الفصل الرابع

وفي اليوم الثاني أَخَذَتْني والدتي إلى بيت إحدى صديقاتها على بُعد بضعة أميال من قرية فوجير، وبعد أن لَبِثْتُ هناك يومين كُنْتُ في خلالهما لا أذوق طعامًا ولا ترى أجفاني لذة الكَرَى عُدْتُ مع والدتي إلى دارنا؛ فوجَدْتُ أن حبيبي موريس قد غادر تلك الديار وسَلَّمَ والدي جوابًا كان قد تَرَكَهُ لي قبل سفره؛ فلما فَتَحْتُه ووقع نظري على اسمه اشْتَعَلَتْ في قلبي نيران الوجد والحزن، وكانت هذه أول مرة شَعُرْتُ فيها بمرارة العيش وحلول الشقاء.

وقد كَتَبَ إليَّ موريس في هذه الرسالة يقول:

أستودعك الله يا حبيبتي مادلين؛ فقد قَضَتْ إرادة والدتك بأن أبارح الدار التي عِشْنَا تحت سقفها وتمتعنا فيها بلذة الحب الخالص والهوى العذري، ولعلني لا أراك مرة أخرى بعد الآن.

فهل يرضى الله يا تُرى أن تعيشي سعيدة قريرة العين، وإن كنت أنا أشعر منذ الآن بأني فقدت لذة الحياة ولم يَعُدْ لي مَطْمَع في البقاء؛ فإذا مَنَّ الله عليكِ بهذه السعادة بعد ذلك الشقاء فاذكري أن لك في العالَم حبيبًا يفديك بالنفس والنفيس، وقد ملأ حُبُّك قَلْبَه وسَرَى في كل أعضائه ومفاصله، وقد أَحَبَّكِ وسيحبك إلى آخر نسمة من حياته، فناشدتك هذا الحب الطاهر أن لا تَنْسَيْ هذا المحب التعيس.

موريس

ولا تسألني يا سيدي عما أذرفْتُه من العبرات وأصْعَدْتُه من الزفرات على إثر قراءة هذه الرسالة، حتى أصابني مَرَض عضال فلازمْتُ الفراش، وكنت أتمنى أن ينقضي أجلي فأتخلَّص من هذا الشقاء والعذاب، ولكن التعساء لسوء الحظ لا يموتون.

وقد كُنْتُ صمَّمْتُ على رَفْض الزواج قطعيًا مهما كانت الحالة، ولكن إرادة والدتي تَغَلَّبَتْ عليَّ وظهَرَتْ فيَّ عوامل الضعف النسائي بعد مُضِيِّ مدة من الزمان، فتزوَّجْت رغمًا عني بذلك الشقي الذي انتَخَبَتْه لي والدتي، وهو المسيو راعول الذي كان من زُمْرَة الأغنياء، ولكنه اشتهر بفساد السيرة والسريرة، وكُنْتُ أسمع الناس يقولون: إنه ملأ الأرض بفسقه وفجوره ومفاسده وشروره، ولكن والدتي عَمِيَتْ عن كل هذه المساوئ؛ لأنها قالت: «إنه رجل غنيٌّ والسلام»، ولم أَلْبَثْ أن بارَحْتُ قرية «فوجير» مَسْقِط رأسي ومَنْبِت شعبتي، وفارقت بَيْت والدي المسكين الذي كان يزرف الدموع السخينة لانفصالي عنه؛ لأني كنت موضوع تعزيته وسلوانه.

أما عن حالة معيشتي مع هذا الزوج الجديد فحدِّث عنها ولا حَرَجَ؛ لأن مثل هذا الزواج الإجباري ليس وراءه في الغالب إلا المصائب والأخطار، إن زوجي راعول لم يكن يُظهر في مبدأ الأمر إلا الحب والإخلاص، ولكني لم أكن أجد في نفسي أقلَّ مَيْل إليه، فاحتَمَلَ مني هذا الجفاء أوَّلًا وثانيًا، ولكنه أخيرًا نَزَعَ هو أيضًا إلى العداء، ومن ثَمَّ أصبَحَتْ معيشَتُنا مُهَدَّدَة بالخطر، وغَدَوْنَا أَشْبَهَ شيء بعَدُوَّيْن يطلبان أَخْذ الثأر، لا زوجين يتعاونان على مَصَاعِب العيش ومَتَاعِب الحياة.

وكانت عداوة زوجي راعول ممزوجة بالدناءة وحب الانتقام، وأما أنا فلم أكن أطلب له الأذى، ولكني كُنْتُ لا أُحِبُّه فقط؛ لأن مبادئنا ومشاربنا لم تَتَّفِق.

figure
وهناك جلست على صخرة عالية.

وكان راعول يتذكر في ذلك الوقت أنه طلب التزوج بي أكثر من مرة فقَابَلْتُ طَلَبَه بالرفض والإباء؛ لأني كُنْتُ أحب موريس، ولا أَرْضَى بغيره لي خليلًا؛ فحينذاك يزداد غضبه وتشتعل في قلبه نيران الحنق وحب الانتقام.

أما أنا فكنت لا أرى طريقة لإزالة غُصَّتي وتفريج كربتي غير الخروج إلى الخلاء واستنشاق هواء الصحراء، وملازَمة العزلة والانفراد.

فخرجت ذات يوم إلى الخلاء (وهناك جلست على صخرة عالية)، وكنت أرى أمامي أمواج البحر تتلاطم بشدة؛ فيدوي صدى صوتها في الآفاق، وهناك أطلَقْتُ لذاكرتي العنان لتَجُولَ في عالم التخيلات والتأملات؛ فتذكَّرْتُ تلك الأيام السعيدة التي قضيتها مع حبيبي موريس، وكيف أن الدهر أبى إلا حرماننا من التمتع بها، وألوم نفسي من الجهة الأخرى؛ لأنني نَكَثْتُ عهد مَحَبَّتِه ورضيت الاقتران بهذا الزوج اللئيم، وفي ذلك الوقت كان يتمثل أمامي حبيبي موريس جالسًا مثلي على صخرة أخرى يبكي على فراقي ويندب سوء حظه؛ لأنه لم يَحْظَ بقربي، ويلومني على هذه الخيانة الفظيعة، فعند ذلك ارتَعَدَتْ فرائصي واقشعر بدني؛ لأني شَعُرْتُ بجسامة ذنبي وعظيم خطئي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤