الفصل الخامس عشر

زكي مبارك في لبنان

صديقي

تحيتي إليك وإلي شارع الهرم ومصر الجديدة والزمالك وشارع فؤاد.

وبعد، فقد كانت جريدة المكشوف نشرت كلمة طيبة تحت عنوان «الدكتور زكي مبارك في طريقه إلى العراق» ثم لخصها الكاتب المفضال الذي يحرر الصفحة الأدبية والاجتماعية في الصباح، ولكن ظهر أن تلخيص تلك الكلمة لم يرض كاتبها الأول فاندفع يهجم على الصباح وعلى الدكتور زكي مبارك في جريدة المكشوف بأسلوب غير مقبول.

فاسمحوا لي وأنا محور هذا الجدل أن أزن المسألة بميزانها الصحيح فأقول:

لم تكن ظروفي في مصر تشجعني على السفر إلى العراق فقد كنت شرعت في طبع كتاب «التصوف الإسلامي»، ولكن أصدقائي في مصر خوفوني عواقب الرفض، وقالوا: إن خصومك سيزعمون أنك غير صادق في الدعوة إلى الأخوة العربية، فهاج في نفسي غرام العروبة وأجبت الرغبة النبيلة التي أعلنتها الحكومة العراقية، ونظرت فرأيت زملائي من الأساتذة المصريين ينوون الوصول إلى العراق من أقرب طريق؛ فأبيت مرافقتهم وصممت على المرور بالبقاع الكريمة: فلسطين، وسورية، ولبنان.

ولما نزلت بيروت قضى الحظ السعيد أن أرى أديبين فاضلين هما روحي فيصل وأحمد شلبي، فلقيت منهما كرمًا لا يستغرب من أهل لبنان، ثم مضيت فسلمت على من استطعت التسليم عليه من رجال القلم والبيان.

وما كدت أقضي أسبوعًا واحدًا في بغداد حتى تلقيت نسخة من جريدة المكشوف وفيها كلمة طيبة عن الدكتور زكي مبارك، وفي ذيلها عنوان الكاتب الأديب، ومضت أسابيع وجاء عيد الفطر فجاءتني تحية كريمة من ذلك الكاتب، فأخذت أستعد لكتابة خطاب أشكر له فيه ذلك الفضل الذي لا يستغرب من أهل لبنان، وقبل أن أضع الخطاب في صندوق البريد، تلقيت نسخة جديدة من جريدة الكشوف فرأيت ذلك الكاتب نفسه يهجوني ويهجو مجلة الصباح، مع أنه تلقاني في بيروت على غير معرفة سابقة بأحسن آيات الترحيب.

والآن أسأل نفسي: أفي الحق أن الذين يهجونني في لبنان هم أنفسهم الذين أكرموني في لبنان؟ وهل فسدت الدنيا إلى هذا الحد فينتقل المرء من الصداقة إلى العداوة في أسبوعين؟

أفي الحق أن المودة في لبنان مودة عابرة كسحابة الصيف؟ أفي الحق أن الأديب الذي تلقاني مرحبًا في جريدة المكشوف هو نفسه الذي نشر الهجوم على زكي مبارك ومجلة الرسالة ومجلة الصباح؟

اسمع يا صديقي

إن هذه التقلبات تغزو قلوبنا بالحسرة على ما صارت إليه آداب الناس في البلاد العربية، ولكن لا تحزن ولا تجزع، فأولئك الناس لا يمثلون البلاد العربية، وإنما يمثلون أشخاصهم الفانية، وقد لقيت في بغداد رجالًا كادوا ينسونني وطني وأهلي، وذلك الكاتب نفسه يعترف بأن الصباح له في بيروت قراء مدمنون، والإدمان على قراءة المجلات المصرية هو في ذاته تمجيد للبلاد المصرية.

اسمع يا صديقي

إن مصر تنفق ألوف الدنانير في كل أسبوع لنشر اللغة العربية فهي تتحمل تضحيات في سبيل العروبة يعرفها كرام الرجال، فلم يبق إلا المغرم الهين وهو أن نحتمل الأذى في هذه السبيل.

وأنا بالرغم من كل ما حدث أذكر الذين لقيتهم في لبنان بكل جميل، رعاية لعواطف صادقة عانيت في سبيلها ما عانيت، ورعاية لإخوان أعزاء يسوءهم ألا أكون من المحبين لذلك البلد الجميل، والسلام عليهم وعليك من ضيف العراق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤