الفصل التاسع

لغز موروا

نعود من جديد إلى مكتبة مونتمور في ليلة ١٩ ديسمبر ١٦٦٧. ما سرَّ البعض وأصاب البعض الآخر بصدمة أن دوني وإميري أعلنا أن موروا — مريضهما المرتقب — على حد علمهما كان في حالة مستقرة ويتمتع بصحة جيدة بوجه عام. لقد كان مرشحًا مثاليًّا لتلقي علاجهم الثوري. نعم سيكون هو ثاني مريض يتلقى بعض الدم المنقول. ولتفادي أي تدهور محتمل، ينبغي إجراء العملية في أسرع وقت ممكن. وكان ذلك — كما ذكروا — تجربةً لفكرة. ولم يكن ليبدو عليهما أي شعور زائد بالثقة في ادعاء اليقين بأن العملية ستعالج الرجل المسكين، وإن كانا يأملان بالتأكيد أن يُحدِثا معجزة. لقد كان ظهور الحذر عليهما، ثم إعلان نجاحهما الباهر بعد أيام قليلة هو نهج العمل المفضل لديهما قطعًا.

كان شعورهما بالتردد مبررًا بأسباب عملية؛ إذ إنهما لم يسبق أن أجريا العملية على رجل سليم بدنيًّا يعاني من سلوك مختلٍّ. وكان أفضل تخمين لديهما هو أن عليهما استخدام دم عِجل لأن «لينه وقوته قد تهدئ الحرارة والغليان في دمه.» تحدَّد موعد للعملية — في السادسة من مساء ذلك اليوم — وانفض الجمع وسط جلبة كبيرة وتحيات مطوَّلة.

وسرعان ما خلت الغرفة إلا من العالِمين، ومضيفيهما وراعيهما مونتمور، وسيئ الحظ موروا؛ إذ لم يكن استمرار وجوده تطوعيًّا تمامًا بما أنه كان لا يزال مقيدًا إلى كرسيه؛ وقد أخذ يشكو من جديد في مرارة. كالعادة، كان مونتمور هو المسئول، فاستدعى مجموعة من الخدم وبدأ في التحضير لنقل «المريض» إلى منزل آخر، حيث كانت فكرة الاستماع لصراخه طوال اليوم صعبة جدًّا عليه. كما أن منزله كان في منطقة راقية من باريس، ولم يكن مونتمور يرغب في أن يسيء إلى اسمه ومنزله، باتهام الجيران له بأن ثمة شغبًا على وشك الحدوث في منزله.

من الأرجح أن مونتمور ودوني قد خططا لباقي تفاصيل اليوم، حيث ناقشا المكان الذي سيحصلان منه على متبرع بالدم والمستوى المقبول لأجر كل المشاركين، فقد رأيا أن تلك فرصتهم لإبهار العالم والانضمام إلى الأكاديمية الملكية للعلوم المنشأة حديثًا. فكونهما أول من يعالج الأمراض العقلية في العالم لا يمكن أن يضر بطلبهما العضوية بأي شكل.

وذكر دوني — مسجلًا الأحداث التي تلت في خطاب أُرسل في البداية إلى مونتمور وأرسلت نسخة منه إلى أولدنبرج في لندن — أنهم نقلوا موروا إلى «منزل خاص»، كان على الأرجح منزل دوني في كيه دي أوجستين. كما أرسل مونتمور ودوني في طلب عامل قوي البنية ليعمل لديهم «حمَّالًا». لقد كانا في حاجة إلى احتواء موروا لكن دوني أراد كذلك أن يطمئنه. فلطالما كان العمل مع المرضى الهادئين أسهل وأقرب إلى تحقيق نتائج جيدة. فأي مرشح لوظيفة الحارس والسجَّان هذه خير من رجل استفاد شخصيًّا من نقل الدم؟ هكذا، لم يختاروا أي رجل مفتول العضلات على نحو عشوائي، بل اختاروا الرجل الذي كان دوني قد نقل إليه دم حمَل قبل ثمانية أشهر؛ الرجل الذي قال دوني إنه كان يتوق لتلقي جرعةٍ ثانية.

طيلة اليوم أخذ الناس يتوافدون، وسُرَّ دوني لما رأى بينهم أطباء ومترددين على الكنائس. لقد كان هؤلاء الشهود أناسًا يتفهمون ما كان يفعله، هذا بالإضافة إلى أفراد من العامة الذين يتمتعون بسمعة طيبة. وبحلول المساء جاء العالِمان ومعهما عجل. وجاء في ترجمة أولدنبرج لكلمات دوني نفسه: «لقد استعملنا ما بوسعنا من مهارات لنُقنع خيال مريضنا بالرغبة في الخضوع لنقل الدم.» وهذا تحوير جيد للعبارة التي من الممكن أن تكون ترجمتها: «لقد قيدنا المريض وربطناه بإحكام في منضدة ثابتة بوسط الحجرة.» وربما كمموه لتقليل عويله وصراخه.

كان دوني وإميري عازمين على ألا ينفد الدم منهما في منتصف العملية؛ لذا كان العجل خيارًا جيدًا حيث كان ضخمًا بدرجة معقولة. كما سيكون طيعًا بصورة نسبية. لكن حتى في تلك الحالة، من المنطقي افتراض أن العِجل في هذه الواقعة المحددة قد رُبِط بإحكام إلى منضدة بنحوٍ لا يسمح له بالحركة.

خفتت الأحاديث فلم يكن يُسمع إلا همس، بينما كان إميري يقطع الجانب الداخلي من فخذ العجل وهو تحت ضوء عدد من المصابيح وكشف شريانًا قرمزيًّا منتفخًا. احتشد المشاهدون بهدوء للحصول على موقع أفضل، يريد كلٌّ منهم الاقتراب لكنهم في الوقت ذاته حريصون على أن يبقوا خارج نطاق الخطر؛ لأن جميع من في الغرفة — باستثناء موروا ربما — كانوا على دراية بأن أي انزلاق صغير في سكين إميري سيفجر سيلًا مندفعًا من في أنحاء الغرفة.

بعد الكشف عن عرق العجل وتجهيزه ليعطي ما به من الإكسير، جاء دور المريض. وقف إميري مائلًا عليه ليحدث قطعًا في ذراعه اليمنى، وكشف عن وريد أسفل المرفق مباشرة. أعاق عمله مقاومة المريض، وفي الوقت الذي تم فيه القطع، كان موروا قد تمكن من التكور في وضع يشبه وضع الجنين، وهو فعل غريزي ليحمي نفسه. إلا أن ذراعه كانت لا تزال مقيدةً بإحكام في إحدى أرجل منضدة وكان القطع والوريد مكشوفين في تناسق.

وتبعًا للتعليمات، جرى تقريب المنضدتين الحاملتين للعجل ولموروا استعدادًا لنقل الدم، لكن إميري أراد أولًا أن يُفسح مجالًا في جسم المريض لمزيد من الدم. هذا يعني أن بعض الدم يجب أن يخرج قبل البدء في العملية. فحزَّ الوريد المكشوف وشاهد الدم يتدفق إلى وعاء. وانتظر حتى حسب دوني أن نحو ١٠ أوقيات من الدم قد خرجت، ثم أدخل طرف الإبرة إلى الوريد. وبسرعة قطع شريان العجل وأدخل فيه إبرة أخرى وشاهد الدم يتناثر من طرفها. وفي براعة مدهشة أوصل هو ودوني الصنارتين بسلسلة من الإبر لتكون أنبوبًا كاملًا. كان إميري منفعلًا، وراح يمدد أصابعه ليخفف من توتره؛ لقد كان كل شيء يجري على ما يرام.

بدأ دوني يحسب كم من الزمن يلزم لإدخال ١٠ أوقيات من الدم واستبدالها بالكمية المفقودة في الفصد. لكن سرعان ما اتضح أن الأمور لم تكن تجري بسلاسة تامة. ففي خضم الحماس لرؤية الحدث، اندفع الجمهور إلى الأمام للحصول على رؤية أفضل. كان من المستحيل تمامًا على كلٍّ من إميري ودوني أن يقتربا من المريض لبضع لحظات. كما أن قواعد اللياقة صعَّبَت على هذين الخبيرين المنتميين للطبقة المتوسطة أن يأمرا الأشخاص الأعلى مقامًا بالتراجع، لكن الضرورة فرضت نفسها واضطرا لشق طريقهما من جديد لمركز الحدث.

وكانت مقاومة موروا ستؤدي حتمًا إلى عدم رقوده بالنحو المناسب، وعدم تدفق الدم عبر الأنبوب. وفي الوقت الذي عاد فيه المتخصصون لتولي زمام الأمور، كان عدم تدفق الدم قد جعله يتجلط في الأنابيب ومن ثم لم يعد ينتقل من العجل إلى الرجل. وتناثر خيط الدم العرضي عبر الغرفة بينما كانا يحاولان على نحو هيستيري وضع إبر جديدة واستعادة جزء من تدفق الدم.

وفي هذه المرحلة كان المريض يشكو من الشعور بحرارة شديدة في ذراعه إلى أسفل إبطه مباشرةً. وعلق دوني قائلًا: «لما رأينا أنه يفقد الوعي أوقفنا تدفق الدم إليه فورًا، وأغلقنا الجرح.» وانتهت العملية وفق تقدير دوني فإن موروا تلقى ما يعادل خمس أو ست أوقيات من الدم.

تنفس دوني الصعداء؛ فقد نجحت عملية نقل الدم، لكن الجزء المهم الآن هو إبقاء المريض تحت الملاحظة لمعرفة ما سيحدث بعدئذٍ. رأى بعض الضيوف أن هذا هو الوقت المناسب للمغادرة والبحث عن مصدر متعة أكثر مرحًا في مكان آخر لبقية الأمسية. أما البعض الآخر فقد اتخذوا مجالسهم، وانتظروا محدقين في الرجل كما لو كانوا يتساءلون عما إذا كان سيخور كالعجل أو تنمو له قرون وحوافر.

لم تقع أحداث كثيرة في الساعات القليلة التالية. فقد غفا موروا في مقعده لبضع ساعات، وبعدها طلب بعض الطعام؛ وهي علامة جيدة. قُدمت له المساعدة تحت أعين دوني المراقبة في الذهاب إلى غرفة بها فراش حيث أبقوه تحت الملاحظة. كانت تلك الليلة كغيرها عند موروا؛ إذ لم ينل أي قسط من النوم على مدار أسابيع، ولم تختلف تلك الليلة: «لقد أمضى الليلة في الغناء والصفير وغيرهما من التصرفات الصاخبة التي اعتاد عليها» بحسب ما كتب دوني.

ومع بزوغ فجر يوم الثلاثاء، كان موروا أكثر سكينة بل أكثر هدوءًا. فبينما يشخِّص العلم في القرن العشرين أنه كان يعاني من فقر دم حاد، لم يرصد دوني سوى أن المريض صار أقل عنفًا؛ من الواضح أن نقل الدم كان له بعض الأثر. كان من المنطقي تكرار العملية، وجرى التخطيط لتكرار العرض في اليوم التالي. مرة أخرى تحدد الموعد في السادسة من ذلك المساء، وهو موعد يكون فيه معظم رجال الأعمال وموظفي البلاط غير منشغلين.

سرت أخبار عملية نقل الدم الأولى في الأوساط العلمية، وهذه المرة حضر جميع المشاهير والشخصيات البارزة. ضم الجمهور — كما يقول دوني — عدة أطباء مثل بوردولو ودوني دودار والطبيب بيير بورجيه ورجل الكنيسة جيوم أويو فايو.

لم يكن موروا هذه المرة في حال تسمح له بالمقاومة. علاوة على ذلك، كان على دراية بأن سلوكه يتجه نحو الوضع الطبيعي؛ لذا كان أميل للسماح بتلك العملية الثانية. ومن ثم رقد في «وضعية ملائمة» وهو ما سهَّل العملية كثيرًا. وبسبب ضعف موروا، رأى دوني أن من الحكمة ألا يسحب منه أكثر من أوقيتين أو ثلاث أوقيات من الدم قبل بدء العملية.

جهز إميري في هذه المرة ذراع المريض اليسرى، وقدر الطبيبان أنهما نقلا رطلًا من الدم إلى موروا. ولما كانت كمية الدم المنقول أكبر، كانت النتيجة أبلغ من ناحية الاستمرارية والحدة. بمجرد أن بدأ الدم في الدخول، ذكر موروا شعوره بحراره شديدة في ذراعه، وزاد نبضه وأخذ في التعرق بغزارة. ثم أخذ نبضه في الاضطراب، وشكا من آلام رهيبة في أسفل ظهره، وقال إنه أحس بوعكة في معدته، وأخذ الهلع يسيطر عليه، وشعر أنه على وشك الاختناق، وتوسل إليهم ليوقفوا العملية.

وبينما كانا يُخرجان الأنبوب من ذراعه تقيأ بشدة، ليتخلص من لحم الخنزير والدهن الذي تناولهما قبل ساعة، وهو ما أثار جدلًا كبيرًا بين المشاهدين عما إذا كان لحم الخنزير فاسدًا. وسرعان ما رغب في التبول والتغوط. وكانت الصدمة أن بوله كان وقتها أسود اللون؛ أسود كسخام المداخن. وتشنج وتقيأ لساعتين تقريبًا وأخيرًا غلبه النوم في العاشرة ليلًا وواصل نومه حتى الثامنة من صباح اليوم التالي. لقد كانت تلك أول مرة ينام فيها منذ أسابيع، وهو ما شجع دوني كثيرًا على أن يعتبر العملية ناجحة.

وعندما استيقظ موروا كانت النتائج أكثر إرضاءً؛ إذ كان موروا خاملًا، لكنه كان هادئًا، صافي الذهن. وبغض النظر عما كان قد شعر به من آلام شديدة في معدته وذراعه، وبغض النظر أنه كان واهن البدن وأن بوله كان شديد السواد، فقد رأى دوني أنه بدا بحال أفضل!

جاء يوم الخميس وانقضى، وظل موروا في الفراش لا يتحدث كثيرًا، وكان كلما طلب دوني منه أن يصف له أي أعراض، كان يطلب موروا منه أن يتركه وشأنه. إلا أنه مع علمه بأن عيد الميلاد لا يفصله عنه سوى يومين، فقد رأى موروا أنه وقت مناسب ليتوب إلى الرب خالقه، وسأل إن أمكن إيجاد قس ليأتي ويسمع اعترافه. وأتى السيد دو فو في الموعد واستمع لما قاله الرجل الذي كان مجنونًا فيما سبق. واندهش قائلًا إن اعترافه كان جليًّا بدرجة تكفي لتلقيه السر المقدس، لكن إن استمرت مسيرته.

في يوم الجمعة، ٢٣ ديسمبر ١٦٦٧، نزف موروا من أنفه نزيفًا حادًّا، وظل يُخرج كميات كبيرة من البول الأسود طوال الوقت. مر يوم آخر وحلت عشية عيد الميلاد، وأتى معها قس آخر. كان السيد بونيه هذه المرة. استمع القس إلى اعتراف موروا وأعلن في تلك المرة أنه عاقل. فكان مرحبًا بحصوله على القربان المقدس‬‎، وأقام القس مراسم القربان المقدس دونما تأجيل.

إن أراد دوني تأكيدًا على نجاح نقل الدم، فهو لم يكن بحاجة لأكثر من ذلك. فقد أعلن القس — وهو رجل الكنيسة الموقر وممثل الرب — أن المجنون قد شفي الآن؛ وكان هذا شاهد عيان مستقلًّا من أثقل عيار وأكبر ثقة للعامة.

كان ذلك هو الوقت الذي وصلت فيه بيرين موروا إلى المنزل. لم يفكر أحد في أن يخبرها بمكان زوجها، وكانت قد قضت الأيام السابقة تبحث عنه بلا جدوى. من المثير للاهتمام التكهن بما إذا كان هذا سهوًا من جانب دوني فعلًا أم كتمانًا متعمدًا؛ فلقد كان آخر ما أراده هو أن يظهر أحد الأقارب المتطفلين ويطلب اصطحاب قريبهم المحبوب إلى بيته؛ فذلك كان سيفسد التجربة.

فرح أنطوان بالتئام شمله مع زوجته، وبدأ فورًا يحكي ما حدث طوال الأسبوع السابق، منذ أن كان يجري عاريًا في شوارع باريس إلى أن وصل إلى الموقف الحالي حيث تلقى القربان المقدس من قس. كانت بيرين سعيدة بالقدر نفسه، وأخبرت الأطباء الذين كانوا يترددون عليهم كيف تحول من «مخبول تمامًا» إلى هذا الرجل الهادئ أمامهم.

شعر دوني وإميري بالزهو. لكن لم تكن لديهما أدنى فكرة عما إذا كان هذا هو السكون الذي يسبق العاصفة.

مقارنات حالية

لا يستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن تبدأ الألسنة في الثرثرة. فسرعان ما بدا أن كل رجل وامرأة وطفل في باريس يبدون آراءهم في هذا العلاج المذهل؛ إذ أصر بعضهم على أنها معجزة، بينما رأى البعض الآخر أن هذه التجربة اتسمت بكل سمات الشيطان نفسه متجسدة في صورة ملاك من نور. لقد أثارت التجربة بالتأكيد موضوعًا جديدًا في محادثات عيد الميلاد.

وبينما تحدث الناس عن موروا واتزانه من جديد، فقد أخذوا يطرحون الأسئلة، وهو ما كشف عدة مفاجآت؛ إذ لم تكن هذه أول عملية نقل دم يجريها دوني؛ بل كانت الأولى التي تحظى بهذا المستوى من الاهتمام والمتابعة من العامة. لقد بدا أن العلماء كانوا يعملون وراء الستار ويدبرون مؤامرة سرية، والآن يفرضون ما توصلوا إليه على المجتمع؛ ذلك المجتمع الذي شعر بأنه لم يحظَ بفرصة لمناقشة القضايا أو يبدي رأيه فيما إذا كان يدعم هذا التطور الجديد.

في المقابل كان الموجودون في قلب الوسط العلمي يعرفون أن «الفضوليين» كانوا مشتغلين بالفكرة لعدة سنوات على أقل تقدير؛ إذ ناقشوا أفكارهم في اجتماعات، ووصل الأمر إلى نشر بعض الفضوليين لعدد من مناهجهم والنتائج التي توصلوا إليها في الدوريات المعروفة التي ظهرت حديثًا. وكانوا سينفون أي محاولة عمدية لإخفائها عن العامة، فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك اهتمام كبير بهذا المجال ومن ثم لم تتحول إلى قضية عامة من قبل.

وقد وقع موقف مشابه في القرن العشرين مع مولد العنزة دوللي المستنسخة في يوليو ١٩٩٦. فإن سألت معظم الناس فسيخبرونك بأن دوللي هي أول كائن مستنسخ في العالم. وهي لم تكن كذلك، بل أبعد ما تكون عن ذلك؛ إذ كان الاستنساخ يجري طوال عقود في المعامل في مختلف أنحاء العالم. فأول حيوان مستنسخ — وهو ضفدع نمري شمالي — كان يتقافز في أرجاء المعمل الذي شهد مولده في فيلادلفيا في عام ١٩٥٢. وفي عام ١٩٧٧، زعم عالم ألماني أنه استنسخ فأرًا، رغم أن هذا الزعم كان محلًّا للجدل وقتها. وورد أول التقارير المؤكدة عن ثدييات مستنسخة في عام ١٩٨٤ عندما نجح العالم الدنماركي شتين فيلادسين في استنساخ خروف من خلايا جنينية أثناء عمله في المجلس البريطاني للبحوث الزراعية. وسرعان ما توالت محاولات الآخرين، وفي عام ١٩٨٦ استنسخ فريق بقيادة نيل فرست في جامعة ويسكونسن بالولايات المتحدة بقرة. وكلاهما أدهش الوسط العلمي لكن أثار بعض الاستهجان بين العامة. وفي السنوات القليلة التالية، أنتج العلماء أعدادًا كبيرة من الفئران والضفادع والماشية المستنسخة.

يرجع جزء من السبب وراء هذا الغموض إلى أنه فيما كان يأمل قليل من العلماء في وضع طريقة جديدة لتخليق قطعان من الحيوانات المتماثلة، كانت معظم الاستنساخات تُخلَّق في تجارب تسعى لكشف وظائف الحيوانات، ووُجه عديد منها نحو اكتشاف أسرار التكوين؛ إذ سعت إلى أن تفهم تمامًا كيف يُكوِّن الحيوان أعضاء متنوعة كالعضلات والبشرة والعظام والأعصاب والدم من بويضة مُخَصَّبة؛ وهي خلية بدائية واحدة. ولم يحظَ هذا العمل بقدر كبير من انتباه العامة لبعده الشديد عن مجريات الحياة اليومية.

في الواقع لم يكن مولد دوللي ذاته في اسكتلندا هو ما استحوذ على اهتمام الإعلام، بل كان نشر بحث عن أصولها ومولدها في المجلة العلمية البارزة «نيتشر» بعدها بسبعة أشهر في ٢٧ فبراير ١٩٩٧ هو الذي أثار ضجة إعلامية؛ إذ عرَّف البحث العالم باستنساخ حمَل جديد من خلال اتحاد خلية مأخوذة من ضرع نعجة بالغة مع بويضة مُعالَجة طبيًّا قبل تحفيزها بنبضة كهربية صغيرة. وكان البحث مكتوبًا بلغة مُعقدة وغامضة تمامًا، ويمكن أن تتغاضى عنه وسائل الإعلام على مستوى العالم. وعلى المنوال نفسه كان نشر خطاب دوني — وليس الحدث ذاته — هو ما أثار رد فعل وأحاديث بين العامة عن نقل الدم في باريس وأكسفورد ولندن في القرن السابع عشر.

لكن ما سبب هذه الجلبة حول دوللي؟ بالرغم من أنها لم تكن أول مُستنسخ، فقد كانت خطوة جديدة في مسيرة العلم؛ لأن كل التجارب التي سبقتها استخدمت خلايا من أجنة، بينما هذا الحمَل الصغير جاء إلى الحياة وهو خلية مأخوذة من حيوانٍ بالغ. كان من الممكن أن يُنظر لذلك باعتباره مجرد تطور فني آخر، لكن إمكانية استخدام الخلايا البالغة باعتبارها خلايا جينية مانحة لحيوان مستنسخ كانت لها تداعيات كثيرة. كما أن دوللي كانت نعجة، والنعجة من الثدييات. وكان هذا يعني أنها من الناحية البيولوجية شبيهة نسبيًّا بالإنسان العاقل. وبالإضافة لما سبق، فقد أثار هذا شبح احتمال استنساخ البشر لأنفسهم. مرة أخرى كانت خطوة دوني بتطبيق نقل الدم على البشر هو ما أثار الجدل. فحينما كان نقل الدم مقصورًا على تجارب الحيوانات، لم يكن كثيرون من الناس يهتمون بها.

وما إن انْصَبَّ اهتمام الإعلام على النعجة الاسكتلندية الصغيرة، حتى كان الإحساس المتنامي بعدم الارتياح يعني أن الجدل لن ينتهي. كان معظم الجدل عن غير دراية كافية وكان انفعاليًّا جدًّا. نشرت الصحف مقالات تناقش خطر وجود نسخ متعددة من الطغاة، وتحدث الباحثون في الأخلاقيات عن الامتهان المحتمل للكرامة الإنسانية. واتخذ بعض العلماء موقفًا دفاعيًّا قائلين إنهم لم يروا أن دوللي حيوان مستنسخ على الإطلاق؛ بينما قال آخرون إنها حتى إن كانت مستنسخة فهم ليس لديهم النية في استعمال هذه التكنولوجيا. واتخذ الساسة ردود أفعال بلا تفكير تطالب بحظر هذه التكنولوجيا، دون النظر إلى إمكانية تطبيقها عمليًّا أو ما إذا كانت مفيدة للعلم أو ضرورية لحماية البشرية. لقد بدا أن المزاج العام معارض لهذه التكنولوجيا، وكان من السهل السباحة مع التيار وإعطاء الانطباعات بتولي زمام القيادة.

وبينما تتكشف لنا قصة دوني ومحاولاته لنقل الدم، نكتشف نمطًا مماثلًا من رد الفعل الهيستيري والجدل بغير دراية والتسرع في اتخاذ القرار. من الممكن القول إن القرارات المتخذة كانت القرارات الصحيحة، لكن المنطق وراءها يبدو مثيرًا للشكوك في أحسن الأحوال.

عملية نقل الدم الثالثة

لو كان دوني قد أعاد موروا إلى منزله ولم يرَه بعدها، لاختلف الوضع كثيرًا. لكن الحال لم يكن كذلك؛ كان دوني حريصًا على متابعة موروا لأطول مدة ممكنة لمعرفة الآثار المحتملة لنقل الدم وللتعلم من التجربة. لكن زوجة موروا كان لها رأي آخر على ما يبدو؛ فقد — كانت حسبما ذكر دوني — تتوق إلى استئناف علاقتهما الزوجية والاستمتاع برفقة زوجها. وعندما روى دوني الفصل التالي في هذه القصة، زعم أنها دخلت إلى المسكن الذي أعده لموروا، وفي مخالفة لرأيه اصطحبت زوجها إلى منزله. وفي ذلك الوقت كان قد تلقى جرعتي دم وبدا أنه استعاد اتزانه العقلي. لكن بعودته إلى المنزل، ورغم اعتراضات الأطباء، أخذت هذه المرأة العنيدة تطعمه البيض والحساء، وهو مزيج من المواد الغذائية كان دوني على يقين من أنه سيرفع حرارة دمه بالتأكيد، وهو ما يؤدي على الأرجح إلى عودته إلى حالة الجنون. وكأن هذا لم يكن ضررًا كافيًا، فقد اصطحبته إلى فراشها، ليس مرة ولا اثنتين ولا ثلاثًا؛ بل أربع مرات على الأقل. وزعم دوني أن زوجها كان يمانع المشاركة في ذلك لكنه كان يستسلم لإغرائها وإقناعها. وكان متيقنًا كذلك من أن النشاط الجنسي الحميمي يرفع من حرارة دم الإنسان.

لذا لم يُفاجأ دوني بأنه خلال أيام ارتفعت درجة حرارة جسد الرجل بشدة، وعاد إلى عاداته القديمة بزيارة الملاهي والانغماس في الخمر والنساء. كانت تلك علامة سيئة. كما روى الجيران أن الزوجين قد بدآ يتشاجران. ورغم مرض موروا، ضربته زوجته عدة مرات. وذات مرة ضربها هو الآخر، مسددًا لها لكمة في أذنها. فكان ردها أن صرخت قائلة إن عليه أن يعتذر فورًا وإلا فليواجه الموت.

انزعج دوني بشدة من هذا الاستخفاف المتعجرف بالتعليمات الصحية؛ إذ لم يشعر بأن ذلك من شأنه أن يضر المريض وحسب، بل الأهم أنه أضر بسمعته. لقد كان على يقين بأن أفعال زوجة موروا المتهورة ونتائجها الواضحة الجلية تجعل استمرارية أي علاج محل شك. كما أنه كان قلقًا من أن مثل هذا السلوك المعربد قد يهدد صحة الدم النقي الجديد الذي يجري في عروق موروا الآن. فقد بذل قصارى جهده في سبيل نقل دم من حيوان لا يمكن أن يتورط في أي أفعال إباحية، والآن صار كل ذلك الحرص في مهب الريح. ورغم الشكوك التي تساوره، لم يكن بيده شيء، فقد انتُزِع الرجل من رعايته، ورغم اقتناعه هو شخصيًّا بالفوائد الجمة لنقل الدم فقد بلغت المعارضة لعمله في المدينة درجة جعلت الوقت غير مناسب لملاحقة مريضه.

وبلغت الأمور ذروتها عندما لاقت زوجة موروا دوني في الطريق ذات يوم، وطلبت منه أن يُجري عملية نقل دم ثالثة. فرفض دوني. وظهرت مرة أخرى بعد أيام قليلة. فقال دوني إن السبيل الوحيد لأن يُجري العملية هو حصولها على إذن بالعملية من النائب العام. وبالنظر إلى الرأي السائد في الدوائر الرسمية في باريس، فقد شعر دوني بأن السلطات في الأغلب لن تمنح هذا الإذن.

كان دوني في مأزق. فمنذ بدأ يشتغل بنقل الدم أصبح مقتنعًا حقًّا بإمكانياته، وكان يتوق لإجراء العملية كلما أمكن كي يستطيع إثبات فائدتها في الطب. فعلى كل حال، اقتضت مهنته أن يستخدم مهاراته في إنقاذ حياة الإنسان وعلاج الأمراض؛ ألم يكن ذلك حتمًا واجبه؛ أن يُقدِّم العون كلما أمكن؟

على الجانب الآخر، كان دوني متخوفًا من اتهامه بالتسرع المفرط؛ لذا فقد رأى أن الأفضل ألا يفعل أي شيء. فاسترخى وتابع حياته وانتظر أن تتكشف الأحداث. فتكشفت بالفعل؛ فقد جاءت زوجة موروا للمرة الثالثة، وزارته هذه المرة في منزله ذات صباح، وكان دوني بالخارج وقتها، لكن خادمه — وهو على الأرجح أول مريض ينقل إليه الدم — تلقى الرسالة من السيدة المتوترة: «رجاءً أخبر سيدك عندما يعود بأني رتبت للقاء في منزلي هذا المساء لمناقشة الموقف وسيكون من المفيد كثيرًا أن يحضر، فأنا واثقة من أن مشاركته ستكون قيمة. أرجوك لا تمتنع هذه المرة.»

تلقى دوني الرسالة عندما عاد إلى المنزل، وبدافع الفضول وحده قرر الحضور. لكنه لما وصل، وجد نفسه أمام عجل مقيد في الحجرة وزميله الجرَّاح يعد سكاكينه وحباله وأنابيبه. وبمجرد دخوله وقف دوني بلا حركة وقد اعترته صدمة شديدة. لقد أقنعت زوجة موروا السيد إميري بطريقة ما بإجراء عملية نقل الدم الثالثة. وزعم لاحقًا أنه استُدرِج مباشرة إلى فخ.

زادت صدمة دوني عندما رأي مريضه؛ فقد كانت آخر مرة رآه فيها في عيد الميلاد عندما جلس في فراشه، وتلقى السر المقدس من القس المحلي. لقد بدا وقتها شاحبًا متعَبًا، إلا أن كل السمات الطبيعية للإنسان العاقل كانت باديةً عليه. ووقتها تحدث حديثًا مرضيًا واحتضن زوجته بدفء. لقد كانت حالته هذه المرة على النقيض تمامًا من سلوكه المتقلب قبل أيام قليلة. فكان موروا في المجمل نموذجًا لإنسان أعيد من جديد إلى الإنسانية؛ رجل انتُزع من براثن الجنون بمعجزة الطب الجديد القائم على العلم.

أما هذه المرة، فلم يكن من الممكن تمييز موروا إلا بصعوبة؛ إذ كان نموذجًا ممزقًا وهمجيًّا للإنسانية. كانت بشرة وجهه مشدودة، وغطت بعض قطرات الدم الجافة ذراعيه ويديه في المواضع التي ضرب بها بعض الأشياء — والأشخاص — خلال نوبات غضبه. كان متسخًا ولم يجلس في سكون إلا لأنه قُيد من جديد بحبل غليظ إلى كرسيٍّ، وكان الكرسي مربوطًا بأحد أعمدة المنزل الخشبية.

كان أول ما خطر ببال دوني هو أن يوليهم دبره ويهرب. فلم يكن هذا مكانًا مناسبًا لممارسة فن الطب المتقدم، وكان من الواضح أن المريض لم يكن قادرًا على استقبال مثل هذا العلاج الثوري. كانت العربة التي استأجرها لتُقله في انتظاره بالخارج؛ وكان بإمكانه أن يغادر بكلمة واحدة ولا يُسمع منه سوى قعقعة حوافر الخيل. لقد ظل دوني لبقية حياته يتمنى لو أنه نفذ هذه الفكرة. لكن ما حدث أنه تردد. وفي غضون لحظة، كان الأوان قد فات؛ فقد نزلت زوجة موروا على قدميه ولفت ذراعيها حول ساقيه. وبكت وهي راكعة على الأرض الحجرية وتوسلت إلى الطبيب من أجل الرحمة. حاول دوني في تلقائية أن يتراجع، وكاد أن يقع في عثرته على الأرض. لم تكن السيدة على استعداد لإطلاق سراحه، ولم تُرد تركه يخرج من الباب.

ارتبك دوني من المفاجأة؛ فقد كانت فرصة رؤية المريض شيئًا مهمًّا، لكن أن يدخل إلى غرفة كان من الواضح أن الاستعدادات فيها قد تمت لعملية نقل دم كان أبعد ما يكون عن تفكيره ومخالفًا لما يراه صحيحًا. من الواضح أن إميري قد اقتنع بضرورة إجراء عملية نقل دم ثالثة وكان عازمًا على المضي قدمًا؛ إذ كان يفحص مشرطه ويشحذه على حجر استعدادًا للعملية.

في نهاية المطاف شعر دوني بأنه لا خيار أمامه، لكن ما إن حرر نفسه من زوجة موروا المتشبثة حتى أعلن رأيه بأن هذا لم يكن مسارًا جيدًا للأحداث. وبعد قوله ذلك تمنى في نفسه أن تسير الأمور على ما يُرام وأن تكون العملية مفيدةً حقًّا.

مع ذلك، ربما تبدد حماس دوني بالسرعة نفسها التي زاد بها. فقد كانت إضاءة الحجرة سيئة. كان ذلك في شهر يناير وكانت الشمس قد غابت وراء الأفق منذ وقت طويل؛ ولم يرَ دوني مدى تدهور موروا إلا عندما اقترب. فحينها أدرك أن موروا كان مصدر الرائحة العفنة التي ملأت الغرفة، لتؤكد على مدى تدهور حالة الرجل المسكين على مدار الأسابيع القليلة السابقة.

تابع دوني وإميري تقييد ذراع موروا قدر الإمكان بحيث لا يمكن تحريكها وبحيث تكون أوردته مكشوفة. وأدخل إميري إبرة عبر جلد المريض إلى أحد الأوردة. لكن قبل نقل الدم إليه، كانا بحاجة لإفساح مساحة في أوردته. وسرعان ما قُيدت ساقه بحيث لا يمكن تحريكها. لم يكن موروا في مزاجٍ يجعله يتعاون، لكنه كان أضعف من أن يستمر في المقاومة كثيرًا. بعد لحظة واحدة، غرس إميري مشرطه في أحد الأوردة البارزة في الجزء العلوي من قدم موروا، وأمسك دوني بوعاء ليجمع فيه السائل الأرجواني.

قال دوني «وبهذا انتهت العملية. ففي غضون لحظات من بدء خروج الدم من قدمه، استولت على موروا رعشة عنيفة وتشنجت ذراعاه وساقاه بحدة.» توقف خروج الدم من الشق الذي أحدثاه في الوريد بقدمه، ربما لأن ضغط الدم في جسم الرجل المسكين انخفض بشدة، وانتزع إميري الإبرة من ذراع موروا لئلا تنكسر ذراعه أو تُجرَح.

أما ما حدث بعدئذٍ، فعليه ستار من الغموض، فقط كان هناك شيء واحد أكيد؛ بطلوع شمس اليوم التالي، كان دوني وإميري قد عادا إلى منزليهما، ووجدا موروا جثة هامدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤