الفصل التاسع

مصادر الأدب القديم ومراجع العلم الحديث

حضرة الصديق العزيز الأستاذ سامي الكيالي

سألتموني عما أرى في إحياء الأدب القديم، وما أرى في نقل المؤلفات الأوربية إلى اللغة العربية، وهاتان مشكلتان حار في حلهما كثير من المفكرين، وإنما وقعت تلك الحيرة لإنه لا بد للباحث من الرجوع إلى مصادر الأدب القديم ومراجع العلم الحديث.

ويؤلمني أن أصرح بأن العزائم تراخت في هذه الأيام عن إحياء الأدب القديم، ويكفي أن تذكروا ما صنعت مطبعة بولاق بالقاهرة لتعرفوا أنه لم يتفق لأية هيئة علمية أو أدبية أن تصنع ما صنعت تلك المطبعة في بضع سنين، ومن المحزن أن المؤلفين في تاريخ الأدب للمدارس الثانوية يسكتون عن تاريخ تلك المطبعة وتراجم مصححيها سكوتًا تامًا، ولو وفقهم الله إلى الحديث عنها لرجونا أن يخلق الشوق إلى إحياء الأدب القديم في بعض النفوس.

وما رأيك إذا حدثتك إن الجيل الذي سلف قام بأعباء ستعجز عنها سائر الأجيال، إن لم يرفع الغبار عن بعض ما نعرف من القلوب؟ لقد قام ذلك الجيل بطبع «تاج العروس» فهل تنتظر أن يطبع ذلك المعجم المعجز مرة ثانية؟ لقد قام الجيل السالف بطبع «شرح الإحياء» فهل يخطر ببالك أن ذلك الشرح سيطبع مرة ثانية؟ هيهات هيهات.

إن معجم «لسان العرب» وهو أعظم معجم عرفته اللغة العربية طبعه فيما سلف رجل ثم كان جزاؤه أن يموت تحت أثقال الديون، فهل في أدباء هذا العصر من فكر في كتابة فصل ممتع، أو قصة شائقة، عن حياة ذلك الشهيد؟

وشرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة الذي نشرته مكتبة الحلبي فيما سلف، وكتاب «الأم» الذي ألفه البويطي ونسب خطأ إلى الشافعي ونشره الحسيني، وكتاب «المخصص» لابن سيده، أترى تلك المؤلفات تنشر مرة ثانية على أيدي هذا الجيل الكسلان؟!

هناك فكرة ترمي إلى أن يقوم المجمع اللغوي في مصر بإحياء الأدب القديم، وهذه الفكرة لها خصوم ولها أنصار، فإن انتصرت يومًا فسيحيا الأمل في بعث الأدب، أما الجهود الحاضرة، جهود الأدباء الذين ينشرون ما يقدرون على نشره من قديم المؤلفات، فهي جهود مشكورة ولكنها لن تصل بنا إلى ما نريد، وحسبك أن تذكر أن أدباء هذه الأيام لا ينشرون من المؤلفات القديمة إلا ما يعرفون أنه قريب من أذهان المتأدبين لتعرف أن هذا النوع من النشر سيقف عند الكتب التي تكثر فيها الأشعار والأسمار والأحاديث، ثم يعجز عن طبع الكتب العلمية التي لا تجد جمهورًا كبيرًا من القراء.

وقد جربت هذا بنفسي فأحييت كتاب «زهر الآداب» وأحييت «الرسالة العذراء» أما «زهر الآداب» فقد راج وطبع مرتين، وأما «الرسالة العذراء» فلا تزال نسخها مكدسة في بيتي، ولا أعرف أين أصرفها، لأنها تبحث مسألة أدبية دقيقة لا يهتم بها غير الخواص، والخواص في الأمم العربية لا يحيا بهم كتاب، لأنهم يدعون الإحاطة بكل شيء، وأكثرهم يضن على نفسه بكتاب ثمنه خمسة قروش.

وما جربته بنفسي جربه أكثر المعاصرين، فهم يقفون فيما ينشرون عند الكتب التي يفهمها الجمهور، ويحجمون عن نشر الكتب التي تنفع الخواص.

وهل هناك أعجب من قصة السيد رشيد رضا مع كتاب «دلائل الإعجاز»؟ لقد حدثنا في مقدمة الطبعة الثانية أنه لولا عناية وزارة المعارف لظلت الطبعة الأولى مهجورة لا تعرف غير الصناديق، وكذلك كان حال كتاب «أسرار البلاغة» الذي لم تنفد طبعته الأولى، مع أنه نشر منذ ثلاثين عامًا أو تزيد … فيا صاحب مجلة الحديث تذكر أن الأدب القديم لن يظفر بالحياة إلا أن وجدت له هيئة حكومية تسترخص في سبيله الألوف المؤلفة من الدنانير، وتفرضه على الطلبة، والأساتذة أيضًا، إلى أن يخلق الذوق الأدبي الذي يحبب إلى الأفراد قيمة التضحية في هذه السبيل.

•••

وأما نقل المؤلفات الأوربية إلى اللغة العربية فلي في شأنه اقتراح قديم أخذت به وزارة المعارف المصرية في عهد الوزير الأسبق محمد حلمي عيسى باشا وألفت لجنة لتنفيذه، ثم سكتت عنه بعد أن فارقها ذلك الوزير. وخلاصة ما اقترحته على الوزارة أن تفرض على كل طالب من أعضاء البعثات أن يترجم إلى اللغة العربية كتابين من أمهات الكتب في العلم الذي يخصص فيه، ثم لا تعد بعثته قد تمت إلا بعد أن يؤدي هذا الواجب، أي لا يمنح ترقية أو علاوة بعد عودته إلا يوم يتضح أنه نقل إلى أمته شيئًا من العلم بترجمة كتابين عظيمين.

وكان من فروع هذا الاقتراح أن تقوم الوزارة بطبع تلك المترجمات ثم توزعها على المدرسين والموظفين والمتأدبين بثمن مقبول، وكان من رأيي أن تخصم الحكومة من كل موظف عشرة قروش في كل شهر، ثم تعطيه في مقابل ذلك نحو عشرة كتب في كل عام، وبذلك تفرض الثقافة العلمية على جمهور الموظفين، ثم تنتقل العدوى العلمية إلى أبنائهم وإخوتهم ومن يتصلون بهم من الشباب والكهول.

ولا أزل أعتقد أن هذا الاقتراح سهل التنفيذ، فهل يمكن بعثه مرة ثانية بفضل نشره على صفحات الحديث؟

أرجو إن راقكم هذا الرأي أن تكتبوا في تأييده مرة أو مرتين، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤