الفصل الحادي والأربعون

بين مصر ولبنان١

أخي الأستاذ رئيس تحرير البلاد

إنك تذكر ولا ريب أنني صحفي قديم، وتذكر أنني ابتدأت بالصحافة السياسية، ثم انتهيت إلى الصحافة الأدبية، فرارًا مما يصحب السياسة من المحرجات التي يضيق بها الوجدان في بعض الأحوال.

وتذكر أيضًا أنني غامرت في أكثر من ألف معركة أدبية، ثم انتصرت فيها جميعًا، فليس في مصر عالم ولا أديب يستطيع أن يقول في السر أو في العلانية إنه انتصر على الدكتور زكي مبارك.

كل ذلك تعرفه يا سيد رافائيل، ولكن غابت عنك أشياء، فهل تصدق أنني سأنهزم أمام مجلة المكشوف التي تصدر في بيروت؟ إي والله! سأنهزم وسأعود إلى أهلي وأنا جريح الفؤاد.

لا تعجب أيها الأخ من هزيمة أخيك الشجاع زكي مبارك، فإن جريدة المكشوف تدخل معي في مضايق أجبن عنها كل الجبن، لأنها تحاول أن توقد نار العداوة بين أدباء مصر وأدباء لبنان، وأنا رجل صممت على أن أعيش دهري كله من دعاة الأخوة بين الأقطار العربية فلا أستبيح لنفسي أن أشترك في مناقشة يقال فيها لبنان أفضل من مصر، أو مصر أعظم من لبنان.

أضف إلى ذلك أن لي أصدقاء من اللبنانيين يسوءهم أن أعرض لبلادهم بكلمة ملام، فهل رأيت أحرج من هذا الموقف أيها الصديق؟

أنا لا أرى لبنان في وجوه أولئك السادة الذين يحاربونني في جريدة المكشوف، وإنما أرى لبنان في وجوه الأصدقاء الأمجاد الذين عرفتهم في بيروت وفي القاهرة وفي باريس.

قد يسأل قراؤك: وما أصل الخصومة؟

وأجيب بأن جريدة المكشوف تقول إن الأدباء اللبنانيين أعمق من الأدباء المصريين!!

وما يسوءني أن يكون الأمر كذلك، فنحن جميعًا إخوان، ولكن الواقع يشهد بغير ذلك، الواقع يشهد أن أدباء مصر هم اليوم حماة اللغة العربية، وأقطاب الأدب والبيان، وتفوق الأدباء المصريين ليس مغنمًا لمصر وحدها، وإنما هو مغنم لجميع الأمم العربية، فإن استطاع لبنان أن يقدم للعروبة أدباء أعمق من أدباء مصر فسأكون أول المرحبين، ولكن مصر بحيويتها العلمية والأدبية والفنية ستظل مرفوعة العلم شامخة البنيان.

وأؤكد لك يا صديقي أن مصر تعرف جيدًا ما هي مقبلة عليه، هي تفهم أن المجد الأدبي يقدم له وقود هائل من الجهد والمال، وهي من أجل ذلك تحض أبناءها على الجهاد الموصول في سبيل الحياة العلمية والأدبية والفنية، وهي تعمل ما تعمل في سكون، وتترك الأقاويل والأراجيف لمن لا يعرفون قيمة الأخوة العربية.

هل تصدق أيها الأخ أن وقتي في العراق يضيع منه جزء ثمين في دفع المفتريات التي تصوب إلى مصر بلا حساب؟

أحب أن أعرف ما هو الموجب للتحامل على الأدباء المصريين وهم يقذفون أبصارهم تحت المصابيح في خدمة اللغة العربية.

أحب أن أعرف ما هو الموجب للحقد على مصر في بلد مثل لبنان، وقد كانت مصر هي الملاذ للمضطهدين من أحرار الفكر في لبنان.

أما بعد، فإن بعض أصحاب الأهواء يسوءهم ثم يسوءهم أن يقال إن مصر لها الزعامة الأدبية، وأنا أقول بصوت جهوري يسمعه من في القبور: إن الأمم العربية لم تتصدق على مصر بالزعامة الأدبية، وإنما هي مجد غنمه المصريون بفضل ما قدموا من الجهود في نصرة اللغة العربية، ونحن على أتم استعداد لأن نقدم الراية لمن ينفقون من أعمارهم بعض ما ننفق في سبيل لغة الضاد.

فلتسمع هذا الكلام مجلة المكشوف، ولتفهم جيدًا أن أدبي لا يسمح بمجاراتها في ميدان الهجاء؛ لأن لي في لبنان إخوانًا كراما يؤذيهم أن تعثر قدمي في هذا الميدان، وأنا لا أنظر إلى الساعة الحاضرة، وإنما أتمثل المستقبل المشرق الذي ترفرف فيه راية العروبة الغالية، وذلك أمل أراه برعاية الله سهل المنال.

أكتب هذا إليك وأنا أرجو أن لا تعلق عليه بما يؤذي إخواني في لبنان، ولمجلة المشكوف أن تعلق بما تشاء، فليست أول مجلة آذتني، ولن تكون آخر مجلة تؤذيني بالظلم المبين.

وسبحان من لو شاء لهدانا جميعًا إلى سواء السبيل.

١  قدمت هذه الكلمة إلى جريدة البلاد، ولكنها لم تنشر في الوقت المناسب لأسباب كثيرة منها تعطيل الجريدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤