الفصل السابع والأربعون

إصلاح الخط العربي

إلى الصديقين الكريمين محرري مجلة التربية الحديثة

أقدم إليكما أصدق التحيات، ثم أتشرف بتقديم ما سألتموني من الرأي في إصلاح الخط العربي، ولكن على شرط أن تحتملوا الاطناب، لأن لي في هذه المسألة آراء عرضتها في مواقف رسمية، أحدها في مدرسة اللغات الشرقية في باريس يوم حاججت الأساتذة العظام مرسيه وكولان وديمومبين، وثانيها يوم قدمت رسالة «اللغة والدين والتقاليد» إلى لجنة رسمية مؤلفة من حضرات أصحاب المعالي والعزة أحمد لطفي السيد باشا وجعفر ولي باشا وبهى الدين بركات باشا وطه حسين بك ومصطفى عبد الرازق بك، وهناك موقف أخطر وهو الذي دعوت فيه صراحة إلى كتابة المصحف بالرسم الحديث، وتصريحي بأن سيدنا عثمان كان مبتدئًا في الخط وأنه لو عاش في هذا العصر لكان من المستحيل أن نكل إليه تعليم الخط في مدرسة أوليه، ثم تصريحي بأن مشايخ الأزهر يصدّون عن كتاب الله حين يوجبون أن يرسم بخط تصعب قراءته على أكثر الناس.

أما موقفي في مدافعة المستشرقين فيتلخص في أن الخط العربي هو أصلح الخطوط للغة العربية، وأن الحروف اللاتينية لا تنفعنا أبدًا، لأنها تعجز عن تأدية النطق العربي تأدية صحيحة.

قالوا: ومع ذلك يعجز الخط العربي عن تأدية النطق العربي تأدية صحيحة!

قلت: لأننا نهمل الشكل وهو عنصر أساسي في الخط العربي.

وهنا أذكر أن أهل بغداد كانوا السبب في حرمان الخط العربي من أهم عناصره وهو الشكل، لأنهم كانوا يرون الشكل إهانة للمخاطب واتهامًا له بالجهل.

وهذا الذوق البغدادي كان يقبل في القرن الثالث يوم كانت الثقافة الأدبية مقصورة على الخواص الذين يؤذيهم أن ترشدهم إلى صواب النطق بشكل الكلمات.

وقد تغير الحال في هذا الزمان وصرنا مضطرين إلى مخاطبة الجمهور كله وفيه أطفال ونساء وجاهلون، فما كان يعتبر إهانة عند أهل بغداد في القرن الثالث أصبح في زماننا من الواجبات.

وخلاصة هذه الفكرة أن التشبث بالخط العربي ليس نزعة قومية، كما يتوهم أكثر الناس، وإنما التشبث بالخط العربي أمر يوجبه العقل والمنطق لأنه أصلح الخطوط لتأدية النطق الصحيح في اللغة العربية.

وكلمة «كتب» معناها في الأصل «قيد» وكذلك «الشكل» معناه «القيد» أنه مأخوذ من الشكال، أي القيد، فالذي يشكل الكلمة يقيدها: أعني أنه يحصرها في وضع واحد، وكانت قبل الشكل تنطق بأوضاع مختلفات.

وأقول ثم أقول، وأقرر ثم أقرر، أن الخط العربي لا يعوزه غير الشكل، فإذا شكلناه أصبح قادرًا كل القدرة على تأدية النطق وتحديد المعاني على نحو ما تصنع الحروف اللاتينية في اللغات الأوربية.

ولو ظهرت الجرائد والمجلات مشكولة عامين اثنين لرأيتم كيف يصلح النطق وكيف يشيع الإفصاح.

•••

وهنا ندخل في شعاب المعضلة الحقيقة فنقول:

إن لحرف القاف مثلًا أربع صور هي: ق، ﻗ، ﻘ، ﻖ.

ولو وضعنا لكل صورة ثلاث حركات لاحتجنا إلى اثنتي عشرة صورة لكل حرف، وبذلك تتعدد الصناديق، وتحتاج كل مطبعة إلى مضاعفة عدد الصفافين، كما يعبر أهل مصر، أو المرتبين، كما يعبر أهل العراق.

وأنا بكل صراحة أدعو إلى توحيد الحروف، أدعو إلى الاكتفاء بصورة واحدة لكل حرف، فيكون له رسم واحد في أول الكلمة وفي الوسط وفي الطرف، ثم يصب من كل حرف ثلاثة أشكال فيها الكسر والضم والفتح، مع الاستغناء مؤقتًا عن حركات الإعراب.

وهذا الاقتراح يذهب بشيء من جمال الخط العربي، ولكن جمال الخط لا يساوي ما نظفر به من الدقة والتحديد في الخط المقترح.

الشكل هو الإصلاح الوحيد للخط العربي، ولكن شكل الحروف بوضعها الحاضر يوجب تعقيد الصناديق، وتوحيد أشكال الحروف يمنع هذا التعقيد.

في الصندوق العتيد أربع صور لحرف الفاء هي: ف، ﻓ، ﻔ، ﻒ.

وفي الصندوق الذي أقترحه أربع صور هي: ﻓَ، ﻓِ، ﻓُ، ﻓ.

والصورة الأخيرة عارية عن الشكل فلتكن صورة السكون أو الوقف.

•••

وما أقترحه خاص بحروف الطباعة، أما الكتابة العادية فخط الرقعة يكفي فيها كل الكفاية، ويحسن أن يكون عندنا خطان اثنان فقط: خط للطباعة وخط للتحرير.

وأنا — بعد الذي أسلفت — أقرر بصراحة أن صعوبة النطق التي أوجبها سوء الخط كانت السبب في اهتمام العرب بالتمكن من لغتهم، كما أن صعوبة النحو العربي كانت السبب في نبوغ أكثر الأدباء.

والتعليم في الأزهر كان نافعًا جدًا يوم كان يجري على نظام غير مرتب، فلما وصلت إليه طرائق التربية الحديثة أصبح ضعيفًا.

أقول هذا وأنا أعرف أن سيغضب الدكتور بقطر والدكتور جولت.

ولكني قضيت عشرين سنة في درس علم النفس، وأصبح من المقرر عندي أن الاهتمام هو أصل كل تفوق، وصعوبة الخط والنحو والصرف توجب الاهتمام، وهذا الاهتمام هو الذي جعل الأزهريين القدماء من أعرف الناس باللغة العربية.

ولكن لا مفر من إصلاح الخط العربي لنصل به إلى الجمهور الأعظم الذي يعد بالملايين، ولنقضي على الدسيسة الخطرة التي تزين الحروف اللاتينية، ولنسهل الوصول إلى فهم لغتنا لمن يهمهم ذلك من كرام الأجانب، فقد اشتغلت بالتدريس في الليسيه فرانسيه نحو عشر سنين وكان يؤذيني أن يعتقد الأجانب من التلاميذ أن لغتنا أصعب اللغات.

وحين يتضح الخط العربي ويتكلم لغتنا ألوف من الأوربيين والأمريكيين تدخل في لغتنا حيويات جديدة قد تعود على أدبنا بأعظم النفع.

إن إصلاح الخط العربي أمل جميل، ولكن على شرط أن يكون تطورًا في الخط، ولا يكون تبديلًا للخط، فإني أخشى أن نبالغ في الحذلقة فلا تسايرنا الأقطار العربية، والسلام.

زكي مبارك
بغداد
«المجلة» نتفق مع صديقنا الدكتور زكي مبارك في أشياء ونختلف معه في أشياء:
  • (١)

    نتفق معه أن اللغة العربية ليست أصعب اللغات.

  • (٢)

    ونتفق معه أن صعوبة الخط مسألة سطحية وصعوبة الشكل كذلك، ويوجد في اللغات الأوربية الحية من الصعوبات على المبتدئ والمتعلم من غير أهلها ما يفوق مثلها في العربية بمراحل.

  • (٣)

    أن صعوبة العربية في رأينا تنحصر في وجود لغتين العامية والفصحى، ولكل منهما تيار فكري يعطل أحدهما الآخر فيقتل التفكير والإنتاج، وهذا هو الرأي الذي أدلى به سر وليم ولكوكس ولديّ ما يعزز قوله مما لا يتسع له المقام الآن.

  • (٤)

    أما قول الدور زكي مبارك إن صعوبة النطق وصعوبة الخط وصعوبة النحو هي التي مكنت العرب من لغتهم وحدت إلى نبوغ أكبر الأدباء فلا يقره عليه عاقل ولا مجنون، وهذا المنطق يذكرني بما يقوله بعض الانكليز دفاعًا عن نظامهم العقيم في الموازين والمقاييس والنقود، بجانب النظام العشري الجميل في النقود والموازين والمقاييس والمكاييل في فرنسا وإيطاليا ومعظم بلدان أوربا.

    يقول السفسطائيون من الإنجليز إن هذا النظام المعقد يدرب العقل ويهذبه بعكس النظام العشري، وعلى هذا المبدأ ينبغي تعقيد كل شيء في الحياة توصلًا للغرض عينه.

  • (٥)

    أما قول صديقنا الدكتور إن الأزهر ضعف طلابه منذ إدخال التربية الحديثة فهذا يحتاج إلى أدلة يتعذر إقامتها بغير تجارب علمية وأرقام إحصائية، غير أنني أسر في أذن الدكتور أن التربية الحديثة لا تزال بعيدة عن الأزهر وعن معظم معاهد التعليم في بلادنا بعد الأرض عن السماء أو العكس على الأصح، اللهم إلا إذا كنت تفهم بالتربية الحديثة الجغرافيا والحساب.

  • (٦)

    بقيت عبارة واحدة اسمح لي أيضًا أن أسرها في أذنك، تقول إنك درست علم النفس منذ عشرين عامًا، وقد نسيت أن علم النفس هذا لم يكن منذ عشرين عامًا مما هو عليه اليوم إلا بمنزلة التنجيم من علم الفلك، فشمر عن ساعديك وأعكف على دراسته من جديد.

  • (٧)

    وأخيرًا دعني أشكرك من صميم الفؤاد لإخلاصك للعلم وتلبيتك لدعوتنا فقد طلبنا إلى أكثر من ثلاثين من رجال التربية في جميع البلدان العربية أن يدلوا بآرائهم فلم يحرك منهم ساكنًا إلا من زينا صفحات المجلة بأسمائهم، فعليك من قراء مجلة التربية الحديثة وعلى جميع من ساهموا في هذا العدد، ومني، السلام ورحمة الله.

المخلص
أمير بقطر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤