فردريك أوجست ڤون هاييك١

١٨٩٩

تُعتبر مدرسة الحريين مدرسة إنجليزية في نشأتها وتدعيمها وكثرة أتباعها، ولا يستثني بعضهم مذهب «هوبس» الفيلسوف من مذاهب هذه المدرسة، وهو الداعي إلى تزويد الحكومة بالسيطرة القوية؛ لأنه — مع ميله إلى تعزيز سيطرة الحكم — يقرِّر أن الحكم كله قائم على تراضي المحكومين واتفاقهم على تنصيب الحاكم، منعًا لعدوان بعضهم على بعض، وضمانًا من الخوف الذي يساور ضعفاءهم من أقويائهم إذا ارتفعت عنهم سطوة الهيئة الحاكمة.

ويتفق فلاسفة الاقتصاد السياسي وفلاسفة الحكم على مذهب الحريين، فالمدرسة الإنجليزية — مدرسة آدم سميث — تلخِّص آراءها الاقتصادية في إرسال المعاملات بغير قيد، وتتخذ شعارها عبارة «دعه في سبيله» على اعتقاد أن سنن الأخذ والعطاء والعرض والطلب خير كفيل بتنظيم المعاملات في الأسواق الداخلية والأسواق الخارجية على السواء.

ويجاريها فلاسفة الحكم من جون ملتون إلى جون ستيوارت ميل إلى اللورد أكتون إلى هربرت سبنسر إلى برتراند رسل في العصر الحاضر، وخلاصة آرائهم جميعًا أن «الحرية الفردية» غرض مطلوب لذاته، وليست وسيلة نتوسل بها إلى غرض آخر، وأن مهمة الحكومة مقصورة على كفالة هذه الحرية الفردية، فلا حق لها في استخدام شيء من السيطرة وراء هذه الغاية.

على أننا اخترنا الأستاذ هاييك لتمثيل هذه المدرسة؛ لأن كلامه فيها أقرب إلى البحث المجرد الذي لا يَصدر عن تقليد من التقاليد القومية، فليس هو من صميم الإنجليز، ولا من الذين تعلَّموا في المدارس الإنجليزية، ولكنه وُلد في النمسا، وتعلَّم فيها وفي الولايات المتحدة، وانتقل بعد ذلك إلى إنجلترا حيث يقيم الآن، ويشتغل بالتعليم في جامعاتها، وقد أصبح له صوت مسموع في ميدان الثقافة والسياسة، وشاعت آراؤه على أثر نشرة لكتابه المسمى: «بالطريق إلى الرق»، ويعني الكتاب أنه لا يكتفي بترديد المبادئ الأولى التي أيَّد بها الحريون مذهبهم لاختلاف الأحوال بين القرن الماضي والقرن الحاضر، فإن مبادئ الحريين الأولى قد لوحظ فيها تفنيد حجج المحافظين الذين كانوا يميلون إلى تقييد الواردات وزيادة المكوس واحتكار الأسواق، أما مبادئ الحريين في العصر الحاضر: فالملحوظ فيها تفنيد القائلين باستيلاء الدولة على المرافق العامة، وتعميم نظام التأميم على المنشآت القومية الكبرى، وقد ساعد على إقحام هذه المبادئ في البيئة الإنجليزية عوامل جديدة لم تكن معهودة في القرن الثامن عشر، ومنها: مشكلة البطالة وتكاثُر حزب العمال، والاضطرار إلى تقييد التجارة، وتنظيم الإنتاج في الحرب العالمية الأولى وفي الحرب العالمية الثانية، وتزاحُم الدول على الأسواق، واعتماد أصحاب المصانع والشركات على مساعي حكوماتهم عند الحكومات الأخرى.

فمذهب الحريين كما يُعرَض الآن مذهب جديد في أسبابه ومناقشاته، وإن كان قديمًا في أصوله وغاياته، ويبدو من ذيوع كتاب الأستاذ هاييك أن أنصاره والمستعدِّين للاقتناع به غير قليل بين قراء الإنجليزية، فقد طُبِع ست مرات بعد طبعته الأولى، ونُشرت منه طبعة شعبية غير الطبعة الخاصة، واعتبره الحريون مُعبِّرًا صادقًا عن آرائهم في الرد على أنصار التأميم والتعميم.

يعمد الأستاذ هاييك إلى الحجة الأولى من حجج المقيدين والمنظمين — وهي ضرورة التأميم في العصر الحاضر تبعًا لتقدم الصناعة — فينفيها كل النفي، ويستند في نفيها إلى بيانات لجنة الاقتصاد القومي الأمريكية التي درسَت مسألة التركيز الاقتصادي، وسجلت نتائج بحثها في تقرير وافٍ قدمته إلى الكونجرس منذ عشر سنين (١٩٤١).

وفحوى حجة المقيدين والمنظمين أن تقدُّم الصناعة في العصر الحاضر لا بد أن يفضي إلى نتيجة من اثنتين: إما احتكار الأسواق في أيدٍ قليلة أو سيطرة الحكومة على المصانع والأسواق؛ لأن تقدُّم الصناعة يجعل في مقدور المصانع الكبيرة أن تقضي على المنافَسة بقلة التكاليف وجودة البضاعة ورخص الأسعار، فإذا تَركَت الحكومة حبل المصانع الكبرى على غاربها؛ فالنتيجة المحتومة هي الاحتكار والقضاء على صغار الصناع والتجار.

والأستاذ هاييك يقول: إن شيئًا من ذلك لم يَثبت من بحوث المختصين، فلا جودة الصناعة ثابتة للمصانع الكبرى، ولا سيطرة الحكومة ضرورية لتنظيم الصناعات.

ويختصر الطريق فيقول: إن السيطرة الحكومية بدأت في ألمانيا منذ ثلاثين سنة، حيث لم تبلغ الصناعة غايتها من التقدم، وتأخرت في إنجلترا التي سبقت الأمم الأوروبية في هذا المضمار، والمعروف أن أصحاب المصانع هم الذين يسعون إلى تقرير نظام التقييد والتنظيم، ويبذلون في هذا السبيل غاية ما يستطيعون من وساطة وتأثير، فلو أن الأمر كان حتمًا مقضيًّا لا محيد عنه لأراحوا أنفسهم من المساعي الحثيثة في هذا السبيل.

وليس قصارى الاعتراض على التقييد والتنظيم أنه عمل لا تقضي به الضرورة في الظروف العامة، وإنما يعترض عليه الحريون؛ لأنه سياسة ضارة بالصناعة نفسها؛ وضارة بالأخلاق والآداب، وضارة بقضية السلام في العالم.

فقد كان تقدُّم الصناعة والاختراع مقترنًا بحرية المعاملة، وفتح باب المنافسة لمَن يشاء، ولن يطرد هذه التقدم إذا بطلت المنافسة، ووُكل الأمر إلى رقابة الموظفين الذين يعملون لغيرهم ولا يعملون لأنفسهم.

ومتى استقر الرأي على تفويض الحكومات في شئون الإنتاج والاقتصاد، فمن لوازم هذا التفويض أن يُسمح لها مقدَّمًا باتخاذ كل «إجراء» يستدعيه التنفيذ في حينه، ولا يتأتى أن يُحسب له حسابه قبل ذلك الحين، ومؤدى ذلك ذهاب حكم القانون الذي يَتعارف عليه الناس قبل تنفيذه، وإيكال الأمور كلها إلى تقديرات المنفذين على حسب كل ظرف من الظروف.

يقول الأستاذ: إن خير وسيلة لحسن العمل هي إقناع العاملين بصوابه وحسن جدواه، وليس من الممكن إقناع الناس قاطبة بخطة من الخطط السياسية أو الاقتصادية تُطبَّق عليهم في جميع الأحوال، فينتهي الأمر بإحلال الدعوة والتبشير محل التعقل والإقناع، ويتعارف الساسة والرعايا على الخداع والتضليل للتوفيق بين الدعوة وبين أمزجة الناس وآرائهم، وتنشطر الأمة إلى فريق مع النظام وفريق خارج عليه محتاج إلى الإكراه أو إلى التضليل لإدخاله في سلك ذلك النظام، ومن هذا الانقسام تنشأ رذيلة الاستبداد التي تُقصِر الحقوق القومية على مَن يشايعون السلطان القائم، ومتى كانت الحكومة هي صاحبة العمل وصاحبة السلعة، فالذي يخالفها يقاطِع موارد الرزق، ويتعرض للجوع والانتقام على يد القانون.

ويناقِش الأستاذ أقوال القائلين إن الآفة في الدولة المستبدة هي آفة الحاكمين بأمرهم لا آفة النظام نفسه، وإن البلاد الألمانية والإيطالية لو أُسندَت إلى حكام غير هتلر وموسوليني ومَن معهما لما ساءت فيها الأمور كما ساءت، ولا تعرَّض السِّلم في العالم للخطر كما تعرَّض له من جراء خطل الرجلين ومَن على شاكلتهما من الأشرار أو الإمعات، ولا أفضى الخطر فعلًا إلى وقوع الحرب، واتصال القلاقل في العالم بعد هزيمة المعتدين.

يناقش الأستاذ أقوال هؤلاء، ويخرج منها على نقيض ما زعموه: وهو أن الآفة في النظام حيث كان، وليست الآفة في آحاد معدودين يَبرزون بالمصادفة والاتفاق في بلد دون بلد وزمان دون زمان.

إن الدكتاتور — الحاكم بأمره — يَصعد إلى عرش جبروته بتأييد جمهرة من الأمة يستمد منها القدرة المطلقة على قمع معارضيه وفرض الطاعة العمياء على جميع المحكومين، وهي تخوله الأمر المطلق؛ لأنها تتقبل «نظرية واحدة» في شئون السياسة.

ومن القواعد المقررة: أن الإنسان كلما ارتقى في العلم والفهم بلغ مرتبة الاستقلال بالرأي والاستقلال بالخلق، فلا يتسنى اجتماع كثرة غالبة من هؤلاء المستقلين فيها، وبغير تعقيب عليها.

فالجمهرة التي تؤيد الدكتاتور هي بطبيعتها جمهرة مسفة في طبقة الفكر والخلق، تَهون عليها حريتها وتَهون عليها حرية غيرها، ولا تَشعر بفقدان الحرية؛ لأن الذي يَشعر بفقدانها هو الذي يَقدر على استقلال الرأي فيَشعر بالحجر عليه.

ولا يَخفى أن الحاكم بأمره يتعلل على المجالس النيابية؛ لأنه يتهمها بتضييع الوقت في المناقشات، ويرغب في سرعة الإنجاز، ومضاء العزيمة عند البت في جلائل الأمور، فإذا رسخت قدمه في مكانه فليس من المعقول أن يطيق المعارضة ممن حوله، ولا أن يحتمل المشاركة وهو قادر على التفرد برأيه، فلا يلبث أن يحيط عرشه بمن يذعنون له خوفًا واستسلامًا أو عجزًا عن مقابلة الرأي بالرأي والدليل بالدليل، ولن تطول هذه الحالة حتى تقضي على عناصر التفكير والاستقلال فيمن يقبضون على أزمّة الدولة، ويديرون معه أداة الحكومة.

ولما كانت جمهرة المحكومين لا تساس بالرأي والروية، فلا غنى للحاكم المستبد عن سياستها بإثارة العواطف وتحريض نوازع البغضاء والحماسة على «العدو المزعوم» الذي يخترعه لها إن لم يكن له وجود في مخيلتها، وقد كان «اليهودي» هو العدو المختار لشعب ألمانيا، وكان الكولاك أو مالك الأرض هو العدو المختار لشعب روسيا، وكانت إنجلترا تارة وحكومات «رأس المال» تارة أخرى هي العدو المختار في السياسة الخارجية، وعلى الدكتاتور — متى استثار حفائظ البغض في نفوس رعاياه — أن يَسمح لها بافتراس ضحاياها، وأن يخلي بينها وبين أعدائها، ولها منه أيضًا أن تعينه على ضحاياه وأعدائه؛ إذ إنهم هم العدو المشترك الذي يقف في الطريق دون بلوغ العظمة المنشودة والمجد المأمول.

فحكم القسوة والإجرام وضيق الحظيرة وقلة الصبر على الآراء المخالِفة طبيعة ملازِمة للحكومة المستبدة، وقد قيل إن الطغيان يُفسد صاحبه، وإن الطغيان المطلق فساد مطلق في جميع الأحوال، فإذا اتفق مرة أن يتبوأ عرش الطغيان حاكم صالح فلا أمان عليه من عدوى الفساد والانحدار.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الحكومات إنما تسيطر على المصانع والسلع لتتولى هي أعمال التجارة مع الأمم الأخرى على أساس القوة والغلبة، فتصطدم القوة بالقوة، ويقع الاحتكاك الذي يُخشى منه على السلام العالمي، ويلتفت العالَم بعد الخراب الجائح الذي ابتلي به من جراء المنازعات والحروب، فإذا هو قد أضاع من الزمن بتلك السرعة المزعومة أضعاف ما يضيع عليه في المناقشات الحرة، فضلًا عن خسائر الأرواح والأموال.

ويعتقد الحريون أن تجارب التقييد والتنظيم محاولات مخفَّفة تئول في النهاية إلى الاعتراف بالمنافسة الحرة في نطاقها الصالح الذي لا يجاريها فيه نظام آخر … فهي محاولات غير ممكنة كما أنها غير ضرورية، فليس في الدنيا إنسان ولا جملة من الناس يملكون المعلومات والوسائل الكافية لإخراج كل سلعة بالقدر اللازم في الآونة اللازمة، وإنما يتكفل التنظيم بناحية وتتكفل المنافَسة الحرة بناحية أخرى، وتتقلب الأحوال في الأسواق أبدًا على حسب الطلب والمحصول، وكثرة هذه السلعة وقلة تلك، وتغيُّر الأذواق والحاجات بما لا يدخل يومًا في حساب ولا تدبير.

ويطول شرح الآراء والأسباب التي يبنون عليها نظرياتهم في حكمهم على عاقبة التقييد والتنظيم، سواء منه ما يطبق في ميدان الاقتصاد القومي أو في ميدان المبادلات العالمية.

وقد جمع الأستاذ هاييك طائفة من بحوث علماء الاقتصاد في الأمم الأوروبية كالأستاذ بيرسون الهولاندي والأستاذ لدڨج ڨون ميز النمسوي والأستاذ جورج هالم الألماني والأستاذ بوريس برتزكاس الروسي، وقدَّم لها مجموعة باللغة الإنجليزية نُشرت باسم «تنظيم الاقتصاد الجماعي» Collectivist Economic Plamning، فاتفقت أقوالهم جميعًا على رأي واحد أسفرت عنه التجارب الجماعية في كل أمة بغير استثناء روسيا الشيوعية، وخلاصة هذا الرأي: أن الإنتاج الجماعي مستحيل بغير تقدير «ثمن» للسلع يتوقف على نسبة الحاجات المعيشية بعضها إلى بعض، ولا يتيسر التحكم في تقديره بحال من الأحوال.

وما معنى تقدير «الثمن» الذي يرتفع ويهبط من حين إلى حين؟ معناه الموجز: أن ضبط مقادير السلع بالتحكم والإملاء السابق غير مستطاع، وأن الحرية الاقتصادية على نحو ما تتغلب على أوامر التحكم والإملاء.

والأستاذ بيرسون الهولندي يعرض في بحثه عن مشكلة «القيمة» لتوزيع الدخل في بلاد الصناعة المقيدة فيتساءل: هل يوزَّع الدخل بتقدير عمل العامل أو يوزَّع الدخل بغير نظر إلى عمله؟ فإذا تغاضى ولاة الأمر عن عمل العامل فلا صناعة، وإذا دخلَ تقدير العمل في الحساب فهناك التفاوت بين الدخول المتعددة، وإذا تكفلت الدولة بتشغيل كل عامل فلا بد من وقت يقلُّ فيه الطلب، أو تقلُّ فيه الخامات، أو تختلف فيه النسب والمقادير فيتعرض فريق من عمال بعض الصناعات لركود الحركة أو البطالة، وتصل إليهم الأجور من قبيل الإعانة والإحسان، وتتشابه الصناعات المؤممة والصناعات الحرة في علاج البطالة على هذا الأسلوب.

ويتساءل أيضًا: هل تتغير عادات الكسل والتواكل وإدمان السُّكر والطمع والإجحاف في الرؤساء والمرءوسين إذا كان نظام التقييد والتأميم متوقفًا على صلاح الأخلاق؟ وإذا كانت هذه العادات تتغير، فما الحاجة إلى قلب النظام الاجتماعي من حال إلى حال، والناس يستريحون في ظل كل نظام حيثما عدل الكسلان عن الكسل وعدل السكير عن السُّكر، وعدل المجحف عن الأجحاف؟ وظاهرٌ من هذه الآراء أن الأستاذ بيرسون وزملاءه من الحريين يرجعون بأسباب الفقر إلى عادات الإنسان وأخلاقه كيفما كان النظام وكيفما كانت أساليب الإنتاج.

•••

والتنظيم العالمي مشكلة أعضل من مشكلة التنظيم القومي، وتوزيع الدخل بين العاملين في الأمة الواحدة، فمَن الذي ينهض بعبء رأس المال في الصفقات الدولية؟

تريد هولندة أن ترسل إلى جاوة بضائع مصنوعة في مقابلة صفقة من الأرز والبن، فهناك ثلاث طرق لإجراء هذه المبادلة: إحداها: أن يصل الأرز والبن إلى هولندة، ويؤدى ثمنه بعد وصوله أو بعد وصوله واستنفاد بعضه، والأخرى: أن تصل البضائع المصنوعة إلى جاوة، ويؤدى ثمنها بعد وصولها واستنفاد بعضها، أو يرسِل كل من الطرفين مبادلته وتلتقيان في منتصف الطريق، فجاوة هي التي تنهض بعبء رأس المال في الحالة الأولى، وهولندة هي التي تنهض به في الحالة الثانية، وكلتاهما تنهضان بالعبء في الحالة الثالثة.

ثم يتساءل الأستاذ بيرسون قائلًا: ما العمل في الأمم التي لا تملك رأس المال حاضرًا، وتتسلف عليه في انتظار موسم من المواسم؟ فهنالك أمم لا يحضرها رأس المال كل ساعة، وهناك أمم يحضرها الوفر منه دائمًا، ولا يضيرها أن ترجئ الحصول على ثمنه في مقابلة شيء من الربح المنتظَر، وهناك أمم تُنقِص نصيبها من مادة لتتم نصيبها من مادة أخرى، وقد يَعظم الطلب في العالم على مادة زراعية على حسب المواسم التي تختلف من سنة إلى سنة، ثم يقلُّ الطلب على تلك المادة بعينها في نهاية ذلك الموسم، وتداوُل المواد والأثمان والصفقات العاجلة أو الآجلة يجري الآن على السنن التجارية والاقتصادية في أعمال المصارف والبيوت التجارية. فكيف يحل التنظيم العالمي محل هذه الطريقة؟ وعلى أي سُنة يَجري تقدير الأثمان، وتقدير ما تؤديه كل أمة في كل حالة؟

وخلاصة ما يتوافق عليه الاقتصاديون الحريون في مشكلة التنظيم العالمي أنها تحتاج إلى تدبير أصحاب الحيلة الناجحة، وتدبير أصحاب الكفاءة الضرورية لتنفيذها، وتدبير أصحاب الهمة والأمانة إذا توافرت الكفاءة. فمَن الذي يضمن تدبير ذلك كله في وقت واحد، وعلى حساب المفاجآت التي لا تدخل في حساب؟

وكلهم يتساءلون: ما الحاجة إلى قلب نظام الدنيا إذا فرضنا أن الدنيا ستتحول فيما بين ليلة ونهار إلى فردوس كفردوس الملائكة الأبرار؟ ويتساءلون أيضًا: ربما وجدنا الرجال الذين يصبرون على الشظف من أجل تمجيد صناعتهم الوطنية، ولكن أين هم الرجال الذين يصبرون على الشدة، ويقاومون المحنة من أجل سكان مجهولين في جزيرة مجهولة يسمعون بها كرقعة ملوَّنة على خريطة الكرة الأرضية؟

كذلك تستطيع الحكومة القومية أن تُقنِع بعض رعاياها بالتحول من زراعة إلى زراعة باسم الحمية الوطنية، وعلى اعتقاد أن المنفعة تئول إلى إخوانهم في الوطن الواحد، ولكن كيف تُقنِع الناس في كل موسم بخطة جديدة تَصدر من الهيئة العالمية التي تُشرف على تنظيم الموارد والمصادر؟ ومِن أين تأتي القوة العسكرية التي تُكرِه المخالفين والعصاة على الطاعة؟ وكيف يرضى أبناء إقليم من الأقاليم بإهدار مصالحهم كلما وقر في أخلادهم أنهم ضحية لمطامع الدول الغنية؟

إنه على الجملة تنظيم غير ضروري وغير ممكن، ويزيد على ذلك أناس من الاقتصاديين المؤمنين بمحاسن المنافسة الحرة فيقولون إنه ضارٌّ بالأفراد وبالأمم وبالإنسانية على عمومها، ففي ظل المنافَسة الحرة التي تكفَّل بها نظام رأس المال نشأت حرية الفكر وحرية الضمير وحرية المعاملة، واتسعت حقوق العمال، وارتفعت أجورهم، وتهيأت لهم ولاية الحكم في أمم كثيرة، وتَبيَّن بالإحصاء أن دخْل الفرد قد تَضاعف من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين بحسبان ما يُقدَر على شرائه لا بحسبان ما يقبضه من العملة، وتَبيَّن بالإحصاء كذلك أن دخْل العامل في روسيا الشيوعية يزيد بقليل على ربع الدخل المتوسط بين عمال الولايات المتحدة، وهذا مع الفارق البعيد بينهما في الحرية وفرص التقدم، ومع الفارق البعيد بين مخاطر الحياة قبل القرن الثامن عشر في الدنيا عامة وضمانات الحياة المختلفة بعد قيام رأس المال، فقلَّت المجاعات والأوبئة وقلَّت ضحايا الجهل والخرافة، وخطا بنو الإنسان في قرن واحد خطوة أوسع وأجدى عليهم من خطواتهم في عشرات القرون.

ومساوئ النظام حقيقة لا ينكرها أحد، ولكننا لا نقابل نظامًا معروف المساوئ بنظام خلا من جميع المساوئ، فما من نظام في الحاضر والمستقبل يخلو من مساوئه التي تعاب عليه، وإنما المقارنة بين مساوئ نظام ومساوئ نظام يلغيه ويعفي على محاسنه، ولا ينبغي أن ننسى أن من المساوئ ما هو لصيق بعيوب الإنسانية، ولا أمل في تبديله حتى تتبدل طبائع الإنسان.

إنما الوجه أن نحسب الحسنات مع السيئات، فلماذا ينسون الحسنات حين يذكرون السيئات؟ ولماذا يعالِجون نظام المنافَسة الحرة بهدمه ولا يعالجونه بإصلاح سيئاته؟ فالسيارات مثلًا لها مخاطرها وتكاليفها وأضرارها وضحاياها، وما من أحد يقول بإلغاء صناعة السيارات من أجل تلك الأضرار؛ بل يقولون جميعًا بتحسين معاملها وتوسيع طرقها ومد مسافاتها، ويحتملون العيوب من أجل الحسنات، ثم ينظرون في إصلاح العيوب حيثما استطيع الإصلاح.

والنتيجة من مذهب الحريين الحديث والقديم معًا هي «أولًا» أن التقييد غير لازم، و«ثانيًا» أنه غير مستطاع، و«ثالثًا» أنه غير مأمون العاقبة على المصالح والحريات، و«رابعًا» أن نظام المنافسة الحرة كفيل بإصلاح عيوبه مع الزمن على حسب مقتضيات الأحوال.

وقد يَسبق إلى الخاطر مما تقدَّم أن الحريين المحدثين يتابعون الحريين الأقدمين في رفض التقييد بتة، وإطلاق الحرية للمنافسة الصناعية والتجارية بغير استثناء، وأنهم يعودون إلى شعار الحريين الأول الذي فحواه: «دعه لسبيله»، أو «دعه في سبيله» Laissaiz Faire كما وضعه الساسة والاقتصاديون في القرن التاسع عشر بغير تنقيح.

إلا أن الحريين المحدثين لا ينحون هذا النحو، ولا يرفضون التقييد والتنظيم كل الرفض في جميع الأحوال.

إنما يرفضون شيئًا واحدًا وهو التقييد الذي يبنيه أصحابه على نظريات فلسفية قابلة للخلاف، ويفرضونها على المجتمعات، كأنها وحي مبرم لا تبديل لكلماته، ولا يطاق الخلاف عليه.

إنما يرفضون الحجر على المستقبل إلى آخر الزمان ذهابًا مع معلومات تتغير في كل عصر، وقد تنقلب من النقيض إلى النقيض، أو هم يرفضون التقييد الذي هو حجر على مساعي الأرزاق، وحجر في الوقت نفسه على العقائد والأفكار، وإكراه للعقول على أن تَفهم كما يَفهم فريق من الناس، وللأيدي على أن تعمل كما يسوقونهم من الآن إلى غير انتهاء.

فهذا هو التقييد الذي يرفضه الحريون المحدثون، ولكنهم لا يرفضون إشراف الدولة على المرافق التي لا يستقل بها فرد أو جملة أفراد، ولا يرفضون التقييد الذي توحيه المصالح والظروف حسب الحاجة المتجددة، وقد يبيح في عام ما يحظره في عام، ويخضع في الإباحة والحظر للرقابة العامة التي تصونه عن فساد الاحتكار، وفساد الطغيان، وفساد التعسف بالأهواء والنزوات.

واسم الحريين كافٍ لبيان لباب المذهب بحذافيره … فالحرية الفردية أو حرية الضمير الإنساني هي الغاية القصوى التي تخدمها كل غاية، وتحسين العيوب مع بقاء الحرية أمل مشروع يجاري سُنة الحياة التي تقوم على الخطأ والتجربة والإصلاح، ولكن ذهاب الحرية خسارة محققة بغير عوض مضمون؛ لأنه مقدِّمة لذهاب المصلحة الفردية والمصلحة القومية، ومن وراء ذلك ذهاب المصلحة الإنسانية وخسارة المادة والروح.

١  Friedrish August Von Hayek.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤