءًا أساسيًّا في العلاقات بين العديد من الدول، كما يلوح خطر أن تزداد في الأهمية. وانتشار الأسلحة النووية سيكون من شأنه على الأرجح التسبب في نتيجتين مشئومتين؛ تتمثل أولاهما في احتمال حصول الإرهابيين على أسلحة نووية، وهو التهديد الذي أطلَّ برأسه بوضوح في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بطبيعة الحال لم ينجح أتباع أسامة بن لادن بعدُ في شَنِّ هجومٍ نووي، لكن وفق تقارير المحللين ليس السبب هو عجزهم عن هذا. فباستخدام كمية صغيرة من اليورانيوم المخصب، ومقدار قليل من التجهيزات العسكرية المتاحة عبر الإنترنت، وفريق صغير من الإرهابيين المكرِّسين جهودهم لهذا الغرض، يمكنهم تجميع قنبلة نووية في غضون أشهر قلائل، ثم توصيلها إلى وجهتها المقصودة؛ إما عن طريق الجو أو البحر أو السكك الحديدية أو الطرق البرية. وسيكون تأثيرُ مثلِ هذا الهجوم إذا جرى في قلب نيويورك أو لندن رهيبًا إلى درجة لا تُصدَّق.

النتيجة الثانية لانتشار الأسلحة النووية ستتمثل في ازدياد التهديدات باستخدامها، وهو ما سيُعِيق على نحو عظيم تحقيقَ الأمن العالمي، وسيكون من العسير من جوانب عدة التراجع فيه. فمع انضمام المزيد من الدول إلى النادي النووي بغرض تحسين وضعها الدولي أو التغلُّب على مواطن انعدام الأمن التي تراها لديها، سيتعيَّن على هذه الدول أن تمرَّ بمنحنى التعلم النووي الخاص بها، وهي عملية غير مضمونة النجاح، وهو ما تُبيِّنه لنا خبرة الدول النووية عبر الأعوام الستين الماضية. واحتمالات وقوع أحداث مؤسفة على مَرِّ الطريق شبه مؤكدة.

حين أُلقِيت القنبلة الذرية على اليابان في أغسطس من عام ١٩٤٥ في المراحل الختامية للحرب العالمية الثانية، كان من الجلي على الفور أنها لم تكن سلاحًا فعالًا جديدًا وحسب (وإن كانت كذلك بالفعل؛ إذ أثبتت القنبلة الذرية أنها أكثر فعالية من ألف غارة جوية تقليدية). فمن نواحٍ عِدَّة، لم يكن إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما من نوعية اللحظات التاريخية الفاصلة التي لا يمكن استيعابها إلا بالنظر إليها من منظور مستقبلي؛ إذ وصف الرئيس هاري إس ترومان ذلك الحدث وقتها للعالم المشدوه بأنه «تسخير لقوة الكون الأساسية»، وهو الرأي الذي اعتنقه على نحو واسع علماء الذرة المؤثِّرون.

بعد سبع سنوات — عام ١٩٥٢ — عضدت الولايات المتحدة ترسانتها النووية حين فجَّرَتْ أول قنبلة نووية حرارية في المحيط الهادي. بلغت قوة القنبلة — المسماة «مايك» — ٥٠٠ مرة قَدْرَ قوة القنبلة التي أُلْقِيَتْ على هيروشيما، وأدى انفجارها إلى محو جزيرة التجارب النووية التي فُجِّرت القنبلة عليها من الخريطة. بدَّلت القنبلة الهيدروجينية قواعد اللعبة تمامًا، وغيَّرت طبيعة الحرب والسلام ذاتها. وقد عبَّر ونستون تشرشل عن الأمر بقوله: «إن القنبلة الذرية — بكل أهوالها — لم تُخْرِجنا عن نطاق السيطرة البشرية أو الأحداث القابلة للتحكم فيها، سواءٌ من ناحية الفكر أو الفعل، في السلام أو الحرب. لكن … في وجود القنبلة الهيدروجينية، شهد الأساس الكامل للشأن الإنساني ثورة عارمة.» في الحقيقة، كان ذلك عَالمًا جديدًا وجميلًا.

تمنحنا بعض الإحصائيات عن الحقبة النووية التي تَلَتْ هذه الأحداث تذكِرة جدية بحجم المشكلة؛ فقد أُنتِج نحو ١٢٨ ألف سلاح نووي خلال السنوات الستين الماضية، ٩٨٪ منها بواسطة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ولا يزال الأعضاء التسعة الحاليون للنادي النووي — الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا العظمى وفرنسا والهند وباكستان والصين وإسرائيل وكوريا الشمالية — يملكون نحو ٢٧ ألف سلاح نووي جاهز للاستخدام. وتملك ما لا يقل عن ١٥ دولة ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع سلاح نووي.

ضمن هذا السياق، سنستعرض علم الأسلحة النووية، وكيف تختلف هذه الأسلحة عن الأسلحة التقليدية، وسباق تصنيع القنبلة الذرية قبل العلماء النازيين، وتاريخ المحاولات المبكرة للسيطرة على القنبلة — مرورًا بتفجير الاتحاد السوفييتي لقنبلته الذرية الأولى في أغسطس ١٩٤٩ — وسباق تصنيع القنبلة الهيدروجينية وما لهذه القنبلة من تبعات، وتاريخ الردع النووي والحد من التسلح — وذلك على خلفية المشهد الدولي المتغير، من الحرب الباردة إلى وقتنا الحاضر — وتوقعات ووعود الدفاع الصاروخي — من نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورًا بحلم ريجان بحماية أراضي الولايات المتحدة من أي هجوم صاروخي سوفييتي شديد (منظومة «حرب النجوم» الدفاعية)، والهدف الأكثر تواضعًا للإدارة الحالية والمتمثل في صد عدد صغير من الصواريخ البالستية (الدرع الصاروخي القومي) قد تطلقه أي من الدول المارقة — وأخيرًا سننتهي باستعراض التهديد الذي تمثِّله الأسلحة النووية وتأثيراتها على ما يُطلَق عليه «عصر الإرهاب».

وعلى سبيل الشكر والتقدير، أود أن أسجل عرفاني لأصدقائي وزملائي التالية أسماؤهم: مانفريد ستيجر؛ من أجل جذبه انتباهي إلى سلسلة مقدمة قصيرة جدًّا من أكسفورد، ولاثا مينون — المسئولة الأولى عن اختيار وشراء الكتب بمطبعة جامعة أكسفورد — من أجل دعوتها لي لتأليف هذا الكتاب ولتشجيعها غير المتواني، وريتشارد دين بيرنز؛ من أجل سخائه في مشاركة معرفته المتعلقة بالحد من التسلح ونزع السلاح، وديفيد جي كولمان؛ من أجل أفكاره اللامعة بخصوص الردع النووي وصياغة الاستراتيجيات الدولية. وعلى المستوى الشخصي، يَدِين هذا الكتاب كثيرًا للإلهام الذي تلقَّيتُه من أطفالي — هانا وتينا وجوزيف — الذين ورثوا ذلك العالم المضطرب الذي خلَّفه لنا القرن العشرون، وبالطبع أَدِين بالكثير لزوجتي، كانديس، التي أُهدي لها هذا الكتاب. ومن نافلة القول أنني وحدي المسئول عن أي أخطاء قد يحويها هذا الكتاب.

بروفيسور جوزيف إم سيراكوسا
مدير قسم الدراسات الدولية
المعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن
ملبورن، أستراليا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤