الكتاب العاشر

(٥٩٥) المحاكاة في الشعر والفن

فاستطردت قائلًا: إن في دولتنا سمات متعددة تجعلني أَعُدها قائمة على مبادئ سليمة تمامًا، ولا سيما تلك القاعدة الخاصة بالشعر.

– أية قاعدة؟

– تلك التي تنص على حظر الشعر القائم على المحاكاة.١ فبعد أن ميزنا الآن بين الأجزاء المتعددة للنفس، يبدو أن لدينا أسبابًا أقوى لاستبعاد هذا النوع من الشعر تمامًا.

– ماذا تعني؟

– إنني أصرح برأيي هذا لكم سرًّا؛ إذ إنكم لن تشوا بي لدى شعراء التراجيديا (المأساة) وبقية الشعراء الذين تقوم أعمالهم على المحاكاة، فيبدو لي أن هذا النوع من الشعر يؤذي الأذهان التي تسمعه دون أن يكون لديها ترياق ضده؛ أعني معرفة الطبيعة الحقيقية لما يتحدث عنه هذا الشعر.

– ما أسباب قولك هذا؟

– حسن، سأصرح لكم برأيي، وذلك على الرغم مما كنت أشعر به منذ صباي من حب واحترام لهوميروس، الذي يبدو أنه كان المعلم والمرشد الأصلي لكل هذه المجموعة الرائعة من شعراء التراجيديا. غير أن من الواجب ألا نحترم إنسانًا أكثر مما نحترم الحقيقة.٢ وعلى ذلك فسوف أصرح برأيي كما قلت.

– فلنتحدث إذن.

– أصغ إليَّ إذن، أو على الأصح أجبني.

– سلني أنت.

– أتستطيع أن تنبئني ما المقصود بالمحاكاة عامة؛ إذ إنني لا أعرفه حق المعرفة؟

– فهل تتوقع مني إذن أن أعرف؟

– ولمَ لا؟ إن العين الحادة الإبصار ليست هي دائمًا التي ترى الأشياء قبل العين (٥٩٦) الضعيفة.

– هذا صحيح، ولكني في حضورك لا أشعر بالجرأة على الكلام، حتى لو كانت لدي فكرة واضحة عما أقول. فلتتحدث أنت إذن.

– حسن. أتود أن نبدأ هذه النقطة في بحثنا على طريقتنا المعتادة، وذلك بأن نفترض لكل مجموعة من الأفراد يجمعهم اسم مشترك، مثالًا أو صورة مناظرة؟ أتفهم ما أقول؟

– أجل.

– فلنتناول إذن أي مثل مألوف. فهناك مثلًا كثير من الأَسِرَّة والمناضد في العالم، أليس كذلك؟

– هذا صحيح.

– كما أننا اعتدنا القول إن الصانع عندما يصنع الأَسِرَّة أو المناضد التي نستخدمها يضع نُصب عينَيه صورة كلٍّ منهما. أما الصورة ذاتها، فليست من صنع أحد من الصنَّاع؛ إذ كيف يتسنَّى لها أن تكون كذلك؟

– هذا محال.

– والآن، هناك صانع آخر أود أن أعرف الاسم الذي ستطلقه عليه.

– أي صانع؟

– ذلك الذي يصنع كل الأشياء التي يصنعها غيره من الصناع معًا.

– لا بدَّ أن تكون لمثل هذا الشخص قوة خارقة!

– انتظر قليلًا، وسيكون لديك المزيد من أسباب الإعجاب به؛ ذلك لأن عمله لا يقتصر على إنتاج الأشياء المصنوعة فحسب، بل إنه يستطيع أن يخلق كل النباتات والحيوانات، وكل الأحياء، فضلًا عن ذاته أيضًا، وكذلك الأرض والسماء والآلهة والأجرام السماوية وكل ما في باطن الأرض في العالَم السفلي.

– إنه لفنان رائع حقًّا ذلك الذي تتحدث عنه!

– أتشك فيما أقول؟ ألا تظن أن هناك صانعًا كهذا، أو أن من الممكن أن يوجد صانع لهذه الأشياء كلها بمعنًى معين، ولكن ليس بمعنًى آخر؟ ألا ترى أنك أنت ذاتك تستطيع خلق هذا كله على نحوٍ ما؟

– أود أن أعرف على أي نحو.

– إنها طريقة ميسورة. بل إن هناك في الواقع طرقًا متعددة يمكن بها القيام بهذا العمل بسرعة ويسر. وأسرع الطرق لذلك هي أن تأخذ مرآة وتدور بها في كل الاتجاهات. وسرعان ما ترى نفسك وقد أتيت بالشمس والنجوم والأرض وذاتك وكل الحيوانات والنباتات الأخرى، وكل الأشياء التي تحدثنا عنها منذ قليل.

– هذا صحيح، ولكن هذه ستكون مظاهر فحسب، لا أشياء حقيقية.

– حسن جدًّا؛ إنك تقترب من النقطة التي أريدها. وأظن أن الرسام أيضًا واحد من هؤلاء الصناع، أليس كذلك؟

– بالتأكيد.

– ولكنك ستقول، على ما أعتقد، إن ما صنعه ليس حقيقيًّا، ولكن الرسام يصنع سريرًا بمعنًى معين، أليس كذلك؟

– بلى، سريرًا ظاهريًّا.

– وماذا عن النجار؟ ألم تقل منذ قليل إنه لا يصنع الفكرة التي لدينا عن السرير، أعني ماهية السرير، وإنما سريرًا خاصًّا؟

– لقد قلت ذلك فعلًا.

(٥٩٧) – فإن لم يكن يصنع ماهية السرير، فإن ما يصنعه ليس حقيقيًّا، وإنما هو شيء يشبهه. فإذا ما قال أحد إن ما يعمله النجار أو صانع آخر حقيقي بالمعنى الصحيح، لكان في ذلك مخطئًا.

– إن ذلك، على الأقل، ليس رأي أولئك الذين اعتادوا التفكير على هذا النحو.

– وعلى ذلك فليس لنا أن ندهش إذا كان هذا العمل ذاته باهتًا بالقياس إلى الحقيقة.

– هذا صحيح.

– فلنستخدم هذه الأمثلة إذن وسيلة لبحث مسألة طبيعة المحاكاة.

– لنفعل ذلك.

– إن هناك ثلاثة أنواع من الأَسِرَّة: أحدها يوجد في طبيعة الأشياء، وهو لا يوصف إلا بأنه من صنع الله، أليس كذلك؟

– بلى.

– وهناك نوع ثانٍ، من صنع النجار.

– أجل.

– أما النوع الثالث، فهو من صنع الرسام، أليس كذلك؟

– بلى.

– وإذن فللأَسِرَّة أنواع ثلاثة، وهناك ثلاثة فنانين يصنعونها: الله، والنجار، والرسام؟

– هذا صحيح.

– أما الله، فلم يخلق في طبيعة الأشياء إلا سريرًا واحدًا، وواحدًا فقط. وهو لم يصنع أبدًا، ولن يصنع أبدًا، سريرين أو أكثر.

– ولمَ لا؟

– لأنه لو صنع اثنين فقط، لظهر ثالث يكون صورة للاثنين الأولين، ويكون هذا الثالث هو الأساسي، لا الاثنان الآخران.

– هذا صحيح.

– ولمَّا كان الله يعلم ذلك، وأراد أن يكون الصانع الحقيقي لسرير حقيقي، لا الصانع الجزئي لسرير خاص، فقد خلق سريرًا هو السرير الواحد الأساسي.

– هذا ما يبدو لي.

– فهل تود إذن أن نُسميَه صانع الطبيعة الحقة للسرير، أو شيئًا من هذا القبيل؟

– إنه يستحق هذا الاسم، ما دام ما يخلقه يمثل الطبيعة الحقيقية للأشياء.

– أما النجار، فهلا نسميه صانع السرير؟

– بلى.

– ولكن هل تسمي الرسام صانع هذا الشيء ومنتجه؟

– فما هو إذن بالنسبة إلى السرير؟

– أعتقد أن الاسم الأكثر انطباقًا عليه هو اسم مقلد الشيء الذي صنعه الآخران.

– حسن. وإذن فأنت تطلق اسم المقلد على صانع شيء يحتل المرتبة الثالثة بالنسبة إلى الطبيعة الحقة للأشياء؟

– بالضبط.

– وإذن فهذا يصدق أيضًا على الشاعر التراجيدي، ما دام مقلدًا فهو إذن، ومعه كل المقلدين، يحتل المرتبة الثالثة بالقياس إلى عرش الحقيقة.

– هذا صحيح.

(٥٩٨) – ها نحن أولاء قد اتفقنا إذن على طبيعة المقلد. ولكن لدي سؤال آخر أود أن تجيبني عليه: فهل الموضوع الذي يحاكيه الرسام هو ذلك الموضوع الواحد الموجود في طبيعة الأشياء، أم ما ينتجه الصناع؟

– إنه يقلد ما ينتجه الصناع.

– وهل يقلده كما هو، أو كما يبدو؟ فلتحدد هذه المسألة.

– ماذا تعني؟

– أعني أنك تستطيع أن تنظر إلى السرير من زوايا مختلفة، أي أن ينظر إليه مواجهة، أو من جانبه، أو من زاوية أخرى. فهل يطرأ على السرير ذاته أي اختلاف، أم أنه يبدو مختلفًا فقط؟ ألا ينطبق هذا على كل الأشياء الأخرى؟

– أجل، إنها كلها تبدو مختلفة فحسب.

– والآن، لتبحث هذه المسألة: ما الهدف الذي يستهدفه الرسام بالنسبة إلى كل شيء؟ أهو محاكاة شيء حقيقي كما هو موجود أو شيء ظاهر كما يظهر؟ أهو يقلد المظهر أم الحقيقة؟

– إنه يحاكي شيئًا ظاهريًّا.

– وإذن فالفن القائم على المحاكاة بعيد كل البعد عن الحقيقة، وإذا كان يستطيع أن يتناول كل شيء، فما ذلك، على ما يبدو، إلا لأنه لا يلمس إلا جزءًا صغيرًا من كل شيء، وهذا الجزء ليس إلا شبحًا ففي وُسع الرسام مثلًا أن يرسُم لنا إسكافيًّا أو نجَّارًا أو أي صانع آخَر دون أن يعرف عن مهنتهم شيئًا. وقد يستطيع، إذا كان رسامًا بارعًا، أن يخدع الأطفال والجهال؛ إذ يرسم نجارًا ويريهم إياه عن بعد، فيظنونه نجارًا حقيقيًّا، وما هو إلا مظهر.

– بالتأكيد.

– هذا إذن هو الرأي الذي ينبغي القول به في هذه المسائل كلها؛ فإذا ما أتانا أحد يزعم أنه صادف رجلًا عارفًا بكل الحِرَف، يجيد تفاصيل كل فن خيرًا من أربابه، فينبغي أن تجيب على زعمه هذا بأنه ساذَج، وبأن ذلك الذي صادفه هو قطعًا دجَّال أو مقلد ذر الرماد في عيونه، وإنه إذا كان قد ظنه عالمًا بكل شيء، فما ذلك إلا عجزًا منه عن التمييز بين العلم والجهل والمحاكاة.

فقال: هذا صحيح كل الصحة.

– فلننظر الآن في شعراء التراجيديا وفى كبيرهم هوميروس. إن من الناس مَنْ يعتقدون أن هؤلاء الشعراء لهم في كل الفنون نصيب، وأنهم على علم بكل الأمور الإنسانية، من فضيلة ورذيلة، بل وبالأمور الإلهية؛ إذ إنه يتعين على الشاعر المجيد، إذا ما شاء أن يحسن تناول موضوعاته، أن يعرفها أولًا، وإلَّا لَما استطاع الكتابة عنها. فلنبحث إذن إن كان هؤلاء الناس قد صادفوا مقلدين (٥٩٩) خدعوهم، وإن كان قد فاتهم، عندما اطلعوا على أعمالهم، أن هذه الأعمال تنتمي إلى المرتبة الثالثة بالنسبة إلى الحقيقة، وإن من الممكن الإتيان بها بسهولة، حتى لو لم يكن المرء يعرف الحقيقة؛ إذ إنهم لا يخلقون إلا أوهامًا، لا أشياء حقيقية — أم أن الشعراء يقولون بالفعل أشياء حقيقية، ولديهم بالفعل معرفة حقيقية بالأمور التي يظن الناس أنهم يجيدون الحديث فيها؟

– هذه مسألة لا بدَّ لنا من بحثها.

– أتظن أنه لو كان في وُسع أحدٍ أن يُنتج الأصل وصورته معًا، فهل تراه يُكرس جهوده لصنع الصور ويتخذ منها غاية قصوى لحياته، وكأنه لا يملك ما هو أفضل منها؟

– لا أظن ذلك.

– فلا بدَّ إذن أن يهتم الفنان الحقيقي، الذي يعرف ما يقلده، بالحقائق لا بمحاكاتها، وأن يحرص على أن يُخلِّف من بعده آثارًا قوامها عدد كبير من الأعمال الرائعة، ويؤثر أن ينصبَّ عليه المديح، لا أن يُزجيَ هو المديح.

– أجل؛ لأن ذلك سيكون أدعى إلى تكريمه ونفعه.

– فلنتوجه إذن بسؤال إلى هوميروس أو إلى أي شاعر آخر. وسنترك جانبًا كل الفنون التي يدعيها الشعراء؛ فلن نسألهم مثلًا لماذا لم يُعرَف عن واحد منهم، في الماضي أو في الحاضر، أنه شفى مريضًا أو نقل علمه إلى تلاميذ له، كما يفعل أسقلبيوس، هذا إلا إذا كانوا حقًّا يعرفون الطب ولا يكتفون بمحاكاة كلام الأطباء. لن نسألهم عن هذا كله، ولكن عندما يأخذ هوميروس على عاتقه الكلام في أمور ذات أهمية قصوى كقيادة الحرب أو إدارة شئون الدولة أو التعليم، فمن حقنا أن نسأله عن هذه الأمور قائلين: اسمع يا عزيزنا هوميروس، إذا كان صحيحًا أنك فيما يتعلق بالفضيلة، لا تبعد عن الحقيقة سوى مرتبة واحدة، أي إنك في المنزلة الثانية منها لا في الثالثة، أي لست صانع صور أو مقلدًا، وإذا كنت تعرف السلوك الذي يجعل الناس أفضل أو أسوأ في الحياة العامة والخاصة، فخبرنا باسم الدولة التي صلح حكمها بفضلك. إن كثيرًا من الدول، صغيرها وكبيرها، تدين بالكثير لمشرعيها، مثل لوكرجوس Lycurgus في اسبرطة، وخارونداس  Charondas في إيطاليا وصقلية، وسولون عندنا. ولكن هل تستطيع أن تنبئنا ببلد اتخذك مشرعًا وانتفع منك؟

فأجاب جلوكون: لا أظن ذلك. فأشد الناس إعجابًا بهوميروس لا يدعون ذلك.

(٦٠٠) – فهل سمع أحد عن حرب حدثت في وقته، ونجح هوميروس في قيادتها بنفسه، أو بنصائحه؟

– كلا.

– أو هل نسب إليه اختراع بارع في الفنون أو خبرة عملية في المجالات البشرية الأخرى، مثلما نسب إلى طاليس الملطي أو إلى أناخارسیس Anacharsis الإسكوذي؟٣

– لا شيء من هذا على الإطلاق.

– ولكن، إذا لم يكن قد أدى أية خدمات عامة، فهل سمعنا عن هوميروس أنه كان، في حياته الخاصة، مرشدًا أو معلمًا لأحد؟ هل كان له أثناء حياته أصدقاء مخلصون له، نقلوا عنه إلى الأجيال القادمة طريقة هومرية في الحياة، كتلك التي ينادي بها الفيثاغوريون نقلًا عن معلمهم فيثاغورس، الذي طالما أحبوه، وهي طريقة لا تزال إلى يومنا هذا تميزهم عن بقية الناس؟

– لا يعرف عنه شيء من هذا؛ ذلك لأن كريوفيلوس Creophylus٤ الذي كان تلميذًا لهوميروس، هو شخص يثير تعليمه من السخرية أكثر مما يثير اسمه ذاته، وذلك إذا صدقنا ما يقال عن هوميروس؛ إذ يقال إنه هو وغيره كانوا يتجاهلون هوميروس تمامًا أثناء حياته.
– أجل، هذا ما يقال. ولكن ما رأيك أنت يا جلوكون؟ ألا ترى أنه لو كان هوميروس قد تمكن فعلًا من تعليم البشر وتحسين أحوالهم، لكان خليقًا بأن يجمع حوله أتباعًا عديدين، يكرمونه ويبجلونه؟ إن بروتاجوراس من أبديرا، وبروديكوس من خيوس،٥ وكثيرًا غيرهما، قد نجحوا على الأقل في إقناع معاصريهم بأنهم لن يصلحوا لإدارة شئون الدولة أو شئونهم المنزلية الخاصة إلا إذا أشرف هذان المعلمان على تعليمهما. وقد بلغ من إعجاب تلاميذهما بهما أنهم يكادون يحملونها على الأكتاف. وإذن فلو كان في وسع هوميروس أو هزيود أن يساعدا بالفعل من يستمعون إليهما على أن يصبحوا أناسًا أفضل، فهل كان معاصروهما يتركونهما يهيمان على وجهَيهما وهما يرويان أشعارهما؟ ألم يكونوا خليقين بالتضحية بأموالهم في سبيل استبقائهما، وبإرغامهما على البقاء معهم أو بالسَّير في أعقابهما أينما ذهبا، لو لم يشأ المعلمان البقاء، حتى يتلقَّوا من التعليم ما يكفيهم؟

– أعتقد يا سقراط أن هذا عين الصواب.

(٦٠١) – وإذن فهلا يحق لنا أن نستدل من ذلك على أن كل أولئك الشعراء، منذ أيام هوميروس، إنما هم مقلدون فحسب؛ فهم يحاكون صور الفضيلة وما شابهها، أو الحقيقة ذاتها فلا يصلون إليها قط؟ إن الشاعر كالرسام الذي تحدثنا عنه منذ برهة، والذي يرسم إسكافيًّا دون أن يعرف شيئًا عن إصلاح الأحذية، ويقدم صورته إلى أناسٍ لا يعرفون عن الأمر أكثر منه، ولا يحكمون على الأمور إلا بمظاهرها وألوانها.

– هذا صحيح كل الصحة.

– وبالمثل فإن الشاعر يُضفي بكلماته وجمله على كل فن ألوانًا تلائمه، دون أن يفهم من طبيعة ذلك الفن إلا ما يكفي لمحاكاته، ويؤثر في أناس لا يقلون عنه جهلًا، ولا يحكمون إلا بصورة التعبير، فيدفعهم السحر الكامن في الوزن والإيقاع إلى الاعتقاد بأنه قد حدثهم حديثًا خلابًا عن القيادة الحربية أو صناعة الأحذية أو أي موضوع فني آخر. فإذا ما نزعت عن الشعر قالبه الشعري، فلا شك أنك تستطيع أن تراه على حقيقته عندما يتحول إلى نثر.

فقال: أجل.

– ألا يكون عندئذٍ أشبه بوجه لم يكن جميلًا في وقت من الأوقات، ولكنه كان نضرًا، ثم فقد بعد ذلك نضارة الشباب بدورها؟

– بالضبط.

– وإليك مسألة أخرى: إن المقلد، أو صانع الصور، لا يعلم عن الوجود الحق شيئًا، وإنما يعرف المظاهر وحدها، أليس كذلك؟

– وإذن فلتفهم الأمر كله، ولا نقنع بتفسير جزئي.

– لنفعل ذلك.

– لقد قلنا: إن الرسام يستطيع أن يرسُم لجامًا وحلقة اللجام.

– أجل.

– وقلنا: إن الحداد والسراج يمكنهما أن يصنعاهما؟

– بالتأكيد.

– ولكن هل الرسام هو الذي يعرف الصورة التي ينبغي أن يكون عليها اللجام والحلقة؟ بل هل هو صانعاهما ذاتهما، أعني الحداد والسراج؟ أليس ذلك هو الذي يعرف كيف يستخدمهما، أعني الفارس؟

– هذا صحيح كل الصحة.

– ألا يمكننا أن نقول بوجهٍ عام: إن هذا يَصدُق على كل الأمور الأخرى؟

– كيف؟

– إن هناك ثلاثة فنون فيما يتعلق بأي شيء: فن استخدامه، وفن صنعه، وفن محاكاته.

– أجل.

– أليس شرف أو جمال أية أداة أو كائن حي أو فعل مرتبطًا بالاستخدام الذي قصدت الطبيعة، أو قصد الصانع، أن يستخدم به هذا الشيء؟

– بلى.

– فلا بدَّ إذن أن يكون من يستخدم الأشياء أكثر الناس خبرة بها، وأن يكون في وسعه أن ينبئ الصانع بالنتائج النافعة أو الضارة التي تترتب على استخدام الأداة التي صنعها. فعازف الناي مثلًا يستطيع أن يُدليَ بمعلومات إلى صانعه عن الناي الذي يستخدمه، وهو الذي يحدد كيفية صنعه، وعلى الصانع أن يطيع إرشاداته.

– بالتأكيد.

– وإذن فأحدهما يعرف الناي ويصف بدقة محاسنه ومساوئه، بينما يتعين على الآخر أن يثق به ويطيع أوامره.

– هذا صحيح.

(٦٠٢) – وإذن ففيما يتعلق بالآلة نفسها، نجد أن الصانع لا يصل إلا إلى رأي صحيح بشأن كمالها أو رداءتها، وهو يستمد هذا الرأي ممن يعرف، عن طريق التحدث معه والاستماع إلى ما يقوله، على حين أن من يستخدمها هو العارف.

– هذا صحيح.

– ولكن ماذا نقول عن المقلد؟ هل يعرف من التجربة تلك الموضوعات التي يرسمها، ويدرك إن كانت تمثيلًا صادقًا أو غير صادق، وهل يتكون لديه رأي صحيح عن طريق اضطراره إلى الاستماع إلى شخص عارف يوضح له كيف ينبغي محاكاة هذا الموضوع؟

– لا هذا ولا ذاك.

– وإذن فلن يكون لديه رأي صحيح، ولا معرفة، بشأن صحة تقليداته أو بطلانها.

– لا أظن.

– وهكذا فإن الفنان المقلد سيكون في حالة رائعة من العلم بما يبدعه!

– أبدًا، إن العكس هو الصحيح.

– وعلى الرغم من ذلك فسيظل يواصل المحاكاة دون معرفة بما يجعل الشيء صحيحًا أو باطلًا، وبالتالي يمكننا أن نتوقع منه أن يقتصر على محاكاة ما يبدو خيرًا للكثرة الجاهلة من الناس.

– أجل، ماذا عساه أن يفعل غير ذلك؟

– وإذن فنحن حتى الآن متفقون إلى حدٍّ بعيد على أن المقلد يفتقر إلى أية معرفة تستحق الذكر بما يقلده. فما التقليد إلا نوع من اللهو أو اللعب، وما الشعراء التراجيديون، سواء أكتبوا شعرًا للملاحم أم مسرحيات، سوى مقلدين بكل معاني الكلمة.

– بالتأكيد.

– والآن، خبرني بحق زوس: أليست هذه المحاكاة بعيدة ثلاث مراتب عن الحقيقة؟

– أجل.

– وما هي الملكة التي تؤثر فيها المحاكاة في الإنسان؟

– ماذا تقصد؟

– سأضرب لك مثلًا يوضح ذلك: إن الشيء لا يبدو عن بُعد بنفس الحجم الذي يبدو به عن قرب. أليس كذلك؟

– بلى.

– كما أن نفس الشيء الذي يكون مستقيمًا خارج الماء، يبدو منكسرًا داخله. كذلك فإن الشيء يبدو مُحدَّبًا أو مُقعَّرًا، تبعًا للخداع البصري الذي تُحدِثه الألوان. وهكذا فإن كل خلط كهذا إنما يوجد في نفوسنا. وهذا الضعف في طبيعتنا هو الذي يستغله الرسم بالضوء والظل وغيره من أنواع الخداع البارعة التي يكون لها في نفسنا تأثير أشبه بتأثير السحر.

– هذا صحيح.

– ولكن ألم يُكتشف علاج لتبديد هذا الخداع، يتمثل في القياس والعد والوزن؟ ألا يؤدي هذا العلاج إلى تخليصنا من سيطرة فروق الظاهرية في الحجم والكم والوزن، بحيث تصبح السيطرة للملكة التي قامت بالعد والقياس والوزن؟

– بالتأكيد.

– وهذا العمل يقوم به العنصر الحاسب أو العاقل في نفسنا؟

– قطعًا.

– ولكن عندما تقوم هذه الملكة بالقياس وتعلن أن بعض الكميات أكبر من البعض الآخر أو أصغر منه أو مساوٍ له، فإنه يبدو أن في الأمر تناقضًا؟

– أجل.

– على أننا قد قلنا إن من المستحيل أن يكون للجزء الواحد من النفس رأيان متناقضان عن الموضوع الواحد.٦

– أجل، وكنا على حق في ذلك.

(٦٠٣) – وعلى ذلك، فإن الجزء الذي يحكم وفقًا للقياس في النفس ينبغي أن يكون مختلفًا عن ذلك الذي لا يحكم وفقًا له.

– أجل.

– غير أن الملكة التي تحكم وفقًا للقياس هي الجزء الأفضل في النفس.

– بالتأكيد.

– وإذن فما يخالف القياس لا بدَّ أن يكون جزءًا أخس.

– هذا ضروري.

– هذا هو الرأي الذي كنت أريد الوصول إليه عندما قلت إن الرسم وكل فن قائم على المحاكاة بوجهٍ عام يبعد في عمله عن الحقيقة. وإن الجزء الذي يرتبط به، في طبيعتنا، بعيد بدوره عن الحكمة. وأنه لا يستهدف غرضًا شريفًا أو صحيحًا.

– هذا صحيح كل الصحة.

– وعلى ذلك، فلما كان الفن القائم على المحاكاة خسيسًا مقترنًا بخسيسة، فلا بدَّ أن تكون الذرية بدورها خسيسة.

– هذا صحيح.

– وهل ينطبق هذا فقط على المحاكاة الموجهة إلى العين، أم يصدق أيضًا على المحاكاة الموجهة إلى الأذن، والتي نسميها بالشعر؟

– دعنا لا نقتصر إذن على تشبيه الشعر بالتصوير، ولننظر مباشرة في ذلك الجزء من الذهن الذي يهيب به شعر المحاكاة، ولنتأمل إن كان هذا الجزء شريفًا أم خسيسًا.

– لنفعل ذلك.

– فلنتأمل المسألة على هذا النحو: إن شعر المحاكاة يمثل الناس في أفعالهم الإرادية واللاإرادية، التي يظنون أنفسهم بفضلها سعداء أو أشقياء، ويستسلمون نتيجة لذلك للذة أو الألم. فهل فيه أكثر من هذا؟

– كلا، ليس فيه إلا هذا.

– وهل يكون للإنسان، في هذه الظروف كلها، ذهن غير منقسم على نفسه، أم يكون في شقاق مع نفسه، كما كان كذلك في حالة الإبصار، حين كانت له آراء متعارضة في نفس الآن حول نفس الموضوعات؟ إنني لأذكر أننا لسنا بحاجة إلى الاتفاق حول هذه المسألة على التخصيص، فقد وافقنا من قبل٧ على هذه المسائل جميعًا، واعترفنا بأن نفسنا حافلة بهذا النوع من المتناقضات التي تتداخل فيها في آنٍ واحد.

– وكنا على حق في ذلك.

– أجل، لقد كنا على حق، ولكن يبدو لي أن من واجبنا الآن إيضاح نقطة أغفلناها من قبل.

– وما هي؟

– لقد قلنا عندئذٍ٨ إن الحكيم يتحمل أية ضربة للقدر، كفقدان ابن له أو عزيز لديه برباطة جأش يفتقر إليها بقية الناس.

– أجل.

– ولكن هل ينعدم لديه الحزن، أم أنه لا يملك إلا أن يحزن. وإن كان يخفف من هذا الحزن؟

– إن الأمر الثاني هو الأقرب إلى الصواب.

(٦٠٤) – خَبِّرني إذن: هل الأرجح أن يقاوم حزنه ويكتمه عندما يكون بين أقرانه أم عندما يكون وحيدًا؟

– سيكون أكثر كتمانًا بكثير في حضور الآخرين.

– أما عندما يكون وحيدًا، فلن يضيره أن يقول أو يفعل أشياء كثيرة يخجل أن يراه غيره أو يسمعه وهو يفعلها.

– بالضبط.

– أليس ما يدفعه إلى المقاومة هو العقل ومبدأ القانون فيه، على حين أن ما يحمله على الحزن هو الشعور بالألم ذاته؟

– هذا صحيح.

– ولكن عندما تتجاذب الإنسان قوتان في اتجاهين متضادين بالنسبة إلى نفس الموضوع، فلا بد أن يكون هناك جزءان يعتملان في نفسه.

– بالتأكيد.

– وأحد هذين الجزأين على استعداد لإطاعة القانون في كل ما يأمر به.

– ماذا تعني؟

– أعني القانون القائل إنه ليس أفضل من تحمُّل المكاره بأكبر قدر من رباطة الجأش، وعدم الاستسلام للحزن؛ إذ إن المرء لا يعلم ما في هذه الأحداث من خير وشر، وهو لن يكسِب من الثورة شيئًا، والقائل إن الأمور الإنسانية كلها لا تستحق من المرء اهتمامًا، وأن حزننا يحول دون حدوث ما نحن في أشد الحاجة إليه في مثل هذه اللحظات.

– وما هو؟

– أعنى تدبُّر ما حدث، واستعادة قدرتنا على التحكم في النفس بعد أن يوجه القدر ضربته، كما في لعبة النرد، وترك العقل يحدد أفضل السبل أمامنا، والكف عن سلوك مسلك الأطفال الذين يصرخون عندما يصيبهم جرح ويضمون إليهم الجزء المجروح، وتعويد النفس أن تُهرَع دائمًا لنجدة المريض المحتاج إليها، وتسارع بإنهاضنا من كبوتنا، ومواساة الحزن بلمسة من دوائها الشافي.

– هذا قطعًا أفضل مسلك إزاء ضربات القدر.

– والجزء الأفضل منا هو الذي يسير وفقًا للعقل.

– بالتأكيد.

– أما الجزء الذي يذكرنا بشقائنا ويدفعنا إلى الحزن، ولا يشفي غليله منهما، فإنا نستطيع أن نسميه باللامعقول والعقيم والجبان.

– أجل، نستطيع ذلك.

– وهلا يمدنا هذا المبدأ الأخير، أعني المبدأ الغضبي، بمادة غزيرة متنوعة للمحاكاة، بينما المزاج الحكيم الهادئ لا يسهل محاكاته؛ لأنه يكاد يكون دائمًا مستقرًّا على حالٍ واحدة، وحتى إذا قلد فإنه لا يقدر بسهولة، لا سيما إذا كان ذلك أمام جمع صاخب في مسرح؛ إذ إن الشعور الذي يحاكى يكون أمرًا غير مألوف لهم؟

– بالتأكيد.

(٦٠٥) – ومن الواضح أيضًا أن الشاعر لا يميل بطبيعته إلى هذا المبدأ العاقل في النفس، ولا يستطيع إرضاءه بفنه، وذلك إذا أراد كسب شعبية بين الجماهير، وإنما يكون أميل إلى الطابَع المنفعل المتقلب الذي تسهل محاكاته.

– هذا واضح.

– وعلى ذلك، فإن من حقنا أن نهاجمه الآن ونضعه إلى جانب نظيره الرسام؛ ذلك لأنه يشبهه في افتقار إنتاجه إلى الحقيقة، وفي إهابته بذلك الجزء من النفس الذي هو خسيس بدوره، وابتعاده عن الجزء الفاضل منها. هذا هو السبب الأول الذي يبرر لنا حظر دخوله الدولة التي يحكمها قانون صالح؛ لأنه يثير هذا الجزء الخسيس في النفس ويغذيه، وبذلك يعرض العقل ذاته للدماء، وكما يحدث في الدولة عندما تسلم مقاليد أمورها وسلطاتها للأشرار ويُقضى فيها على الصالحين، فكذلك يبث الشاعر المقلد في نفس الفرد حُكمًا فاسدًا؛ إذ يتملق الجزء اللاعاقل، الذي لا يميز الفاضل من الرديء، ويعد الأشياء ذاتها أفضل تارة وأردأ تارة أخرى، ويخلق أشباحًا ويقف دائمًا بعيدًا كل البعد عن الحقيقة.

– بالضبط.

– ولكنا لم نذكر بعد أقوى انتقاداتنا؛ فأكبر عيوب الشعر قدرته على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم، وهو أذًى لا يُفلِت منه أحد.

– إنه لَعَيبٌ فادح حقًّا، إذا كان للشعر مثل هذا التأثير.

– فلتصغ إليَّ، وتحكم بنفسك: إن أفضل الناس منا، عندما يستمعون إلى إحدى قصائد هوميروس أو أي شاعر تراجيدي آخر، وهو يصور بطلًا يروي أحزانه في قصيدة مطولة، أو يندب حظه بالعويل وضرب الصدر؛ أقول إن أفضل الناس منا يشعرون عندئذٍ باللذة وهم يتابعون العرض متعاطفين معه كل التعاطف، ويعجبون بعبقرية الشاعر الذي يُثير فينا على هذا النحو أقوى الأحاسيس.

– أجل، إني لأعلم ذلك بالتأكيد.

– أما عندما يصيبنا الحزن نحن أنفسنا، فإنك تلاحظ أننا نفخر بالصفة المضادة، أي نحاول أن نعتصم بالصبر والسكينة، واثقين من أن هذا هو المسلك اللائق بالرجال، وأن من الواجب أن نترك للنساء ذلك المسلك الذي قلنا منذ قليل إننا نسلكه في المسرح.

– هذا صحيح.

– ولكن هل يحق لنا أن نعجب ونتمتع بمرأى شخص يسلك على نحو نخجل منه، بدلًا من أن نشعر بالتقزز منه؟

– كلا، ليس هذا أمرًا معقولًا على الإطلاق.

(٦٠٦) – إنه لا يكون معقولًا بوجهٍ خاص، إذا نظرت إلى المسألة على النحو الآتي:

– على أي نحو؟

– إذا ما أدركت أن ذلك الجزء من نفسنا، الذي حاولنا منذ قليل أن نقمعه بالقوة عندما كنا نحن أنفسنا تعساء؛ ذلك الجزء الذي يتعطش إلى الدموع، ويهفو إلى التنهد، ويصبو إلى الندب؛ لأن تكوين هذه الرغبات من طبيعته، هو بعينه الذي يهيب به الشعراء ويستمتعون بتصوره. على حين أن جزأنا الأفضل بطبيعته، الذي لم يُنمِّه العقل والمران، يترك العِنان للمبدأ الانفعالي فينا، بحُجة أن الألم الذي نتأمله ليس ألمنا، وأنه ليس من المُخجِل لنا أن نُعجَب بشخص يدَّعي أن له خُلقًا نبيلًا في نواحٍ معينة، وإن يكن حزنه مفرطًا، أو أن نُشفق عليه. وهكذا تبدو المتعة كسبًا خالصًا، لا نملك أن نفقده برفض الشعر بأسره. والواقع أن القليل من الناس هم الذين يدركون أن المشاعر التي تنتاب الآخرين تنتقل حتمًا إليهم هم أنفسهم؛ ومن ثَمَّ فإن الشعور بالألم، الذي تزيده رؤية شقاء الآخرين قوة، يكون من الصعب التحكم فيه عندما يصيبنا نحن.٩

– هذا صحيح كل الصحة.

– ألا يَصدُق هذا أيضًا على الهَزْل، مثلما يَصدُق على الجِد؟ ألا يحدث لك عينُ ما حدَث في حالة الانفعالات الحزينة، عندما تستمع في تصوير مسرحي أو في محادثة خاصة إلى هزليات تخجل من أن تعيب عليها إباحيتها؟ إنك عندئذٍ تُطلق العِنان لرغبتك في إثارة الضحك، وهي الرغبة التي كان عقلك يقمعها بدورها؛ خوفًا من أن يُسمِّيَك الناس مهرجًا، وهكذا تقوى هذه الرغبة فيك عند مشاهدتك للمسرح، حتى تمارس في أحاديثك الخاصة، دون أن تشعر، مهنة الضحك.

– هذا أمر مؤكد.

– أليس للمحاكاة الشعرية نفس التأثير أيضًا فيما يتعلق بالحب والغضب وجميع الانفعالات السارة والأليمة للنفس، وهي الانفعالات التي يعترف بأنها ترتبك بكل فعل من أفعالنا؟ إن الشعر يغذي الانفعال بدلًا من أن يضعفه، ويجعل له الغلبة، مع أن من الواجب قهره إن شاء الناس أن يزدادوا سعادة وفضيلة.

– لا مفر لي من الموافقة على ما تقول.

– وهكذا، يا جلوكون، فإنك إذا صادفت واحدًا من المعجبين بهوميروس، وأعلن (٦٠٧) لك أنه كان معلم اليونان، وأنه ينفع في تعليم الناس وتنظيم شئونهم، وأن من الواجب الرجوع إليه ودراسته، وتنظيم السلوك وفقًا لنصائحه، فلا بأس من أن نُحييَ القائلين بهذه الأشياء ونستمع إليهم باحترام، فهم أناس لا يقصدون إلا الخير، على قدر أفهامهم، وعلينا أن نسلم معهم بأن هوميروس كان أول الشعراء التراجيديين وأعظمهم، ومع ذلك فلتكن على ثقة من أننا لا نستطيع أن نقبل في دولتنا من الشعر إلا ذلك الذي يشيد بفضائل الآلهة والأخيار من الناس. أما إذا لم تكتفِ بذلك وسمحت للربة المعسولة بالدخول، إما في شعر غنائي وإما في شعر ملاحم، فسوف تغتصب اللذة والألم والسيادة من القانون، ومن المبادئ التي انعقد إجماع الناس على أنها هي الأفضل.

– هذا صحيح كل الصحة.

– والآن، فما دمنا قد عدنا إلى موضوع الشعر، فسندافع عن رأينا السابق بوجوب طرد مثل هذا الفن الضار من دولتنا، بالقول إن هذا أمر يُحتِّمه العقل، وحتى لا يتهمنا الشاعر بالقسوة والجلافة، فلنقل له إن بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد. وما أكثر الشواهد على هذا العداء القديم؛ فلدينا الأبيات التي تتحدث عن «الكلب الذي ينبح ضد سيده»، أو عن «الإنسان المتمكن من فن الثرثرة الجوفاء» أو عن «ذلك الحشد من الرءوس العارفة بكل شيء» أو عن «المفكرين المدققين الذين يرتدون أسمالًا بالية»،١٠ وغيرها من الأمثلة العديدة التي تشهد بهذا العداء القديم. وعلى الرغم من هذا كله، فلنعلن جهرًا بأنه إذا استطاع شعر المحاكاة، الذي يستهدف اللذة، أن يثبت بحُجةٍ ما أنه يستطيع أن يحتل مكانه في الدولة المُثلى، فسوف نقابله بكل ترحاب؛ إذ إننا ما له علينا من سحر، وكل ما في الأمر أن من الظلم كتمان أمر نؤمن بأنه الحقيقة. ولا بدَّ أنك أنت نفسك، أيها الصديق، قد شعرت بسحر الشعر، ولا سيما ما أتى به هوميروس.

– إنه ليسحرني حقًّا.

– وإذن فهل لي أن أقترح إعادة الشعر من المنفى، ولكن بشرط واحد، هو أن يقدم دفاعًا عن نفسه بالطريقة الغنائية أو بأي وزن آخر.

– بالتأكيد.

– كما أننا سنسمح لأنصاره الذين يحبون الشعر وإن لم يكونوا شعراء، بالدفاع عنه نثرًا، ليثبتوا لنا أنه لا يقتصر على بعث الشرور في النفوس، بل إنه من المفيد لنا أن يثبتوا أنه يجمع بين بعث السرور في النفوس، وبين الفائدة العملية.

– هذا أمر لا شك فيه، فنحن سنكون الرابحين.

(٦٠٨) – أما إذا لم يستطيعوا إثبات ذلك، أيها الصديق العزيز، فسوف نفعل كالمحبين الذين يعلمون أن حبهم لا فائدة منه، فيفترقون رغمًا عنهم، ولكنهم يفترقون على أية حال. فنحن بدورنا نحب الشعر على هذا النحو، وهو حب ولدته فينا النُّظم السائدة بيننا، ونحن على استعداد تام للاعتراف بفضله وباقترابه من الحقيقة، ولكنه ما دام عاجزًا عن تبرير نفسه أمامنا، فسوف نردد، كلما استمعنا إليه، تلك الحجج التي ذكرناها من قبل حتى نتخذها تعويذة ضد سحره، ونتجنب العودة إلى ذلك الانفعال الذي كان يخلب ألبابنا في صبانا، والذي يعجز معظم الناس عن التخلص منه، وهكذا سنردد أن مثل هذا الشعر لا يستحق أن يُعَد مقتربًا من الحقيقة، وليس جديرًا بحماستنا، وإنما ينبغي ونحن نستمع إليه أن نحذره، وأن نخشى على النظام المستتب في نفوسنا، وأن نتوخَّى أخيرًا مراعاة ما قلناه عن الشعر.

– إنني متفق معك كل الاتفاق.

– أجل يا صديقي جلوكون، فالأمر خطير حقًّا، وهو أخطر مما يتصوره معظم الناس. فعليه يتوقف تحوُّل الإنسان إلى الخير أو إلى الشر، ومن هنا فإن من واجبنا أن نقاوم إغراء الشعر، مثلما نقاوم إغراء المال أو الجاه أو الشهرة، إذا ما حضَّنا على إغفال العدالة والفضيلة.

– إنني مقتنع بحُجتك، وأظن أن أي شخص غيري سيقتنع بها بدوره.

خلود النفس

ومع ذلك، فإننا لم نتحدث حتى الآن عن أعظم مثوبة وأكبر مكافأة تنالها الفضيلة.

– إن كان ثمة مكافأة أو مثوبة أعظم مما ذكرت، فلا بدَّ أنها هائلة حقًّا.

– وما هو الشيء الهائل الذي يمكن أن يقع في فترة قصيرة كهذه؟ ذلك لأن عمرنا كله، بالقياس إلى مجموع الزمان، قصير جدًّا من الميلاد حتى الشيخوخة.

– أجل، إنه لا يكاد يكون شيئًا.

– ولكن، أليس الأجدر بالكائن الخالد أن يكرس من الاهتمام للزمان كله، أو الأزلية، أكثر مما يكرسه لهذا العمر القصير؟

– بالتأكيد، ولكن ما الذي تعنيه من هذا؟

– ألا تدرك أن نفسنا خالدة وأنها لا تفنى أبدًا؟

فنظر إليَّ في دهشة، وقال: كلا، بحق السماء، ولكن أتستطيع أن تثبت ذلك؟١١

فقلت: ينبغي أن أكون قادرًا على ذلك، وكذلك أنت، فليس هذا بالأمر العسير.

– إنه لعسير بالنسبة إليَّ، ولكني أود أن أستمع إلى حجتك في هذا الموضوع الذي ذكرت أنه هين إلى هذا الحد.

– أصغ إليَّ إذَن.

– إنني مُصغٍ.

– ألا تعترف بأن هناك خيرًا وشرًّا؟

– بلى.

– ولكن، هل تتفق معي على أن العنصر الذي يفسد ويدمر هو الشر، وذلك الذي يحفظ ويقوم هو الخير؟

– أجل.

– ألا تعتقد أيضًا أن لكل شيء خيرًا وشرًّا، كالرمد مثلًا بالنسبة إلى العين، والمرض بالنسبة إلى الجسم عامة، والتسوس للقمح، والتآكل للخشب، والصدأ للحديد والنحاس، أي إن لكل شيء بالطبيعة شرَّه أو مرضه؟

– أجل.

(٦٠٩) – ألا تعترف أيضًا بأن أي شيء يُصاب بهذه الآفات يغدو شرًّا، ويدب فيه الانحلال والفساد آخر الأمر؟

– هذا صحيح.

– وعلى ذلك، فإن ما يفني كل كائن هو ذلك الشر الكامن فيه بالطبيعة، وهو العنصر الخسيس فيه. ولو لم يؤد هذا الشر إلى إفنائه لَما قدر على ذلك شيء غيره؛ إذ لا يخشى أحد من أن يفنى أي شيء بفعل الخير، أو بفعل ما ليس خيرًا ولا شرًّا.

– كلا بالتأكيد.

– فإذا ما وجدنا في الطبيعة كائنًا له شر يجعله سيئًا، دون أن يكون قادرًا على بعث الانحلال والفناء فيه، ألا يكون في ذلك ما يجعلنا على ثقة من أن مثل هذا الكائن لا يمكن أن يفنى؟

– يبدو أن الأمر كذلك.

– حسن. أليس هناك شر يفسد النفس؟

– بلى، هناك كل الشرور التي ذكرناها من قبل: الظلم، والإفراط، والجبن، والجهل.١٢

– ولكن، هل يؤدي واحد من هذه الشرور إلى القضاء عليها؟ لتحذر هنا الوقوع في خطأ الاعتقاد بأن ضبط الظالم والأحمق متلبسًا بجرمه يؤدي إلى فنائه نتيجةً لظلمه، الذي هو شر في نفسه. وإنما الأصح أن تنظر إلى المسألة على هذا النحو؛ فمن الصحيح، بالنسبة إلى الجسم، أن الشر المادي، أي المرض، يُتلفه ويدمره حتى لا يعود بعدُ جسمًا، كما أن جميع الأشياء الأخرى التي ضربنا لها أمثلة تفسد نتيجة للشر الكامن والمستقر فيها، والذي يقضي عليها. أليس هذا صحيحًا؟

– بلى.

– فلنتأمل النفس على النحو ذاته. أتعتقد أن الظلم، وغيره من الرذائل، عندما يستقر فيها، يبددها ويفسدها حتى يفصلها عن الجسم ويفضي بها إلى الموت؟

– كلا، بالتأكيد.

– ومع ذلك، فالعاقل لا يقبل القول إن الشر الخارجي يستطيع القضاء على شيء لا تستطيع طبيعته ذاتها القضاء عليه.

– هذا صحيح.

(٦١٠) – فلتلاحظ يا جلوكون أن صفة الفساد في الطعام، سواء كانت تعفنًا أم تحللًا أم شيئًا آخر، ليست هي ذاتها التي تؤدي في نظرنا إلى موت الجسم، وإنما ينبغي أن يكون الطعام قد أحدث حالة سيئة في الجسم ذاته حتى نستطيع أن نقول: إن الجسم قد قُضي عليه نتيجة لحالته المرضية الخاصة، التي سببها الطعام الفاسد. ولكنا لا نقول أبدًا إن الجسم، الذي له طبيعته الخاصة، يفنى نتيجة لفساد الأطعمة، التي لها طبيعة أخرى، ما لم يولد هذا الشر الخارجي فيه شرًّا داخليًّا خاصًّا به.

– هذا صحيح كل الصحة.

– ولهذا السبب عينه، فإن مرض الجسم إن لم يولد في النفس مرضًا للنفس، فلن يؤدي أبدًا إلى فناء النفس عن طريق شر خارج عنها، دون تدخُّل من الشر الخاص بها، أو إلى فناء أحدهما بالشر الموجود في الآخر.

– هذا كلام معقول.

– وعلى ذلك فعلينا إما أن نفند هذه الحُجة ونُثبِت بطلانها، وإما أن نحذر القول — ما دامت لم تُفنَّد — بأن الحُمَّى، أو أي مرض آخر، أو حتى قتل الجسم وتمزيقه إربًا إربًا، كفيل بإفناء النفس، إلا إذا ثبت أن الجسم قد جعل النفس أردأ وأخس. ومن واجبنا ألا نسمح لأحد بالقول إن النفس أو أي شيء آخر تفنى لمجرد إصابة شيء خارج عنها بالشر الخاص به.

فقال: من المؤكد أن أحدًا لن يستطيع أن يُثبت أن الموت يجعل نفوس الموتى أكثر شرًّا.

– ولكن إذا جرؤ أحد على تحدي حُجتنا، وحاول التهرب من النتيجة القائلة إن النفوس خالدة بالقول إن مَن يموت يغدو أظلم وأخس، فسوف نرد عليه قائلين إنه لو كان على صواب لكان الشر نوعًا من المرض الفتاك القادر على قتل من يصاب به، بسرعة أو ببطء تبعًا لمقدار ظلمه، مع أن الواقع هو أن الظلم مناسبة للموت، الذي تسببه بالفعل تلك العقوبة التي تنزل بالظالم جزاء على أفعاله.

فقال: أجل، فلو كان الأمر كما يزعمون، لما كان الشر شيئًا فظيعًا بحق؛ إذ إن موت الظالم يضع على الفور حدًّا لمتاعبه. ولكني أعتقد أن العكس هو الصحيح، وأن الظلم يؤدي إلى موت الآخرين، إذا ما استطاع ذلك، وبقاء الظالم نفسه حيًّا، بل مليئًا بالحيوية، وبهذا يكون الظلم بعيدًا كل البعد عن أن يكون علة للموت.

– إنك لعلى صواب؛ ذلك لأنه إذا كان الشر والانحطاط المتعلق بالنفس ذاتها عاجزًا عن القضاء عليها، أو إفنائها، فمن العسير أن يتمكن الشر الذي هو بطبيعته مهيأ للقضاء على جوهر آخر، من إفناء النفس، أو أي شيء آخر عدا ذلك الذي يرتبط به.

– أجل، هذا أمر عسير حقًّا.

(٦١١) – ولكن ما دامت النفس لا تموت بفعل الشر الخاص بها، ولا بفعل الشر الخارج عنها. فواضح أنها لا بدَّ أن تكون شيئًا موجودًا على الدوام، وبالتالي شيئًا خالدًا.

– هذا ضروري.

– وإذن فلنَعُدَّ هذه المسألة منتهية.١٣ وإذا كانت كذلك فلا بدَّ أن يكون عدد النفوس الموجود واحدًا لا يتغير. وما دامت لا تفنى، فإن عددها لا ينقص، كما أنها لا تزيد؛ لأن الزيادة في الخالد ينبغي أن تأتيَ من الفاني، وعندئذٍ ينتهي الأمر بالأشياء جميعًا إلى أن تكون خالدة.

– هذا صحيح.

– وهو أمر ينبغي ألا نعترف به؛ لأن العقل يأباه. كذلك ينبغي ألا ننظر إلى النفس، في طبيعتها الحقة، على أنها حافلة بالتنوع والتغيُّر وفى شقاق مع ذاتها على الدوام.

– ماذا تعني؟

– أعني أن من العسير أن يكون الكائن خالدًا، إن كان مؤلفًا من أجزاء متباينة، ولم يكن التركيب الجامع بين هذه الأجزاء كاملًا، كما أوضحنا من قبل في صدد النفس.

– هذا محال قطعًا.

– فالنفس إذن خالدة، وهذا أمر ينبغي أن نعترف به بناء على الحُجة التي ذكرناها الآن، فضلًا عن غيرها من الحُجج. أمَّا إذا شئنا أن نعرف ما هي طبيعتها الحقة، فمن الواجب أن ننظر إليها، لا كما نفعل الآن، في حالة الانحطاط التي أدى إليها اتحادها مع الجسم وغيره من الشوائب، وإنما الواجب تأمُّلها بإمعان، على ما هي عليه، بأعين الروح، وهي خالصة لا تشوبها شائبة. عندئذٍ سنراها أجمل إلى حدٍّ لا متناهٍ، ونميز بمزيد من الوضوح بين صفات العدالة والظلم وكل ما تحدثنا عنه من الأمور. فما قلناه عن النفس يَصدُق على حالتها الراهنة، التي رأيناها فيها على حال تماثل حال جلوكوس Glaucus،١٤ إله البحر، الذي لا يمكن أن تعرف صورته الأصلية الحقة؛ لأن الأمواج قد حطمت أو شوهت أجزاء من جسمه، بينما أضيفت إليه أجزاء أخرى نمت من العشب والصخور والقواقع، حتى غدا أقرب إلى الحيوان الممسوخ منه إلى ذاته الحقة. هكذا تتبدى لنا النفس وقد أصبحت شوهاء بما لا حصر له من الشرور. كلا، ليس هذا، يا جلوكون، هو ما ينبغي أن نتأمله.

– ماذا إذن؟

– ينبغي أن نتأمل حب النفس للحكمة. فلنتأمل الموضوعات التي تؤثر فيها، وتلك التي تتصل بها، بفضل وجود عنصر أزلي خالد، قريب من الألوهية فيها. (٦١٢) ولنتأمل ماذا تغدو عليه عندما تنصرف بكليتها إلى هذا النوع من الموضوعات، وتدفعها حماستها إلى الخروج من ذلك البحر الذي تغوص فيه الآن، وتنفض عنها القواقع والقشور التي تراكمت عليها، والتي كونت حولها طبقة سميكة من الطين والحجارة؛ لأنها كانت تجد سعادتها في التمتع بغذاء الأرض، كما يسميه الناس. عندئذٍ نرى النفس في طبيعتها الحقة، ونعلم إن كانت بسيطة أم مركبة، وندرك ممَّ تتكوَّن وعلى أي نحو هي. أما الآن فحسبنا أننا قد أوضحنا بما فيه الكفاية، على ما أعتقد، ما يطرأ عليها في الحياة الراهنة من تأثيرات ومن أحوال.

– أجل، لقد أوضحنا هذا بجلاء.

– ها نحن أولاء قد حققنا شروط البرهان، ولكنا لم نذكر شيئًا عن تلك المكاسب والتكريمات التي قلت إن هوميروس وهزيود يَعِدان بها من يمارس العدالة، وإن كنا أوضحنا أن العدالة في ذاتها أفضل شيء للنفس منظورًا إليها في طبيعتها الحقة، وأن على النفس أن تستهدف العدالة دائمًا، سواء أكانت تملك أو لا تملك خاتم «جيجز» ومعه قلنسوة «هاديس».١٥

– هذا صحيح كل الصحة.

– وإذن فلن يعترض علينا أحد إذا ما بدأنا نعدد، إلى جانب المزايا السابقة، المزايا التي تكتسبها النفس من الآلهة والناس بفضل العدالة والفضيلة بوجهٍ عام، سواء خلال الحياة وبعد الممات.

– لا يمكن بالطبع أن يوجه إلينا أي اعتراض.

– أتود أن تسدد لي الدَّين الذي أقرضتك إياه خلال المناقشة؟

– وما هو؟

– لقد سلَّمت لك بأن العادل يمكن أن يبدوَ ظالمًا، والظالم عادلًا؛ لأنك كنت ترى أنه حتى لو كان من المستحيل خداع الآلهة والناس في هذا الصدد، فمن الواجب التسليم بذلك جدلًا، حتى يتسنى إصدار حكم على العدالة في ذاتها والظلم في ذاته.١٦ ألا تذكر ذلك؟

– إنني أكون مخطئًا لو لم أتذكر.

– والآن وقد أتممنا البت في هذه المسألة، فإني أطلب إليك ثانية، باسم العدالة، أن تأخذ معي بالرأي السائد لدى الناس والآلهة، حتى تسترد العدالة ذلك التقدير الذي تستمده من سمعتها الطيبة، والذي تضيفه على أنصارها من الناس، بعد أن ثبت أنها تجلب لهم النفع المستمد من حقيقة الفضيلة، ولا تُخيِّب أبدًا ظنَّ أنصارها المخلصين.

– إن هذا المطلب عادل.

– وإذن فسوف تُسلِّم معي، أولًا، بالمسألة الآتية: إن الآلهة على الأقل لا ينخدعون فيما يكونه هذان النوعان من الناس.

– سأسلم لك بهذا.

– فإذا لم يكن الآلهة يخدعون في ذلك، فإنهم يحبون العادلين ويكرهون الظالمين، كما اتفقنا في البداية.

– هذا صحيح.

(٦١٣) – ألا ترى أن ذلك الذي تحبه الآلهة يحق له أن يتوقع من الآلهة أن يمنحوه كل ما لديهم، وبأوفر قدر ممكن، ألا ما قد يكون فيه من الشر الناجم عن أخطاء ارتكبت في حياة سابقة؟

– بالتأكيد.

– وعلى ذلك فمن واجبنا أن نعتقد، بالنسبة إلى العادل، أنه إذا كان يعاني الفقر أو المرض أو أي شر آخر، فلا بدَّ أن تعود الأمور في النهاية عليه بالخير في حياته أو بعد مماته؛ ذلك لأن الآلهة لن تنسى أبدًا ذلك الذي يتوخى العدل، ويمارس الفضيلة حتى يقترب من الله بقدر ما يتسنى ذلك لإنسان.١٧

– كلا، إنها قطعًا لن تتجاهل إنسانًا يتشبه بها.

– أليس لنا أن نفترض عكس هذا بالنسبة إلى الظالم؟

– بالتأكيد.

– هذه إذن هي المكاسب التي تعود على العادل من الآلهة.

– هذا ما أعتقد.

– فما الذي تتلقاه الآلهة من الناس؟ إذا نظرنا إلى الأمور في حقيقتها، لوجدنا أن الشرير الذكي أشبه بالعدَّاء الذي يجري سريعًا في النصف الأول من السباق، ولكنه يتخاذل قبل بلوغ الهدف؛ فهو سريع في البداية، ولكن الأمر ينتهي به إلى الخدلان، ويعود في النهاية بخفَّي حُنَين. أما الجائزة فلا ينالها إلا العدَّاء السليم الذي يثابر حتى النهاية. ألا يكون الأمر على هذا النحو في حالة العادل، الذي يحرز النصر قُرب نهاية السباق في أي فعل أو معاملة مع الناس، ويفوز بالسمعة الطيبة، وينال ما لدى الناس من الجوائز؟

– هذا صحيح.

– وإذن فسوف تعترف الآن بأن لي الحق في أن أصف العادلين بما سبق أن قلته أنت عن الظالمين. ففي اعتقادي أن العادلين، إذا ما بلغوا سن النضج، كان في وسعهم إذا شاءوا أن يبلغوا مركز التكريم في دولتهم، وأن يختاروا من النساء من يشاءون ويزوجوا أبناءهم ممن يشاءون، وغير ذلك مما قلته أنت عن الآخرين. أما الظالمون، فعلى الرغم من أنهم قد يظلون يخدعون الناس في شبابهم، فإن معظمهم يُكشفون ويُضبطون عند نهاية حياتهم، وتنزل عليهم اللعنات، في شيخوختهم، من مواطنيهم ومن الغرباء معًا، وينالون من الأذى ومن العذاب ما لا حصر له، وما لا حاجة بي إلى تكراره. أتُقرُّني على هذا كله؟

– أجل، إن ما تقول هو الصواب.

أسطورة «إر»

– هذه إذن هي المكاسب التي تمنحها الآلهة والناس للعادلين في حياتهم الراهنة، فضلًا عن المزايا الأخرى التي تجلبها العدالة بذاتها.

– إنها لمزايا رائعة مؤكدة حقًّا.

– غير أن هذه ليست شيئًا مذكورًا، لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، بالقياس إلى الجزاء الذي ينتظر العادل والظالم بعد الموت. وهذا أمر ينبغي الكلام عنه الآن، حتى نعطيَ كلًّا منهما ما تعطيه إياه المناقشة من حق.

– تكلم، فقليلة هي الأمور التي أتلهف على سماعها بقدر ما أتلهف على سماع رأيك في هذا الموضوع.

– إن قصتي لن تكون أبدًا مثل القصة التي يرويها أوديسيوس لألكينوس،١٨ بل إن بطلها رجل شجاع هو «إر»، ابن أرمينيوس Armenius، وهو من مواطني بامفيليا Pamphylia.١٩ فقد قُتل «إر» في الحرب، وعندما جمعت الجثث لدفنها بعد عشرة أيام، تبين أن جثته وحدها هي التي لم تفسد، فنُقل إلى بيته، وبينما كانوا يهمون بدفنه بعد يومين؛ إذ به ينهض حيًّا وهو راقد على فراش الموت، ثم بدأ يقصُّ على الباقين ما رآه في العالَم الآخر.
قال لهم: إن روحه عندما فارقت بدنه، سافر مع جماعة كبيرة حتى بلغوا مكانًا رائعًا، به فتحتان متجاورتان في الأرض، تقابلهما فتحتان أُخرَيان في السماء، وبينهما جلَسَ قُضاةٌ يَطلبون من العادلين بعد كل حكم يصدرونه أن يتوجهوا إلى الطريق الأيمن الصاعد إلى السماء، بعد أن يعلقوا على صدورهم إشارات بالحُكم الصادر عليهم. أمَّا الظالمون فيُؤمرون بسلوك الطريق الأيسر المؤدي إلى أسفل، يَحملون على ظهورهم أدلة على ذنوبهم.٢٠ وعندما اقترب «إر» نفسه أخبره القضاة بأنَّ عليه أن يحملَ أنباءَ العالَم الآخر إلى البشر، وأن يسمع الآن ويلاحظ ما كان يجري في ذلك المكان. وهكذا رأى النفوس التي حُكم عليها وهي تغادر المكان من خلال فتحةٍ مؤدية إلى السماء وأخرى مؤدية إلى الأرض. أما الفتحتان الأخريان، فكانت تمر منهما نفوس صاعدة من الأرض، وقد بدا عليها الإرهاق وإعياء السفر، وأخريات هابطة من السماء نظيفة نقية. وكان السرور يبدو على كل جماعة، وكأنها آتية من رحلة طويلة، وهي تنصرف إلى المروج حيث تحط رحالها كحجاج مُقبِلين على عيد. وكان الأصدقاء يحيون بعضهم بعضًا. وأخذت النفوس الآتية من الأرض تسأل الأخريات عمَّا رأته في السماء، وتلك الآتية من السماء تسأل عما في الأرض. وكان البعض يبكون وهم يَروُون في أسف كلَّ ما رأَوه وعانَوه في رحلتهم تحت الأرض، وهي الرحلة التي دامت ألف سنة، على حين تحدث غيرهم عن نعيم السماء وجمالها الذي لم ترَ مثلَه عين. ولقد كان ما رووه، يا جلوكون، أعظم من أن يوصف، ولكني سأُجمله لك.

فلقاء كل ذنب ارتكبه أي إنسان كان المذنبون يدفعون عشرة أمثاله خلال الوقت المناسب، أي مرة كل مائة عام، وهي المدة التي لا يتعداها عمر الإنسان، حتى يكون العقاب على كل ذنب عشرة أمثال هذا الذنب. وهكذا فإن كل من أدينوا لقتلهم أو استرقاقهم الكثير عن طريق خيانة بلادهم أو رفاقهم في السلاح، أو كل من اشترك في أي نوع آخر من المظالم، يقاسون من العذاب عشرة أمثال كل ذنب. أما الأفعال الصالحة والمسلك العادل التقي، فتثاب بنفس المقدار. وأما الأطفال الذين يولدون أمواتًا أو لا يعيشون إلا فترة قصيرة، فقد قال عنهم أشياء أخرى لا داعي هنا لذكرها.

أما جزاء تكريم الآلهة والآباء، أو الجحود والكفر بهم، وكذلك قتل الأنفس، فكان أعظم من ذلك. ولقد تصادف أثناء وجوده أن سألت نفس نفسًا أخرى: «أين أردياوس Ardiaeus العظيم» وكان أردياوس هذا طاغية في إحدى مدن بامفيليا قبل ألف سنة من ذلك التاريخ، وقيل: إن من بين مظالمه قتْلَ أبيه العجوز وأخيه الأكبر منه سنًّا. فكان الجواب: أنه لم يأتِ هنا بعد، ولن يأتيَ أبدًا. ولقد كان مرآه من أشد ما رأينا هولًا. فعندما انتهت مدة عقوبتنا، واقتربنا من باب الجحيم، وأخدنا نتأهب للصعود إلى أعلى، لمحنا أردياوس هذا فجأة، ومعه آخرون. وكان معظمهم طغاة، ولكن كان بعضهم أفرادًا ارتكبوا آثامًا جسيمة، وكانوا يظنون أنهم سيصعدون إلى أعلى، غير أن الباب أوصد في وجوههم، وكان يصدر عنه صريرٌ هائل كلما حاول الصعود واحد من أولئك الذين كان إثمهم مستعصيًا، أو لم يكفروا عنه تكفيرًا تامًّا بعد. عندئذٍ كان بعض الرجال الغلاظ الشداد، الذين كانوا يقفون على مقربة من الباب، ويعرفون معنى (٦١٦) صريره هذا، يقبضون على البعض منهم ويمضون بهم بعيدًا. أما أردياوس والآخرون فقد قيدوا أيديهم وأرجلهم وأعناقهم بالأغلال، وأخذوا يطرحونهم أرضًا ويضربونهم بالسياط. ثم جروهم على طول الطريق، وهم يوخزون أبدانهم بالأشواك، ويَروون لكل من مَرَّ بهم ما فعَله أولئك، وينبئونهم بأنهم سيَصْلَون نار «تارتاروس Tartarus» (الجحيم). وهنا ذكر «إر» أنهم مع كل ما مروا به من أهوال لا توصف، فإن شيئًا منها لم يَكُن يَعدِل الرعب الذي كان يحس به كلُّ شخص وهو يقترب من الباب؛ خشيةَ أن يَصدُر عن الباب ذلك الصرير. وهكذا كان العقاب والجزاء، أما الثواب فكان معادلًا له، ولكن في الجانب المضاد.
وبعد أن كانت كل جماعة تقضي في الروض سبعة أيام، كان عليها أن تشد رحالها في اليوم الثامن وتواصل سفرتها. وبعد أربعة أيام من هذه السفرة، تصل إلى مكان تستطيع أن ترى منه شعاعًا مستقيمًا من النور، أشبه بالعمود، يمتد من أعلى عبر السموات والأرض، وهو أشبه ما يكون بقوس قزح، وإن يكن ألمع منه وأنصع. هناك كانوا يأتون بعد مسيرة يوم، فيرون في وسط النور أطراف أغلال السماء ممتدة منها؛ ذلك لأن هذا النور يربط بين السموات، ويجمع بين كل جِرم يدور، وكأنه حبال سفينة حربية.٢١
ومن الأطراف يمتد محور «الضرورة»، الذي تلفُّ حوله كل الدورات.٢٢ أما عمود المحور وخُطافه فمن الماس، والحلقة كانت من الماس ومواد أخرى.٢٣ وكان شكل الحلقة على هذا النحو؛ فقد كانت في شكلها أشبه بحلقة عادية، ولكن ينبغي، من وصف «إر» لها، أن نتخيلها حلقة كبيرة، باطنها مفرغ تمامًا، وفي داخلها حلقة ثانية أصغر، ثم ثالثة ورابعة وأربع أخريات، كل منها داخلة في الأخرى وكأنها طاقم من الأواني. وهكذا كان مجموع هذه الحلقات ثمانية، كلٌّ منها في داخل الأخرى، وقد ظهرت حوافها في الخارج وكأنها دوائر، تكون كلها سطحًا متصلًا واحدًا لحلقة واحدة حول العمود، الذي يخترقها كلها حتى مركز الثامنة منها. وأعرض الدوائر هي تلك التي تكون حافة أولى الحلقات وأبعدها (وهي النجوم الثوابت). وتليها في العرض السادسة (الزهرة) ثم الرابعة (المريخ) ثم الثامنة (القمر)، وتليها السابعة (الشمس) ثم الخامسة (عطارد) والثالثة (المشتري)، وأضيقها كلها هي الثانية (زحل). وكانت حافة أوسع الحلقات (وهي (٦١٧) النجوم الثوابت) مُرصَّعة، وألمعها هي السابعة (الشمس) أما الثامنة (القمر) فيُضيئها نور منعكس من السابعة،٢٤ والثانية والخامسة (زحل وعطارد) متشابهتان وأكثر اصفرارًا. والثالثة (المشتري) أكثرها نصاعة، والرابعة (المريخ) ميالة إلى الحمرة. والسادسة (الزهرة) هي الثانية في النصاعة. وكان المحور يدور كله في حركة واحدة، ولكن الدوائر السبع الداخلية كانت تدور، داخل الكل أثناء دورانه، في حركة بطيئة في الاتجاه المضاد.٢٥ وكان أسرعها في الحركة ثامنها (القمر)، ويليه في السرعة السابع والسادس والخامس (الشمس والزهرة وعطارد) وكلها تتحرك معًا. ويلي ذلك الرابع (المريخ). وكانت حركته أشبه بدوران مضاد،٢٦ ثم الثالث (المشتري)، وأبطؤها كلها الثاني (زحل). وكان المحور يدور على حجر الضرورة. وعلى كل حلقة وقفت إحدى عرائس البحر، تدور بصوتها مع الحلقات، ويصدر عنها صوت واحد، بحيث كان الثمانية معًا يكونون توافقًا واحدًا.٢٧ وكانت تجلس حول المحور، على مسافات متساوية، البنات الثلاث للضرورة، كل منها على عرشها، وقد ارتدين ملابس بيضاء، وازدانت رءوسهن بالأكاليل. وكانت الثلاثة، وهي لاخسیس  Lacheses وكلوثو Clutho وأتروبوس Atropos تغنين على أنغام العرائس: الأولى تغني على الماضي، والثانية على الحاضر، والثالثة على المستقبل. وكانت كلوثو تضع يدها اليمنى من آنٍ لآخر على الحافة الخارجية للمحور، وتساعد على إدارته، على حين كانت أتروبوس تدير الحلقات الداخلية بيدها اليسرى على نفس المحور، ولاخیسیس تقبض على الداخلية والخارجية بيدها هذه وتلك.
وكان على النفوس بمجرد مجيئها أن تَمثُل أمام لاخیسیس، ثم أتى رسول رتبها بانتظام، وبعد أن أخذ من حجر لاخيسيس عددًا من أوراق النصيب ونماذج للحياة، ارتقى منصة عالية وقال: «اسمعوا كلمة لاخیسیس، ابنة الضرورة. أيتها النفوس الفانية، سوف تبدأ الآن دورة جديدة للحياة الأرضية، تنتهي بالموت. إنكم لن تجدوا جِنيًّا يختاركم كيفما اتَّفَق، بل إنكم أنتم الذين ستختارون جِنيَّكم.٢٨ فليختر منكم أول من تقع عليه القرعة حياة يرتبط بها بالضرورة. أما الفضيلة فلا تعرف سيدًا؛ فالمرء يحصل منها المزيد أو الأقل على قدر ما يكرمها أو يزدريها. واللوم إنما يقع على من يختار، أما السماء فلا لوم عليها.»٢٩

(٦١٨) وبعد أن ألقى الرسول هذه الكلمات، ألقى أوراق الحظ بينهم جميعًا دون تمييز، فأخد كل منهم الورقة التي سقطت تحت أقدامه، وأظهر الرقم الذي سحبه. وكان «إر» هو الوحيد الذي لم يسمح له بذلك. ثم وضع الرسول أمامهم على الأرض نماذج الحياة التي كان عددها يفوق كثيرًا عدد النفوس الحاضرة. وكانت هذه النماذج من أنواع شتى؛ فهي تشمل جميع الأحوال الممكنة للحياة الحيوانية والحياة البشرية. فكانت منها حياة الطغاة، الذين يظل بعضهم محتفظًا بجبروته حتى النهاية، بينما تدمر حياة البعض الآخر قبل أن ينتهيَ أجله، وتنتهي بالفقر والتشرد والاستجداء. وكانت منها أناس اشتهروا بجمال الصورة وبالقوة ومتانة البنيان، أو بكرم المولد وعراقة الأصل. كما كانت منها حياة ناس مجهولين، وحياة نساء متنوعة على نفس النحو. كل هذه الصفات كانت تتجمع سويًّا على نحوٍ متباين، ويضاف إليها الغنى أو الفقر، والصحة أو المرض، أو ما بين هذا وذاك. ولكن لم يكن في أية حياة من هذه أي شيء يحدد حالة النفس؛ إذ إن تغير حالتها باختيارها هذه الحياة أو تلك.

هذه، يا عزيزي جلوكون، هي في رأيي اللحظة الحاسمة التي يتقرر بها مصير الإنسان. ولهذا السبب عينه كان على كل منا أن يتخلى عن أية دراسة أخرى، ويقتصر على بحث الطريقة التي يهتدي بها إلى شخص٣٠ يكتسب منه المعرفة الكفيلة بتمكينه من التمييز بين حياة الخير وحياة الشر، ومن اختيار أفضل ما يتسنى له في كل الأحوال، مقدرًا ما للصفات التي عددناها من تأثير على الفضيلة في الحياة، عن طريق تجمعها أو تفرقها. فعليه أن يعرف منه التأثير النافع أو الضار الذي يعود به الجمال مقترنًا بالغنى أو الفقر، وبهذه الحالة للنفس أو تلك، والنتائج التي تجلبها عراقة الأصل أو وضاعته، والمركز العام أو الخاص، والقوة أو الضعف، وسرعة البديهة أو بطؤها، وأية صفة أخرى، فطرية أو مكتسبة، للذهن. وإذ يستخلص النتائج المترتبة على هذه التقديرات كلها، فإنه يستطيع أن (٦١٩) يختار بين الحياة الضالة والحياة الفاضلة من حيث هي تزيد النفس ظلمًا أو عدلًا. أما كل ما عدا ذلك من الموضوعات فسوف يتركه جانبًا؛ إذ إن هذا كما قلنا أهم ما يَتعيَّن على الإنسان مواجهته من القرارات، سواء أثناء حياته وبعد مماته. وعلى ذلك فإن على المرء، عند انتقاله إلى العالَم الآخر، أن يظل متمسكًا بهذا التمييز بين الحق والباطل تمسكًا راسخًا لا يلين، وألا ينبهر هناك أيضًا بالثراء وما شابهه من الشرور، أو ينغمس في حياة الطغيان، أو غير ذلك من مظاهر الشر، وهي أمور تجلب عليه أضرارًا لا حصر لها، ولا شفاء منها، وتنزل بنا آلامًا أفدح. وإنما الأجدر به أن يختار دائمًا من الأمور أوسطها، ويتجنب التطرف في الاتجاهين، وذلك في هذه الحياة، وفي كل حياة أخرى تالية بقدر الإمكان. ففي هذا تكون أعظم سعادة للإنسان.

ومضى ذلك العائد من العالَم الآخر ذاكرًا أن الرسول قال بعد ذلك: «وحتى آخر القادمين يستطيع، إذا اختار بحكمة، أن ينال نصيبًا ملائمًا سعيدًا في الحياة، إذا ما التزم اختياره بدقة. فليكن الأول إذن حريصًا في اختياره، وليحذر الأخير اليأس.»

وعندما قال الرسول ذلك، بادر الأول في ترتيب الاختيار إلى انتقاء أشد ما وجده من طغيان؛ ذلك لأن جشعه الأهوج حال بينه وبين اختبار جميع أوجه الحياة التي اختارها، ولم يدرك الشرور العديدة التي حفلت بها، أو يعلم أنه قد قدر له أن يلتهم أولاده، فضلًا عن ارتكاب شرور أخرى. ولكن عندما أتى الوقت الذي فحص فيه الأمر عن كثب، أخذ يضرب صدره بيديه، ويندب حظه، ناسيًا تحذيرات الرسول. وبدلًا من أن يلوم نفسه على آثامه، أخذ يُنحي باللائمة على الحظ، وأوامر الآلهة وأي شيء ما عدا ذاته. ولقد كان هو واحدًا من أولئك الذين هبطوا من السماء، بعد أن قضى حياته السابقة في دولة منظمة، وكانت فضيلته ترجع إلى التعود، لا إلى التزام الحكمة. بل يمكن القول إن جزءًا غير قليل من أولئك الذين جيء بهم على هذا النحو كانوا من الفئة التي أتت من السماء؛ لأنهم لم يقاسوا الآلام، على حين أن معظم من صعدوا من الأرض وقاسَوا منها ورأوا غيرهم يقاسون، لم يتسرعوا إلى هذا الحد في اختيارهم. وترتب على ذلك، وكذلك على اختيار الأنصبة بالاقتراع، أن استبدلت كل النفوس ما لديها من الشر بالخير، وما لديها من الخير بالشر. ومع ذلك فلو سعى كل إنسان، في كل مرة يعود فيها إلى الحياة الأرضية، إلى الحكمة بكل جوارحه، ولو شاء حظه ألا يكون ممن يختارون أخيرًا، لكان ما قيل هنا عن العالَم الآخر كفيلًا بأن يضمن له فرصة طيبة في السعادة ها هنا، وبأن تتم رحلته في الذَّهاب إلى العالَم الآخر والإياب منه، لا بالطريق السفلي الوعر، وإنما بالطريق السماوي المُعبَّد.

(٦٢٠) وقال «إر» إن الطريقة التي كانت النفوس المختلفة تختار بها حياتها كانت تؤلف منظرًا يستحق أن يُرى — منظرًا يبعث على الرثاء، ويثير السخرية والدهشة في آنٍ واحد؛ ذلك لأن الاختيار كان يَتقرَّر في معظم الأحيان على أساس الحياة السابقة التي كان يحياها المرء. وهكذا رأى إحدى النفوس تختار حياة بجعة، وكانت تلك في وقتٍ ما نفس «أورفيوس» الذي كره جنس النساء؛ لأن مقتله كان على أيديهن، إلى حد أنه أبى أن تلده امرأة. ورأى نفس ثاميراس٣١ تختار حياة بُلبل، وبجعة تختار حياة إنسان، ومخلوقات صداحة أخرى تفعل نفس الشيء. واختارت النفس التي كان ترتيبها العشرين حياةَ أسد، وكانت تلك نفس أجاكس بن تيلامون، وقد أبت هذه النفس أن تتخذ صورة الإنسان؛ إذ تذكرت الحكم الخاص بأسلحة أخيل.٣٢ وتلته نفس أجاممنون Agamemnon٣٣ الذي كان بدوره يكره البشر لما لاقاه من آلام، فاستبدل بحياته حياة نسر. وأمَّا نفس أتلانتا٣٤ فقد أتى دورها في منتصف الطريق تقريبًا. وقد اختارت لنفسها حياة رياضي، وهو اختيار أغراها عليه ما رأته من التكريم الذي ينهال على الرياضيين. ورأى بعدها نفس إبيوس Epeius٣٥ ابن بانوبيوس Panopeus وهو ينتقل إلى صورة امرأة صانعة. ورأى بعيدًا، من بين الأخيرين، نفس المهرج ثيرسيتیس Thersites وقد اتخذت لنفسها جسم قرد. والذي حدث أن آخر اختيار قد ترك لنفس أوديسيوس، الذي خففت من طموحه ذكرى جهوده السابقة، حتى إنه قضى وقتًا طويلًا يبحث عن حياة هادئة لا يعرفها أحد. وعندما اهتدى إليها آخر الأمر في ركن بعيد عن الباقين جميعًا، اختارها راضيًا قائلًا إنه كان سيختارها أيضًا لو كان أول المقترعين. وبالمثل انتقلت نفوس أخرى من حيوانات إلى أناس، ومن حيوانات إلى حيوانات أخرى، بحيث تحولت الحيوانات الظالمة إلى حيوانات مفترسة والعادلة إلى حيوانات أليفة، مع اندماجها على شتى الأنحاء.
وبعد أن اختارت النفوس كلها حياة لها، توجهت، بترتيب اقتراعها، إلى لاخيسيس، وأعطت هذه كلًّا منها الجني الذي اختاره؛ ليوجهه في حياته ويلبي له ما اختار. وبدأ الجني باقتياد النفس إلى كلوثو. فوضعها تحت يده هذه الآلهة وهي تدير محور الضرورة، وبذلك صدق على ما اختاره الإنسان عندما حان وقت اقتراعه. وبعد أن لمس المحور، سار بها إلى منزل أتروبوس، وبذلك جعل خيوط القدر لا رجعة فيها، ومن هناك انتقل دون أن ينظر إلى الوراء، إلى عرض (٦٢١) الضرورة. وبعد أن تجاوز هو والباقون جميعًا هذا العرش، رحلوا سويًّا إلى سهل لیثي  Lethé (النسيان) خلال حرارة شديدة خانقة؛ ذلك لأن السهل عارٍ من الأشجار ومن كل ما ينمو على الأرض من النبات. وعندما حل الظلام، حطوا رحالهم على ضفاف نهر السهو Ameles، الذي لا يقدر وعاء على حمل مائه. وكان على الكل أن يشربوا قدرًا معينًا من هذا الماء، ولم يكن لدى البعض من الحكمة ما يمنعهم من شرب المزيد. وكلما شرب شخص هذا الماء نسي كل شيء وعندما غلبهم النعاس، دوَّى قصف الرعد وزُلزلت الأرض في منتصف الليل، وفي لحظة واحدة نُقلت النفوس إلى أعلى، في هذا الطريق أو ذاك، إلى حيث تولد وكأنها النجوم البازغة. أما «إر» نفسه فلم يسمح له بشرب الماء. ولم يكن يعلم كيف وعلى أي نحو عاد إلى جسمه، ولكنه فتح عينَيه فجأة فوجد نفسه على فراش الموت عند الفجر.

وهكذا يا جلوكون نجت القصة من النسيان. ولو أمعنا التدبُّر فيها؛ لأنقذتنا نحن أنفسنا، ولعبرنا بطُمأنينة وسلام نهر لیثي (النسيان)، ولَما دنَّسنا نفوسنا. وإذن فلو آمنت معي بأن النفس خالدة، قادرة على تحصيل كل خير واقتراف كل شيء، لاستطعنا أن نلتزم دائمًا الطريق العلوي، ولتوخينا العدل والحكمة في كل شيء؛ عندئذٍ نسالم أنفسنا ونسالم الآلهة، لا في إقامتنا هنا فحسب، بل عندما نتلقى جائزة العدل، كالمنتصرين في المباريات يتلقون الهدايا من أصدقائهم. وبهذا تتحقق لنا السعادة، لا على هذه الأرض وحدها، بل أيضًا في تلك الرحلة التي تدوم ألف سنة، والتي قصصت عليك نبأها.

١  يستأنف أفلاطون هنا هجومه على الشعر، الذي بدأه في الكتابين الثاني والثالث. والفرق بين وجهة نظره في الحالتين هو أنه يقدم هنا نظرية عامة في الفن، لا في الشعر وحده، وإن وجهة النظر الفلسفية والميتافيزيقية، لا وجهة النظر التربوية، هي الغالبة على نقده.
٢  يلاحظ أن أرسطو قد استخدم هذه العبارة فيما بعد بنصها تقريبًا، ضد أفلاطون نفسه.
٣  يُنسب إليه اختراع مراسي السفن وعجلة الفخَّار. أما طالیس فكانت له اختراعات وكشوف علمية بعضها أسطوري وبعضها حقيقي.
٤  الاسم يعني «ابن اللحم» أو «أهل اللحم».
٥  اثنان من أشهر السفسطائيين في القرن الخامس ق.م. وقد تضمنت محاورة «بروتاجوراس» وصفًا حيًّا لهما.
٦  في الكتاب الرابع، ٤٣٦، ٤٣٩، ٤٤١.
٧  في الكتاب الرابع، ٤٣٩ وما يليها.
٨  في الكتاب الثالث، ٣٨٧.
٩  قارن رأي أرسطو في عَلاقة الشعور بالشفقة بالتراجيديا. ومن الملاحظ أن أفلاطون يرى في هذا الشعور ضررًا؛ لأنه يبعث الاضطراب في النفس، على حين أن أرسطو يرى أنه عامل حاسم في «تطهير» النفس.
١٠  أبيات شعرية مجهولة المصدر. وعلى أية حال فإن هجوم الفلاسفة على الشعراء ظاهرة قديمة العهد ترجع إلى أيام هرقليطس وإكسنوفان، أما هجوم الشعراء على الفلاسفة فلا تُعرَف له أمثلة محددة.
١١  يلاحظ أن دهشة جلوكون في هذا الصدد أمر غير طبيعي؛ إذ إنه كان على صلة بالأوساط الأورفية والفيثاغورية التي كان مبدأ خلود النفس شائعًا فيها.
١٢  يلاحظ أن هذه الشرور أو الآفات هي أضداد الفضائل الرئيسية الأربع، وهي بنفس الترتيب: العدالة، والاعتدال، والشجاعة، والحكمة أو المعرفة.
١٣  ليس من الصعب أن ندرك أن حُجة أفلاطون السابقة ضعيفة إلى حدٍّ بعيد؛ لأنه لا يُقدِّم فيها برهانًا حاسمًا على أن الشر الموجود في النفس لا يقضي عليها.
١٤  كان في الأصل بحَّارًا تغذى من عشب رأى الأسماك تأكله، فأصابه مسٌّ من الخبل، وقذف بنفسه في الماء، ثم أصبح إلهًا للبحر، وأخذ يطوف الشواطئ والجزر نادبًا حظه؛ لأنه لا يستطيع أن يموت. وتصوره الأعمال الفنية اليونانية في صورة عجوز له ذيل سمكة، وقد غطى صدره بالأعشاب البحرية والقواقع.
١٥  هي «طاقية الإخفاء» الأسطورية المشهورة، وقد ورد ذكرها في الإلياذة وأعمال أدبية أخرى. وأسطورة الخاتم شبيهة بأسطورة خاتم سليمان، والأمران معًا يرمزان إلى القوة والسلطان المطلق.
١٦  يشير أفلاطون هنا إلى الكتاب الثاني، ٣٦١، ٣٦٧، حيث كان الحديث يدور بينه وبين جلوكون وأديمانتوس.
١٧  من المبادئ الأساسية للأخلاق الأفلاطونية أن التشبه بالله هو أسمى غايات الحياة البشرية.
١٨  هذه القصة تمثل الكتب الأربعة من ٩ إلى ١٢ من الأوديسية، ويُضرب بها المثل في الطول.
١٩  في محاورات «فيدروس» و«جورجياس» و«فيدون» يقدم أفلاطون أساطير أخرى تدور حول موضوع مصير النفوس في العالَم الآخر.
٢٠  يُلاحَظ في هذا النص قوةُ تأثير النِّحلة الأورفية والفيثاغورية في تفكير أفلاطون، وبالتالي ظهور أفكار شرقية واضحة عن العالَم الآخر، وعن الحساب والثواب والعقاب والطريق الأيمن والأيسر، ومعاقبة السيئة ومثوبة الحسنة بعشرة أمثالها (في ٦١٥).
٢١  المقصود بهذا التشبيه أن شعاع النور (الذي ربما كان يرمز إلى المجرة المنظورة الكبرى في السماء) هو محور ارتكاز الكون، شأنه شأن مراسي السفينة الحربية.
٢٢  يرى «ريفو Rivaud» أن أفلاطون لا يصف في هذه الصورة السماء الحقيقية، وإنما يضع أنموذجًا لآلة تصور حركات الأجرام السماوية؛ أي إن المقصود هنا هو التعليم وتقريب الأمور إلى الأذهان فحسب. فليس لنا في رأيه أن نبحث عن مقابل في السماء لكل من تفاصيل هذه الصورة وأجزائها، على الرغم من أن أفلاطون ينتقل دائمًا من أنموذجه الخيالي إلى السماء الحقيقية فيزيد بذلك من حَيرة القارئ.
٢٣  لم يكن أفلاطون أول مَنْ أدرك أن القمر يستمد نوره من الشمس، بل سبقه إلى ذلك الفيلسوف أناكسيمنس.
٢٤  من الجائز أن الماس رمز للنور اللامع في السماء.
٢٥  الحركة المضادة هي الحركة الظاهرية للكواكب من الغرب إلى الشرق، وحركتها تبدو مضادة بالقياس إلى النجوم الثوابت.
٢٦  أو بحركة راجعة؛ لأنه بطيء فيبدو راجعًا أو سائرًا في الاتجاه المضاد بالنسبة إلى الكواكب التي هي بطبيعتها أسرع دورانًا منه.
٢٧  نظرية انسجام الأفلام الفيثاغورية.
٢٨  كان هناك اعتقاد شائع بأن لكل فرد جنيًّا يختاره، وأن مصير الفرد يتحدد تبعًا لنوع الجني الذي يختاره. أمَّا أفلاطون فيعكس الآية، ويرى أن الفرد هو الذي يختار جنيه، أي هو الذي يتحكم في مصيره، فالفكرة هنا، كما في بقية الفقرة، دفاع عن حرية الإنسان في الحياة.
٢٩  أصبحت هذه العبارة شعارًا لأنصار حرية الإرادة في أوائل العصر المسيحي.
٣٠  هذه العبارة تُفسد تأثير كلمات أفلاطون الرائعة السابقة: «اللوم إنما يقع على من يختار، أما السماء فلا لوم عليها»؛ ذلك لأنه بينما أكد حرية كل إنسان في الاختيار وفي تقرير مصيره بنفسه، يعود هنا فيجعل الفرد عاجزًا عن السَّير في الطريق السليم إلا بمعرفة الفيلسوف وبإرشاده؛ أي إن الناس جميعًا — ما عدا الفلاسفة — عاجزون عن الاختيار الصحيح، ولا بدَّ لهم من مرشد.
٣١  الاسم في صورته الأصلية هو ثاميريس Thameris، وهو شاعر مغنٍّ شرقي، جاء ذكره في الإلياذة. وتروي الأسطورة أنه تباهى بصوته على ربات الشعر، فعوقب بالحرمان من البصر والصوت، وقيل إنه كفَّر عن غروره بالذَّهاب إلى الجحيم.
٣٢  تروي الأساطير اليونانية أن هذا البطل قد دخل في مسابقة كان منافسه الوحيد فيها هو أوديسيوس، جائزتها هي أسلحة أخيل، فكان الحكم لصالح أوديسيوس، فانتحر أجاكس غضبًا، وحمل هذا الغضب على أوديسيوس معه إلى العالَم الآخر.
٣٣  كان أقوى أمراء اليونان أيام حرب طروادة، وانعقد له لواء الزعامة في هذه الحرب، وانتصر بعد حصار أليم، ولكن زوجته (أو عشيقها) قتلته بعد عودته ظافرًا.
٣٤  ابنة الإله زوس، الذي كان يريد بدلًا منها مولودًا ذكرًا. وقد عاشت بين الوحوش، وأتقنت فنون الصيد، واشتهرت بالسرعة الفائقة في العدو، وكانت تتحدى راغبي الزواج منها في العدو فتتفوق عليهم.
٣٥  صانع الحصان الخشبي الذي اختبأ فيه أشجع المحاربين اليونانيين بقيادة أوديسيوس، وبواسطته اقتحموا طروادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤