أفلاطون بين الفلسفة والفن

يصف مؤرخ الفلسفة الكبير «تسلر» مدينة أفلاطون المُثلى كما رسمها في محاورة الجمهورية بأنها عمل فني فحسب، لا يصمد أمام تنوع الحياة الواقعية ومرونتها.١ ومن الجائز بالفعل أن هذه المدينة المُثلى كانت تبعد عن الواقع إلى حد يتوهم المرء معه أنها وليدة الخيال الفني عند خالقها فحسب. ومع ذلك، ففي هذا الرأي تناقض أساسي؛ إذ إنه ينطوي ضمنًا على افتراض أن الفن عند أفلاطون منفصل عن الواقع العملي، وليس له غرض إلا إرضاء الخيال المحض. ولكن الواقع أن أفلاطون قد أخضع الفن للاعتبارات العملية وباعد بينه وبين مجال الخيال البحت. فكيف إذن تكون صورة الدولة عنده خاضعة لمقتضيات الفن، في الوقت الذي كان فيه الفن ذاته خاضعًا لمقتضيات الدولة؟ وكيف تكون السياسة كما رسمها أفلاطون لمدينته المُثلى مجرد عمل فني، في الوقت الذي كان يدعو فيه إلى أن يكون الفن أداة في يد السياسة؟ لا يمكننا أن نُنكر أن رأي «تسلر» هذا ينطوي على تناقض أساسي. ومع ذلك فإن جذور هذا التناقض ترجع إلى أفلاطون ذاته؛ إذ إنه ظلَّ مترددًا بين الفلسفة والفن، ولم يستطع أن يتخذ موقفًا نهائيًّا يحدد فيه الجانب الذي ينحاز إليه، بحيث يظل الباحث الأفلاطوني حائرًا على الدوام في تحديد رأيه الحقيقي منهما، فلا يدري إن كان الفن وسيلة لغاية هي الفلسفة، أم أن الفلسفة — بمعنى أعمق — وسيلة لغاية هي الفن. وإذا كان موقف أفلاطون ذاته يبلغ هذا القدر من الغموض، فمن الطبيعي أن يمتد تأثير هذا الغموض إلى كل من يتناول هذا الموضوع.

وستكون مهمتنا في هذا الفصل هي محاولة تحديد موقف أفلاطون بين الفلسفة والفن، وكشف التناقض الأساسي الذي شاب فكره بأسره. وسوف يكون لزامًا علينا أن نستخدم لفظ «الشعر» أحيانًا بمعنًى مرادفٍ للفن بوجهٍ عام؛ إذ إن حملة أفلاطون على الفن قد تركزت بوجه خاص على الشعر، ومع ذلك فسوف نعرض لضروب الفن الأخرى بالقدر الذي يكفي لإيضاح معالم تفكيره وكشف مواطن ضعفه في هذا الميدان.

(١) اعتراضات أفلاطون على الشعر

  • (١)

    في الكتاب الثالث من الجمهورية (٣٩٣-٣٩٢) يُعرب أفلاطون عن رأي غريب في الشعر، يقول فيه إن أسلوب السرد أو الحديث المباشر أفضل من الأسلوب الدرامي الذي ترد فيه الكلمات على لسان شخصيات يصورها الشاعر؛ ذلك أولًا لأن الكثرة في ذاتها شر. ومن هنا كان العمل الشعري الذي ينطوي على كثرة من الشخصيات والمواقف والاتجاهات أسوأ من العمل البسيط الذي يصل إلى هدفه مباشرة. فالشعر غير المتنوع أفضل من الشعر المزدحم بالتنوع والتغيير (٣٩٧). وثانيًا لأن الشاعر الذي يقدم كثرة من الشخصيات لا بدَّ أن يتقمص كلًّا من هذه الشخصيات. فإن كان منها ما هو ضعيف أو جبان أو متخاذل، انتقلت هذه الرذائل بدورها إلى نفس الشاعر؛ لأن النفس تتأثر بالمحاكاة، وتغدو بالتدريج على شاكلة من تحاكيهم. فالشاعر يفقد شخصيته في شخصيات الآخرين، إن جاز هذا التعبير، ولا بدَّ أن يكون قد اكتسب شيئًا من الشر إن كان قد استطاع أن يتحدث بلسان الأشرار ويُحسن التعبير عن مواقفهم. وبعبارة أخرى فالفنان الخالق يحاكي العمل الذي يخلقه، ويكتسب شيئًا من طبيعته، أو يكسبه شيئًا من طبيعته الخاصة، التي ينبغي أن يكون فيها شيء من الشر حين تخلق عملًا ينطوي على عنصر الشر. ومن الواضح أن أفلاطون كان في ذلك متأثرًا بالمبدأ العام الذي أكَّده مرارًا في محاورة الجمهورية، وهو المبدأ القائل إن كل شخص ينبغي أن يقوم بالعمل الذي تؤهله له طبيعته — وهو مبدأ يمكن، بعد تحوير بسيط، أن يتحول إلى مبدأ آخر، يقول إن العمل الذي يقوم به كل شخص إنما هو تعبير عما هو كامن في طبيعته.

    ولقد وصفنا هذا الرأي من قبل بأنه غريب لأن من المُستغرَب بالفعل أن تَصدُر أحكام كهذه عن أفلاطون؛ ذلك لأن أفلاطون كان، بمعنًى مُعيَّن، كاتبًا دراميًّا، وكانت أنجح محاوراته هي تلك التي لجأ فيها إلى نفس هذه الطريقة التي ينتقدها. ولو كان الفنان الخالق تَفسُد طبيعتُه إذا تقمَّص الشخصيات التي يتحدث باسمها، أو يُفسِد طبائع سامعيه إذ يجعلهم يتعاطفون مع هذه الشخصيات، لَوجَب أن تكون طبيعة أفلاطون قد فسدَت نتيجةً لتصويرها شخصيات يَعُدها هو ذاته بغيضة أو ذات آراء باطلة، مثال كاليكلیس وثراسيماخوس وبروتاجوراس، وأن تكون طبيعة تلاميذه في الأكاديمية قد شُوِّهت نتيجة لتعرضها لأمثال هذه المؤثرات من خلال محاورات أفلاطون ذاتها. ولو حكمنا على الأمر بمقاییس فنية سليمة لقلنا بالطبع إن الفن الأقدر على تصوير مختلف المواقف والشخصيات هو الفن الرائع بحق؛ ذلك لأنه لا مجال للمقارنة — من الوجهة الجمالية — بين حديث مباشر يصف أهدافه مباشرة وبين عمل فني معقد متعدد الشخصيات، يوصلنا إلى هذا الهدف نفسه ولكن من خلال بناء درامي متكامل.

    ولكن من المؤكد أن أفلاطون لم يكن يضع في ذهنه المقاييس الجمالية حين أصدر هذه الأحكام، وإنما أصدرها على أساس مقاييس فلسفية لا صلة لها على الإطلاق بالشعر أو الفن في عمومه. فهناك مغالطة واضحة في إقحام مبدأ «الثبات خير، والتغيُّر والكثرة شرٌّ وفساد» (وهو من الوجهة الفلسفية ذاتها مبدأ لا يمكن الاعتراف به على أي نحو مطلق) في مجال الفن. ولو صح هذا المبدأ لكان معناه أن القطعة الموسيقية التي تعزفها آلة واحدة لا بدَّ أن تكون أفضل من تلك التي تعزفها فرقة كاملة، وإن القطعة ذات الصوت أو الإيقاع الموحد أفضل من القطعة البوليفونية ذات الصوت أو الإيقاع الموحَّد أفضل من القطعة البوليفونية ذات الإيقاعات المتباينة، وأن الموعظة الأخلاقية أفضل بالضرورة من الرواية أو المسرحية ذات البناء المعقد، وهي كلها أحكام تطبق على الفن، بطريقة غاشمة، مبادئ فلسفية مشكوكًا في صحتها حتى في مجالها الخاص.

    وترتب على هذه الطريقة الباطلة في نقل المبادئ الفلسفية من مجالها الأصلي إلى مجال الفن الذي لا تربطه بها صلة، أن عاب أفلاطون على الشعر كل ما هو مميز بحق للعمل الشعري؛ ذلك لأن ما وجَّهه إلى الأسلوب الشعري من انتقادات هو في واقع الأمر لُب الموقف الدرامي، أعني القدرة على تصوير الشخصيات بدقة وإحكام. وبعبارة أخرى فقد كان أفضل ما في الشعر أو الأدب رذيلة في نظر أفلاطون.

    ولو نظرنا إلى فكرة المحاكاة ذاتها من الوجهة النفسية، لوجدنا أن أفلاطون كان يخلط بين عملية خلق الشخصيات كما يقوم بها الشاعر أو الأديب، وبين عملية التمثيل أو إعادة التصوير التي يقوم بها الممثل. فالممثل — كما يقول هافلوك٢ — يمكن أن يحاكي؛ لأنه يتقمص الشخصية إذا أراد إظهارها بمظهرها الحقيقي، أما الشاعر فلا بدَّ له أن يحتفظ باستقلاله حتى يُتيح لقدرته الفنية أن تخلق مختلف الشخصيات التي كثيرًا ما تكون متعارضةً فيما بينها؛ أي إن معنى المحاكاة لا ينطبق على فعل الخلق مثلما ينطبق على فعل الأداء والتمثيل. وحتى في حالة التمثيل ذاتها، فمن الصعب أن يحكم المرء على الممثل الذي يقوم بأدوار شريرة بأنه يصبح نتيجة لذلك شريرًا، أو على مَن يمثل شخصيات خيرة بأنه لا بدَّ أن يصبح هو ذاته شخصًا ميالًا إلى الخير، أمَّا إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية المستمعين أو المشاهدين الذين يفترض أفلاطون أن نفوسهم تتشتت بين الشخصيات المتعددة التي يشاهدونها، وتتأثر بالنماذج السيئة منها، فإنا نستطيع أن نتصور نتيجة عكسية لهذه المؤثرات؛ إذ إن روعة بناء العمل الفني المعقد يمكن أن يكون لها تأثير رفيع في النفس المتذوقة للفن، كما أن الشخصيات الشريرة قد تؤدي في سياق العمل الفني المتكامل دورًا يؤثر في النفس تأثيرًا مضادًّا، فضلًا عن أن من الممكن النظر إلى هذه المؤثرات الفنية — كما فعَل أرسطو — على أنها تؤدي إلى التطهر من الانفعالات الموازية لها في الحياة الواقعية.
  • (٢)

    وكما يعترض أفلاطون على الشعر على أساس أن له تأثيرًا سيئًا في الطبيعة البشرية بما يقدمه إليها من نماذج ضارة، فإنه يحمل أيضًا عليه، وعلى الفن بوجهٍ عام؛ لأنه يزيف صورة الواقع، ويقدم إلينا أنموذجًا مشوهًا له. وفي هذه الحالة أيضًا يلجأ أفلاطون إلى فكرة المحاكاة في نقد الفن، ولكن المحاكاة التي يعنيها هنا هي محاكاة العالم الحقيقي، لا محاكاة مشاعر النفس البشرية وأحوالها.

    ففي رأي أفلاطون أن الفن أيسر سبيل إلى تقديم صورة سطحية للعالم بأكمله، فالفنان يدعي لنفسه القدرة على محاكاة كل شيء «ذلك لأن عمله لا يقتصر على إنتاج الأشياء المصنوعة فحسب، بل إنه يستطيع أن يخلق كل النباتات والحيوانات، وكل الأحياء، فضلًا عن ذاته أيضًا، وكذلك الأرض والسماء والآلهة والأجرام السماوية، وكل ما في باطن الأرض في العالم السفلي … ألا ترى أنك أنت ذاتك تستطيع خلق هذا كله على نحو ما؟ إن أسرع الطرق لذلك هي أن تأخذ مرآة وتدور بها في كل الاتجاهات. وسرعان ما ترى نفسك وقد أتيت بالشمس والنجوم والأرض وذاتك وكل الحيوانات والنباتات الأخرى» (٥٩٦). وهكذا يُشبِّه أفلاطون عمل الرسام بهذه العملية التي يدير فيها الإنسان مرآة من حوله ليصنع منها مظاهر وخيالات للأشياء. فإذا رسم الفنان كرسيًّا، فلهذا الكرسي مرتبة ثالثة من حيث الوجود؛ إذ إنَّ هناك أولًا فكرة الكرسي كما صنعها الذهن الإلهي. وهناك ثانيًا الكرسي المادي الذي يصنعه النجار. وثالثًا مظهر الكرسي أو صورته كما يرسمها الفنان. ومعنى ذلك أن العمل الفني لا يحاكي المُثُل الثابتة للأشياء، ولا يصنع أشياء فعلية كتلك التي نراها في العالم الواقعي، وإنما يحاكي مظاهر لهذه الأشياء الجزئية فحسب. فالفنان إذَن أبعد ما يكون عن «الخلق»، بل إنه أقل مرتبة من «الصانع» ذاته؛ لأن الصانع، على الأقل، يأتي لنا بأشياء فعلية، أمَّا الفنان فيحاكي تلك الأشياء الفعلية التي أنتجها الصانع. وهكذا يرتبط نقد أفلاطون هذا للفن بنظريته في المُثل، وتكون الأعمال الفنية في نظره أقرب إلى الظلال التي هي أدنى مراتب الوجود، وأبعد الأشياء عن الحقيقة.٣

    ومن الممكن القول إن رأي أفلاطون في الفن بوصفه محاكاة تشوه الواقع وتزيفه، ينطبق أيضًا على الشعر، لا على فنون كالتصوير والنحت فحسب؛ ذلك لأن في الشعر من الأوزان والإيقاعات والمؤثرات النفسية ما يصرف أذهاننا عن العَلاقات الحقيقية للأشياء، ويحجب عنَّا صورة الوجود في حقيقته. فحين نستمع إلى قصيدة شعرية، لا تتجه عقولنا إلى الحقيقة المنطقية التي تتحدث عنها القصيدة، أو إلى معرفة علمية للموضوع الذي تتناوله، وإنما ننقاد إلى ما في الشعر من عوامل لغوية وبلاغية وموسيقية، تكاد تصبح هي الغاية المقصودة لذاتها. هذا الوسيط اللغوي يحجب عنا الصورة الحقيقية للواقع، ويبعث فينا مشاعر لا صلة لها بالرغبة الأصيلة في المعرفة، مثلما تَحجُب عنا ألوان الرسام حقيقة الموضوعات التي تصورها، وتقدم إلينا خيالات وظلالًا يتركز عليها اهتمامنا وكأنها هي كل ما نَنشُده من حقيقة.

    وليس من العسير أن يدرك المرء نقاط الضعف في هذا الوجه من أوجه نظرية المحاكاة عند أفلاطون؛ ذلك لأنه لا يمكن أن يكون نظرية عامة في الفن؛ لأن هناك فنونًا لا تنطبق عليها فكرة المحاكاة هذه أصلًا، وبالتالي لا يمكن أن توصف نواتجها بأنها ظلال لأي شيء؛ كالفنون الزخرفية والمعمارية. وفضلًا عن ذلك فإن أفلاطون يقع في هذا المجال بدوره في الخطأ الأساسي الذي يشوب نظريته في الفن بأسرها، وأعني به إقحام المسائل الميتافيزيقية في مجال الفن.

    فهذا الرأي يرتكز بقوة على نظرية المُثل، وعلى موقف أفلاطون الميتافيزيقيِّ العامِّ الذي تكون فيه المحسوسات أقل حقيقةً من المُثل، وتكون فيه صور المحسوسات أقل الجميع حقيقة. ومن الواضح أن مجرد استخدام معيار «الحقيقة» في هذا المجال للمفاضلة بين الأعمال الفنية والأشياء التي تصورها تلك الأعمال ينطوي على مغالطة واضحة؛ إذ إننا لا نطلب من العمل الفني أن يُقدِّم إلينا تفسيرًا ميتافيزيقيًّا لحقائق الأشياء، بل إن نفس الطابَع «الوهمي» للفن هو مصدر قوته. ولو كان هدفنا هو إنتاج أشياء واقعية لكان صانعُ الإطار الذي توضع فيه الصورة أفضل من الفنان الذي رسمها، وهي في ذاتها نتيجة يكفي امتناعها لإقناعنا بمدى تهافُت هذه النظرة إلى الفن. وأخيرًا، فإن الاعتقاد بأن وظيفة الفن الوحيدة هي محاكاة الأشياء الواقعية الجزئية هو اعتقاد ساذَج إلى حدٍّ بعيد؛ ذلك لأن الفن، حتى في الحالات التي يصور فيها موضوعًا جزئيًّا أو فرديًّا، يسعى دائمًا إلى تجاوز الفردية، ويتخذ من هذا الموضوع مجرد أنموذج لتصوير نمط عام يعلو كثيرًا على الجزئيات. وتلك في الواقع هي أوضح علامات العبقرية في الفنان؛ أن يقدم إلينا، من خلال أمثلة جزئية أو حالات فردية، نماذج لعالمٍ كامل يتصف بالعمومية والشمول؛ وهي صفة نستطيع أن نقول إن أفلاطون قد تجاهلها أو غفَل عن إدراكها، على الرغم من كل ما كان يتصف به هو ذاته من مزاج فني.

  • (٣)
    أما الاعتراض الثالث الذي يوجهه أفلاطون إلى الشعر. فهو أنه يصور الآلهة بصورة غير لائقة. فالشعراء يصفون الآلهة بصفات لو نُسبت إلى البشر أنفسهم، لَما وجدوا فيها ما يشرفهم؛ إذ تظهر الآلهة لديهم غيورة، منتقمة، ساخرة، لاهية، عابثة، بل خليعة في بعض الأحيان.٤ أمَّا أفلاطون فيريد أن تكون للآلهة أفضل صورة ممكنة، ولا سيما في أذهان النشء الذي ينبغي أن تضمن له الدولة المُثلى أرفع تربية.

    ولقد رأى البعض في أفكار أفلاطون هذه محاورة لتطهير العقيدة اليونانية من شوائبها؛ إذ إنه حين وجَّه حملته على كبار شعراء اليونان لتصويرهم الآلهة بصورة مبتذلة تحمل أحيانًا أسوأ ما في البشر من خصال، إنما كان يدعو إلى إصلاح العقيدة اليونانية على النحو الذي كان كفيلًا بتقريبها من الأديان الكبرى التي ظهرت فيما بعد، والتي يرى بعض الكتاب في أفلاطون مبشرًا بها. فهو يرفض أساسًا التصوير البشري للآلهة في العقيدة اليونانية، ويدعو إلى آلهة مجردة عن صورة البشر، وعن صفات الكائنات الطبيعية. بل إنه ربما كان أكثر تطرفًا في ذلك من اللاهوتيين في العصور الدينية؛ إذ إنه ينادي في أحد نصوص الكتاب الثالث من المحاورة بضرورة وصف الآلهة بأنها علة للخير وحده، لا للشر أيضًا؛ إذ إن ما هو خير لا يضر، ولا يمكن أن يكون علةً للشر. «ومعنى ذلك أن ما هو خير ليس علة كل شيء، وإنما هو على الأشياء الخيرة، لا الشريرة … (فهو) ليس علة معظم ما يحدث للناس؛ إذ إن الخير في حياة البشر قليل، والشر فيها كثير. فالخير ليس له من مصدر سوى الله، أما الشر، فلنبحث له عن مصدر غيره» (٣٧٩). فهو إذن يعيب على الشعراء إساءتهم إلى الآلهة بجعلهم إياهم مصدرًا للشر إلى جانب الخير. وصحيح أن رأيه هذا يؤدي إلى القول بنوع من الألوهية ذات القدرة المحدودة، أي إنه ينفي عنها القدرة الشاملة، ولكن يبدو أنه كان ممن أدركوا في وقت مبكر أن القدرة الشاملة لا يمكن أن تجتمع مع الخيرية الشاملة في عالَم يُعَد الشرُّ فيه حقيقة واقعة.

    على أنه إذا كان المنطق السليم، والتطور التالي للعقائد البشرية، يؤيدان أفلاطون في حملته على عناصر التشبيه بالإنسان في العقيدة اليونانية، فإن هذه الحملة كان لها، من الوجهة الجمالية الخالصة تأثير ضار؛ ذلك لأنها قضت على الطابَع الشاعري والفني في هذه العقيدة. فمن الجائز أن الشعراء كانوا يتحدثون عن الآلهة حديثًا بشريًّا لأنهم يؤْثِرون الحقيقة الشعرية على الحقيقة المنطقية، وتلك الحقيقة الشعرية إنما تكون في التأثير الانفعالي والصور الحية التي يبعثها الشعر، لا في المعلومات الواقعية أو الدروس الأخلاقية المتضمنة فيه. فأغلب الظن أن اليونانيين كانوا يجعلون لعقيدتهم وظيفة جمالية قبل كل شيء، واتخذوا من أساطيرهم مادة للشعر والتمثيل والنحت والغناء، ولم تكن لهذه العقيدة كلُّ وظائف الدين بالمعنى التقديسي لهذه الكلمة. أمَّا أفلاطون فقد رفض هذه الوظيفة الجمالية أصلًا، وحرَص على مراقبة المضمون الحرفي للتعاليم الدينية، أي إنه أراد انتزاع هذه العقيدة من مجال الفن إلى مجال العبادة بمعناها الصحيح. ولو أمعن المرء تأمل العقيدة اليونانية، وموقف اليونانيين منها، لاتَّضح له أنهم لم يكونوا يأخذونها مأخذ الجِد إلى الحد الذي تصوَّره أفلاطون؛ فالمواسم الدينية كانت عندهم مناسبات لاحتفالات فنية وموسيقية ومسرحية، ولم تكن فترات خشوع أو تقديس بالمعنى المعروف في الأديان اللاحقة. ومن هنا يبدو أن تقريبهم للآلهة من البشر إنما كان مظهرًا من مظاهر الوظيفة الجمالية للعقيدة، فضلًا عن أنه وسيلة لإزالة الرهبة والحدود الفاصلة بين الآلهة والناس، بدليل أنهم جعلوا بين الطرفَين حالة وسطى، هي حالة الأبطال أو أنصاف الآلهة، الذين يأتون إلى الوجود نتيجة لتزاوج بين الآلهة والبشر. وبالاختصار، يبدو أن تأثُّر أفلاطون بطابع الأديان الشرقية القديمة (التي عرَفها بالاتصال المباشر، أو من خلال الفيثاغورية) قد أدَّى به إلى محاولة نقل النظرة الجادة إلى الدين من الشرق إلى اليونان وتغيير وظيفة العقيدة اليونانية تبعًا لذلك تغييرًا أساسيًّا.

    ومن جهة أخرى، فقد كان أفلاطون في محاورة الجمهورية يؤسس دولة يعتقد أنها هي الدولة المُثلى. وكان من الطبيعي في فورة حماسته لتكوين هذه الدولة أن يهاجم الفن، مثلما هاجمته بعض العقائد في فترات حماستها الأولى، حين كانت تسعى إلى تكوين «دولة إلهية» على الأرض. ففي الحالتين قد يصل تعصُّب المصلح إلى حد التزمت وضيق الأفق، وكما كانت الأساطير والفنون تكون «الثقافة الشعبية» التي تسعى العقائد، في أول فترات ظهورها، إلى تطهير الأذهان منها في سبيل إحلال التعاليم الجديدة محلها، فكذلك كان الشعر أيام أفلاطون يؤلف ذلك التراث الشعبي الذي ينافس تعاليمه الجديدة، والذي يتعين عليه التخلص منه لكي يمهد الطريق لنوع التعليم الذي يريده. وفي الحالتين يصل التطرف إلى حد النظر إلى الفن من زاوية واحدة؛ هو ما ينطوي عليه من معارف ومعلومات يراها الدعاة الجدد ضارة بدعوتهم، على حين أنهم يتجاهلون تمامًا ذلك الوجه الآخر للفن، الذي يكون فيه نشاطًا روحيًّا له قيمة يكتسبها من مجاله الخاص، لا من «الحقائق» التي ينطوي عليها، ويكون لازمًا للإنسان لمجرد كونه فنًّا، لا لأنه دعوة إلى هذه الفكرة أو تلك.

(٢) هل يمكن تبرير آراء أفلاطون الجمالية؟

تدل الانتقادات التي وجَّهناها إلى آراء أفلاطون الجمالية على أن هذه الآراء قد وقعت في خطأ أساسي، هو الخلط بين مجالَي الميتافيزيقا والفن، وبين قيم الحق والخير والجمال. فهو يحاسب الأعمال الفنية على أساس ما فيها من معلومات يفترض أنها ينبغي أن تعين الإنسان على فَهم حقائق الأشياء، أو يعيب عليها أنها لا تتضمن دعوة أخلاقية مباشرة، أي إنه بالاختصار، يحكم على الفن كما لو لم يَكُن بينه وبين العلم والأخلاق أي حد فاصل.

ولقد حاول البعض تبرير آراء أفلاطون هذه — التي تبدو في نظر الإنسان الحديث مسرفة في التزمت — على أساس أن الحضارة اليونانية بأسْرها قد وقعَت في هذا الخطأ ذاته. فالحد الفاصل بين مفهومَي الخير والجمال لم يكن واضحًا عن اليونانيين في عمومهم، ومن هنا كان خلطهم بين الوظيفة الجمالية والوظيفة الأخلاقية للعمل الفني فليس المطلوب من العمل الفني، في نظر اليوناني، أن يجلب لذة للحواس، وإنما ينبغي أن يبعث في الرُّوح مشاعر تساعد على تهذيبها من الوجهة الأخلاقية. «فالمزج بين فكرتَي الجميل والخير هو محور النظرية اليونانية في الفن، وهو الذي يُتيح لنا أن نفهم السبب الذي جعلهم يرون الفن تعليميًّا؛ ذلك لأن غاية الفن عندهم لم تكن هي اللذة وحدها، وإن تكن اللذة أساسية فيه، وإنما هي التهذيب والتقويم أيضًا. بل إن أفلاطون يضع التهذيب فوق اللذة، وهو في ذلك يسير مع الرأي الشائع إلى حد المبالغة. فقد انتقد هوميروس على نفس النحو الذي كان خليقًا أن ينتقد عليه فيلسوفًا أخلاقيًّا، موضحًا تلك النقائص التي تتصف بها، من وجهة النظر الأخلاقية، نظرته إلى السماء والآلهة، ومستبعدًا كل نسيج المشاعر الإنسانية المتدفقة، وانفجار الغضب والحزن والخوف، بوصفها ضارة بالمواطنين الناشئين، ولأنها تضرب لهم مثلًا سيئًا، مع أن هذه الأمور وحدها هي التي خلَّدت الإلياذة والأوديسة من حيث هما عملان شعريان، لا بحثان أخلاقيان … وتمشيًا مع هذا الرأي، نجد أن الهدف الرئيسي لكل فن يوناني هو تمثيل الشخصية الإنسانية والمُثل العليا للإنسان … وبالاختصار، فإن فضيلة الإنسان أو امتيازه، كان هو المحور الذي يدور حوله الفن اليوناني، وكان تصوير الجميل يتضمن أيضًا تصوير الخير.»٥
إن المرء عندما يتأمل ما قاله أفلاطون في الشعر يراه يتحدث عنه كما لم يَكُن شعرًا على الإطلاق. فهو في واقع الأمر يريد تحويله إلى نثر (الكتاب العاشر، ٦٠١) حتى يتسنى لنا إدراك الشعر على حقيقته، مع أن هذا التحويل ينتزع من الشعر ماهيته المميزة ويسلبه كل مزاياه. ولا يستطيع أحد أن ينكر أنك لو ناقشت الشاعر كما لو كان عالمًا، أو حللت قصيدة كما لو كنت تنتظر منها أن تأتيك بمزيد من المعرفة العلمية، لكانت النتيجة مخيبةً للآمال. غير أن الشاعر لا يقول ذلك ولا يدعيه، ولا يتقدم إليك بشعره على أنه «مرجع» تستخلص منه المعلومات. ومع ذلك فإن «هافلوك» يأتي بتعليل طريف لطريقة أفلاطون هذه في النظر إلى الشعر، وهي الطريقة التي تَمجُّها أذواقُنا الحديثة. فهو يرى أن أفلاطون يُعبِّر بذلك عن وظيفة الشعر في المجتمع اليوناني، وهي نقل التراث الثقافي شفويًّا. فحتى العهد اليوناني كان الشعر لا يزال يُعَد أداة تداول المعلومات الثقافية من جيل إلى جيل، نظرًا إلى أن إيقاعاته وأوزانه تجعل منه خير وسيط للتعليم بين الأجيال المتعاقبة. ومن هنا كان إطلاق اسم «الأدب» على هذا الشعر تسمية غير دقيقة؛ إذ إن هوميروس يمثل نقطة النهاية في فترة طويلة من الأمية نضج فيها الشعر اليوناني، وكانت الأساليب الشفوية فيها هي الوحيدة المتوافرة لتعليم الصغار ونقل العادات والعرف الاجتماعي.٦ وبعبارة أخرى، فقد كان أفلاطون في نقده للشعر ناقدًا لحضارته وللثقافة المتوارَثة فيها، بل كان ناقدًا للتراث الثقافي اليوناني بأسره. وإذن فلا بدَّ مِن فَهم الظروف الخاصة التي ظهرت فيها هذه الحملة القاسية على الشعر وفي ضوء هذه الظروف — التي لن تتكرر في العصور التالية — تكون هذه الحملة معقولة ومفهومة. بل إن تأكيد أفلاطون لفكرة المحاكاة  mimesis يُلقي عليه في هذه الحالة ضوءًا جديدًا؛ إذ إن التعاليم المصوغة في قالب شعري، والتي تُنقل وتُتوارث شفويًّا، لا تحيا إلا من خلال أدائها وإلقائها، كما ينبغي أن تقترن عملية الحفظ والاستعادة بشحنة نفسية قوية يتقمص فيها الشاب كل شخصية في الشعر، وهو موقف غير مألوف للتلميذ الحديث الذي اعتاد استخدام الكتب، وعينَيه، بدلًا من التراث الشعري، وأذنَيه ولسانه.٧ وفي موضع آخر يقدم «هافلوك» تبريرًا لهذه الظاهرة ذاتها من زاوية أخرى فيربط بين حملة أفلاطون على الشعر، وبين رأيه في المعرفة الظنية، ويقول: «إن من الممكن التعبير بإيجاز عما كان أفلاطون يدعو إليه بالقول إنه يريد اختراع لغة تجريدية للعلم الوصفي تحل محل اللغة العَينيَّة للذاكرة الشفوية.»٨

فلنحلل هذه التبريرات إذن لكي نتبين مدى قدرتها على الصمود في وجه النقد.

  • (١)

    إذا بدأنا بالفكرة الأخيرة، القائلة إن أفلاطون حمَل على الشعر لأنه يتحدث في أمور العلم الوصفي بلغةٍ عينيَّة تلائم الذاكرة الشفوية، على حين أنه أراد أن يصطنع له لغة تجريدية تلائم طبيعة العلم الأكاديمي المنظم، فإنا نلاحظ أن العلم في نظر أفلاطون لم يَكُن وصفيًّا، ولم تكن له أدنى صلة بالمحسوس، وإنما كان علمًا تجريديًّا بحتًا. وهذا يؤدي بنا إلى تعديل الحكم السابق، بحيث نقول إنه لم يكن يهدف إلى دعم اللغة العلمية، بقدر ما كان يهدف إلى مهاجمة كل ما يرتبط بالعالم المحسوس، وضمنه التشبيهات الشعرية التي يستمد معظمها من هذا العالم العيني.

  • (٢)

    إذا كان صحيحًا أن التعليم الشفوي، عن طريق الشعر، يقتضي من الدارس نوعًا من المحاكاة لروح الشخصيات التي يصفها الشعر، وبالتالي يستحق النقد على هذا الأساس، فلماذا وجَّه أفلاطون نقده للشاعر بدوره؟ ولماذا تجاهل تجربة الخلق الشعري ولم يستبقِ منها إلا هذا الجانب المتعلق بطريقة حفظ الشعر أو استيعاب معانيه؟ وكيف جاز له أن يُصدِر نفس الحكم على من يحفظ الشعر ومن يؤلفه، ويدين المؤلف لأسباب لا يظهر تأثيرها إلا عند رواة شعره فحسب؟

  • (٣)

    كانت النظرية الكامنة من وراء نقد أفلاطون للشعر — وللفن بوجهٍ عام — نظرية نفعية. وبالمثل يحاول هؤلاء المدافعون أن يبرروا هذه النظرية النفعية في ضوء طبيعة التراث الحضاري اليوناني في عصر أفلاطون. ومع ذلك فإن فلسفة أفلاطون تنطوي على عناصر تناقض كل فلسفة نفعية في الفن. فهو في «الجمهورية» (٤٧٦) يتحدث عن الجمال في ذاته، ويصف من يعرف أشياء جميلة فقط، دون الجمال المطلق، بأنه يعيش في حُلم، على حين أن مَن يعيش في عالم الحقيقة هو ذلك الذي يتذوق الجمال في ذاته. ومعنى ذلك أنه يعترف بالقيمة الجمالية المطلقة، ولا يكتفي — في هذا النص — بأن يكون الفن أداة في يد التربية أو وسيلة لأية غاية أخرى. وبذلك يكون هناك تناقض أساسي في فلسفة أفلاطون الجمالية، لا تكفي لرفعه الإشارة إلى أية ظروف حضارية متعلقة بعصره الخاص.

  • (٤)
    ومع ذلك ففي استطاعتنا، من خلال التبرير السابق، أن نعلل ظاهرة حيرت بعض شرَّاح أفلاطون، وهي تركيزه الحملة على الشعر في المقام الأول، ثم على الموسيقى من بعده، بينما كانت حملته على التصوير ضعيفة، على حين أنه كاد أن يسكت تمامًا على فنون كالنحت والعمارة. وقد أعرب «نتلشب» عن دهشته للأهمية التي عزاها أفلاطون إلى الموسيقى بالقياس إلى التصوير والنحت والعمارة، لا سيما وأن هذه الفنون الأخيرة كانت قد بلغت عند اليونانيين مكانة رفيعة، على حين أن ما حققته الموسيقى كان ضئيلًا بالقياس إليها. ويزداد الأمر غرابةً — في نظر نتلشب — إذا تأملنا هذه الظاهرة في ضوء عداوة أفلاطون للمذهب الحسي؛ إذ إن الطابَع الحسي واضح في النحت، وهو في التصوير أوضح منه في الموسيقى والشعر.٩ والتعليل الذي يقدمه لهذه الظاهرة هو أن الكلمات — ولا سيما إذا كانت موزونة مُلحَّنة — كان لها تأثير كبير في نفوس اليونانيين. وبالفعل يمكن القول إن الأمَّة اليونانية قد بالغت في تأثير «الكلمة» إلى حد أنها تصورت أن التعامل مع الكلمات يُغني عن التعامل مع العالم الطبيعي، ومن هنا كانت أهمية العلوم الاستدلالية، كالرياضة والمنطق، غير أن التعليل التربوي هو الأقدر على تفسير هذه الظاهرة؛ إذ إنه لما كان هدف أفلاطون هو نقد التراث الثقافي اليوناني، كما ينتقل شفويًّا عن طريق الشعر الملحن من جيل إلى جيل، فقد كان من الطبيعي أن تَنصبَّ حملته على الشعر والموسيقى بوصفهما الأداتَين الرئيسيتَين لنقل هذا التراث، على حين أن النحت والتصوير والعمارة ليس لها دور واضح في هذا الميدان.

(٣) الحقيقة الشعرية والحقيقة الفلسفية

إذا كانت المحاولة السابقة لتعليل موقف أفلاطون من الشعر تبدو لنا مقنعةً في نواحٍ معينة، وغير مقنعة في نواحٍ أخرى، ففي اعتقادي أن هناك جانبًا من جوانب فلسفة أفلاطون ينطوي على تفنيد حاسم لهذه المحاولة، وأعني به الجانب الأسطوري من هذه الفلسفة.

ويكاد يكون من المتفق عليه بين الباحثين أن الأسطورة عند أفلاطون تُعبِّر عن نوع من المعرفة الاحتمالية في أمور لا يمكن إقامة البرهان عليها؛ ذلك لأنها تتعلق بمسائل لا يمكن التوصل فيها إلى حقيقة يقينية، ومن هنا كان علينا أن نكتفيَ في هذه الأمور بالفرض المرجح، لا باليقين الذي لا يمكن مناقشته.١٠ ومن قبيل هذه الأمور، البحث في أصل العالم وطبيعة الألوهية والحياة الأخروية وأصل النفس البشرية ومصيرها، وبعض المسائل المتعلقة بتنظيم الدولة. تلك كلها مسائل حيوية دون شك، غير أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يصل فيها إلى معرفة لها نفس يقين المعرفة الرياضية. ومن هنا كان عليه أن يلجأ إلى الأسطورة والخيال بوصفهما أفضل وسيلة للتعبير عن هذا النوع من الحقائق.
على أن من الملاحظ أن الأسطورة تربط الفكر الفلسفي بالتراث الغابر، وبالذكريات الموروثة من الماضي السحيق، بل إنها كما يقول: «ريفو Rivaud» «تبعث الصورة الوقور لأولئك الأجداد البعيدين الذين كانت الآلهة تهبهم أحيانًا ملَكة الرؤيا الواضحة».١١ فإذا صحَّ هذا، كان معناه أن أفلاطون قد دعا إلى ربط الفكر بتراثه الغابر، بل عمِل من خلال أساطيره على الإبقاء على هذا التراث حيًّا. فكيف إذن يقال إنه أراد محاربة التراث القديم كما تناقَله كبار الشعراء في أساطيرهم؟ وإذا كان التعليل الصحيح لحملة أفلاطون على الشعر هو العداء التقليدي بين الشعر والفلسفة، فكيف التجأ أفلاطون إلى الأساطير — ذات الطبيعة الشعرية — في الموضوعات ذات الأهمية الكبرى، بل جعل من إحدى محاوراته الكبرى، وهي طيماوس أسطورة واحدة متصلة؟ أيمكن أن يكون هذا هو الأسلوب الذي يتبعه مفكر حريص على أن يباعد بين أمته وبين الشعر بوصفه مصدرًا مضللًا للمعرفة كانت هذه الأمَّة تلتمس لديه الإجابة عن أسئلتها الرئيسية؟ الحق أن أفلاطون لم يقتصر على الإجابة بالأساطير في صدد مشكلات رئيسية للفكر الفلسفي، بل لقد حاول أن يأتيَ لها بمبررات تجعل الالتجاء إليها جزءًا من تنظيم الدولة ذاتها؛ فهي ليست وسيلةً نلجأ إليها لأننا لا نجد ما هو أفضل منها، وإنما هي خُطة ضرورية لها مبرراتها الأساسية من أجل ضمان الاستقرار بين طبقات المواطنين. ومهمتها لا تقتصر على الأمور الغيبية المتعلقة بالأصل والمصير الكوني، وإنما تمتد إلى صميم عملية الحكم السياسي ذاتها. فلا بدَّ من «أكذوبة» من أجل إقناع المواطنين بأهم المسائل في فلسفة الحكم عند أفلاطون، وهي انقسام الناس إلى طبقات أساسية متميزة. ونقول إن هذه أهم مسائل الفلسفة السياسية عنده لأن التعريف الذي استقرَّ رأيه عليه للعدالة هو أداء كلٍّ للعمل الذي يصلح له، والتزامه الطبقة التي تؤهله «طبيعته» للانضمام إليها. ففي هذه المسألة الأساسية تقوم الأسطورة بمهمة إقناع المواطنين بأنهم من معادن متباينة، وبأن هذا تقسيم اقتضاه النظام الطبيعي للعالم. فإذا تسرَّب الشك إلى نفوس المواطنين في هذا المبدأ، أو فكَّروا في الثورة عليه، كان للحكام أن يكذبوا عليهم بأن يؤكدوا لهم أن «الآلهة» قد أرادت هذا التقسيم وباركته، وأن هذا أمر قضت به «النبوءة» — أو بالاختصار، أن القانون الذي أراده أفلاطون شريعة إلهية لا تناقش. فإذا كان أفلاطون يلجأ في هذه المسألة الحيوية إلى الأسطورة، لا بمعنى المعرفة المرجَّحة أو الاحتمالية، بل بمعنًى أشد تطرفًا، هو «الأكذوبة»، فهل يجوز لنا أن نقبل الرأي القائل إن «أكاذيب» الأساطير الهومرية هي علة تحامُل أفلاطون عليها، أو إنه أراد أن يَفصِل المعرفة عن تراثها الأسطوري الغابر ويشق بها طريقًا عقليًّا جديدًا؟

إننا لا نود أن نُصدر حكمًا على طريقة أفلاطون في الالتجاء إلى الأسطورة، ولكن الذي نود أن ننبه إليه هو التناقض الواضح بين هذه الطريقة وبين حملته على الشعراء لالتجائهم إلى هذا الأسلوب ذاته. والفكرة التي تفرض نفسها على الذهن في هذا الصدد، هي أن أفلاطون قد اعترف — على الأقل — بنوع من الحقائق لا يمكن التعبير عنه إلا بالأسطورة، وهي ما يمكن تسميته ﺑ «الحقائق الشعرية»، مما يحتم على المرء أن يُسلِّم بوجود تناقض أساسي في موقفه من الشعر، ويقلل في الوقت ذاته من أهمية المحاولات التي يبذلها بعض الشرَّاح لتبرير موقفه هذا على أساس العداء التقليدي بين الشعر بوصفه ثقافة أسطورية لا تقوم على أساس من اليقين، وبين الفلسفة بوصفها أرفع مصدر للمعرفة اليقينية.

وإذن، فهناك بالفعل ظاهرة غريبة يصعب تعليلها في فلسفة أفلاطون؛ هي أنه، وهو أقرب الفلاسفة إلى المزاج الشعري، قد حمل على الشعر حملةً شعواء، وطالب بتطبيق مقاييس ميتافيزيقية أو منطقية أو أخلاقية صارمة في الحكم على الأعمال الفنية بوجهٍ عام، وهي مقاييس لو كانت طُبقت على عملٍ مثل «طيماوس» أو «المأدبة» لكان أفلاطون على رأس المطرودين من مدينته الفاضلة! وفي الوقت الذي كان فيه أفلاطون أديبًا مرهفَ الحس، إلى جانب كونه فيلسوفًا، وكان يعترف بالأسطورة وسيلةً للتعبير عن حقائق معينة لا سبيل إلى التعبير عنها بوسائل المعرفة الأخرى، نراه يُنكر الاستقلال الذاتي للحقيقة الجمالية، ويُخضعها على الدوام لاعتبارات خارجة عن مجال الفن، وينادي بتطبيق معايير جمالية كفيلة باستبعاد الأدب والفن اليوناني، بل كل ما يذكرنا بأمجاد الشعب اليوناني القديم في هذا الميدان.

وأخشى أن أقول إن هذا التناقض الأساسي عند أفلاطون في مجال الخلط بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية، لم ينفع الفلسفة ولا أفاد الشعر. فهو من جهةٍ قد تحدث بأسلوب الشعر والأساطير؛ حيث كان ينبغي عليه أن يتحدث بأسلوب العلم (كما في محاورة طيماوس)، وهو من جهة أخرى قد استنكر على الشعراء أن يخاطبوا الناس بأسلوبهم المميز الذي يخضع لمقاييس فنية لا لمقاييس منطقية؛ أي إنه، بالاختصار، قد عالج الفلسفة بأسلوب الشعر، وعالج الشعر بأسلوب الفلسفة، فلم يَعُد ذلك بالنفع على الاثنين معًا!

ولعلنا نستطيع أن نجد تعليلًا جزئيًّا — قد لا يكون مقنعًا كل الإقناع — لهذه الظاهرة الغريبة في تفكير ذلك الفيلسوف الذي وقف موقفَ العداء السافر من الشعر، في الوقت الذي حفَلَت فيه كتاباته بالمجازات والصور الشعرية الحية والخيال الخصب؛ ذلك لأن أفلاطون ربما كان شاعرًا من نوع خاص؛ شاعرًا لا يتغنى بالمحسوس، ولا يندمج فيه بكل خياله، أو يستخلص منه صورًا يَنقُلها إلى سائر المجالات، وإنما كان شاعرًا تجريديًّا — وهو تعبير يبدو له وَقْع غريب على الآذان، ولكنه قد يكون في رأيي أقرب التعبيرات إلى إيضاح شخصية أفلاطون. فالجمال الذي كان يهفو إليه لم يكن ذلك الجمال الذي يهفو إليه معظم الفنانين والشعراء — جمال الصور المحسوسة حين تنقل إلى عالم المعنويات، وإنما هو جمال تنعدم فيه الحياة والمادة والقوام، جمال مجرد لا ينطوي إلا على «الماهيات» الخالصة. وهو — على عكس الشعراء — يحمل على ما يُثري الحياة ويُعبِّر عن طابَعها العَينيِّ الملموس، وعلى التعدُّد الفني للخطوط والألوان، والتنوع الزاخر للصور التي نراها في الطبيعة. كل ذلك يعده أفلاطون شرًّا، ولا يرى الجمال إلا في ذلك الشبح المجرَّد الهزيل، الذي يسميه بالجمال في ذاته. وقد يكون ذلك «الجمال في ذاته» مقنعًا للعقل، ولكنه ليس «جميلًا» بأي معنًى من المعاني؛ أي لا يستجيب له ذلك النزوع الذي اصطلحنا على تسميته بالحاسة الجمالية. إنه شيء ثابت، جامد، لا يتغير ولا يتحرك ولا يحيا ولا يتطور، يفضله «شاعر التجريد» على كل مظاهر الجمال المتنوع النابض بالحياة. فإن كان هذا هو نوع الشعر الذي امتاز به أفلاطون، فليس من المستغرب أن يتصف موقفه من الشعر، ومن الفن عامة، بهذا التناقض الأساسي، وأن تختلط الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية في فلسفته إلى هذا الحد.

١  Zeller: Plato and Academy, op. cit., p. 375.
٢  Preface to Plato, p. 22.
٣  انظر للمؤلف مقال: «النظريات اليونانية في فلسفة الفن»، مجلة «المجلة»، العدد ٩٣، سبتمبر ١٩٩٤م.
٤  انظر الكتاب الثالث، ٣٧٧–٣٨٣.
٥  L. Dickinson: The Greek View of Life, pp. 211–213.
٦  Havelock: Preface to Plato, pp. 45, 125.
٧  lbid., p. 44.
٨  lbid., p. 236.
٩  Nettleship: The Theory of Education in Plato’s Republic, pp. 69-70.
وانظر أيضًا لنفس المؤلف.
Lectures on the Republic of Plato, pp. 116-117.
١٠  V. Brochard: “Les mythes dans la philosophie de Platon,” Article dans “Etudes de philosophie ancienne et de philosophie moderne,” Paris (Vrin), 1954, p. 53.
١١  A. Rivaud: Histoire de la philosophie, Paris (P.U.F.), 1948, Tome I, p. 172.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤