الميتافيزيقا

إذا نظرنا إلى محاورة «الجمهورية» من خلال تصنيفاتنا المألوفة لفروع البحث الفلسفي، فسوف نجدها محاورة لا تحتل فيها الأبحاث الميتافيزيقية مكانة رئيسية؛ إذ إن هذه الأبحاث تكاد تقتصر على مواضع متفرقة، نجدها في أواخر الكتاب الخامس، وفي الكتابَين السادس والسابع بخاصة. وفضلًا عن ذلك فإن الأبحاث الميتافيزيقية تختلط في معظم الأحيان بآراء أخلاقية وتربوية وسياسية، وتظهر في سياق يستنتج منه المرء بسهولة أن هذه الأبحاث ليست مقصودة لذاتها. ومع ذلك فإن الانفصال القاطع بين المجالات المختلفة للبحث الفلسفي لم يكن — كما أشرنا من قبل — أمرًا معترفًا به عند أفلاطون؛ إذ كانت الأبحاث النظرية الخالصة تمتزج بالأبحاث العملية بحيث تتعاقب الأفكار المنتمية إلى كلا المجالَين دون أن يشعر القارئ بأي تعارض بين هذا وذاك. ومعنى ذلك أننا إذا تأملنا المسألة من وجهة نظر أفلاطون ذاته، أمكن القول إن كل أفكاره في ميدان الأخلاق والتربية والسياسة تدعم آراءه الميتافيزيقية، وإن آراءه الميتافيزيقية بدورها تساند أفكاره في تلك المجالات العملية، بحيث يمكن، من وجهة نظرٍ معينة، أن يتسع نطاق الأبحاث الميتافيزيقية في المحاورة باندماجها مع سائر الأبحاث المرتبطة بها، وعندئذٍ لا تعود للميتافيزيقا مكانة ثانوية على الإطلاق. ومع ذلك فسوف نكتفي ها هنا بالتنبيه إلى إمكان التوسع في فَهْم الميتافيزيقا على هذا النحو، ما دمنا قد أفردنا فصولًا سابقة لبحث كل موضوع عالجه أفلاطون في المحاورة على حِدة. وسنتناول آراء أفلاطون الميتافيزيقية على نفس النحو الذي تناولنا به بقية موضوعات بحثه، أعني من حيث هي مبحث منفصل.

(١) نظرية الصور أو المُثل

يرتبط الحديث عن الصور أو المُثُل في محاورة الجمهورية بالحديث عن العلم أو المعرفة ارتباطًا وثيقًا. فعندما يأتي ذِكر المُثُل لأول مرة بصورة واضحة في المحاورة، في أواخر الكتاب السادس، نرى أفلاطون يصفها بأنها الماهية الحقيقية للأشياء، أي هي «الجميل في ذاته، والخير في ذاته …» (٥٠٧) ثم يوضح الطابَع العقلي للمثل، ويبين أن العقل هو وحده الذي يستطيع إدراكها، ويقارن مثالَ الخير، وهو أرفع المُثُل، بالشمس في العالَم المنظور، ويَخلُص من ذلك إلى النتيجة الآتية: «وعلى ذلك فإن ما يضفي الحقيقة على موضوعات المعرفة، وما يضفي ملكة المعرفة على العارف، هو مثال الخير، فهو علة العلم والحقيقة» (٥٠٨).

ولكن، أي علم هذا الذي تُعَد المُثُل أصلًا أو علةً له؟ هذا — في رأينا — هو السؤال الأكبر الذي يواجه الباحث في فكرة المُثُل عند أفلاطون؛ ذلك لأن أفلاطون لا يدع لنا مجالًا للشك في أن كل علم إنما يتم من خلال إدراك العقل للمُثُل أو معاينته لها. فالجميل في ذاته هو أساس معرفة الجمال، والخير في ذاته هو أساس معرفة الخير، أي أساس العلم الأخلاقي، والعلم الرياضي بدوره يفترض إدراكًا لأنواع من الصور، بل إن معرفتنا بأي مجال من مجالات العلوم البحتة هي قبل كل شيء معرفة بصور أو مُثل. ومع ذلك، فهل يعد ذلك العلم الذي يقصده أفلاطون مماثلًا لما نعنيه نحن بكلمة العلم، أم أنه معرفة من نوع خاص؟ وهل يُعَد هذا النوع الخاص من المعرفة، إن كان هو المقصود، مكملًا للعلم أم مضادًّا له؟

الحق أن كل غموض نظرية الصور أو المُثل إنما يتركز في هذا السؤال. ونقول إن النظرية غامضة لأنها بالفعل قد حيَّرت الشرَّاح منذ القدم. ومنذ أن وجه أرسطو اعتراضاته المشهورة على النظرية، وحاول في الوقت ذاته تفسيرها بطريقته الخاصة، أثير جدل لا نهاية له بين الباحثين حول طبيعة هذه الكيانات الغامضة، وحول المعاني التي كان يقصدها أفلاطون حين عرض هذه النظرية. وليس من مهمتنا في بحثٍ كهذا أن نخوض في تفاصيل المناقشات المدرسية التي طالما ثارت بين الشرَّاح حول هذا الموضوع، لا سيما وأن المشكلة الميتافيزيقية — كما قلنا من قبل — لا تحتل المكانة الرئيسية في محاورة الجمهورية، وإنما سنقصر بحثنا على السؤال السابق الذي نعتقد أنه أهم الأسئلة التي تثيرها هذه النظرية، وأجدرها بعناية الدارس وجهده. فمن الممكن أن تفسر طبيعة المثل على أنها تعبير عن الشرط الأساسي الذي ينبغي أن يتصف به كل تفكير علمي، وهو شرط الشمول والبعد عن الجزئيات والتجرد عن الخصوصيات. وبهذا المعنى يقترب المثال أو الصورة الأفلاطونية من معنى الفكرة العامة idée générale، أو الحد المنطقي؛ ذلك لأنه لا علم إلا بما هو عام، أمَّا الفردي فلا وجود له في العلم إلا بمشاركته في العامِّ الذي هو وحدَه الحقيقي. ولو تناولنا أيَّ تصور أو مفهوم عام، لَوجدنا بينه وبين الصورة الأفلاطونية شبهًا واضحًا؛ إذ إن التصور بدوره يضم كثرةً تجمع بينها وحدة مشتركة، بحيث إن أفراد هذه الكثرة «يشاركون» في هذا التصور ويندرجون تحته، مثلما يندرج أفراد أي مثال معين تحت المثال ذاته ويشاركون فيه. ولو قمنا بتحليلٍ لطبيعة الواقع ذاتها؛ لانتهينا إلى هذه النتيجة ذاتها؛ ذلك لأن الصفات الحسية، في طابَعها الفردي، لا تكون بذاتها معرفة، وإنما يكون الإدراك الحسي الفردي لحظة عابرة لا تتكرر. ولا بدَّ من تحليل هذا الإدراك إلى كيفيات ثابتة تقوم بينها هُويَّة، وتتيح فَهْم الإدراك ذاته فَهمًا معقولًا. وإذَن فالمعرفة لا تكون ممكنةً، وسط كثرة المتغيرات، إلا بوجود نقاط الارتكاز الثابتة هذه، التي لا يستطيع الذهن تحصيل أيَّ علم بدونها.١
مثل هذا التفسير — الذي يورده الأستاذ «ري A. Rey» في أحد كتبه التي خصصها لدراسة التفكير العلمي اليوناني — يجعل من نظرية المُثل تعبيرًا عن روح العلم ذاتها، ولكنه تعبير يتخذ صبغة أسطورية؛ إذ إن أفلاطون، جريًا على عادة اليونانيين في تجسيم الكيانات الفكرية وإضفاء طابَع حيوي animiste عليها، قد حوَّل المثال، الذي هو في الأصل مبدأ للمعرفة، إلى كِيان واقعي له قدرة سببية. بل إن فكرة «التذكر» بدَورها تُفسَّر على أنها تعبير ذو شكل أسطوري عن حقيقة مألوفة في مجال العلم؛ إذ إن معارفنا تتخذ شكل «تعرُّف» على الكثرة المعطاة الحاضرة من خلال تصورات ومفاهيم موجودة في الذهن من قبل. وليست عملية التعرُّف هذه إلا نوعًا من التذكر، أي إدراك الكثرة المتغيرة التي تمر بنا في اللحظة الراهنة، من خلال عناصرَ ثابتة لها في الذهن وجود سابق.٢

وإذن ففي نظرية الصور يعرض أفلاطون الشروط الضرورية لقيام كل معرفة، ولكنه يعرضها بالطريقة الأسطورية الحيوية التي كانت شائعةً لدى اليونانيين عامةً، وأثيرةً لدى أفلاطون بوجه خاص.

ويتكرر هذا التفسير لدى عدد غير قليل من الشرَّاح، كان من أقربهم «هافلوك Havelock» الذي أكد أن فكرة التجريد كانت شيئًا جديدًا على العقل اليوناني، الذي لم يَكُن قد اعتاد الرأي القائل إن أساس معرفة الأشياء لا يكمن في مظاهرها الحسية أو أشكالها المتغيرة، وإنما ينحصر في مجموعة من النسب والعَلاقات والأفكار المجرَّدة التي يدركها العقل لا الحواس. ولقد كانت هذه بعينها هي الفكرة المسيطرة على عقل أفلاطون، غير أنه ابتدع للتعبير عن المفاهيم المجردة لفظ «الصور»، بدلًا من أن يستخدم لفظ «التصور concept» الذي يشيع بيننا الآن. ولمَّا كان الطريق الذي يشقه جديدًا كل الجِدَّة، لا بالنسبة إلى الفكر اليوناني فحسب، بل بالنسبة إلى الفكر الغربي بوجهٍ عام، فقد كان من الطبيعي أن يتطرف في تأكيد الطابَع التجريدي للصور، وأن يصل به الأمر — إمعانًا في فصلها عن المحسوسات المتغيرة — إلى أن يجعل لها عالمًا مستقلًّا قائمًا بذاته.٣ فالمُثل الأفلاطونية ما هي إلا «المعقولات»، وقد تأكَّد طابَعُها التجريدي إلى حد القول بوجودها قائمةً بذاتها، مستقلةً عن الكثرة المتغيرة، بل عن الذهن المدرك ذاته، ومن هنا جعلها أفلاطون — بطريقة أسطورية — توجد في عالم خاص مقابل لعالمنا هذا وسابق عليه ومستقل عنه، هو عالم المُثُل.

هذا الرأي في تفسير نظرية المُثل الأفلاطونية يجعل من هذه النظرية تعبيرًا مبكرًا عن طبيعة المفاهيم العلمية، وعن تلك العملية التي تتم بها المعرفة في الذهن، وأن يكون ذلك تعبيرًا اكتسب طابَع التطرف، شأنه شأن كل تعبير رائد عن حقيقة لم تألفها الأذهان بعد. فإذا صح هذا التفسير، كان معناه أن أفلاطون لا يختلف كثيرًا عن المثاليين المُحدَثين في تأكيدهم للعنصر العقلي الكامن في طبيعة الكون ذاته، وفي محاولتهم تفسير العالم من خلال مقولات ذهنية معينة. ولكن هل يحق لنا بالفعل أن نُضفيَ على آراء أفلاطون هذا الطابَع المثالي الحديث؟

إن المثالية الحديثة، حين ترفض المحسوسات بوصفها «مظاهر»، ترد هذه المحسوسات إلى معطيات للوعي، لا وجود لها خارج الذهن، فهي إذَن ترفض ما تتصف به هذه المحسوسات من حقيقة خارجية «مزعومة»، وتؤكد دور الذهن في تكوينها. أمَّا أفلاطون فإنه يسلب المحسوسات كل عنصر ذهني. وهو لا يأبه كثيرًا بنفي صفة «الخارجية» عن الظواهر المحسوسة كما تفعل المثالية الحديثة — لأن كل ما يهمه هو أن يسلبها صفة الوجود الحقيقي، ويؤكد أنها لا تكون موضوعًا للمعرفة. ومن المؤكد أنه لو كان قد طاف بذهنه احتمال أن تكون المحسوسات تركيبات ذهنية ذاتية يُنسب إليها — باطلًا — وجود موضوعي، لَرفض هذا الاحتمال على الفور، لحرصه الشديد على حرمان المحسوسات من أي عنصر ذهني.

ومن جهة أخرى، فإن المثال الأفلاطوني لا يشترك مع «الفكرة» كما تفهمها المثالية المحدثة، إلا في اللفظ idea فقط. فالفكرة في نظرنا موضوع ذهني، وهي المقابل العقلي لعالَم الأشياء، ووجودها لا يُتصوَّر بدون وجود العقل ذاته. أما عند أفلاطون فنجد على الدوام تأكيدًا لاستقلال المثال عن الذهن الذي يعرفه، لا عن الأشياء المحسوسة التي تشارك في ذلك المثال فحسب. وبعبارة أخرى، ففي المثالية الحديثة تُردُّ الحقيقة والوجود معًا إلى الفكر، أما في الأفلاطونية فإن المثال يصبح هو ذاته حقيقة ووجودًا مطلقًا يخضع له الفكر. ففي الأفلاطونية نغمة واقعية واضحة، ولكنها ليست واقعية الأشياء أو المحسوسات، وإنما هي واقعية المثل أو المعقولات.
ولقد حرَص «تيلور» على تأكيد الفارق بين الأفلاطونية والمثالية الحديثة تأكيدًا قاطعًا، فقال: «إن نظرية أفلاطون في المثل ideas بوصفها الموضوعات الحقيقية للمعرفة، ليست على الإطلاق مذهبًا في المثالية Idealism، بالمعنى الحديث لهذه الكلمة. فهو يطلق على تصورات العلم اسم المثل. لا لشيء إلا لأنها تكون الصور أو الأنماط التي يشيد على أساسها عالم الأشياء؛ إذ إن كلمة idea (eidos) لا تعني إلا «الشكل» و«الصورة» فحسب. وإن مقصد أفلاطون ليفوتنا تمامًا لو أننا سمحنا لرأي باركلي في «الفكرة doxa»، من حيث هي حالة للذهن، بأن يؤثر في تفسيرنا له. فالرأي القائل بأن المثال idea شيء لا يوجد إلا في داخل «نفس»، وبالتالي فهو «فكرة» لا يظهر في كتابات أفلاطون إلا مرة واحدة، في إحدى فقرات محاورة «بارمنيدس»، وهو لم يعرض فيها إلا لكي يرفض على الفور؛ ذلك لأن المُثل عند أفلاطون ليست «حالات» للذهن العارف، وإنما هي موضوعات متميزة ومستقلة عنه، تكون للذهن معرفة «عنها»، وعلى ذلك فإن اسم الواقعية التصورية  conceptual realism أفضل وأقل غموضًا بكثير من اسم «المثالية»، للتعبير عن ذلك النوع من المذهب الذي كان أفلاطون أشهر مدافع عنه.»٤
ولقد حاولَت بعض المذاهب المثالية أن تجعل من الأفكار صورًا في الذهن الإلهي، وكان هذا الرأي — بدوره — واضحًا عند باركلي. ولكن أفلاطون يجعل من المُثل معايير يقبلها مدبر الكون ذاته. وإذا كان «مثال الخير» عند أفلاطون هو أقرب الأفكار لديه إلى معنى كلمة «الله» كما يفهمها الإنسان الحديث، فمن المؤكد أنه لم يقبل الفكرة القائلة إن مثال الخير يخلق المثل الأخرى من العدم، بل إن هذه المثل هي المقاييس التي يستخدمها في تنظيم الكون، وهي مستقلة عنه وإن كانت خاضعة له.٥

وإذن فهناك عقبات أساسية تعترض طريقة التفسير التي أوردناها من قبل، والتي تحاول أن تجعل من المُثل الأفلاطونية تعبيرًا عن المعقولية الكامنة في العالم، وإن كان ذلك تعبيرًا اتخذ في ظاهره صبغةً أسطورية متطرفة. ومن المؤكد أن هذا التفسير، الذي تعترضه كل هذه العقبات، يبدو أكثر إرضاء للعقل؛ لأنه على الأقل يجعل نظرية المُثل أقرب إلى عقولنا، وينفي عنها ذلك الطابَع الأسطوري الذي يرتبط بالتأكيد الحرفي لوجود «عالم المُثل»، ويجعل هذا العالم كامنًا في عالمنا الفعلي، أو في أذهاننا من حيث إنها هي التي تُضفي النظام والمعقولية على العالم الفعلي، ومع ذلك فإن إرضاء العقل ينبغي ألا يتم على حساب الشواهد العديدة التي تثبت أن المُثل الأفلاطونية كانت مقصودةً بمعناها الحرفي الذي ينفر منه العقل الحديث. والحق أنه لو كان قصد أفلاطون الحقيقي هو التعبير بطريقة أسطورية عن الطبيعة المجردة للتصورات العقلية، لَما كان في ذلك مختلفًا عن أرسطو إلا في طريقة التعبير فحسب، ومع ذلك فمن المعروف أن ثورة أرسطو على فكرة المُثل الأفلاطونية لم تَكُن تهدف إلَّا إلى تفسير المُثل على أساس أنها هي التصورات المجردة عن كل عنصر محسوس. فلم يكن لهذه الثورة معنًى إذَن لو كان هذا الهدف هو الذي اتجه إليه أفلاطون منذ بداية الأمر.

والواقع أن الفارق بين الموقفَين فارق حاسم؛ فحين تكون المُثل تعبيرًا عن المبادئ المعقولة الكامنة في العالم ذاته، يكون تفسيرها على هذا النحو غير متعارض مع التفسير العلمي للظواهر على الإطلاق. أما حين تكون المُثل منتميةً إلى عالمٍ خاص بها، وحين نؤكد استقلالها التام عن هذا العالم وعلوها عليه، وحين تكون معرفتنا بظواهر هذا العالم «تذكرًا» للمُثُل بالمعنى الحرفي للكلمة، فإن هذا المعنى يغدو حائلًا دون التقدم العلمي، ويصبح التخلص منه أمرًا ضروريًّا لتحقيق سيطرة العقل في مجال المعرفة. ولو أننا نظرنا إلى الفكرة في ضوء السياق العام لآراء أفلاطون عن العلم كما عرضناها في الفصل السابق — لأصبح التفكير الأخير مرجحًا إلى حدٍّ بعيد. فأفلاطون لم يَكُن يعترف بكل ما نسميه الآن «علومًا»، وإنما كان يدرجها في باب المعرفة الظنية. والعلم الوحيد الذي كان يحمل له الاحترام هو الرياضيات، والفلك بدرجة أقل. ومع ذلك فقد كان احترامه لهذين العِلمَين يختفي بمجرد أن يقترب أولهما من العالم المحسوس لاستخلاص نماذج منه تُعِين على فَهْمه، وبمجرد أن يعتمد ثانيهما على عنصر المشاهدة والملاحظة. ومثل هذا الفصل القاطع بين عالم العقل وعالم الأشياء يوحي بأن أفلاطون لم يَكُن ليقبل الرأي القائل إن المُثل ليست إلا تعبيرًا عن عنصر المعقولية في العالم الذي نعيش فيه.

إن التفسير الأقرب إلى الواقع هو أن أفلاطون أراد من المثل أن تكون أنموذجًا من الثبات والأزلية يحتذيه العقل في فَهْمه للواقع المتغير ولا جدال في أن لفكرة الثبات ارتباطات قوية في ذهن أفلاطون، منها ما هو نظري بحت، ومنها ما هو اجتماعي وسياسي.٦ والأمر الذي يكاد يكون مؤكدًا هو أن رغبة أفلاطون في إيقاف التغيُّر، وحملته على الحركة والصيرورة، هي التي دفعته إلى اتخاذ هذا الموقف المتطرف، وإلى وضع عالم المُثل في مقابل عالم الواقع المتغير. وعلى هذا الأساس تبدو نظرية المُثل أقوى تعبير عن أزلية القانون الذي يتحكم في العالم، وينبغي أن يتحكم أيضًا — بنفس الثبات والصرامة — في عالم الإنسان، لكي يحقق فيه نظامًا يضمن القضاء على كل تغيُّر، ويحفظ لكل موجود وجوده على ما هو عليه.

وإذا شئنا أن نزيد الفكرة السابقة إيضاحًا، لَقلنا إن المعقولية عند أفلاطون ليست هي القانون الكامن في حركة التغيُّر ذاتها، وإنما هي قانون يُفرض على هذه الحركة من الخارج، ويقضي على عنصر التحول والصيرورة فيها. وعلى حين أننا ننظر اليوم إلى القانون العلمي على أنه هو التعبير المنظم عن مبدأ التغيُّر ونظامه في الظواهر ذاتها، فإن أفلاطون كان يريد من العقل أن يتجاوز هذا المبدأ، الذي هو في رأيه مبدأ «عرَضي»، ليصل إلى ما يوجد وراءه من ثبات ودوام. صحيح أننا اليوم لا نذكر وجود نوع من الثبات في القانون العلمي — وهو الثبات الذي لا بدَّ منه لضمان موضوعية ذلك القانون واتفاق الأذهان عليه، بل لمجرد إمكان معرفته — غير أننا نستمد ذلك الثبات من صميم العَلاقات التي تُعبِّر عن إيقاع الحركة والتغيُّر في الظواهر. ومن جهة أخرى فنحن لا نربط هذا الثبات «بالأزلية»؛ إذ نؤمن بأن معرفتنا بدورها خاضعة لمنطق التغيُّر، وبأن من أسس الرُّوح العلمية أن نترك المجال مفتوحًا لأي تطور يطرأ على فَهْمنا للعالم، وهو تطور لا ينبعث في أذهاننا تلقائيًّا، وإنما ينشأ عن ذلك الرجوع الدائم إلى الظواهر، والاتصال المستمر بين الذهن العارف وبين الواقع، ومحاولة زيادة فهمنا له دقة على الدوام. وإذن، فما زال العقل البشري يربط بين إمكان المعرفة وبين وجود نوع من الثبات في القوانين التي يتعامل بها عقله مع العالم، غير أن هذا الثبات كامن في قلب الواقع المتغير نفسه ومستمد منه، وهو ليس على الإطلاق نظامًا أزليًّا يفرضه عليه عقل مترفع عن عالم الأشياء ومنفصل عنه انفصالًا قاطعًا. وبالاختصار، فإن أفلاطون إذا كان قد أراد من نظرية المُثل أن تُعبِّر عن طبيعة النظرة العقلية إلى العالم، من حيث إنها تتخلى عن الطابَع العرَضي للظواهر المتغيرة، وتعلو على التقلبات العشوائية للأذهان الفردية أو للأحوال المتغيرة في الذهن الواحد، فإنه قد تطرَّف في تأكيده هذا إلى الحد الذي يجعل من المُثل عنده عائقًا في وجه المعرفة العلمية لا تعبيرًا أصيلًا عنها.

(٢) تشبيه الكهف

في مطلع الكتاب السابع من محاورة الجمهورية يعرض أفلاطون تشبيهًا مشهورًا نستطيع أن نَعُده قمة للمحاورة بأسرها، بل لمذهب أفلاطون بوجهٍ عام، وربما كان تلخيصًا لتراثٍ فلسفي كامل؛ ذلك لأن فلسفة أفلاطون تبلغ قمتها في مثال الخير، الذي هو حد أعلى تقف هذه الفلسفة إزاءه في تعجُّب وحَيرة، ويخوض أفلاطون بحثه في مثال الخير بحذرٍ شديد، وكأنه موضوع مقدس لا ينبغي — ولا يمكن — الاقتراب منه إلا في حدود مُعيَّنة لا يستطيع العقل البشري تجاوزها. فما أشبه لهجته حين يتحدث عن الخير باللاهوت السلبي الذي يكتفي بالصفات السلبية للألوهية تأكيدًا لعلو الفكرة على الأفهام، أو يستدل على صفات الخالق من مخلوقاته، تعبيرًا عن استحالة الوصول إلى هذه الصفات بطريق مباشر.

ولقد أورد أفلاطون في الكتابَين السادس والسابع سلسلةً من التشبيهات تُكوِّن كلها حلقة متكاملة، هي تشبيه الشمس، والخط، والكهف. كل هذه التشبيهات لا تهدف، في واقع الأمر، إلا إلى محاولة الاقتراب من طبيعة هذا المبدأ الأسمى الذي لا يتناوله أفلاطون إلا بتبجيلٍ وتقديس شديدَين، فهو يشبه الخير بالشمس، ويشبه العالم الذي يدين بوجوده للخير بالأشياء التي تتلقى نور الشمس ولا ترى إلا بفضله، أمَّا العقل الذي هو وسيلتنا إلى معرفة الخير فهو أشبه بالعين التي هي العضو المختص برؤية النور في الإنسان. وفي تشبيه الخط يعرض أفلاطون المراحل المتدرجة للمعرفة، التي تبدأ بمعرفة ظلال الأشياء الفعلية، وتنتهي إلى تعقل المثل الخالصة، وعلى رأسها الخير.٧
ومن المعترف به أن تشبيه الكهف امتداد لهذين التشبيهَين السابقَين، بل إنه في رأي بعض الشرَّاح يكون معها، ولا سيما تشبيه «الخط»، وحدةً واحدة، وتشبيهًا واحدًا.٨ فالهدف من هذه التشبيهات كلها واحد، وهو أن يشرح بطريقة مجازية ذلك الموضوع الذي لا يمكن فَهمُه بطريقة مباشرة، والذي هو مع ذلك مصدر كل معرفة حقيقية، وكل وجود حقيقي، وهو فضلًا عن ذلك الأنموذج الذي لا يكون بدونه حكم صحيح للدولة، أو تربية سليمة للفرد. ومع اعترافنا بأن تشبيهات النور (أو الشمس) والخط والكهف تكون كلها وَحدةً واحدة، أو حلقة متصلة في تشبيهٍ واحد يزداد إحكامًا ودقة بالتدريج، فإنا نستطيع أن نلمح مع ذلك نوعًا من التخصص في كل من هذه الشبيهات، أو نوعًا من الحركة الديالكتيكية بينها؛ ذلك لأن تشبيه الشمس يتعلق بالموضوع نفسه أي بمحاولة الاقتراب من الخير ذاته من خلال أقرب الأمثلة إليه، وهو الشمس. وتشبيه الخط يتعلق بالذات التي تعرف هذا الموضوع؛ أي بدرجات المعرفة التي يمر بها ذهن الإنسان في انتقاله من الجهل التام إلى المعرفة العقلية الخالصة التي هي وسيلته إلى معاينة الخير. أما تشبيه الكهف فيتعلق بالذات والموضوع معًا؛ إذ إنه يتحدث عن حالات العارف في انتقاله من الجهل إلى العلم، أو من انطماس العقل إلى استنارته، كما يتحدث عن درجات الوجود ذاته، أي عن المراتب المتدرجة للواقع، من اللاوجود كما تمثله الظلال إلى الوجود الكامل كما ترمز إليه الشمس. ومعنى ذلك أن تشبيه الكهف مركب من التشبيهَين السابقَين، يجمع بين المعرفة وموضوعها في وحدة واحدة، ويواصل مهمة تشبيهَي الشمس والخط، ولكن على مستوى أعلى وأعقد.
لقد كان من الطبيعي أن يوحيَ تشبيه الكهف، في تَعقُّده وتعدُّد جوانبه، بتفسيرات متعددة. فمن الممكن أن يفسر تفسيرًا سياسيًّا، على أساس أنه يشير إلى الفارق بين معرفة الفيلسوف — الذي هو جدير بحكم الدولة — ومعرفة أولئك الذين يحتاجون إلى الفيلسوف لكي يقودهم إلى النور. ومن الممكن أن يفسر — كما قال أفلاطون ذاته في مستهل التشبيه — من خلال فترة الاستنارة Paideia والافتقار إلى الاستنارة apaideusia وهو التفسير الذي يقول به «يیجر»، بل يتخذ منه عنوانًا لكتابه المشهور عن المُثل العليا للحضارة اليونانية.٩ وتبعًا لهذا التفسير يكون تشبيه الكهف أشبه بمقارنة بين نمطَين من الحياة: حياة تفتقر إلى الاستنارة، مع الظلام داخل الكهف، وحياة مستنيرة تدرك حقائق الأشياء في ضوء الشمس. وهو بالتالي مقارنة بين نوعين من القيم، لا يعد أحدهما وجهًا سلبيًّا للآخر فحسب، بل يعد حالة فعلية يعيش فيها أغلب البشر ويدافعون عنها بكل ما أوتوا من قوة، ويضطهدون كل من يحاول انتشالهم منها، أي إنه حالة إيجابية منحرفة، يجد فيها الناس رضاءً فعليًّا، ويستمتعون فيها بملذات خاصة تقف في مواجهة المتعة التي يجدها الفيلسوف في حياته ويستمدها من قيمه. ففي الكهف إذَن نظام متكامل يعمل على إرضاء هذا المزاج المفتقر إلى الاستنارة، والدفاع عن قيمه ضد كل نزوع فلسفي إلى الحقيقة. وبالاختصار، فالكهف يصور الصراع الأزلي بين قيم الحياة الفلسفية وقيم الحياة اليومية السطحية، وهو صراع قد يدور في داخل الفرد نفسه مثلما يدور بين فئات من البشر.

على أن التشبيه ينطوي — في رأينا — على عنصر آخر لا يقل أهمية عن العناصر السابقة، هو المقارنة بين مستويات الواقع، وهي مقارنة تنتمي إلى صميم الميتافيزيقا، بل إنها ربما كانت أوضح تلخيص لنمط كامل في التفكير الميتافيزيقي كان له أكبر الأثر في تحديد مجرى التفكير الفلسفي التقليدي بأسْره. فلنحاول إذن كشف هذا الوجه من أوجه تشبيه الكهف، واستخلاص ما له من دلالة ميتافيزيقية كبرى.

كان الكهف موضوعًا يتردد طَوال تاريخ الأساطير والعقائد البشرية. فللكهف، من حيث هو تكوين مادي، قدرة فريدة على إثارة خيال الإنسان، وهي قدرة تتجلى بصورة متكررة في ضروبٍ شتى من أساطير الإنسان وفنونه وآدابه. فمنذ أبعد عصور التاريخ، نجد الكهف مكانًا ملائمًا للوحي، وللرؤيا.١٠ والكهف رمز واضح لحاجة الإنسان إلى الحماية والمأوى والشعور بالاطمئنان من أخطار العالم الخارجي، ولكن فيه، من ناحية أخرى، من الغموض ما يجعله مصدرًا دائمًا للإلهام، ومدخلًا مفضلًا ينتقل به خيال الإنسان من العالم الطبيعي إلى عالم ما فوق الطبيعة.
ولقد أشار «شول Schuhl» إلى تلك الأبحاث التي ثبت فيها أن من الممكن مقارنة عناصر الكهف الأفلاطوني بمسرح الظل في الشرق الأقصى، واقتبس قولًا لأحد الباحثين، مفاده أن عرض مسرح الظل في الهند كان يتم في كهوف. وهو يستدل من ذلك على أن أفلاطون كان يصف في تشبيهه هذا منظرًا يؤلف على الأرجح جزءًا من شعائر دينية كتلك التي تؤدي بعد بلوغ مرحلة السلوك في عبادات الأسرار القديمة.١١ ومع ذلك فربما كان مصدر التشبيه أعمَّ من هذا بكثير؛ ذلك لأنه إذا كان الكهف رمزًا لحاجة الإنسان إلى المأوى، فقد كان الطبيعي أن يلجأ إليه الإنسان، منذ أقدم العصور، ملتمسًا فيه الأمن والطُّمأنينة. وأغلب الظن أن ظروفًا طبيعية متعددة كانت تُرغِمه على أن يلتزم كهفه فترات طويلة لا يبارحه. وخلال هذه الفترات الطويلة كان من الطبيعي أن يوقد النار التماسًا للدفء أو درءًا لغائلة الوحوش، أو تبديدًا لظلام الكهف الدامس. ومن المؤكد أن هذه النار كانت تبعث داخل الكهف ظلالًا تُثير مُخيِّلة الإنسان، فيبدو له الكهف أشبه بعالمٍ صغير فيه كائنات ذات أشكال شتى. فإذا ما عاد، في فترات الأمن النسبية، إلى العالم الخارجي، وغادر كهفه طلبًا للغداء، تكونت لديه فكرة ازدواج العالم بين الواقع الخارجي وبين ظلال الكهف التي هي صدًى مصغر لهذا الواقع.

تلك إذَن صورة نستطيع أن نقول إنها كامنة — بمعنًى ما — في اللاشعور الجماعي للإنسانية، وهي تتجسد من آنٍ لآخر في شكل أسطورة أو قصة أو قصيدة أو لوحة أو تمثال.

ويرجع انتشار الفكرة التي تُعبِّر عنها هذه الأسطورة إلى سهولة الرموز المستخدمة فيها، بحيث كان كل مفكر يجد فيها ما يريد، وكانت الأسطورة ذاتها تقبل أشد التفسيرات تنوعًا ومرونة. ففي كل عصر يستشعر الإنسان فيه القلق من موقفه، ويحس فيه بعدم الرضا عن الأوضاع التي يعيش فيها، كان يلجأ مرة أخرى إلى الكهف، فيلتمس في أسطورته تعبيرًا عن اتجاهه إلى الرفض. وبالفعل كانت الأسطورة ترتبط — في معظم الأحيان — بمعنى الرفض، وتزدهر في كل وقت يصطدم فيه الإنسان بعقبات لا يدري كيف يتغلب عليها، ويحس فيه باختلال التوازن بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي المحيط به. ولكن تصوير أفلاطون لهذه الأسطورة ربما كان أروع الأمثلة التي تجسدت فيها صورة الكهف؛ إذ إنه استطاع، بقدرته على الجمع بين النزعة الشعرية والمزاج الفلسفي، أن يلتقط هذه الصورة، ويرتفع بها إلى مستوى الموقف الفلسفي العميق.

ففي كهف أفلاطون، يدخل السجناء المقيدون بالأغلال في شتى أنواع العَلاقات مع الظلال، ولا تكون لديهم، وبالتالي، إلا معرفة بالظواهر. ولا يبدأ الإنسان في تذوق طعم العلم الحقيقي إلا إذا خرج من سجنه، أي من الكهف، وشاهد حقائق الأشياء وعاينها مباشرة. وبهذا المعنى يكون التشبيه تلخيصًا لقصة الإنسان، الذي تعوقه معرفة الظلال — أي المعرفة الحسية — عن التطلع المباشر إلى الأمور في ضوئها الحقيقي. فإذا ما طُلب إلى الإنسان أن يفتح عينَيه لمواجهة الحقائق، اضطرب في البداية، وظن أن حسَّه أصدق من فكره، ولكنه حين يتغلغل في العالم المعقول يدرك آخر الأمر مدى فداحة الخطأ الذي كان قد تردَّى فيه، ولا يرضى عن النور الذي أصبح فيه بديلًا. فإذا أدركنا أن أفلاطون يُشبِّه عالمنا الذي نعيش فيه بعالم الظلال، لَتبيَّن أنه قد انضم بالفعل إلى أولئك الذين استخدموا صورة الكهف في التعبير عن سخطهم على العالَم المحيط بهم، وتطلعهم إلى عالَمٍ مخالف؛ ذلك لأن هناك صلةً مباشرة بين كراهية الإنسان لعالَمه واحتجاجه عليه ورفضه له، وبين سعيه إلى أن ينزع عن هذا العالم كل دلالة حقيقية، ويرى فيه مجرد أشباح وظلال. فتلك العناصر التي تؤلمني في هذا العالم لا وجود لها، وهذه الآلام التي تنتابني لا توجد بحق، وهذه الأخطار التي تحيط بي، وهؤلاء الأعداء الذين يهددونني، كل هؤلاء ليس لهم وجود حقيقي. وهكذا نستطيع أن نقول إن صورة الكهف عند أفلاطون قد خلقت التمييز الفلسفي الأساسي بين المظهر والحقيقة appearance and reality وأكدت أولوية عالم الأفكار فوق عالم المحسوسات، الذي كان مكروهًا دائمًا لارتباطه بأوضاع أليمة يعيش فيها الإنسان. ولمَّا كان التمييز بين المظهر والحقيقة، وتأكيد أولوية عالم الأفكار، يمثل العنصر الأساسي في الميتافيزيقا بصورتها التقليدية، فمن الممكن القول بمعنًى مُعيَّن إن صورة الكهف هي أساس كل ميتافيزيقا.

على أن هذه الميتافيزيقا التي خلقت العالم فوق المحسوس ليست، كما أوضحنا، سوى تعبير عن كراهية الإنسان للعالم المحسوس ورفضه له. وهذا العالم الذي خلقه الإنسان وأضفى عليه كل صفات الكمال؛ هذا العالم الثابت، المثالي الذي جمع كل صفات الخير، لم ينشأ إلا بوصفه النقيض الفكري لعالم واقعي يعيش فيه الإنسان فعلًا ويتصف بعكس هذه الصفات. وهكذا يبدو أن أكثر المواقف الفلسفية إغراقًا في المثالية لم ينشأ إلا في ظل أكثر أحوال الحياة ابتعادًا عن المثالية، بل يبدو أنه كلما أمعن الإنسان في الابتعاد بفكره وفلسفته عن الواقع والعلو عليه، وكلما ازدادت المذاهب العقلية التي يشيدها بعدًا عن المحسوس وسموًّا عنه، كان الواقع الذي يعيش فيه أبعد عن أحلامه عن الصورة التي ترسمها مُخيِّلته للعالم، وكان التوازن بين الإنسان وبين عالمه أشد اختلالًا.

وعلى حين أن هذا العالَم الفكري المثالي الذي يُبدعه عقل الفيلسوف هو من خَلْق الرُّوح البشرية وحدها؛ أي إنه هو الأحق بأن يُعَد عالَمًا وهميًّا، فإن العَلاقة بينه وبين العالم الواقعي المحسوس تنقلب في الأسطورة: فيصبح هذا العالم المحسوس هو الوهمي؛ لأنه كما قلنا حافل بالألم، ويصبح العالم المعقول هو الحقيقي؛ لأن آمال الإنسان وجميع نزعاته التعويضية قد تركزت فيه. وإذا كانت الميتافيزيقا الغربية قد أسهمت بشيء طَوال تاريخها الذي دام خمسة وعشرين قرنًا منذ أفلاطون، فإن إسهامها هذا قد تركز في دعم تلك العَلاقة المعكوسة، أي تأكيد حقيقة عالم العقل الذي تخترعه الرُّوح، ووهمية عالم الواقع والحس الذي يجد الإنسان نفسه فيه بالفعل. وإذا كان فلاسفة الغرب قد قنعوا بذلك واكتفَوا به، فليس أوضح من ذلك دليلًا على انتصار أفلاطون.

على أن هناك تفسيرًا آخر لصورة الكهف نستطيع أن نسميَه بالتفسير غير المباشر، لم تَكُن فكرته المركزية هي احتقار العالم المحسوس كما في التفسير السابق، أي إنه لم يَكُن سلبيًّا مثله، وإنما كان له طابَع وهدف إيجابي؛ هو استخدام الأسطورة وسيلة لإثبات الطبيعية الحقيقية للعلم. ونستطيع أن نقول إن هذا الهدف كان بدوره في ذهن أفلاطون حين استخدام الأسطورة، ولكن لم تكن له أهمية الهدف السابق، ولا يمكن أن ينسب إليه إلا بطريق غير مباشر.

ففي الأسطورة إشارة هامة إلى طبيعة المعرفة، التي لا تحصل إذا اكتفى المرء بما يراه فحسب، بل ينبغي أن تتجاوز مجال المحسوسات المباشرة، وأن يفترق العالم في نظرته إلى الأمور عن الرجل العادي في اكتفائه بالسطح الظاهري للعالم فحسب. لقد كان اكتفاء الناس بما يرونه فعلًا، في مجال العلم، هو الذي جعلهم يعتقدون مثلًا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، ويحاربون الرأي الصحيح فترة طويلة، على حين أن مكتشفي النظرة الجديدة إلى العَلاقة بين الأرض والشمس كانوا يتبعون تعاليم أفلاطون في الأسطورة حين لم يكتفوا بالمظهر الذي يرونه فعلًا للعالم. فمن طبيعة المنهج العلمي أنه يقتضي نوعًا من التحرر مما تأتي به الحواس. ولسنا نعني بذلك أن العالم ينبغي عليه أن ينكر على الدوام شهادة الحواس، وإنما نعني أن عليه أن يقارن بين مختلف إدراكاته الحسية، وأن يحكم عقله فيها، وألا يكون خاضعًا للمظهر الذي تتبدى عليه في كل الأحوال. وهكذا يمكن القول إن أفلاطون قد عبَّر عن شرط ضروري من شروط الرُّوح العلمية في هذه الأسطورة، وإن كان قد تطرَّف في تأكيد التضاد بين عالم الأفكار العلمية وبين العالم المحسوس إلى حدٍّ تأباه الرُّوح العلمية السليمة. فهذه الرُّوح العلمية توافق على رأي أفلاطون القائل إن الفكرة التي يكوِّنها الذهن عن الظواهر، وليس المظهر الذي تتبدَّى عليه هذه الظواهر للحواس، هي الموضوع الحقيقي للعلم، ولكنها لا توافق على رأيه القائل إن الفكرة وحدها في الحقيقة، بينما العالم المحسوس وهم. كذلك تقبل الرُّوح العلمية رأي أفلاطون القائل إن الأشياء الفردية، بما تتميز به من تنوُّع وتغيُّر دائمَين، لا يمكن أن تخلق أيَّ علم، بل ينشأ العلم بالتعامل مع أفكار هذه الأشياء، وهي أفكار عامة تلخص القيم الثابتة للأشياء المتغيرة. ولكن العلم لا يقبل رأي أفلاطون القائل إن الأفكار توجد خارج العالم المحسوس، وإنها هي سبب وجوده، وبالاختصار، فالرُّوح العلمية لا تجد نفسها مضطرة، لكي تثبت وجود الحقيقة، إلى أن تقول إن هذه الحقيقة تكون عالَمًا قائمًا بذاته، سابقًا لهذا العالم ومستقلًّا تمامًا عنه، كما قال أفلاطون، بل هي تعترف بأن لهذه الحقيقة طبيعة فكرية، وبأن ما فيها من أفكار قد استُخلصت من هذا العالم الواقعي بجهد متدرج.

وما دمنا قد تحدثنا عن الجهد الذي يحتاج إليه استخلاص الأفكار، فمن واجبنا أن نلاحظ أن أفلاطون قد أشار فعلًا إلى هذا الجهد في الأسطورة، حين تحدث عن الصعوبة التي يلاقيها سجين الكهف عندما يخرج إلى العالم الحقيقي، وعن المقاومة التي يبديها أول الأمر لعملية التنوير التي يمر بها، وفي هذا إدراك صحيح للمجهود الذي يقتضيه العلم من الباحث. وهو مجهود يشهد به كل كشف علمي له قيمة.

•••

فإذا انتقلنا الآن إلى نقد تشبيه الكهف كما صاغه أفلاطون، لَوجدنا أن هناك ضعفًا أساسيًّا في بناء هذا التشبيه؛ فالمفروض أن هناك توازيًا كاملًا بين الصورة التي يرسمها وبين الانتقال من العالم المحسوس إلى العالم المعقول. ولكن الواقع أن هذا التوازي غير دقيق؛ فالسجين الذي يغادر الكهف إلى عالم النور الحقيقي، ينتقل من مكان إلى مكان آخر لا فرق بينه وبين الأول إلا في الدرجة فقط؛ أي إن كل ما يحتاج إليه السجين في هذا الانتقال هو تعويد حواسه على الضوء الزائد في العالم الحقيقي، وهو لا يختلف عن الضوء الخافت في عالم الظلال إلا في الشدة فحسب، ونفس الحواس التي كانت كفيلة بأن ترشده في عالم الظلال تستطيع أيضًا، بشيء من التدريب، أن ترشده في العالم الحقيقي. أما الوجه الآخر من الصورة التي أراد أفلاطون أن يرسُمها، وهو الانتقال من العالم المحسوس إلى عالم المُثل، فيختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهو انتقال إلى عالم لا تنفعنا فيه حواسنا على الإطلاق، ويوجد بينه وبين العالم الأول فارق أساسي في الكيف ويحتاج إلى تغيير كامل لكل أداة يستخدمها الإنسان في المعرفة. وعلى حين أن الحواس في حالة أسطورة الكهف سرعان ما تتأكد من أن العالم الجديد الذي انتقلت إليه هو الأكثر حقيقة، فإن الانتقال في الحالة الثانية إلى العالم المعقول يكون انتقالًا إلى عالم من الأفكار التي لا تمثل شيئًا إلا نفسها. وإذا كان الصعود إلى رؤية الأشياء الحقيقية يزيد السجين المتحرر التصاقًا بالواقع وإدراكًا لحقيقته، فإن الصعود إلى عالم الصور أو المُثل الأفلاطونية يبعد الذهن عن الواقع ويفقده صلته به، ويفصله في عزلة زاهدة عن عالم الناس وعالم الأشياء.

ومع ذلك فقد تصوَّر أفلاطون أن التوازي تام بين الحالتَين، وبالتالي أن عالمه المثالي أكثر حقيقة بدوره، وتبعه في ذلك الفكر الغربي في أساسه، فنجم عن ذلك انقلاب أساسي في الأوضاع، تصوَّر فيه المفكرون أن الحقيقة وَهْم وأن الوهم هو الحقيقة، وأن المعقول المجرد الذي يفكر فيه الإنسان أكثر حقيقة من المحسوس العَيني الذي يراه ويلمسه، وبالاختصار، إن الماهية أكثر حقيقة من الوجود. وعلى أساس هذه الأوضاع المقلوبة شيدت مذاهب فلسفية بأسرها في الفكر الغربي، وبذلك يمكن القول، بمعنًى مُعيَّن، إن السجين الذي لم يكتفِ بظلاله وبعالمه الضيق، قد انتقل بالفعل إلى عالم أضيق وأقل حقيقة منه، وخلق لنفسه أصنامًا عبدَها بمحض إرادته واختياره.

١  Abel Rey: La maturité de la Pensée scientifique en Grèce, pp. 233-234.
٢  Ibid., pp. 236, 340–342.
وانظر أيضًا:
Caird: The Evolution of Theology in the Greek Philosophers, 1904, Vol. 1, p. 93.
٣  E. Havelock: Preface to Plato, pp. 262–264.
٤  A. E. Taylor: The Mind of Plato, pp. 43-44.
٥  انظر الشرح الذي قدمه روس W. D. Ross للعَلاقة بين مثال الخير وبقية المثل في كتاب: Plato’s Theory of Ideas, pp. 41–43.
٦  انظر مثلًا تفسير «سارتون» لفكرة الثبات عند أفلاطون على أساس نزعته المحافظة. (History of Science, Vol. 1, p. 410).
٧  انظر الجزء الأخير من الفصل السابق.
٨  N. R. Murphy: The Interpretation of Plato’s Republic, Oxford, 1960, p. 156.
٩  انظر أيضًا العرض الجيد الذي قدمه الدكتور عبد الغفار مكاوي لوجهة النظر هذه في مقال عنوانه «كهف أفلاطون» بمجلة «المجلة»، عدد أكتوبر ١٩٦٦م.
١٠  يعد «غار حراء» أوضح مثل لخاصية الكهف هذه، في تاريخ الحضارة الإسلامية. وتنتهي قصة «أهل الكهف» إلى نفس التراث، وإن كانت تصف حادثًا أقدم عهدًا.
١١  Pierre-Maxime Schuhl: La fabulation Pilatonicienne, Paris (P.U.F.), 1947, p. 60.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤