الفصل السادس

العروبة في مصر

محاضرة ألقاها المؤلف في نادي المثنى

أيها السادة

منذ أيام ألقيت محاضرة في نادي القلم العراقي عن المذاهب الأدبية في مصر، ارتجلتها ارتجالًا؛ لأن الوقت لم يتسع لتدوينها، وأنا كما تعلمون مشغول، وكان في النية أيضًا أن أرتجل هذه المحاضرة، وقد عرف ذلك صديقي صاحب جريدة البلاد فأرسل أحد زملائه لتلخيصها، ولكني رأيت بعد عصر اليوم أن الموضوع الذي أتكلم فيه موضوع دقيق، وأن من الواجب أن أدون محاضرتي وأن أقف عند الذي دونت، حتى لا توجد فرصة للتفسير والتأويل.

وأسارع أيها السادة فأنص على أن محاضرتي لا صلة لها بالمعاني السياسية، فليس في بغداد مصري يحق له أن يتكلم في السياسية غير سعادة الأستاذ عبد الرحمن بك عزام وزير مصر المفوض في العراق، وإنما أتكلم باسم الأدباء المصريين كلام الزميل الصادق الذي لا يعرف غير الحق.

وبعد هذا التحفظ أقول: إن صلات مصر بالأمم العربية ترجع في حقيقتها إلى عنصرين: عنصر السياسة وعنصر الأخوة.

والسياسة لها وجهان: الوجه الدولي والوجه الأدبي، وأعترف صراحة بأن الوجه الدولي من السياسة لا يربط مصر بالأمم العربية، فمصر لا تملك من الوجهة الدولية أن تجهز الجيوش لمناصرة الأمم العربية، وهي كذلك لا تنتظر هذه المعونة من الأمم العربية، وكلكم يذكر أن البوارج الإنجليزية احتلت الجمارك مرة في عهد وزارة المغفور له سعد زغلول، ومع ذلك لم يقل أحد في مصر إن الأمم العربية كان عليها أن تقف في صف مصر بما عندها من جيوش البر والبحر والهواء، فذلك أيها السادة أمل نرجو أن يحققه المستقبل، أما الآن فنحن وأنتم نعرف ما يحيط بنا من المعضلات، ونرجو أن ينصرنا الله على الأعداء.

أما الوجه الأدبي من السياسة فمصر تعرفه حق العرفان، وهل يصح في ذهن أحد أننا في مصر ننظر إلى المفوضية العراقية أو الوكالة العربية كما ننظر مثلًا إلى السفارة البريطانية أو السفارة الإيطالية؟ هيهات، إن هذا كلام لا يقوله إلا حاقد أو جهول.

اسألوا سفيركم في مصر يحدثكم عما يلقاه من كرم المصريين، واسألوا سفير الحجاز والأفغان وإيران يحدثوكم أنهم يعيشون في مصر عيش السعداء؛ لأنهم بين إخوان يعرفون واجبات الإخاء ويفهمون قيمة العواطف العربية والإسلامية.

بل اسألوا أبناءكم الذين يتعلمون في مصر، اسألوهم يحدثوكم أن الأساتذة في الجامعة المصرية والأزهر ودار العلوم يشددون عليهم في الامتحان ليثقوا بأنهم يصلحون لخدمة بلادهم في قوة وأمانة؛ بل اسألوا كل من يتصل بمصر في سبيل المنافع الاقتصادية من أهل سورية ولبنان وفلسطين وحلب واليمن والحجاز وتونس وطرابلس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، اسألوا كل إنسان يتكلم اللغة العربية من الوافدين على مصر: كيف حاله في مصر؟ وإني لواثق بأن المنصفين منهم سيجيبونكم بأن مصر هي البلد الوحيد الذي يعرف قيمة الأخوة العربية والإسلامية.

أيها السادة

إن مصر هي أعظم موئل للعروبة، ومن واجب العربي الصادق أن يدعو الله لسلامة تلك البلاد من كل عادية حتى تظل ينبوعًا تتفجر منه المعارف العربية.

ومع أن مصر أعظم موئل للعروبة باعتراف الجميع فهناك شبهات يجب تبديدها في هذا المقام، هناك إشاعة تقول إن مصر فرعونية، وتقول إن الذي أذاع هذه الفكرة هو كاتب مصري اسمه سلامة موسى، وأرجوكم أن تصدقوني أيها السادة إذا أكدت لكم أن هذا الكلام اخترعه ناس في غير مصر وسمع به الأستاذ سلامة موسى كما سمعه غيره من المصريين، ومن هذا ترون أن الدسيسة جاءتنا من الخارج، جاءتنا من المستعمرين وأتباع المستعمرين، وأنتم تعرفون جيدًا أن المستعمرين قد ملأوا بدنانيرهم جيوب فريق ممن يكتبون باللغة العربية، والمستعمرون يفهمون جيدًا أن الأمم العربية تمنح مصر حق الزعامة الأدبية فهم يسلكون جميع المسالك ليسوّءوا سمعة مصر بين الأمم العربية.

وأجهل الناس يعرف أن العروبة إن انعدمت في مصر فلن تقوم لها قائمة إلا بعد أعوام طوال يوم يصبح العراق وفيه عشرون مليونًا من السكان وله ميزانية تبلغ مائة مليون.

والمصريون لا ينكرون أنهم ورثوا بلاد الفراعين وأنهم من أجل ذلك يسمون مصريين، وهل يضير العروبة أن يتشبث المصريون ببلادهم وأن يبذلوا في سبيلها كل شيء لتبقى تلك البلاد ملكًا خاصًا للغة العربية والدين الإسلامي؟

ما الذي يضير العرب أيها السادة إذا رأونا نهتم بالآثار الفرعونية وكلكم يعرف أن مصر تفردت من بين الأمم بأثمن مجموعة من الآثار والفنون عرفتها الإنسانية؟ نحن في مصر نزور آثار الجيزة وسقارة والأقصر وأسوان لنؤمن بأن مصر في طبيعتها صالحة لقيام أعظم إمبراطورية، فهل يسوءكم أن نسمر أقدامنا في تلك الأرض وأن نجعلها إلى الأبد — بإذن الله — من أملاك العروبة؟

حدثوني أيها السادة ماذا يسوءكم من تمجيدنا لنهر النيل؟ نحن نحبه لنحرص عليه ونموت في سبيله إن عدا عليه العادون، فهل يسوءكم أن يبقى النيل لأمة عربية توحد بارئ الأرض والسموات؟

نحن عرب ولكننا مع ذلك مصريون، وأنتم عرب ولكنكم مع ذلك عراقيون، وسكان الجزيرة عرب ولكنهم مع ذلك حجازيون أو يمنيون، فأرجوكم أيها السادة أن تزنوا الأمور بموازينها ولا تظلمونا من غير موجب، فإن الحب أساسه الإنصاف.

•••

وهناك شبهة أخرى هي كلمة «الأدب المصري» وقد بددت هذه الشبهة حين تكلمت في نادي القلم العراقي، فكلمة الأدب المصري في اللغة العربية ترادف كلمة الأدب الأمريكي في اللغة الانجليزية وكلمة الأدب البلجيكي في اللغة الفرنسية، فالأدب الأمريكي هو أدب إنجليزي ولكن كتابه وشعراءه أمريكيون، والأدب البلجيكي هو أدب فرنسي ولكن كتابه وشعراءه بلجيكيون، وكذلك الأدب المصري فهو أدب عربي ولكن كتابه وشعراءه مصريون.

وقد سمعتم أن الأستاذ الدكتور طه حسين اقترح إنشاء كرسي للأدب المصري في كلية الآداب بالجامعة المصرية، فهل معنى هذا أن الكرسي المنشود سيجلس عليه أستاذ لا يدرس غير «المواويل» التي يتغنى بها المغنون في قهوات الحلمية القديمة؟ هيهات، إنما هو كرسي يهتم من يجلس عليه بدرس الكتاب والشعراء والمؤلفين الذين أنجبتهم الديار المصرية وهم يعدون بالمئات، ولهم فضل عظيم على الثقافة العربية، وما أظنكم تبخلون علينا بإنفاق ألف دينار في كل سنة لدرس الأدباء الذين نبغوا في مصر ونحن ننفق الوف الدنانير في كل أسبوع لدرس الأدباء الذين نبغوا في سائر الأقطار العربية.

أيها السادة

اسمعوا هذا الحديث:

منذ أيام جاء إلى دار المعلمين العالية فراش من كلية الحقوق وترك لي نسخة من جريدة الرأي العام التي تصدر في بغداد، فعرفت أن أحد الموظفين هناك أرسلها إليّ لغرض خاص فقلبت الجريدة فرأيت فيها تصريحًا للأستاذ مصطفى عبد الرازق عن الوحدة العربية ورأيت تحت ذلك التصريح عبارة مكتوبة بالحبر الأحمر هذا نصها: «ليتأمل الدكتور زكي مبارك».

وقد تأملت وتأملت ثم تأملت، فماذا في تلك العبارة؟ فيها أن الأستاذ مصطفى عبد الرازق يقول إن مصر تقف من الوحدة العربية موقف المشاهدة لا موقف الفاعلة.

وهو كذلك، ولكني عرفت من سياق العبارة أن الأستاذ مصطفى عبد الرازق ألقاها باللغة الفرنسية لأنها نشرت في جريدة انجليزية أعني أنه قرر أن مصر ليس لها مع الأمم العربية موقف يسمى Action وهذه كلمة حق، فالظروف لا تساعد مصر على تجييش الجيوش في سبيل الوحدة العربية، وهذا إثم لا تحتمله مصر وحدها وإنما هي مصيبة دولية تشترك فيها جميع الأمم العربية.

ومع ذلك هل سكت المصريون على كلمة الأستاذ مصطفى عبد الرازق؟ لا، فقد هجموا عليه وخطأوه بعبارات قوية نشرتها جريدة العقاب منذ أيام.

مع أن عبارة الأستاذ مصطفى عبد الرازق ليس فيها عند التأمل ما يريب، وأقول بصراحة إن مصطفى عبد الرازق من مفاخر العرب والمسلمين، ولو كان في الأمم العربية عشرة من العلماء على نمط مصطفى عبد الرازق لكان العرب من أغنى الناس في عالم العقل والبيان.

أيها السادة

هل تحبون أن أحدثكم عن مصر العربية؟ قولوا إنكم تحبون ذلك!

إن مصر اليوم هي الشاهد على حيوية العرب: فالصحافة المصرية أقوى من الصحافة الفرنسية والصحافة الإيطالية والصحافة الألمانية، وليس هذا بالقليل يا أدباء بغداد، في مصر اليوم مطابع لا تقل قوة عن مطابع باريس ولندن وروما وبرلين، وهي مطابع عربية، لا إفرنجية ولا إنجليزية ولا جرمانية، في القاهرة معهد اسمه الجامعة المصرية، وهو بعون الله ورعايته لا يقل قوة عن جامعة لندن أو جامعة باريس أو جامعة برلين.

إن متوسط ما تخرج مطابع القاهرة باللغة العربية اثنا عشر كتابًا في كل يوم بغض النظر عن مطابع بورسعيد والمنصورة وطنطا والإسكندرية وبلقاس وشبين وأسيوط، وبغض النظر عن المطابع الخصوصية مطابع العلماء والأدباء.

إن مصر هي البلد الوحيد بين البلاد العربية، البلد الوحيد الذي يعيش فيه حملة الأقلام عيش المياسير، وقد جربت ذلك بنفسي فكنت أغنم عشرات من الدنانير في الأسبوع الواحد من قلمي، ولي بيت في مصر الجديدة أنفقت عليه ألفي دينار كسبتها من سن القلم في عامين اثنين، ولو تيسر هذا في العراق والحجاز وسورية لأصبح العرب سادة العلم والبيان.

أيها السادة

أنا عربي أولًا ومصري ثانيًا، ولو شئت لقلت إن أبي من أصل عربي صريح، وأهل سنتريس يعرفون ذلك، ولكني أرفض التودد المتكلف وأقول إني مصري، وما تسوءني هذه النسبة، فالمصريون عرب في أقوالهم وأفعالهم وشمائلهم ودينهم ومذاهبهم، وأدعو الله عز شأنه أن يجعل مصر أبد الدهر من أملاك اللغة العربية لغة القرآن.

أيها السادة

هل تؤذيكم هذه الصراحة؟

اعذروني فأنا أتكلم في بغداد، التي أعزت العقل والمنطق يوم كان الناس يعيشون في دياجير الجهل والغفلة والحمق والغباء.

وأنا في الواقع تلميذ بغداد قبل أن أكون تلميذ القاهرة أو باريس، فإن رابتكم صراحتي فلا تلوموني فاللوم على أسلافكم الذين شرعوا مذاهب العقل والمنطق.

أيها السادة

إن مصر عربية في كل شيء، عربية في لغتها ودينها وأخلاقها.

إن مصر عربية ولكنها لا تقول في كل لحظة إنها عربية؛ لأن الكريم لا يقول في كل لحظة إنه كريم، ولو فعل ذلك لأضافه الناس إلى أهل المن الممقوت.

إن أهل مصر كأهل الحجاز لا يقولون إنهم عرب، لأن توضيح الواضح من المشكلات.

أيها السادة

اسمحوا لي أن أقول بصراحة إن التشكيك في عروبة مصر لا يقوم به إلا ناس يخدمون المستعمرين ويخدمون المبشرين، والعراق لحسن الحظ منزه عن هذه الأهواء، إن مصر هي التي استطاعت أن تفرض على فرنسا أن تؤمن بأن اللغة العربية لغة حية فتكتفي بها في امتحانات البكالوريا الفرنسية، وهي التي استطاعت أن تفرض على عصبة الأمم أن تجعل اللغة العربية لغة رسمية دولية، وهي التي استطاعت أن تجعل الأزهر مرجعًا لجميع المذاهب الإسلامية بلا استثناء، وذلك لون من الحرية الفكرية كانت مصر أول من شرعه بين جميع الأمم الإسلامية.

أيها السادة

إن مصر هي بلادكم وبلاد كل ناطق بالضاد من جميع الديانات، إن مصر بلاد كل من ينطق باللغة العربية ولو تمذهب بالوثنية، فمن العقوق أن تسمعوا فيها كلام الخونة من عبيد المستعمرين الذين يريدون أن يوهموكم أن مصر انسلخت من العروبة، وأنها لا تعرف غير أصولها من الفراعين.

أيها العراقيون

أنتم الشعب الذي يعتمد عليه في حكومة العقل والمنطق، وقد سمعتم أن مصر لا تعطف على الأحزان العربية وحدثكم المغرضون أن مصر لم تحزن على نكبة فلسطين مثلًا، فليقم من أعضاء نادي المثنى جماعة للموازنة بين ما نشرته الجرائد المصرية في الانتصار لقضية فلسطين وبين ما نشرته الجرائد العربية، وحينذاك تعرفون أن المصريين كانوا أكثر الناس غيرة على تلك القضية، قضية العروبة وقضية الإسلام.

أيها السادة

في مصر كثير من مظاهر العروبة، بل كل ما في مصر ينطق بعروبتها كما قال الدكتور محجوب ثابت، ولكن عيب مصر أنها لا تقول في كل لحظة إنها عربية، وأؤكد لكم وأنا صادق أن القاهرة ليست أعز عليّ من بغداد، ولكني مع ذلك أرجوكم أن تزوروا القاهرة لتقفوا على ما فيها من الحيوية العربية التي تتمثل في الأزهر والجامعة المصرية والمجمع اللغوي والفرقة القومية، والتي تتجسم في وزارة المعارف المصرية.

أيها السادة

إن المستعمرين وصنائعهم يريدون أن يوهموكم أن مصر تخلت عن العروبة، ويريدون أن يزهدوا العرب في الثقافة المصرية، لأنهم يفهمون أن أدباء مصر في هذه الأيام لا يقلون قوة وفحولة عن أدباء انجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، أدباء مصر هم اليوم رجال الفكر والبيان ولو كره المستعمرون.

أيها السادة

إن العروبة في مصر بخير وعافية، ولا يعوزها إلا شيء واحد هو أن يثق بها أبناء الأمم العربية ولا سيما أهل العراق، رعى الله مصر ورعى العروبة وحفظ العراق.

آمين آمين لا أرضى بواحدة
حتى أضيف إليها ألف آمينًا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤