الفصل السابع

خطاب المؤلف في حفلة تكريمه في بغداد

أيها السادة

أقدم إليكم أصدق آيات الثناء، ثناء القلب لا ثناء اللسان، فقد حاولت أن أعدّ خطبة تناسب مقامكم المحمود، ولكني لم أصل إلى بعض ما أريد، وكان ذلك حالي في جميع المرات التي شرفني فيها أحرار الرجال بحفلات التكريم، فلم يبق إلا أن أرجوكم قبول هذه الكلمات، وقد دونتها وأنا بين الحيرة والاستحياء.

لم يكن في مذاهبي الأدبية ما يبعث على خلق الأنصار والأصدقاء فقد قضيت نحو عشرين سنة وأنا أحمل راية النضال، فلم يبق رجل معروف إلا وبيني وبينه أوتار وحقود، مع استثناء بعض المتفضلين بإقامة هذا الاحتفال.

فكيف اتفق أيها السادة أن تقام لي حفلات التكريم في القاهرة والإسكندرية وباريس وبغداد، وأن ألقي الكرامة في كل مكان، بالرغم مما اشتهرت به من رعونة القلم وشراسة اللسان؟

لهذه الظاهرة النفسية تأويل، فالناس يعرفون أني في جميع الأحوال جندي من جنود الأدب، وخادم من خدام العروبة، وحارس من حراس لغة القرآن.

فهم حين يسمعون اسم زكي مبارك لا يتصورون ذلك الشخص الجافي الذي لا يفرق بين العدو والصديق، ولا يعرف كيف يلبس السدارة أو كيف يلبس الطربوش، ويحمل القبعة على نحو ما كان يحمل العمامة، ولا يدرك الفرق بين الملابس العادية والملابس الرسمية، وإنما يذكرون حين يثار اسم زكي مبارك أن لهم كنوزًا من الأدب الرفيع هو من حراسها الأمناء، وأن لهم طلائع من الآمال الكبار هو من دعاتها الأوفياء، وأن لهم تاريخًا مجيدًا هو أسيره ومجنون ليلاه.

أيها السادة

لقد لقيني أحد الأدباء في جريدة البلاد منذ أيام وقال: إن كثيرًا من أهل بغداد يقولون إن في شخصية زكي مبارك شيئًا يوجب الحب، فهل لك أن تدلنا على ذلك الشيء؟

فأجبت: اسألوا شاعركم العباس بن الأحنف الذي يقول:

لو أن القلوب تجازي القلوب
لما كان يجفو حبيب حبيبًا

فأنا أحبكم يا أهل بغداد، وليس من المستغرب أن تحبوني من حيث لا تعلمون سبب الحب.

وما أزعم أني أحببت بغداد والعراق حب المدلهين، وإنما أذكر أن قلبي خفق خفقة كاد يطفر لها الدمع حين وقع بصري على دجلة أول مرة، وأذكر أني شربت ماء الفرات صرفًا، شربته ممزوجًا بالطين، فبدا لي أشهى وأعذب من الرضاب المعسول، وأذكر أني ألقيت محاضرة بالإذاعة اللاسلكية فثارت من حولها العواصف وتنكر لها فريق من الأدباء والعلماء فطربت وقلت: الحمد لله الذي أحياني حتى جرى اسمي بالملام على ألسنة أهل العراق.

•••

ومن العدل أن أعترف بأن أهل بغداد جروا على فطرتهم النبيلة فجزوني حبًا بحب وإخلاصًا بإخلاص، فلم يصح ما توقعت من أن انتقالي من القاهرة إلى بغداد سيكون انتقالًا من نضال إلى نضال.

فهل تسمحون بالإشارة إلى بعض ما جزتني بغداد؟

لقد راعني أن أجد في دار المعلمين العالية شبانًا نجباء يستمعون دروسي، وكأنهم صورة من صور العطف والذكاء، وأعظم نعمة في الدنيا أن يقف الرجل موقف المعلم لشبان مهذبين أذكياء، وأنا واثق أن لن يعاديني أحد من هؤلاء التلاميذ، ومطمئن إلى أني لا أعيش بينهم عيش الغريب بعد أن طالت شكواي من الغربة في القاهرة وسنتريس.

وراعني أيها السادة أن يكون لي زميل كالدكتور عقراوي، زميل يحضر محاضراتي مع أهله، ثم يختصمان في سبيلي وهما على المائدة، فتنتصر هي عند الغداء وينتصر هو عند العشاء.

وراعني أن أجد في دياركم رجالًا من أهل العلم، أمثال الأستاذ طه الراوي، والدكتور فاضل الجمالي، رجالًا يعرفون الأخوة الأدبية فيزيلون عني كل وحشة، ويذهبون عن قلبي متاعب الاغتراب.

وقد تفضلت الطبيعة العراقية فأتحفتني بأنفس ما تملكون وهو ليل بغداد، ولن أترك لكم هذا الليل، وأصارحكم بأني سأنهبه ثم أطويه في جيبي وأنقله إلى ضفاف النيل.

ولكن أي ليل؟ إنه في هذه الأيام لا يعرف إنسانًا سواي، فإن شعر أحدكم بأن لياليه مضيعة فليحقد عليّ كيف شاء فأنا الذي أنتهب من عينيه سحر الليل، ليل بغداد.

ولهذا الليل أيها السادة أحاديث، فقد عرفت به كيف استطاع علماء العراق أن يملأوا الدنيا علمًا وأدبًا، وكيف كان الرجل يستطيع أن يؤلف مائة كتاب ويعلم ألوف التلاميذ، ويساجل النجوم بأشعار باقية على الزمان.

ليل بغداد هو الذي سيخلق زكي مبارك من جديد، ليل بغداد الطويل الذي يصل في بعض الأحايين إلى سبع وسبعين ساعة وسبع دقائق، ليل بغداد الذي حمل المكتبة العامة على رفع شكواها إلى وزارة المعارف لتنقذها من الجاحظ الجديد الذي اسمه زكي مبارك.

وما أنكر أيها السادة أني عرفت فيما سلف ليلًا أطول من ليل بغداد، وهو ليل باريس، ولكن ليل باريس على طوله كان طيع الصباح بفضل ما هنالك من ملاه وفتون، أما ليل بغداد فلا يعرف شيئًا من ذلك، هو ليل العلم، وسيصيرني واأسفاه من كبار العلماء!

وخلاصة القول أني سعيد في بغداد، ولا يضايقني إلا شيء واحد: هو وجود جماعة من الأساتذة المصريين في هذه البلاد، أساتذة ينافسونني أخطر منافسة بفضل ما رزقوا من غزارة العلم وحصافة العقل، ولكن يعزيني أنكم لن تطالبوني بمثل ما يقدمون من صالحات الأعمال وطيبات الجهود، ففيهم رجل سبقني إلى الدنيا بأكثر من خمسين سنة وهو الأستاذ محمود عزمي، أطال الله حياته وبارك في عمره، وبلغه ما يسمو إليه من كرائم الآمال.

أيها السادة

هل لكم أن تسمحوا لي بالترويح عن نفسي قليلًا؟ لا بد للمصدور أن ينفث ولي أمل عزيز أخشى أن يخيب.

لقد رحلت عن مصر وأنا مصمم على الاستبسال في الدعوة إلى إنشاء جامعة عراقية، فلما وردت العراق لم أجد من يشجعني على تحقيق ذلك الأمل النبيل، وصارحني بعض الرجال بما يعترض إنشاء الجامعة العراقية من عراقيل.

فأنا أنتهز هذه الفرصة لتسجيل هذه الرغبة بطريقة علنية وأصافح بيمناي أنصارها الأوفياء، وأدعوكم إلى الكتابة عن هذه الأمنية في كل يوم، والكلام عنها في كل مجتمع والالحاح بها على جميع الوزراء، واعلموا أن من العار أن تخلو بغداد من جامعة، وباسمها الخالد تتعطر الافواه في جامعات الشرق والغرب.

إن الحجة في أيدينا أيها الزملاء، فعندنا نواة الجامعة العراقية، عندنا النواة السليمة لأربع كليات، فلنبادر بتأسيس الجامعة العراقية بصفة رسمية، ولنبادر بخلق الصلات العلمية والأدبية مع الجامعة المصرية وجامعة باريس، ولنقرر منذ هذه الساعة أن نفتتح الجامعة بمهرجان مشهود في آذار المقبل، شهر الأزهار والرياحين.

أيها الصحفيون الشرفاء

لقد كنتم عند ظن الوطن الغالي في ظروف كثيرة، فشدوا من عزائمكم لنصرته هذه المرة، وحققوا أشرف غاية لحملة الأقلام وهي إعزاز العلوم والآداب والفنون.

أيها الزملاء

لقد كرمتموني بهذا الاحتفال الرائع، فهل تعرفون متى أرد لكم هذا الدين النبيل؟ سأرده يوم يتقرر بفضل مسعاكم إنشاء الجامعة العراقية، ويومئذ لا أكتفي في تكريمكم بألوان الحلوى وأكواب الشاي، وإنما أعقر لكم الذبائح من عرائس الشعر الجميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤