تمهيد
لم أقضِ طفولتي في مزرعةٍ أو بالقرب من غابة؛ أي إنني لم أحظَ بالتنشئة التقليدية التي كان يمكن أن تفسِّر افتتاني فيما بعد بعلم النبات. لكنني نشأت في بيتٍ مليء بالنباتات، وكانت أمي — ذات المهارة المذهلة في الزراعة — ترعاها وتراقبها بحرص.
كانت النباتات في كل مكان حولنا، داخل المنزل وخارجه. وكانت حدائق أمي درة الحي؛ كانت واحة خضراء ومأوًى دافئًا للنباتات في مدينةٍ كبيرة. تمكَّنَت أمي من تربية مثل هذه الزهور الرائعة والنباتات الخضراء اليانعة؛ لأنها كانت على ارتباط وثيق بنباتاتها المحبَّبة إلى قلبها. كانت تقرأ تلميحاتها وتستجيب لها؛ هذا النبات الذاوي يحتاج إلى المزيد من المياه، وهذا النبات ذو الأوراق المصفرة يحتاج إلى سماد، وهذا النبات الذي ينحني باتجاه الضوء الصادر من أقرب نافذة، يحتاج إلى التدوير كي يتمكَّن من إعادة توجيه نفسه. كانت رعاية النباتات جزءًا من روتين أمي اليومي، وجزءًا متأصلًا من طفولتي. كانت تراقب نباتاتها عن كثب بطريقةٍ لا يمكن وصفها إلا بقول إنها «تنصت» لها. وحين كانت أمي تلاحظ احتياجات النباتات وتمدُّها بها، كانت النباتات تستجيب بالنمو والازدهار. لا يمكنني الزعم بأنني كنت أفهم التواصل المشترك بين أمي ونباتاتها تمامَ الفهم، لكني لاحظت العائد النافع من ذلك.
وقد كانت لي بعض التجارب الخاصة التي لا تُنسى مع النباتات، كانت شبيهة على الأرجح بتجارب الأطفال الآخرين وهم يتجولون بالخارج في أيام الصيف المشمسة. وكمعظم ذكريات الطفولة، تدور هذه التجارب حول الخطر … والأكل. من هذه التجارب حرصي على الابتعاد عن اللبلاب السام في رحلاتي الاستكشافية الطويلة مع أخي وأختي. ومنها أيضًا ثمار العُلَّيق الأسود البري الحلوة الممتلئة، التي كنت آكلها بنهمٍ في جولاتي العزيزة خلال أيام الكسل بشهر يوليو. وذلك الرحيق المجني من الزهور المسروقة من شجيرات زهر العسل التي كانت أمي تقدِّم لها رعاية كاملة، وكان اكتشافًا نباتيًّا حلوًا. لم يكن لديَّ أدنى فكرة في ذلك الوقت أنَّ هذه الأيام المبهجة التي قضيتها في اختبار النباتات في بيئتها، ستؤدي بي في النهاية إلى مسارٍ مهني بارزٍ ومُرضٍ للنفس في عملي باحثة في النباتات.
على العكس من ذلك، كان ميلي الفطري وحبي للعلوم والرياضيات واضحًا من بداية حياتي. فبينما كان بعض أفراد عائلتي يجدون هوسي بالموضوعات العلمية والكمية غريبًا، كان ما أسعى إلى ممارسته من أنشطة «ممتعة لي» في الغالب هو الألغاز المنطقية والتجارب العلمية البسيطة. ولم يردعني أبدًا أنَّ بعض هذه التجارب لم تَسِر كما ينبغي لها … وربما شارك فيها قسم إطفاء الحرائق المحلي أو لم يشارك! نمت اهتماماتي على نحو رسمي في المدرسة الإعدادية، حين حظيت بفرصة لتلقي دروس متقدمة في الرياضيات والعلوم. وبالرغم من أنَّ والديَّ لم يفهما مصدر هذا الاهتمام المبكِّر بالعلوم لديَّ، فإنَّ دعمهما لم يتزعزع أبدًا؛ إذ كانا يوصلانني إلى دروس الرياضيات في الجامعة المحلية بعد يومٍ كامل من العمل، ويأخذانني إلى المكتبة العامة للقيام بالبحث وجمع المواد العلمية إيمانًا بي. وبينما كان عقلي وقلبي يبدآن في العمل كما تعمل قلوب العلماء الممارسين وعقولهم، تلقيت في الكلية دورةً دراسيةً عن فسيولوجيا النبات وضعَتْني على الطريق، وحوَّلت انتباهي بالكامل إلى علم النبات. ففي هذه الدورة الدراسية، تعرَّفتُ للمرة الأولى على ذلك العلم الرائع الذي يتناول حياة النباتات.
حين دخلت مجال العلوم الأكاديمية بصفتي باحثةً في علم الأحياء، كنت مستعدةً لتجربة العديد من القواعد الأساسية في مجال البحث العلمي. توقعت أنني سأشكِّل فرضيات وأختبرها من خلال الأسئلة الكاشفة والملاحظة الدقيقة. توقعت أن أجري أبحاثًا تتسم بالتفكير التقدمي وأشرف على مثلها، وأن أرشد علماء المستقبل، وربما في مرحلةٍ ما بهذا الطريق أضيف إلى ما نعرفه عن كيفية سير العالم مساهمات جديدة وقيِّمة (مثلما كنت أرجو). غير أن ما لم أتوقَّع حدوثه هو ما جنيته من نموٍّ يبعث على التغيير والمعرفة من خلال الملاحظة المنهجية المنظمة للكائنات الحية، لا سيما النباتات.
عقب دورة فسيولوجيا النبات، بدأت في أولى تجاربي الرسمية في بيولوجيا النبات. فاستكشفت ظاهرةً تتمثَّل في أنَّ الأوراق الحديثة النمو لبعض الأشجار، ومنها بعض أنواع البَلُّوط، تتخذ اللون الأحمر الفاقع بصورةٍ عابرةٍ في فصل الربيع. وبعد الأسابيع القليلة الأولى من النمو، تتحوَّل أصباغ الأنتوسيانين المسئولة عن اللون الأحمر وتبدو الأوراق بلونها الأخضر المميز، بسبب تراكم صبغة الكلوروفيل، وهي الصبغة المسئولة عن إجراء عملية البناء الضوئي. أجريت تجارب في الفسيولوجيا البيئية، وهي دراسة التفاعل بين البيئة وفسيولوجيا النبات؛ لفهم الغرض من هذا التراكم للصبغات الحمراء. إنَّ هذه الاستقصاءات، التي أوضحت وجود دورٍ للصبغات الحمراء كواقٍ من الشمس يحجب الضوء فوق البنفسجي إلى أن تنضج الأوراق، أدَّت إلى افتتان مستمر منذ عقود باستجابات النباتات للإشارات البيئية المتعلقة بالضوء.
قادني ولعي بالنباتات في نهاية المطاف إلى امتهان التدريس الجامعي الذي يتيح لي فرصًا لمواصلة البحث والتدريس بشأن هذه الكائنات المدهشة. وقد تعلمت في كلٍّ من قاعة الدرس والمختبر مدى أهمية الإرشاد والقيادة في سعيي للنجاح. فنظرًا لأنني لم أتلقَّ تعليمًا رسميًّا منهجيًّا في أيٍّ من هاتَين المهارتَين في مسيرتي الأكاديمية، بدأت أبحث عن مصادر وفرصٍ لتحسين مهاراتي في الإرشاد والقيادة في مجال العلوم، وكذا تحسين وسائل مشاركة الرؤى مع الآخرين في مجتمعي، المهتمين أيضًا بتنمية هذه المهارات لديهم. وكان هدفي الأساسي في هذه العملية هو أن أكون حاضرةً تمامًا في حيزي وحياتي وفي الفرص التي تُتاح لي؛ ذلك أنني أحترم أهدافي وإنسانيتي تمامًا، حتى مع حرصي على امتلاك المهارات اللازمة لتقديم كامل الدعم لمَن أتفاعل معهم واحترام إنسانيتهم أيضًا. لقد انبثق العمل الأكاديمي الذي طوَّرته في دراسة وإرساء بُنى الدعم من أجل تقديم الإرشاد والقيادة الفعالين، من ملاحظتي الدقيقة للأنظمة الأكاديمية والعلمية ووظائفها (وما بها من خلل أيضًا). من خلال دراستي لهذه الأنظمة، اتضح لي أنَّ بعض المبادئ الحيوية التي نعرفها بأنها تساهم في أداء الأنظمة البيئية الطبيعية لوظائفها، تنطوي على دروس عظيمة للممارسات الفعَّالة والمنصفة في مجالَي الإرشاد والقيادة.
•••
بالرغم من أنَّ العديد منَّا يعرفون حقائق متنوعة عن الدور الجوهري للنباتات في دعمنا، مثل حقيقة أنها تطلق الأكسجين الداعم للحياة، وتوفِّر لنا التغذية في صورة الخضراوات والمكسرات والفاكهة، فإنَّ أكثر ما يبهرني حقًّا هو ما تفعله النباتات بصورة مستقلة، بعيدًا عن أي صلة لها بالبشر في معظم الأحيان. إنَّ النباتات تتواجد وتزدهر في العديد من الأماكن التي تبدو غير صالحة للسكنى على الكوكب، مثل الأشجار التي تنمو من صخور وتميل على المحيط، والشتلات التي تنبثق من جديد بعد شتاء ميشيجان القارس، والنباتات التي تنمو من بين أسفلت ممر السيارات، الذي كنت أظنه غير قابل للاختراق. للنباتات حيواتها الديناميكية القوية والمعقَّدة التي يمكن أن نتعلم منها الكثير من الدروس القيمة. فمثلما سترى في هذا الكتاب، تعيش النباتات وتزدهر في بيئات متنوعة، وتصوغ علاقات تكافلية، وتتعاون وتتواصل وتساهم في مجتمعاتها.
لقد تعلمت الكثير عن «الوجود» في هذا العالَم من خلال دراساتي على النباتات. وفي هذا الكتاب أقدِّم رحلةً مشابهةً تتمثَّل في التعرُّف على الاستراتيجيات والسلوكيات التي تقوم بها النباتات بصورةٍ فرديةٍ وجماعية، والتي تؤدي إلى وجود كائنٍ حيٍّ منتِجٍ قادرٍ على التكيُّف، وكيفية التعلُّم منها. إنَّ ذلك النوع من المعرفة والاندماج هو الذي يمكن أن يساعدنا — نحن البشر — في تقديم دعم أفضل لأنفسنا وللكائنات الحية الأخرى من حولنا.
«إنَّ خبرة البشر في كيفية العيش هي الأقل على الإطلاق، وبذا يكونون أكثر مَن ينبغي عليهم التعلم؛ علينا أن نبحث عن الإرشاد بين الأنواع الأخرى. فحكمة هذه الأنواع تبدو جلية في الطريقة التي تحيا بها. فهي تعلِّمنا من خلال المثال والقدوة.»