الفصل الخامس عشر

فلما خلا لي الجو نَظَرْتُ يُمْنَة ويُسْرَة فلم أَرَ إلا ظلامًا وكآبة فقلت في نفسي: بالله كيف تستطيع امرأة مثلي أن تتحمل كل هذه الهموم والمصائب التي تَدُكُّ الجبال وتُفَتِّت الصخور، فلا بد لي من أن أبادر إلى الهرب مرة ثانية وأقصد مدينة «سان سرفان»؛ لأن لي هناك قريبة محبة وصديقة حميمة لا أخالها تَضِنُّ عليَّ بالمساعَدة والإسعاف، وفي الحال أَخْبَرْتُ ولدَيَّ بما عَزَمْتُ عليه فقبلا ذلك بغاية الفرح والسرور، ومن ثَمَّ جمعنا ما نحتاج إليه من الملابس واللوازم الضرورية وخرجنا نقصد السفر، فأخَذْنَا نَجِدُّ في السير حتى وصلنا إلى جهة سان مالو بسلام، وقد أعيانا التعب وأنهَكَنَا المسير، وبعد أن استرحنا قليلًا تحت ظل شجرة في الخلا نهضنا قاصدِين جهة «سان سرفان» التي كان الماء يغمرها منذ بضع ساعات واضطر أهاليها إلى تسيير الزوارق في طُرُقِها وأزِقَّتِها العمومية، حتى إذا وصلنا إليها بادَرْتُ مُسْرِعَة إلى دار صديقتي المعهودة، ولما طَرَقْتُ الباب لم يُجِيبَنِي أحد، فسألت عنها المجاورين لهذه الدار فأنبأوني أنها غادَرَتْ تلك المدينة، وهي ساكنة الآن بجهة «مونتفور» التي تبعد عن هذا المكان كثيرًا.

فتأسَّفْتُ على ضياع هذا التعب كله سدى، ولكني تجلَّدْتُ وصبرت على بلواي، ورأيت من الصواب أن نبيع كل ما كان معنا من الملابس والحلي حتى نجد المال اللازم للسفر إلى تلك البلدة وقد أَتْمَمْتُ ذلك فعلًا، وفي صباح اليوم التالي نهضت باكرًا فتوجَّهْتُ إلى المعبد وتضرَّعْتُ إلى الله بحرارةٍ أن يرعانا بعين عنايته ويمهِّد لنا السبيل في هذا الوقت الحرج، ثم أخذْتُ ولَدَيَّ تحت ذراعي وسِرْتُ متكلة على الله سبحانه وتعالى الذي هو وحده أبو الضعفاء ونصير العاجزين.

وبينما نحن نسير سيرًا حثيثًا ما أشعر إلا وقد نَظَرَ إلي جيلبير فجأة نظرة الذهول والاندهاش وقد اصفر لونه وارتجفت أعضاؤه ثم صَرَخَ بصوت مخيف.

رويدك يا أماه فقد أصْبَحْنَا على وشك الهلاك؛ لأني أرى أبي مقبلًا إلينا، والظاهر أنه يَجِدُّ في طلبنا ويقتفي أثرنا.

فرفَعْتُ نظري إلى الجهة التي أشار إليها جيلبير فتأكدت أن كلامه صحيحًا، لكني حمدتُ الله؛ لأن راعول كان لم يَزَلْ بعيدًا عنا كثيرًا وقد تأكد عندي أنه لم يَرَنَا بَعْدُ، فحمَلْتُ ولدَيَّ على ذراعي وبادَرْتُ مسرعةً أطلب الفرار من وجه هذا الوحش المفترس؛ لأني كنت واثقة بأنه إذا قَبَضَ علينا هذه المرة فلا نعود نستطيع الخلاص من تلك الورطة الوبيلة، ثم عرجت من طريق آخر مُتَّجِهَة نحو قرية «سان سرفان» في بقعة جبلية مهجورة تعلوها الرمال والصخور، ولا يسكن فيها أحد من بني الإنسان، ولجأت إلى صخرة عالية فجلسنا تحتها، وقد أنهَكَنَا التعب وعزمنا على أن نقضي يومنا كله في هذا الملجأ الحصين، حتى إذا أقبل الليل خرجنا نفَتِّش على مأوًى آخر في قرية «سان سرفان».

أما روبير وجيلبير؛ فقد كانا في ذلك الوقت في حالة يَلِينُ لها الجماد وتَتَفَتَّت منها الأكباد من شدة ما قاسياه في هذه السياحة المشئومة من المشقة والعناء، فأدْخَلْتُهُمَا إلى فُوَّهة تلك الصخرة العالية، وفرَشْتُ لهما شيئًا من الملابس فاضطجعا عليها وأخذَتْهُما سِنة النوم؛ فغَرِقَا في بحر الكرى، وبقِيتُ أنا أحرسهما حتى المساء، ثم تركتهما وخرجت إلى الخلا أريد استنشاق الهواء النقي وأتدبر في كيفية الوصول إلى القرية التي نقصدها في هذه الليلة قبل أن يداهِمَنَا مصاب آخر لم يكن في الحسبان، ولكني ما كِدْتُ أصل إلى الخارج حتى دُهِشْتُ اندهاشًا عظيمًا، ولم أتمالك أن صَرَخْتُ بأعلى صوتي يا لَلْمصيبة العظمى، ويا لَلدَّاهية الدهماء، لقد هلكنا لا محالة، فارحمنا يا الله ولا تَتَخَلَّ عنا.

وعند ذلك نهض ولداي من نومِهِمَا على إِثْر هذا الصراخ وبادرا إليَّ مُسْرِعَيْن وهما يناديان: ماذا جرى يا أماه، هل وصل والدنا إلى هنا يريد القبض علينا؟

قلت: حبذا لو صَحَّ ذلك؛ فإن هذه مصيبة أعظم وأدهى مما تظنان. قالا: وكيف ذلك؟

قلت: إن عدوًا آخر أكثر بطشًا وأصعب مراسًا من والدكما يتهددنا الآن؛ فانظرا أمامكما وأنتما تعلمان حقيقة الخبر.

ذلك أن البحيرة التي كانت على مقربة منا حدث بها فيضان عظيم فجأة وانهالت على ما يجاورها من الآكام والصخور فغَطَّت أغلبها، وأصبح الماء محاصرًا لنا من كل الجهات، وقد كاد يغطي الصخرة التي كنا نأوي إليها أيضًا.

وهنا لا حاجة لي يا سيدي أن أُخْبِرَك كيف كان حالنا وقد أحدق بنا الخطر من كل جانب، وصِرْنَا ننتظر الهلاك بفروغ الصبر؛ فكيف ننجو وإلى أين نهرب وقد سُدَّت في وجهنا كل المسالك، ولسنا نرى أمامنا سفينة أو قاربًا حتى ننادي أصحابه فيأتون إلى إنقاذنا والأخذ بناصرنا، وساعة الموت تدنو إلينا بسرعة غريبة وقد عدمنا النصير وانقطع عنا كل رجاء، أما أنا فكاد عقلي يطير من شدة الهلع والجزع، ولم أكن أخشى الموت حُبًّا في الحياة؛ لأنها أصبحت لدَيَّ بلا قيمة ولا اعتبار، ولكني أُمٌّ ترى بعينها ما سيحل بولديها أمام عينها من الهلاك، وتعلم أنها هي التي جَنَتْ على نفسها وعليهما ولا تضيق في وجهها سعة الفضاء، فكنا نصرخ بأعلى أصواتنا طالبين النجاة والخلاص، ولكن صدى صوتنا كان يرجع إلينا فارغًا والمياه تزداد انهيالًا علينا، فاستفزتني عندئذ عوامل الحنان والمحبة الوالِدِيَّة، فحَمَلْتُ وَلَدَيَّ على ذراعي وطَفِقْتُ أَتَسَلَّق على هذه الصخرة العالية لأحميهما من شر هذا الفيضان العظيم، ولكني كلما حاوَلْتُ الصعود زاد الماء ارتفاعًا حتى وصل إلى قمة الصخرة وغمر نصف قامتي وكاد يبتلعنا كلنا مرة واحدة.

figure
فحملت ولدي على ذراعي.

وكنت أجول بنظري في ذلك الوقت يُمْنة ويُسْرة فلا أرى إنسانًا ولا أنظر شبحًا، ولا تقع عيني إلا على الجبال المقفرة والآكام العالية تحيط بها القبة الزرقاء التي كانت في ذلك الوقت متلبدة بالغيوم الكثيفة والسحب المظلمة، فطَفِقْتُ أصرخ وأستغيث من فؤاد مجروح وقلب مكلوم، ولكن صراخي كان ينتشر في الفضاء ويذهب أدراج الرياح، وبينما أنا في هذا الموقف الحرج والحالة الفظيعة التي لا يستطيع أَبْلَغُ كاتب وأَفْصَحُ خطيب أن يقوم بإيفاء وَصْفِها لاحَتْ مني الْتِفاتة؛ فرأيت على بُعْد أشباحًا هائلة تدنو إلينا، ولما اقْتَرَبَتْ منا عَلِمْتُ أنها سفن تجارية، فَرَفَعْتُ ذِرَاعَيَّ إلى السماء وأَخَذْتُ أصرخ وأستغيث بصوت عال، ولكن مَنْ يقدر أن يوصل هذا الأنين الضعيف إلى آذان الذين نريد أن تصل إليهم أصواتنا وهم بعيدون عنا كل ذلك والماء يزداد فيضانًا وارتفاعًا حتى وصل إلى رءوسنا بعد أن غطى كل أجسامنا، أما أنا فأردت أن أحمل ولدي وأنهض بهما إلى صخرة أعلى من هذه يكون الماء بعيدًا عنها، ولكن حينما حاوَلْت القيام رأيْتُ نفسي عاجزة عنه، إذ تشنجت أعصابي وخارت قُوَايَ ولم تَقَرَّ أقدامي على النهوض، وبعد بضع ثوانٍ غَمَرَنَا الماء ودَفَعَنَا تياره إلى قاع البحر، وهناك لم أرَ لولدي أثرًا ولم أَقِفْ لهما على خبر، فغُشِيَ عليَّ من شدة اليأس والذهول، واستسلمت لعوامل القنوط، وسَلَّمْتُ نفسي ليد المنون عن طيب خاطر؛ لأنه لم يَبْقَ لي مَطْمَع في الحياة بعد هذا المصاب العظيم.

عند ذلك دَنَتْ تلك السفن، وقد شاهدتنا على بُعْد؛ فأتت تريد إنقاذنا، ولكن بعد أن نزل القضاء وحَلَّ البلاء؛ فأنزل بعض الملاحين قواربَ صغيرة إلى الجهة التي غَرِقْنَا فيها، ونقلوا منها ثلاث جُثَثٍ لا حراك بها.

أقول يا سيدي ثلاث جثث لا حراك بها، ولكن الحقيقة أنهما جثتان ميِّتان، وأما الثالثة فهي جثتي أنا التي كُنْتُ قد مُتُّ ثم بُعِثْتُ حَيَّة كما تراني.

فقد غرق جيلبير وروبير، وكنت أظن أني سأَلْحَق بهما، ولكن أبى الله إلا أن يُبْعِد عني الموت ليزيد في شقائي وتعذيبي، ولما أَفَقْتُ من غشيتي وَجَدْتُ نفسي في وسط إحدى السفن وحولي جماعة من الرجال يعتنون بأمري، وينبهون حواسي لأفيق من غشيتي وأمامي جثتان

هما جثتا ولَدَيَّ المحبوبين وثمرة أحشائي وموضوع رجائي وعزائي، وهنا لا تَطْلُبْ مني يا سيدي أن أَشْرَحَ لك ما اعتراني من الذهول والجنون؛ فاحتملت هاتين الجثتين العزيزتين وطَلَبْتُ إلى أصحاب السفن أن يسمحوا لي بالنزول إلى أحد جوانب هذه الجزيرة التي غَرِقْنَا فيها يكون الماء بعيدًا عنه، فأجابوا طلبي بعد إلحاح طويل، وهناك دَفَنْتُ ولدي المحبوبين بيدي وبَلَلْتُ قبرهما بدموعي الغزيرة، وأقسمت أن لا أنتقل من هذه البقعة التي ضَمَّ ثراها أعز الناس عندي وأحبهم لدي، ومن ثَمَّ أخذت أهيم على وجهي في هذه الصحراء، وقد كانت تأخذني نوبة من الجنون حينما أتذكر شيئًا من ماضي حياتي التعيسة، وها أنا كما تراني يا سيدي منفردة في هذا الخلاء لا أنيس لي غير آكام البر وصخور البحر، ولست أسمع غير قصف الرعود ولا أرى إلا هطول الأمطار وتراكم الثلوج وتلاطم الأمواج، أتسول وأعيش من فضلات أهل الخير والإحسان، أنا التي رُبِّيتُ في مهد العز والدلال، ومِن الغريب أن كل هذه المصائب والنوائب انهالت على رأسي، ومع ذلك لم أزل حية أرزق إلى الآن.

قالت ذلك ثم الْتَفَتَتْ إلى أمواج البحر المتلاطمة تحت الصخرة التي كانت مادلين جالسة عليها مع ذلك السائح المجهول وهي تقص عليه تاريخ حياتها، وهو ينظر إليها بقلب مُفْعَم بعوامل الحزن والشفقة، وعند ذلك تَأَوَّهَتْ وظَهَرَتْ عليها علامات الانقباض والاكتئاب، ثم عادت فاستأنَفَت الحديث وقالت للسائح:

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤