الفصل التاسع والأربعون

إلي الدكتور أمير بقطر

أخي وصديقي

لعلك قرأت كلمتي الماضية، وهي عتب عليك، عتب قاس عنيف ندمت عليه أشد الندم لأنه اتصل بأيامي في الجامعة الأمريكية المعهد الذي صحبتك فيه وصحبت الأستاذ حبيب اسكندر وهو من أكرم من صحبت، فقد وصفت الأمريكان بأنهم قوم سطحيون، وكان الأدب يوجب ألا أقول ذلك بعد أن صحبتهم سنتين: وبعد أن عرفت المستر جولت وزوجته الغالية.

وكان للمستر جولت قصة نبيلة، فقد كتب إلي خطابًا بالفرنسية يقول فيه:

لقد قهرتنا الأزمة على الاستغناء عن بعض المدرسين، فكان الدكتور زكي مبارك أول من فكرنا في الاستغناء عنه، لأنه رجل صالح للحياة، ومواهبه كفيلة بأن تمكنه من طيبات الأرزاق.

وأنا أعتقد أن هذه الشهادة هي أعظم ما ظفرت به من الألقاب، وقد اقترحت في ذلك العهد أن أدرس في الجامعة الأمريكية مجانًا، ثم صرفتني الشواغل عما أريد، وليتني استطعت لأقيم الدليل على أنني من أصحاب المعاني، فالجامعة الأمريكية تقوم في نفس البناء الذي كانت تقوم فيه الجامعة المصرية، وفي ذلك المكان نفسه استطاع أستاذنا الشيخ محمد المهدي بك أن يقوم بتدريس الأدب العربي مجانًا حين نقصت موارد الجامعة المصرية بسبب الحرب العالمية.

ولكن ندمي على ما آذيت به الأمريكان بدأ يخف، لأنني أخذت أفهم أنني لا أحارب الطريقة الأمريكانية لأسباب شخصية، وإنما أحاربها في سبيل المبدأ، وأنا يا صديقي رجل يتوهم أنه من أصحاب المبادئ، وقد تجد فيمن صحبناهم من الأمريكان من يشهد بصدق ما أقول.

وأنا أعتقد حقًا أنكم قوم سطحيون، وأعتقد أن نبوغ أمريكا في الفن السينمائي له دخل في ذلك، فهم قوم تبهرهم الألوان قبل أن تبهرهم الحقائق، فالدنيا عندهم صور وزخارف وتهاويل، والبيت لا يكون عندهم بيتًا إلا إن ناطح السحاب، مع أن أرض الله أوسع مما تظن ويظنون.

وليس عند الأمريكان غير فضيلة واحدة هي الابتسام، وقد ورثت عنهم شيئًا من هذه الفضيلة العالية، وأشهد صادقًا أني ابتسمت حين قرأت كلمتك في الرد على أخيك.

فهل آمل أن تبتسم أيضًا حين أقول إنكم قوم سطحيون؟

اسمع يا صديقي

أنت قلت إن علم النفس منذ عشرين سنة لا يقاس إلى علم النفس في هذه الأيام إلا كما يقاس التنجيم إلى علم الفلك.

ذلك كلامك الذي سطرته بقلمك في مجلة التربية الحديثة.

فهل تعني ما تقول؟ وهل يصدقك رجل مثل سعادة الدكتور منصور فهمي أو رجل مثل معالي الأستاذ مصطفى عبد الرازق؟

وهل يوافقك على ذلك فريق من الذين تلقيت أنا عنهم الفلسفة في السوربون؟

من سوء حظي أيها الأخ أني دكتور في الفلسفة، ومن سوء حظي أن وجدت رجلًا يعتذر عن نقد كتاب «النثر الفني» بحجة أنه قام على أصول فلسفية توجب النظر الدقيق، وهذا الرجل هو الأستاذ إسماعيل مظهر وهو فيما سمعت وسمعتم من المطلعين على المذاهب الفلسفية.

ومن سوء حظي أيضًا أني اطلعت اطلاعًا لا يخطر ببالك على الفلسفة اليونانية والعربية، وصح عندي بعد البحث أن الفلسفة الحديثة لها أصول عند القدماء.

هل تصدق أنني اكتشفت أن مذهب فرويد له أصل في كتب الشعراني؟ وهل تصدق أني وجدت لذلك المذهب أصولًا صحيحة عند علماء الفقه الإسلامي؟

ليتني أفرغ لك ولأمريكا لأفهمكم أن لا جديد تحت الشمس مع استثناء اللاسلكي والبخار والكهرباء.

إن قوتكم في الإعلان تفوق كل قوة وقد أزغتم الأبصار والعقول، وأصبح من واجب كل مخلص أن يقفكم عند حدكم، فقد ملأتم الدنيا بالأوهام والأضاليل.

أفي الحق أن علم النفس كان منذ عشرين سنة خرافة من الخرافات؟

فما رأيكم فيمن يحدثكم أن علم النفس كان علمًا صحيحًا منذ ألوف السنين؟

ما رأيكم فيمن يحدثكم أن الحقائق النفسية عرفها قدماء العرب والفرس واليونان والمصريين والهنود؟

ما رأيكم فيمن يحدثكم أن الاستهانة بميراث الإنسانية هي الشاهد على أنكم تمزحون فيما تقولون وما تكتبون؟

لقد اتفق لك يا دكتور بقطر أن توهم قراءك مرات ومرات بأن مناهج التعليم في مصر وفي فرنسا وفي انجلترا وفي ألمانيا وفي الدنيا كلها مناهج تقوم على غير أساس لأنها غير أمريكانية، فاتق الله والأدب والذوق في عقلك، وتذكر أن الأمريكان ناس كسائر الناس وليسوا من الملائكة ولا الشياطين.

أما بعد، فما أوجه الكلام إلى شخصك بالذات لأنك صديق عزيز، وإنما أنقد مذهبًا ضعيفًا من مذاهب الفهم هو المذهب الأمريكاني.

وقد آن الأوان للتفكير في نقلك إلى وطنك حتى لا تضيع.

آن الأوان للتفكير في رياضتك على النظر إلى الحقائق.

آن الأوان لنفهمك أن الفلاسفة كان لهم قبل عشرين سنة مذاهب صحيحة في علم النفس.

آن الأوان لنفهمك — وأنت صالح للفهم — أن علم النفس له ماض وتاريخ.

أيها الصديق

لا تحسبني أسأت إليك، فستذكرني بالخير بعد حين، والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤