الفصل الثامن

النبي الصبور١

كان أستاذنا سيد علي بن المرصفي رحمه الله مشهورًا برقة الدين، والشهرة برقة الدين بلية يرزأ بها النوابغ في الشرق، وقد صحبت ذلك الأستاذ سبع سنين، وكنت في تلك السنين شابًا مستقيم الأخلاق، كنت أخاف أن يعديني برقة الدين، فكنت أحترس وأحترس..

ولكن الذي وقع كان أعجب وأغرب، فقد صحبت هذا الشيخ وأنا مسلم ولم أفارقه إلا وأنا مؤمن، فكيف أخذت الإيمان عن ذلك الزنديق؟

كان الشيخ لا يذكر النبي إلا بعبارة: «سيدنا رسول الله».

وكنت أظنه يتهكم أو يتظرف، لكثرة ما سمعت من اتهامه برقة الدين.

ولكن هذه العبارة لم تكن مقصورة على الدرس: فقد كان يقولها كلما ذكر اسم الرسول، وكنت أسمعها منه في البيت وفي الطريق وفي كل مكان ألقاه فيه.

وفي إحدى المرات التي كان يسخر فيها من شيوخ الأزهر — وكان يسخر منهم في كل وقت — في إحدى تلك المرات هجمت عليه، فقلت: ولكن أنت يا أستاذ سرقت من شيوخ الأزهر عبارة: «سيدنا رسول الله».

فقال: أنا لا أقول «سيدنا رسول الله» تقليدًا للمشايخ، وإنما أقول ذلك عن ذوق وإحساس، فالنبي محمد هو في قلبي وعقلي «سيدنا رسول الله».

ومنذ تلك اللحظة بدأت أفهم كيف تلصق التهم بالنوابغ زورًا وبهتانًا.

•••

أنا أبغض الإعلان عن إيماني بغضًا شديدًا، لأني أخشى أن يحسب فريق من بني آدم أني أتزلف إليهم، أخشي أن يحسب المتجرون بالدين أني أحب أن أقاسمهم ما يربحون من خسران!

ولكن ماذا أصنع وصاحب هذه المجلة يخدعه حسن الظن فيثق بإيماني ويدعوني لكتابة كلمة عن سيدنا رسول الله بمناسبة المولد الشريف؟

أعترف كارهًا بأني مؤمن، وفي سبيلك يا رسول الله أسجل هذا الاعتراف.

ولكن ما هي الشمائل التي تصلني بسيدنا رسول الله؟

إن هذا الرجل عظيم في كل نواحيه، ولكن في شمائله ناحية منسية هي الصبر الجميل.

وخلة الصبر في سيدنا رسول الله أنقذتني من الموت نحو عشرين مرة فقد كانت تمر بي أزمات أعاني فيها من لؤم الناس ما يشوقني إلى الموت، كنت أتسامى إلى الخير ويصدني عنه ما عند الناس من عقوق، كنت أطمح إلى البر ويصرفني عنه ما عند الناس من وجحود، كنت شيخًا كسائر المشايخ لا يقدم كلمة النصح إلا لمن يقبل يمناه كنت مخلوقًا صغيرًا لا يتعب في سبيل الخير إلا إن ضمن الجزاء.

ثم هداني سيدنا رسول الله.

نعم هداني سيدنا رسول الله.

فبفضله عرفت أن الشر عنصر أصيل في حياة الإنسانية، ولو لم يكن الأمر كذلك لما جاز لهذا الروح الطاهر النبيل أن يقضي حياته كلها في هموم وكروب وأحزان؟

ومن أنا في جانب سيدنا رسول الله؟

لقد كان يزرع البر ويحصد العقوق، فما الذي يمنع من أن أتشبه به فأزرع البر لأحصد العقوق؟

لقد جعل العرب أمة عزيزة بعد أن استذلهم الفرس والرومان ومع ذلك اتهمه فريق منهم بالكذب والافتراء.

وأنا أحاول أن أغني اللغة العربية بحيث ينسى أبناؤها ما يفتنهم من أدب الإنجليز والفرنسيس والألمان والطليان، ومع ذلك أجد من يمضغ لحمي بلا تورع ولا استحياء.

لقد صبر النبي على قومه، فهل أصبر على قومي؟

هنا أتشوف إلى التأسي بسيدنا رسول الله.

•••

قلت في صدر هذه الكلمة إن صحبتي للشيخ المرصفي قوت إيماني، ولكن صوت الشيخ المرصفي الذي قرع أذني أول مرة سنة ١٩١٣ لا يزال يعاودني، فما أدري كيف اتفق له وهو مؤمن أن يتوجع وهو ينشد قول يحيى بن طالب:

يزهدني في كل خير صنعته
إلى الناس ما جربت من قلة الشكر

وأنا أحب أن أترك هذا الأدب لأتأدب بأخلاق سيدنا رسول الله، أحب أن أتخلق بأخلاق هذا الرجل، فأخدم أعدائي، أحب أن أتطبع بطباع هذا الرجل فأواسي خصومي، أحب أن أكون كالشجرة يخبطها الناس بعنف لتلقي إليهم ثمارها، ثم تعود فتورق وتزهر وتثمر ليعود الأشقياء إلى خبطها من جديد.

•••

ولكن كيف السبيل إلى الاقتداء بسيدنا رسول الله؟

في مكتبتي بمصر الجديدة خمس نسخ من المصحف الشريف.

وكان معي في باريس نسخة من المصحف الشريف.

وقد أخطأت نحو نفسي أبشع خطأ حين قدمت بغداد وليس معي نسخة من المصحف الشريف.

ولكن لا بأس فقد استعرت نسخة من المصحف حين قهرتني الهموم في بغداد، وفي هذا المصحف أقرأ هذه الآية: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، فأعرف أن حمايتي في ضمان ربي.

وأقرأ هذه الآية: وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، فأعرف أن من واجبي نحو نفسي أن أبتسم، وربما كان هذا من واجبي نحو ربي.

وأقرأ هذه الآية: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ فأفهم أن الحق سينتصر ولو بعد حين، وأحفظ رزانتي وألزم وقاري.

وما أقصد بغداد ولا أهل بغداد، فليس للعراق من وجهة العروبة وجود خاص، وإنما هو عضو من ذلك الجسم الهائل الذي تجتمع به الأمة العربية، وما ألقاه من الشر في العراق قد لا يصدر عن العراق، فالأقطار العربية تتجاذب الخير والشر، والعرف والنكر والرشد والغي، والسهم الذي يصيبني وأنا على ضفاف دجلة قد يكون راميه صديقًا يقيم على ضفاف النيل.

سهم أصاب وراميه بذي سلم
من بالعراق لقد أبعدت مرماك

وذو سلم قريب بعض القرب من العراق فكيف يتفق للمقيم على ضفاف النيل أن يصيب من في العراق؟

لقد ترقت وسائط الحرب، فاحترس يا صاح، ثم احترس يا صاح.

أيها القارئ

هل عندك فكرة تخدم بها وطنك؟

هل عندك رأي ترفع به أمتك؟

هل أنت رجل فيه خصائص الرجال؟

أيها القارئ

حدثني من أنت؟ فإن كنت إنسانًا تافهًا فلا خوف عليك، فأسعد المخلوقات هي الأنعام، والجو لا يتسع حق الاتساع لغير الذباب.

وإن كنت من أهل الرأي والأدب والبيان فاسمع نصيحتي.

أسمع نصيحتي بلا ثمن، فأنا كالشمس التي توزع النور بالمجان.

أسمع يا غافل، ثم أسمع يا غافل، أسمع يا جهول، ثم أسمع يا جهول، لن تصل إلى شيء إلا حين تصبر على لؤم من تفكر في هدايتهم كما صبر سيدنا رسول الله.

لن يصل العزاء إلى قلبك إلا حين تذكر تعزية الإله العظيم لنبيه الكريم.

هل تعرف تلك التعزية؟ هي هذه الآية الكريمة: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.

١  كتبت هذه الكلمة لمجلة الديوان البغدادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤