الفصل العاشر

الأسمار والأحاديث١ في ليالي رمضان

أيها السادة

إن الشوق إلى السمر في رمضان هو شوق قضت به طبيعة الحياة؛ لأن الناس يكادون يمسكون عن الكلام في أيام الصيام من فرط التعب والإعياء، فإذا جاء المغرب وأفطروا رجعت إليهم الحيوية، وتشوفوا إلى مطول الأحاديث، والإنسان حيوان ناطق كما تعرفون، ناطق بالفكر وناطق باللسان، والكلام عند الإنسان هو مادته الأولى من اللهو واللعب وهو مسلاته وملهاته في أكثر الأحايين.

أضيفوا إلى هذا أن الناس يحتاجون في ليالي رمضان إلى انتظار السحور، وهم لا ينتظرونه ساكتين، وإنما يتعاونون على السهر بأطايب الأسمار والأحاديث.

ومن الحق أن نذكر أن الكلام يستعمل أيضًا في تزجية أيام الصوم، والتاريخ يحدثنا أن علماء المسلمين كانوا يقطعون أخريات النهار بالجدل والمناظرة في الشؤون الدينية واللغوية، ومن شواهد ذلك ما حدثنا الصاحب بن عباد من أنه كان يرى العلماء يتجادلون في قصر ابن العميد بعد العصر في رمضان، فإذا اقترب المغرب انقلبوا إلى بيوتهم، وكانت هذه الحال مما ضايق ابن عباد، فنذر إن أقبلت عليه الدنيا ليحجزن العلماء إلى ما بعد الفطور، ثم قضى الحظ أن يكون وزيرًا فكان العلماء يحضرون عنده بعد العصر في رمضان للجدل والمناظرة، فإذا أذن المؤذن مدت لهم الموائد فأكلوا وشربوا، ثم قضوا السهرة إن شاءوا في السمر والحديث.

ومن قبل ابن العميد وابن عباد كانت المساجد تمتلئ بالناس بعد العصر في رمضان، وكان الواعظون والقصاص يلهون الناس عن متاعب الصوم بفضل ما ينثرون عليهم من العظات والأقاصيص، ولو راجعنا التاريخ لحدثنا عن شواهد ذلك من أخبار المساجد في البصرة والكوفة وبغداد.

ولا تزال هذه السنة متبعة في الديار المصرية، ورحمة الله على الشيخ محمد غريب الذي كان يلهينا ويشجينا بشرح الأحاديث في مسجد سنتريس، ورحمة الله على الشيخ الرفاعي الذي كان يأتي بالعجب وهو يلقي العظات بعد العصر في مسجد سيدنا الحسين.

وكان لعلماء القاهرة سنة مرضية، فقد كان منهم من يذهب إلى المسجد بعد السحور ثم يحدث الناس إلى صلاة الصبح، ولهم في ذلك نوادر يضيق عن سردها هذا الحديث.

ولا أستطيع أن أزعم أني قادر على وصف ما يقع في بغداد من الأسمار والأحاديث في ليالي رمضان، فإني لم أشهد فيها شيئًا من هذا النوع، ولا أزال بفضل انقطاعي للدرس وانعزالي عن الناس كالشاعر الذي يقول:

يا أيها السائل عن منزلي
نزلت في الخان على نفسي
آكل من خبزي ومن كسرتي
حتى لقد أوجعني ضرسي

فاسمحوا لي أن أحدثكم عما يقع من ذلك في البلاد التي يرويها النيل، وأكاد أجزم بأن جميع الناس في القرى المصرية يقطعون أمسياتهم في تبادل الزيارات، ولهم في ذلك طرائق لطيفة تتمثل في الوفود التي تنتقل من بيت إلى بيت ومن دوّار إلى دوّار، والدوّار في بلادنا هو المضافة الكبيرة التي يسمر فيها الأهل والأقربون ويتلقون فيها الضيفان.

أما القاهرة فلها أحوال، فقد كانت إلى نهاية الجيل الماضي تعرف التزاور في البيوت، ثم قلت هذه العادة الحسنة رويدًا رويدًا حتى كادت تتقلص، ولم يبق فيمن أعرف من ينتظر الناس بمنزله في ليالي رمضان إلا العدد القليل.

فمنذ خمسة عشر عامًا كان في القاهرة منزل الصوفاني بالحلمية الجديدة، وكانت لذلك المنزل تقاليد، وإنما خصصت ذلك المنزل بالذات لأن رمضانياته كان لها أثر في الحياة السياسية والاجتماعية.

وفي هذه السنين لا أعرف في القاهرة منزلًا يحافظ على تلك التقاليد غير منزل عبد الرازق وهو المنزل الذي يعمر اليوم بالأخوين النبيلين علي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق، ففي ذلك المنزل تلتقي الوفود في كل مساء، وفيه تجرى أطيب الأسمار وأظرف الأحاديث، وفي ذلك المنزل تلقى من تشاء من الرجال فتحادث الشيخ الزنكلوني ولطفي باشا السيد والدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين.

وهناك منزل في حي السكرية هو منزل القاياتي، وقد خلا من الغطاريف البهاليل، ولم يبق فيه من الخير إلا وجه الشاعر المطبوع السيد حسن القاياتي، ومن طرازه منزل السيد عبد الحميد البكري الذي كان مرجع الصوفية إلى عهد قريب والذي شب فيه صاحب صهاريج اللؤلؤ، نضر الله مثواه.

•••

فإن سألتم وأين يلتقي أدباء القاهرة في ليالي رمضان، فإني أخبركم بأن ذلك لا يقع إلا في المقاهي والأندية، ولكل أديب مشهور مقهى خاص، فالشاعر محمد الهراوي ينتظر إخوانه في مقهى لونابارك، واللغوي محمد وحيد الأيوبي ينتظرهم في مشرب السلام، والصحفيون يسمرون في بار اللواء، وكذلك تهجر البيوت وتوصل المقاهي في ليالي رمضان.

ولكن من العدل أن ننص على أن تلك المقاهي سيكون لها تأثير عميق في الأدب الحديث، وهل يمكن تناسي صولات الجدل في قهوات شارع عماد الدين؟ هل يمكن أن نتناسى قهوة ريجينا حيث يسمر الممثلون والفانون والصحفيون؟ هل يمكن أن نتناسى بار اللواء وفي أجوائه رنت أصوات محمد هلال ومنصور فهمي ومحجوب ثابت وحفني محمود ومحمد خالد وأنطوان الجميل وداود بركات؟

إن تلك المقاهي خليقة بأن تعد في طليعة الأسواق الأدبية التي تذكر بالمربد وعكاظ، وهي بفضل من تعرف من الكتاب والخطباء والشعراء والفنانين والمفكرين خليقة بالبقاء، ففيها تجري الطرائف من أطايب الأسمار والأحاديث، وفيها تحيا فنون الأدب الرفيع.

وما يصح أن توصف به مقاهي القاهرة ينطبق تمام الانطباق على مقاهي الإسكندرية، فهناك القهوة التجارية التي يسمر فيها أدباء الثغر على ذلك الشاطئ الجميل.

ولأسمار الإسكندرية لون خاص، فشعراء الإسكندرية هم اليوم يتفردون بإحياء فن الدعابة الأدبية، وهي دعابة طريفة يتفق لها في أحيان قليلة أن تقارب الهجاء، وليالي الإسكندرية لها في أنفس القاهريين مكان، ومنهم من يرحل إلى هناك ليقضي ليلة أو ليلتين في الاستماع إلى محاورات الأساتذة عبد اللطيف النشار وعتمان حلمي وعلي البحراوي وخليل شيبوب ولا سيما بعد أن انتقل الدكتور أبو شادي إلى شاطئهم الساحر فأهدى إليه مادة نفيسة من الجدل العنيف.

هنالك أيها السادة يقع الشعراء بعضهم في بعض، ويتقارضون الهجو في المحضر والمغيب بألسنة عذاب فصاح، ومن شمائل أولئك الشعراء صدق العطف على أدباء القاهرة فهم يلقونهم بالترحيب ويمتعونهم بأطايب السمك وأطايب الحديث.

ولا بد من الإشارة إلى أن لسمار القهوة التجارية في الإسكندرية أشباهًا في القاهرة، هم السمار الذين يعرفون لجنة الترجمة والنشر والتأليف، حيث تطيب النكتة على ألسنة أحمد أمين وعبد الحميد العبادي ومحمد عوض، وحيث ترهف الآذان من أمثال الأساتذة أحمد زكي وأحمد حسن الزيات.

ولسمار الإسكندرية أشباه غير هؤلاء، وهم سكان البعكوكة الأرضية بدار الكتب المصرية، حيث يلتقي الأساتذة محمد الهراوي وأحمد رامي وأحمد الزين وعبد الله حبيب.

ولكن هذه البعكوكة نهارية، فياليت شعري كيف يصنعون في رمضان.

•••

أما الأندية الأدبية فهي منثورة في مختلف الحواضر المصرية، وأشهرها جمعيات الشبان المسلمين، وأندية الموظفين، وهي مختلفة الألوان فمنها ما يخوض في شؤون المجتمع، ومنها ما يخوض في شؤون الأدب ومنها ما يشرح أصول الدين، وفيها تيارات اجتماعية وسياسية يصعب الكلام عليها في هذا الحديث، ويكفي أن نذكر أن حياتها الليلية تعتمد على السمر الطريف، وتهتم في الأغلب بسماع المحاضرات أو الإقبال على ما ينشر المذياع من أغان وأحاديث.

•••

بقى أن نشير إلى الجرائد الهزلية في مصر، فلها لون طريف في أيام رمضان.

لقد كان من عادة الناس في مصر أن يختصوا هذا الشهر بنوع من الحلوى اسمه قمر الدين، وهو دائمًا مادة الفكاهة في الجرائد الهزلية، وقد اتفق مرة أن أرسل أحد الموظفين هدية إلى حضرة صاحب العزة عوض بك إبراهيم وكيل وزارة المعارف، فعدها رشوة وأبلغ الأمر إلى النيابة، فكتب الأستاذ حسين شفيق المصري يقول: إن هذه من أقوى دلائل النزاهة في عوض بك إبراهيم، ولا سيما إذا تذكرنا أن الهدية كانت في رمضان وأنها من قمر الدين.

ونشرت إحدى الجرائد عن رجل مشهور أنه تناول الغذاء في القناطر الخيرية، وكان ذلك في رمضان، فكتب أحد الأدباء في تأنيبه يقول: ألم تسمع أننا في رمضان؟ ألم تسمع وحوي وحوي أيوحه؟ ألم يطبخوا في بيتكم قمر الدين؟

ولكن قمر الدين — مع طلعته البهية — تقلصت دولته، وحلت محله الكنافة، على وجهها أزكى التحيات، فمن شاء منكم أن يزور مصر فليكن ذلك في رمضان، ليمتع عينيه بمنظر الكنافة، فلها وجه خمري جميل.

وقد يكون من الفكاهة أن أحدثكم أن الكنافة تقوم في مصر بعمل قومي جليل، فإخواننا المسيحيون يدعون كثيرًا لتناول الكنافة مع إخوانهم المسلمين في رمضان، وأكثرهم يتوهم أن جنة المسلمين ستكون مملوءة بالكنافة، وأنا لذلك أرجو أن يهديهم الله جميعًا للإسلام فيجتمعوا على الكنافة هنا وهناك.

سيداتي وسادتي

تلكم كلمة موجزة عن أسمار رمضان، فإن راقتكم فبها ونعمت وإن لم ترقكم فاعذروني، فقد فارقت في مصر أصدقاء أعزاء منهم السيدة كنافة والسيد قمر الدين، والمرء حين يبعد عن أعزائه تفارقه بلاغة القلم وفصاحة اللسان.

١  أول محاضرة ألقاها المؤلف بالإذاعة العراقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤