الفصل الثاني والخمسون

من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة فالسدارة

أخي الأستاذ طاهر الطناحي

لا أدري والله كيف خطرت ببالك، وأنا الصديق الذي نسيه الأهل والأحباب.

حدثكم الأستاذ محمود عزمي أنني لبست السدارة فتذكرتموني؟

وهو كذلك!

أما أنا فتذكرتك في طريقي إلى البصرة وطن العلم والشعر والخيال، فقد كانت مجلة «الدنيا المصورة» أنيسي في ذلك الطريق الطويل، وكانت الشاهد على أن مصر تؤدي دينها إلى العراق، العراق الذي أحبكم ورعاكم، إن كنتم تستحقون الرعاية والحب، يا أشقياء!

وإنما غمزتكم هذه الغمزة لأذكركم بواجبكم نحو العراق، فقد أصبحت أغار عليه كما أغار على وطني، وأرى من حقه عليكم أن تكونوا أسبق الناس إلى تسجيل أعماله الصالحات، فلمجلاتكم بالعراق مكان مرموق، وما يجوز لكم أن تقابلوا الجميل بغير الجميل.

وبعد، فقد آن أن أدخل في صميم الموضوع فأقول:

إنني تقلبت في ملابسي من حال إلى حال، فكنت أولًا ألبس الطاقية والجلابية، وذلك ما لم تسألوني عنه، مع أنه لباس الفلاحين المصريين، ولباس أهلي في سنتريس، ولعلكم ظننتم أنني أتنكر للنشأة الأولى، فرأيتم من الذوق أن تسكتوا عن ذلك العهد، وقد صقلتكم المدنية فحرصتم على الذوق وهو عندكم يوزن بميزان الذهب، وغيركم يكيله بالمكيال، حفظكم الله ورعاكم يا جيران قصر النيل، ولكن لا بأس من أن تذكروا أنه لا يضايقني أبدًا أن أعترف بأني فلاح لا يزال في يده أثر الفأس والمحراث.

كنت معممًا يوم كنت طالبًا بالأزهر الشريف، ولكن يظهر أنني كنت غريبًا بين الأزهريين، فقد كانت عمامتي أظرف عمامة، وكان هندامي أجمل هندام، وكنت وحدي أمثل في الأزهر مذهب المعتزلة، يوم كان الأزهر لا يذكر المعتزلة إلا قال قبحهم الله.

وكان في النية أن أظل أزهريًا، فقد انتقلت من مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة لأكون مفتي الديار المصرية، ولكن أين أنا مما تصنع المقادير!

لقد شاءت المقادير أن تخلقني على طراز غير طراز القضاة والمفتين فنقلتني إلى الجامعة المصرية لأصبح من تلاميذ منصور فهمي وطه حسين، والله الحفيظ.

ومع ذلك ظللت معممًا إلى أن ظفرت بإجازة الليسانس في العلوم الفلسفية والأدبية، سنة ١٩٢١ ثم أخذت أستعد لامتحان الدكتوراه، فبدا لي أن أصبح «أفندي» وكانت كارثة، لأني لم أكن أعرف تقاليد «الأفندية» الظرفاء، فقدمت ما عندي من «الجبب» إلى أحد الطرزية في شارع محمد علي فصنعوا منها بذلتين سخيفتين شهدتا بأني كنت مهندمًا في الجبة والقفطان ثم أصبحت أضحوكة في السترة والبنطلون.

وفي يوم امتحان الدكتوراه أوصاني الدكتور منصور فهمي بأن أحضر في البذلة السوداء، فلم أفهم المراد من البذلة السوداء، وحضرت ببذلة مكونة من لونين، لونين سخيفين كل السخف، ولولا فصاحتي وبلاغتي في ذلك اليوم لعدني الحاضرون من السفهاء، وكانت قوة حجتي في امتحان الدكتوراه هي الشاهد على صواب الكلمة المأثورة:

إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها.

والرسالة التي قدمتها لامتحان الدكتوراه يومئذ هي كتاب «الأخلاق عند الغزالي» وقد جاء في ذلك الكتاب في فصل لا أدري ما هو لأنني نسيته أني قد أخلع العمامة وألبس الطربوش ولكني لا ألبس القبعة.

ذلك ما سجلته في كتابي، أيها الصديق.

ولكني لبست القبعة بعد ذلك بثلاث سنين حين هاجرت لطلب العلم في باريس سنة ١٩٢٧.

ومن الغريب أني لم أصنع كما يصنع زملائي، وعهدي بهم يذهبون إلى البواخر بالطرابيش، وإنما لبست القبعة من منزلي في مصر الجديدة، فلم يعرفني المودعون، وفيهم الشيخ إبراهيم القاياتي — رحمه الله — وفيهم الشيخ علي مبارك الذي زاغ بصره ليعرف أين عمه الغالي، وكان يجهل أنه أصبح من الخواجات في محطة باب الحديد، ذلك تاريخ معروف، والمهم هو تسجيل لبس السدارة في بغداد وهنا أدخل في صميم الموضوع من الناحية الفلسفية فأقول:

إنني أعتقد أن الأخلاق الكريمة تقوم على أساس واحد: هو الاندماج المطلق في البلد الذي تعيش فيه، وحجتي في ذلك أن الحيوان الصالح للحياة هو الذي يأخذ لونه من الأرض التي يعيش فيها، وأدمة الغزال هي في الأصل من لون الصحراء، والربدة في الأسود والنمور هي اللون الغالب على الأرض التي يعيض فيها النمور والأسود، ولون الحوت من لون المحيط، والحرباء تمثل السياسة العالية في عالم الحشرات، لأنها تبيضّ وتسودّ وتخضرّ وتصفرّ وفقًا لما تخالط من مختلف الألوان، فتسلم من عيون الأعداء.

وما أزعم أنني وصلت إلى هذا الحد من السياسة العالية، فما أقدر على الوصول إليه، وإنما أقرر بكل صراحة أن الأخلاق الصحيحة توجب أن تندمج كل الاندماج في الوطن الذي تعيش فيه، والغفلة هي التي تحدثك أن من العبقرية أن تنفرد عن القطيع، وبعض الجهلاء يظنون العبقرية في الشذوذ، وأنا بالفطرة أشعر بوجوب الاندماج في المجتمع، وهذا ما صنعت حين وصلت إلى بغداد.

وأعيذك أن تظن أنني كنت منافقًا فيما صنعت، لا، فهناك سياسة أخرى أعرضها عليك:

أنا أعتقد أنه لا بد لحفظ الصحة والعافية من مراعاة الجو والمحيط ومن أجل هذا فكرت في أن ألبس ثيابًا من صوف العراق قبل أن أصل إلى العراق، فلم أدخل بغداد إلا وأنا في ثياب صنع قماشها في بغداد، وكنت بحمد الله من الموفقين.

ومن عادتي أن أقرأ جرائد البلد الذي أعيش فيه، فقد كنت وأنا في باريس أعرف جرائد فرنسا كما يعرفها شبان باريس، وكان جيراني من الشبان الفرنسيين يسألونني رأيي في السياسة الفرنسية لأني كنت أعرفها أكثر مما يعرفون، وأنا اليوم أقرأ جميع الجرائد العراقية وأعرف سياسة العراق أكثر مما يعرفها الشبان العراقيون، وأجهل سياسة مصر كل الجهل، فكيف حالكم اليوم؟ حدثوني فقد نسيت.

وبمناسبة الأستاذ محمود عزمي أذكر أنني رأيته يلبس القبعة في بغداد، فعرفت أنه غير موفق، وليتكم تسمحون بأن أسجل أنني رأيته من أهل الجمود، لأن ما يصلح لجو باريس قد لا يصلح لجو بغداد، ولي أصدقاء مصريون لم يعجبهم كلامي فتركوا رؤوسهم عارية فلزمتهم عقابيل من برد العراق ستصحبهم طول الحياة.

والسدارة العراقية لباس جميل، ولكنني «أكبسها» على رأسي بعنف لأتقي بها البرد، وأرجو أن أكون قدوة لسائر أهل العراق.

والله خلقنا بلا شعر ولا وبر ولا صوف، ولكنه منحنا شعر الرأس لينبهنا إلى أن الرأس يستحق الحفظ، ومن أجل هذا كان الإنسان هو الذي يغطي رأسه من بين سائر الحيوان، ومن جهل هذه الحقيقة فسيموت قبل أوان الموت.

وأذكر أيضًا أن هذه السياسة العملية توجب أن أسأل عن طعام البلد الذي أعيش فيه، فأنا في مصر من عشاق الملوخية والخبيزة والبلح الأمهات وضأن المنوفية، وكنت في باريس لا أعشق غير الألوان الفرنسية، ولا أذكر ما أسماؤها لئلا يسيل لعابك، وأنا في بغداد لا أوثر غير الأطعمة الأصيلة في بغداد.

وكنت في مصر أعشق العيون العسلية، وفي باريس كنت أعشق العيون الزرق، وفي العراق أعشق عيون الظباء، يظهر أنك غاير مني، تعرف شغلك.

وكنت في باريس أهرب من المصريين، وأنا في بغداد أهرب من المصريين، وما أكره مصر ولا أهل مصر، وإنما أحب أن أعيش في باريس مع أهل باريس، وفي بغداد مع أهل بغداد، ولو انتقلت إلى المريخ لما رضيت بغير صحبة أهل المريخ.

أما بعد فهذا درس ينفع، ولكن أين من يسمع؟

هذا هو السر في أنني أحببت أهل العراق، وأحبني أهل العراق، وستمر أجيال وأجيال ولا ينسى أهل بغداد أن مدينتهم عاش فيها رجل أحبها أصدق الحب اسمه زكي مبارك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤