روبرت ميشل١

١٨٧٦–١٩٣٦

يُعتبر ميشل حجة بين كُتاب الاجتماع والسياسة في دراسة النازية والفاشية دراسة علمية، فقد مكَّنته نشأته بألمانيا ومقامه بإيطاليا من التغلغل في أعماق الحركتين والنفاذ إلى ما وراء الظواهر من كل حركة، فتوفر على بحث الأحوال العامة التي سبقت قيام موسوليني وهتلر في إيطاليا وألمانيا، وراقب تنظيم الهيئات التي توسلت بالقوة وبالحيلة إلى القبض على زمام الحكم في الأمتين، وأمعن في تقصِّي الدخائل والعوارض التي فعلت فعلها في بواطن تلك الهيئات ومن حولها، واستعان على ذلك بالصبر الطويل الذي أثر عن علماء الألمان في دراساتهم المستفيضة، فمَن قبلوا أحكامه ونظرياته ومَن رفضوها لا يختلفون على حقيقة واحدة: وهي أن مواثيقه وأسانيده كافية وفوق الكافية، وإنما يعرض لها النقد من التفسير والاستنتاج.

وميشل وصاحباه باريتو وسوريل متفقون على قواعد الرأي في حقيقة الحكومة الديمقراطية، ولكن ميشل مختص بدراسة المنظمات والهيئات على أنواعها، ولا سيما الأحزاب السياسية في نشأتها وتكوينها وأعمالها خارج المجالس النيابية وداخلها، وخلاصة رأيه: أن تكوين الفئات والطوائف في المجتمع البشري ضرورة عامة، وأن الأمة والنادي الخاص يتشابهان في قانون واحد يعمل عمله في كل جماعة بشرية مع اختلاف العدد والطبقة والغاية.

يقول ميشل: إن الأحزاب المحافِظة وأحزاب الأحرار والعمال جميعًا تدَّعي في العصر الحديث أنها تعمل بإرادة الأمة، ومنها ما يَعتقد أن جمهور الأمة لا يُحسن الحكم على القضايا العامة، إلا أنه — بطبيعة الحال — لن يتوجه إلى أصحاب الأصوات التي توصله إلى الحكم ليقول لهم إنه يستجهلهم ويستغفلهم، ويعمل بإرادته لا بإرادتهم، ولهذا شاعت في العصر الحديث فكرة «الإرادة القومية» مقترنة بتفسير معنى الديمقراطية، وليست هي نتيجة تفكير، ولا دليلًا على الإيمان بها في ضمائر الداعين إليها.

قال: إن الدولة البونابرتية نفسها قامت على مبدأ الاستفتاء والاختيار الحر المنزه عن التخويف والإغراء، وهي في جوهرها كالدولة التي قامت على دعوى الحق الإلهي من قبلها، ولو أن أنصار الحق الإلهي طلبوا الاستفتاء على هذا النحو لما أعياهم أن يصلوا إلى الفتوى التي تعلقت بها الدولة البونابرتية.

ورأى ميشل أن الحكم الديمقراطي أحسن ما في الإمكان بالقياس إلى أنواع الحكم القائم على الدعاوى الأخرى؛ لأنه في جملته أسلم عاقبة من غيره، لا لأن دعوى الحكم بإرادة الأمة أصح في الواقع من دعاوى الحكام السابقين.

فلا الأمة ولا الجماعات البشرية على إطلاقها قادرة على تصوير رأيها وإملاء إرادتها في جلائل الأمور وصغائرها.

وقد يتوهم بعضهم أن الجماعات البشرية الأولى التي لا تعدو سكان المدينة الواحدة كانت أقدر على تطبيق الديمقراطية من الأمم الكبرى التي تبلغ الملايين، غير أنه وهم عاجل لا يثبت على المراجعة، ولا ينخدع به مَن يَعرف طبائع الجماهير في اجتماعها.

فالمعروف اليوم من دراسة الأطوار النفسية للجماعات والآحاد أن رأي الجمهور ساعة الاجتماع لا يمثل آراء الآحاد المشتركين فيه وهم متفرقون، ينظر كل منهم في الأمر على حدة، ويقلب وجوهه على تبصر وروية، وأن آراء الجمهور كثيرًا ما تسفر عن الإجماع بالصياح والجلبة دون إصغاء إلى أصوات المخالفين إن كان بينه مخالفون، فإذا كثر المخالفون — لاختلاف الزعماء — فالاجتماع صائر إلى الفوضى والشغب فلا يفهم منه رأي محدود.

ومعظم المسائل التي تباشرها الحكومات تدخل في اختصاص الفنيين، وتحتاج إلى التثبت من البيانات والأرقام، فإذا عُرضت على جمهور من العارفين أو غير العارفين في ساعة الاجتماع فلا بد من إحالتها إلى فئة خاصة تبت فيها برأيها، فيقبلها الجمهور على علاتها أو يقع الاختلاف عليها، فيتغلب المتغلب بالمؤثرات «الجماعية» التي يرجح فيها الصخب على الحجة، وترجح فيها الخطابة على الإقناع، ويجدي فيها التمهيد بالمناورة والمداورة ما لا يجديه الرأي الخالص من شوائب التمهيد والترويج.

هذا عن الجماعات التي تتلاقى في مكان واحد كما كانت تتلاقى جماعات الناخبين في المدن القديمة، وهي على هذا لا تمثل المدينة كلها لاستثناء بعض سكانها من حقوق الانتخاب.

أما جماعات الأمم الكبيرة فالمسلَّم أنها لا تتلاقى في مكان واحد، ولو قصرت الاجتماع على وكلاء الانتخابات، فلا مناص من التفويض والتوكيل.

ويطيل ميشل في شرح الإجراءات المعقدة التي تسبق ترشيح المرشح، ولا حيلة للناخبين في مراقبتها ولا في تعديلها، فيخلص منها إلى وصف الانتخابات بأنها اضطرار إلى الاختيار.

ولا يؤمن ميشل بما يسمى السيادة بالتوكيل أو التفويض، فإذا صح أن الأمم قد انتخبت وكلاءها بمحض اختيارها، فليس بالصحيح أن السيادة تبقى بعد ذلك في أيديها! لأن وكلاءها يستطيعون أن يوجهوها من حين إلى حين، وهي لا تستطيع توجيههم في كل حين.

وقبل أن يصل التوجيه إلى الأمة، ينبغي أن ننظر إلى أساليب التوجيه في داخل الهيئة السياسية بين رؤسائها وأعضائها.

فالجماعة بطبيعتها كسلى لا تنتزع من نفسها القوة على الإنشاء والابتداء في جميع الظروف.

ولهذا يحدث دائمًا في النادي الصغير — كما يحدث في الجماعة الكبيرة — أن يبحث المجتمعون عن رئيس يكلون إليه تصريف الأعمال الضرورية لبقاء النادي والجماعة.

والذي جرت به العادة في هذه الأحوال أن يظفر بالانتخاب من يَفرغ للعمل ويَحرص عليه ويدأب على طلبه، وقد يقع عليه تفضيل أصحابه وزملائه للسبب ونقيضه، فيفضلونه لاتقاء بأسه كما يفضلونه لأمنهم من جانبه واطمئنانهم إلى سلامته، ويفضلونه لرجحانه كما يفضلونه لقلة منافسته وقلة منافسيه، ويندر أن تكون هذه الصفات أكرم الصفات التي تصلح عليها رئاسة الرؤساء.

وقد لوحظ أن الرئيس يبقى في رئاسته متى وصل إليها، فيعيد الأعضاء انتخابه كسلًا من عناء البحث والاختيار وفض المنازعات وإغضاب هذا لإرضاء ذاك، أو يعاد انتخابه لما اتخذه هو من الحيطة، وتذرع به من الذرائع التي تخيِّل إليهم أنه عامل مهم لا غنى عن عمله، أو أن التجديد أسلم على الأقل من ابتداء التجربة من جديد.

يجري هذا في الانتخاب لرئاسة الأندية والجماعات القليلة التي من قبيلها، ويجري مثله على التقريب في انتخاب الرئيس للهيئات السياسية والأحزاب الكبيرة التي تتناوب الحكم مع غيرها أو تنفرد به فترة طويلة بغير مزاحمة، فمتى ظفر الرئيس بالرئاسة جعل همه الأول أن يحيط نفسه ببطانة من أخصائه يبقون ببقائه ويذهبون بذهابه، فيُشرف معهم على خزانة الهيئة وجدول الانتساب إليها ومجلس تأديبها وأداة نشر الدعوة لها ولحكومتها، وبهذا يأمن المزاحمة، ويتيسر له أن يقضي عليها في مهدها؛ لأنه يملك أسباب التخلص من المُزاحم قبل أن ينجح هذا في تأليب القوى للتخلص من رئاسته، ويلجأ الرؤساء عادة في بعض المواقف إلى إرهاب الجماعة بإعلان العزم على الاستقالة تهديدًا لها وقسرًا على طاعتهم والتسليم بما يفرضونه عليها، وهم لا يلجئون إلى هذا التهديد حين يعلمون أن الاستغناء عنهم ميسور، وأن أنصارهم المتكلفين بتأييدهم قليلون، ولكنهم يلجئون إليه كلما علموا أنه ضربة مربكة للجماعة محيرة لها بين مَن يتنازعونها، ولا سيما حين ينجح الرئيس وبطانته في تهوين خطب المنافسين الأقوياء وإضعاف كل من تحوم الشبهة حوله منهم قبل أن يستفحل خطبه.

ومتى توطد مكان الرئيس وبطانته على هذا النحو، ففي وسعه أن يفرض مرشحيه للمجالس النيابية على الحزب كله قبل إعلان ترشيحهم للناخبين، فإذا هم مرشحو رئيس واحد تؤيده بطانته، ولا تأمن أن تشق عليه عصا الطاعة، واسمهم أمام الناخبين «مرشحو الحزب ونواب الأمة».

يقول ميشل: إن جريان الانتخاب على هذا النمط بين المحافظين مفهوم؛ لأنهم يشكون كل الشك في كفاءة الجمهور لولاية الأحكام، وإنه كذلك مفهوم بين الأحرار؛ لأنهم يعتبرون الجمهور ضرورة لا محيد عنها، ولكن العجيب فيه أنه يجري على هذا النمط أو أشد منه بين طوائف العمال التي ارتهنت مصالحها كلها بحقوق النيابة، وتوزيع هذه الحقوق بين صفوفها على سُنة المساواة التي لا تسمح باحتكار الرئاسة، فالواقع أن انتخابات النقابات العمالية تسفر عن احتكار للرئاسة لا يقل عن احتكارها في لجان المحافظين والأحرار، إن لم يكن أشد منه وأطول أمدًا، وأن الظافر بالرئاسة يندر أن يستحقها بإخلاصه للقضية وقدرته على الدفاع عنها، فالغالب أن الظافرين بها يستحقونها بالتهجم والاقتحام والتهويل على المنافسين الأمناء، ثم يحتفظون بها متى وصلوا إليها آمنين المزاحمة، بل آمنين الانتقاد.

وإذا انهزم رئيس من كبار الرؤساء مرة فإنما ينهزم لأن المنتصر عليه قد هيأت له الظروف أن يغلبه بهذه الوسائل، لا لأنه انتصر عليه بوسائل خير منها، فالقاعدة واحدة والمطَبِّقون لها متعددون.

والأستاذ ميشل شديد الثقة بنظرياته هذه حتى ليرتقي بها إلى درجة القانون — بل القانون الحديدي — الذي لا فكاك من حلقاته المقفلة، ويسميه القانون الحديدي لولاية الخاصة: The Iron Law of Oligarchy، فلا يتأتى حكم في البلاد الديمقراطية أو في سواها لغير فئة خاصة توافق زمانها، فمن فئة الفرسان إلى فئة النبلاء إلى فئة أصحاب الأموال إلى فئة الخبراء والصناع، إلى فئات من قبيلها يبرزها كل حكم على مقتضى الزمن بغير خلاف في جوهر القانون، وهو أن الجماهير تسلم مقادها لآحاد معدودين.

هذه النظرية أو هذا القانون الحديدي قد شاع في بيئات البحث الاجتماعي ودوائر الفلسفة السياسية، فكان له أثران: أحدهما: ارتداد بعض المفكرين عن الديمقراطية، والآخر: قبول الديمقراطية على علاتها؛ لأنها أقرب إلى الإنصاف والإصلاح من النظم الأخرى.

والأستاذ ميشل — على فرط إيمانه بقانونه الحديدي — هو أحد هؤلاء الفلاسفة الذين رأوا هذا الرأي في حقيقة الحكم الديمقراطي فلم يتحولوا عنه إلى غيره، وحجتهم في ذلك أن المهم هو نتيجة الديمقراطية لا أقوال الدعاة في تفسيرها.

فقد يكون صحيحًا أن الناس لا يتساوون، وقد يكون صحيحًا أن الأمة لا تحكم نفسها بإجماع آرائها أو إجماع كثرتها، ولكن لا شك مع هذا وذاك في نتيجة الديمقراطية ما دامت مستمسكة بهذا الوصف وهذا العنوان، وتلك النتيجة هي حسبان الحساب للعديد الأكبر من الرعايا في سياسة الحكومة، ومهما ينخدع الرعايا بالوعود والأكاذيب فلا بد على الأقل من إرضائهم بتوفير أقواتهم واجتناب شبهاتهم، وهذه مزية للحكومة باسم الأمة كائنًا ما كان عدد الرؤساء المستأثرين فيها بالرأي والسلطان.

غير أن تلاميذ ميشل — ممن كانوا يتشيعون لآراء كارل ماركس — قد أثرت فيهم نظريته أو قانونه الحديدي أبلغ الأثر في وزنهم للمبادئ الماركسية، ومنهم الكاتب البولوني الذي يكتب اليوم في الولايات المتحدة باسم ماكس نوماد Max Nomad وينشر آراءه عن تناوب السيادة، ومظهره في البلاد الروسية، فهو في كلامه عن المتمردين والمرتدين يقرر أن النظام الشيوعي وضعَ السلطة الحكومية كلها في أيدي الموظفين ورؤساء المصانع، وأنشأ طبقة حاكمة تستغل الطبقة العاملة، ولا تفكر في النزول لها عن سلطتها، ويكاد يردد المثل العربي القائل: ما أشبه الليلة بالبارحة! فالمفكرون الشيوعيون وطائفة الأدباء والصحفيين هم كهنة هذا النظام الذين يقدِّسون طبقته الحاكمة كما كان كهان القرون الوسطى يقدِّسون الأمراء والملوك بحق السماء، والسادة الموظفون هم المستغلون الجدد في مكان المستغلين من أصحاب رءوس الأموال، والأجراء هم بغير تبديل إلا أن يكون تبديل الحجر بحرية العمل وحرية الإضراب.

قال: «إن التجربة السوفيتية قد أثبتت أن إمكان الاستغلال في ظل الاشتراكية لا يقل عن إمكانه في ظل أي حكومة سابقة … وإن المرء إذا استرسل في النبوءة ففي الوسع أن يخمن أن الصورة العالمية المقبلة لاستغلال الإنسان للإنسان كما تومئ إليها الأساليب الروسية في امتلاك الدولة لجميع المرافق واختلاف دخول العاملين — سوف يكون قصاراها من التغيير تحمل عنوان الاشتراكية.»

فقد ظهر أن الاشتراكية تهتم بمسألة الاستيلاء على أداة الإنتاج، ولا تهتم بمسألة التوزيع، مع أن التوزيع الذي يمنع الاستغلال هو المقصود من كل حركة اشتراكية، ولكن هذا «المقصود» هو الذي لم يكن ولا يكون.

١  Robert Michels.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤