أهواء

إلى المُنتظَرة …
أطلي على طَرفيَ الدامع
خيالًا من الكوكبِ الساطعِ
ظِلًّا من الأغصُن الحالمات
على ضفَّةِ الجدول الوادعِ
وطوفي أناشيدَ في خاطري
يُناغين من حُبِّيَ الضائعِ
يُفجِّرنَ من قَلبي المُستفيض
ويَقطُرْنَ في قلبيَ السامعِ

•••

لِعينيكِ لِلكوكبَين اللذَين
يصبَّان في ناظريَّ الضياءْ
لِنبعَين كالدهر لا ينضبان
ولا يَسقيان الحيارى الظِّماءْ
لِعينيكِ ينثالُ بالأغنيات
فؤادٌ أطال انثيال الدماءْ
يودُّ إذا ما دعاكِ اللسانُ
على البُعدِ لو ذاب فيه النداءْ

•••

يطول انتظاري لعلي أراكِ
لعلي أُلاقيكِ بين البَشَرْ
سألقاكِ لا بُد لي أن أراكِ
وإن كان بالناظر المُحتضَرْ
فديتُ التي صوَّرتها مُناي
وظِلُّ الكرى في هجيرِ السَّهرْ
أطِلِّي على من حباكِ الحياة
فأصبحتِ حسناء ملءَ النَّظرْ!

•••

أطلِّي فتاةَ الهوى والخيال
على ناظرٍ بالرؤى عالقِ
بعشرينَ من ريُّقاتِ السنين
عَبَرْنَ المدراتِ في خافقِي
بعشرينَ كُلًّا وهبتُ الربيعَ
وما فيهِ من عُمريَ العاشقِ
فما ظَلَّ إلا ربيعٌ صغير
أُخَبِّيهِ للموعد الرائقِ

•••

سأَروي على مسمَعَيْكِ الغداةَ
أحاديثَ سمَّيتهُنَّ الهوى
وأنباءَ قلبٍ غريقِ السراب
شقيِّ التداني، كئيبِ النوى
أصيخي فهذي فتاةُ الحقول
وهذا غرامٌ هناك انطوى
أتدرين عن ربَّة الراعيات؟
عن الريف؟ عما يكونُ الجوى؟

•••

هو الريف هل تُبصرِين النخيل؟
وهذي أَغانِيه هل تَسمعِين؟
وذاك الفتى شاعرٌ في صِباهُ
وتلك التي علَّمَتْه الحنِين
هي الفنُّ من نَبعه المُستطاب
هي الحُبُّ من مُستقاهُ الحزِين
رآها تُغنِّي وراء القطيع
ﮐ (بَنلوبَ) تستمهل العاشقِين

•••

فما كانَ غيرُ التقاءِ الفؤادَيـ
ـنِ في خفقةٍ منهما عاتِيهْ
وما كان غير افترارِ الشِّفاه
بما يُشبه البسمة الحانيهْ
وكان الهوى ثم كان اللقاء
لقاء الحبيبَين في ناحيهْ
فما قال أهواكِ حتى ترامى
عياءً على ضفَّةِ الساقيهْ

•••

وأوفى على العاشقَين الشتاءُ
ويومٌ دجا في ضُحاهُ السحابْ
خلا الغابُ ما فيهِ إلا النَّخيل
وإلا العصافير فهو ارتقابْ
وبين الحبيبَين في جانبَيه
من السَّعف في كلِّ مَمشى حِجابْ
فما كان إلا وميضٌ أضاء
ذُرى النخل وانحلَّ غيمٌ وذابْ

•••

ويا سدرةَ الغاب كيف استجارا
بأفنانكِ الناطفاتِ المياهْ
رآها وقد بلَّ من ثوبها
حيا زخَّ فاستَقبلَتها يداهْ
على الجِذع يستدفئان الصدور
على موعدٍ كلُّ آهٍ بآهْ
سَلِي الجذع كيف التصاقُ الصدور
بهزَّاتها، وابتعادُ الشِّفاهْ؟

•••

أشاهدتَ يا غابُ رقصَ الضياء
على قطرةٍ بين أهدابها؟
تُرى أهيَ تبكي بدمعِ السماء
أساها وأَحزانَ أترابها؟
ولكنَّها كلُّ نَوْرِ الحقول
ودفءِ الشذى بين أعشابِها
وأفراحُ كلِّ العصافيرِ فيها
وكلِّ الفراشاتِ في غابِها

•••

وذاك الخصام الذي لو يُفدَّى
لفدَّيتُ ساعاتِه بالوئام
أُفدِّيه من أجلِ يومٍ ترفُّ
يدٌ فيه أو لفتةٌ بالسلام
ومن أجلِ عينَين لا تستطيعا
نِ أن تنظُرا دون ظل ابتسام
تذوبُ له قسوة في الأساريـ
ـرِ كالصحو ينحلُّ عنهُ الغَمام

•••

خِصامًا ولمَّا نُعِلَّ الكئوس؟
أحطَّمتِها قبل أن نسكرا؟
خِصامًا، وما زال بعض الربيع
نديًّا على الصيفِ مُخضوضِرًا؟
خِصامًا؟ فهل تمنعين العيونَ
إذا لألأ النُّورُ أن تنظُرا؟
وهل تُوقفين انعكاسَ الخيالِ
من النهر، أن يملك المَعبَرا؟

•••

أغانيُّ شبَّابتي تَستبيكِ
وتُدنيكِ مني، ففيمَ الجفاء؟
كأنَّ قُوَى ساحرٍ تستبدُّ
بأقدامِك البيضِ عند المساء
ويُفضي بك الدَّربُ حيثُ استدار
إلى موعدي بين ظِلٍّ وماء
على الشطِّ، بين ارتجافِ القُلوع
وهمسِ النخيل، وصَمتِ السماء

•••

وحجَّبتِ خدَّيكِ عن ناظريَّ
بكفيكِ حينًا وبالمِروَحات
سأشدو وأشدو فما تصنعين
إذا احمرَّ خدَّاكِ للأُغنيات؟
وأرخيتِ كفَّيكِ مبهورتَينِ
وأصغيتِ، واخضلَّ حتى الموات
إلى أن يموت الشعاعُ الأخير
على الشرقِ، والحب، والأمنيات

•••

وهيهاتَ، إن الهوى لن يموت
ولكنَّ بعض الهوى يأفلُ
كما تأفل الأنجُمُ الساهراتُ
كما يَغرُب الناظر المُسبَلُ
كما تستجمُّ البحارُ الفِسَاح
مليًّا، كما يرقد الجدولُ
كنومِ اللَّظى، كانطواءِ الجَناح
كما يصمُتُ النايُ والشمألُ!

•••

أعامٌ مضى والهوى ما يزالُ
كما كان، لا يعتريه الفتورْ؟
أهذا هو الصيفُ يُوفي علينا
فنلقاهُ ثانيةً، كالزهور؟
ولكنهنَّ زهورُ الخُلود
فلا أظمأتْ ريَّهُنَّ الحَرُور
ولا نال من لونِهنَّ الشتاءُ
ولا استَنزفَت عِطرَهنَّ الدُّهور

•••

أغانيُّ، والغاب قَفرُ الوكون
حبيسُ النسائم تحت الدوالي
ترى ماءه، لاتِّقَادِ الهجير
حريقًا بما فوقه من ظِلالِ
وفوق التعاشيبِ، حيثُ الغُصون
ينؤنَ بأفيائهنَّ الثقالِ
لها مَضجعٌ هَدهدَته العطور
أأبصرتُ كيف اضطجاعُ الجمالِ؟

•••

أأمسيتُ أستحضر الذكريات
وما كان بالأمس كل الحياة؟
أضاعت حياتي؟ أغاب الغرام
أماتت على الأغنيات الشفاه؟
أنُمسي، وما زال غابُ النخيل
خضيلًا وما زال فيه الرعاة
حديثًا على مَوقِد السامرِين:
أحبَّا، وخابَا، فوا حسرتاه؟

•••

أُناديكِ لو تسمعين النداء
وأدعوكِ أدعوكِ! يا للجنون!
إذا رنَّ في مِسمعيكِ الغداةَ
من المهدِ صوتُ الرضيع الحنون
ونادى بكِ الزوجُ أن تُرضعيهِ
ونادى صدًى أخفتَته السنون
فما نفعُها صرخةً من لهيبٍ
أُدوِّي بها؟ مَنْ عساني أكون؟

•••

أعفَّرتُ من كبرياءِ النداء؟
وأرجعتُ آماديَ القَهقَرى؟
نسيتُ التي صوَّرتها مُناي
وناديتُ أُنثى ككلِّ الوَرَى؟
وأعرضتُ عن مِسمَعٍ في السماء
إلى مِسمَعٍ في تُراب القرى!
أتُصغي فتاةُ الهوى والخيال
وأدعو فتاةَ الهوى والثرى؟!

•••

وودَّعْتُ سَجواءَ بين الحقول
ودنيا عن الشرِّ في مَعزلِ
وخلَّفتُ في كل ركنٍ خضيلٍ
من الريف ذكرى هوًى أوَّلِ
قصاصاتِ أوراقيَ الهامسات
بِشِعري على ضفَّة الجدولِ
وجِذعًا كتبتُ اسمَها الحُلْوَ فيه
ونايًا يُغني مع الشمألِ

•••

فمن هذه المسترقُّ القلوبَ
صبًى ملؤها روحُه الطافرة
أما كنتُ ودَّعتُ تلك العيونَ
الظليلاتِ والخصلة النافرة؟
كأني ترشَّفْتُ قبل الغداة
سَنَى هذه النظرة الآسرة!
أما كان في الريف شيءٌ كهذا؟
أما تُشبه الربَّة الغابرة؟!

•••

مَشَى العُمرُ ما بيننا فاصلًا
فمَنْ لي بأن أَسبِق الموعدا؟
ولكنه الحبُّ منه الزمانُ
ثوانٍ، ومما احتواه المدَى
أراها فأنفِض عنها السنين
كما تَنْفِضُ الريحُ بردَ الندَى
فتغدو وعُمري أخو عُمرها
ويَستوقفُ المولِدُ المولدَا

•••

وهل تسمع الشعر إن قُلته
وفي مِسمَعَيها ضجيجُ السنين
أطلت على السبعِ من قبل عشريـ
ـن عامًا وما كنتُ إلا جنين؟
وأمسى — ولم تدرِ أنتَ الغرام —
هواها حديثَ الورى أجمعِين
لقد نبَّئوها بهذا الهوى
فقالت: وما أَكثرَ العاشقِين؟!

•••

أَمِن قلبِه انثال هذا النشيدُ
إليها، إلى الذئبة الضارية؟
ولو لم يكن فيه طعمُ الدما
ءِ ما استشعرت رنة القافِيَة
وما زالَ تَسبِيه غمَّازتان
تبوحان بالبسمةِ الخافِيَة
وما زالتا تذكُران الخيال
بما كان في الأعصُر الخالِيَة

•••

وبالحبِّ والغادةِ المُستبِد
صباها به، يلعبان الوَرَقْ
وكيفَ استكانَ الإلهُ الصغير
فألقَى سِهام الهوى والحَنَقْ
رِهانٌ، رمى فيه غمَّازتَيه
ووردَ الخدود، ونورَ الحِدَق
لكِ الله، كيف اقتحمتِ القرونَ
ولم يَخْبُ في وجنتيكِ الألَق؟

•••

كأنَّ ابتسامتَها والربيعَ
شقيقان، لولا ذبول الزَّهر
أآذار ينثُر تلك الورودَ
على ثغرها؟ أم شعاع القَمر؟
ففي ثغرها افترَّ كُلُّ الزمانِ
وما عمرُ آذارَ إلا شَهَر
وبالروحِ فَدَّيْتُ تلك الشفاهَ
وإن أذكَرَتني بكأس القَدَر!

•••

أطِلِّي على طرفيَ الدامعِ
خيالًا من الكوكبِ الساطعِ
وظِلًّا من الأغصُن الحالمات
على ضفَّةِ الجدولِ الوادعِ
وطُوفي أناشيد في خاطري
يُناغين من حُبيَ الضائعِ
يُفجِّرن من قلبيَ المستفيض
ويقطُرن في قلبي السامعِ
١ / ٢ / ١٩٤٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤