تعقيب

أول ما يبادر إلى ذهن القارئ من مراجعة المذاهب المتقدمة دفعة واحدة أنها تتقسم بينها الصواب والخطأ على حصص متفاوتة، فليس بينها مذهب ينفرد بالصواب كله ولا مذهب ينفرد بالخطأ كله، وهي على تناقضها من ناحية يتمم بعضها بعضًا من ناحية أخرى، بحيث يحتاج السياسي الحصيف إلى الأخذ بحصة من كل منها ليهتدي بها جميعًا في سياسته العامة.

وتكاد تتفق كلها على استحالة «الطوبى» الموعودة التي تتعلق بها أحلام طلاب السعادة، ويحسبونها نهاية الشقاء وبداية النعيم المقيم في هذه الدنيا، فمهما تتبدل النظم وتتغير الحكومات فلن تنقطع أسباب الشكوى من الحياة الإنسانية، ولعل ارتقاء الناس في معارج هذه الحياة يبعث من نفوسهم أسبابًا للشكوى لم يشعروا بها في عهود الجهل والقلة، فإن الشكوى تأتي من الشعور بالكمال كما تأتي من الشعور بالنقص، وتأتي من حرية التعبير كما تأتي من فقدان الحرية، بل لعل الارتقاء أدنى إلى الشكوى من الركود والجمود، ولعل الحرية أدعى إلى التذمر من القسر والخوف.

وعبثٌ أن يقال: إن نظامًا من نظم الحكم أو الإنتاج يختم التفاوت بين الناس، ويُبطِل دواعي الأمر والطاعة بين جماهير الحكام والرعايا، فقد عهد الناس دائمًا أن القوة تجلب الثروة، كما عهدوا أن الثروة تجلب القوة، وسيظل التفاوت بينهم في البأس والذكاء والهمة والحيلة والجمال بابًا من أبواب الاختلاف في حظوظ الجاه والسيادة، وما من حيلة قط تقضي على دواعي التفاوت بين بني آدم وحواء، فإننا نرى الخيل يباع واحد منها بجنيهات ولا يباع واحد منها بأقل من عشرات الألوف، وأخلق ببني الإنسان أن يمتنع التشابه بينهم إذا امتنع التشابه بين الدواب والحيوان الأدنى.

وفي الحياة ظلم وحرمان، ولكنهما لا يرجعان إلى طائفة دون طائفة، ولا إلى خليقة دون خليقة، وقد يكون الظلام من الأسفل كما يكون من الأعلى، وصدق المعري حيث قال:

ظلم الحمامة في الدنيا وإن حُسبَت
في الصالحات كظلم الصقر والبازي

فليس علية الناس عالة على سفلتهم ولا سفلة الناس عالة على عليتهم، وليس هناك علية سرمديون ولا سفلة سرمديون، ومن قال إن طائفة تعمل وطائفة تغصب فقد ظلم الواقع وانحرف عن الحقيقة الوسطى، ولا اعتدال قط في أمر من الأمور مع انحراف.

فالعاملون بأيديهم يعيشون اليوم بمخترعات العاملين برءوسهم وقرائحهم، ولولا هذه المخترعات لهلك العاملون بالأيدي جوعًا لندرة الصناعات وقلة الأعمال.

والعاملون برءوسهم وقرائحهم ما كانوا ليخترعوا جديدًا لو كانت المعيشة منذ القدم وقفًا على حاجات الضرورة، ولم تكن فيها تلك المعيشة الغالية التي تغري بتشييد القصور، وتسيير السفن، والتنقيب عن الجوهر، والعكوف على فنون الملاحة والسبك والحفر والنسج وفضول الزينة ومناعم الفراغ.

ومَن هو العالة على الآخرين؟ ملايين من الخلق تستفيد الأقوات، ولا تعطي الإنسانية شيئًا من تراث الفكر وقيم الأخلاق؟ أو ألوف من الخلق يجدون فوق الكفاية فيرتفعون بالمعيشة من الضرورات إلى مطالب الكمال؟

ومَنْ مِنَ الناس ظالم ومَن منهم مظلوم؟ مصلحون يفتحون آفاق المعرفة والفضيلة والجمال؟ أو سواد لا يزالون يَنصرون كل دجال على كل مصلح، ويعينون كل طاغية على طلاب الحق والإنصاف؟

كلهم إن رجعنا إلى الحقيقة عالة وكلهم عامل، أو كلهم ظالم وكلهم مظلوم، وصدق المعري مرة أخرى حيث قال:

الناس للناس من بدو ومن حضر
بعض لبعض وإن لم يَشعروا خدم

ولكما تقسمت الحظوظ، وتوزعت الأعمال تبينت حاجة فريق من الناس إلى فريق، واستحال اكتفاء أحد منهم بما عنده، فليس انقسام الحظوظ وسيلة لاستقلال أحد عن أحد؛ بل هو على الدوام سبب جديد لتعويل كل منهم على سواه.

فلن يستقيم عمار الكون على فئة واحدة، ولن يرجع عماره يومًا إلى علة واحدة، وعلامة الخطأ الذي لا شك فيه أن نفسِّر هذا الكون الواسع بتفسير واحد أو ندعمه بدعامة منفردة؛ إذ لا نهاية لعوامل العمار ولا للمؤثرات التي تنجم عنها هذه الآثار.

فالذين يقولون: إن الإنسان يعمل لطلب السرور واتقاء الألم يجهلون الإنسان ويجهلون بواعثه التي تحجب غاياته، ومنها بواعث الطفل الذي يتحرك لينمو، وبواعث الرجل الرشيد الذي يتحرك لينمو كذلك، وإن لم يكن نموه نمو أعضاء وقامات.

والذين يقولون: إن الإنسان يعمل لطلب المنفعة، يجهلون أنه يُقدِم على الخسائر وهو عالِم بها، ويَهون عليه الموت ولا يَهون عليه فوات أمل من الآمال.

والذين يقولون: إن الإنسان يعمل ليعيش، ينسون أن يسألوا أنفسهم: ترى لماذا يحرص على أن يعيش؟

والذين يقولون: إن الإنسان يعمل للمجد، ينسون لماذا يعمل لمجد غيره ويترك مجد نفسه في كثير من الأحيان؟

والذين يقولون: إن الإنسان يعمل للدنيا، لا يذكرون مَن يعتزلون الدنيا وينزوون عنها.

فما استقامت الدنيا قط على فكرة واحدة، ولا صلحت الحياة قط على علة واحدة، ولا موجب للعناء في نقد المطالب والآراء إذا بدا عليها أنها تنقبض هذا الانقباض وتنحرف هذا الانحراف، فكل مذهب باطل إذا غفل القائلون به عن سعة الآفاق التي نعلمها وسعة الآفاق التي نجهلها، وهي هنالك قائمة عاملة لا تغفل عنا إذا غفلنا عنها، ولا تتخلى عن مجالها إذا عنَّ لنا أن نخلي منها ذلك المجال.

ومهما يكن من تعدد المذاهب وتشعبها في رءوس الحكماء، فرأس الحكمة كلها في السياسة أن الأمة الفاسدة لن تتولاها حكومة صالحة، وأن الأمة الصالحة لن تتولاها حكومة فاسدة.

وما هي الأمة الصالحة؟

ومن الوهم أن يُظن أن الأمة الصالحة لا تعدو أن تكون مجموعة أفراد صالحين، فقد يَصلح المرء فردًا ولا يَصلح عضوًا في أمة، ولا تُعتبر الأمة صالحة إلا بفضائلها الاجتماعية التي يكسبها أبناؤها بالمرانة الطويلة على الحياة السياسية.

فالصلاح للمجتمع استعداد لا يكسبه الفرد بما تعلمه من المدارس والكتب، ولكنه حاسة اجتماعية تتولد في الأمة من مرانتها على مزاولة الشئون العامة أجيالًا متعاقبة، حتى تصبح رعاية المصلحة العامة عادة في أبنائها يباشرونها عفو الخاطر كأنهم لا يقصدونها ولا يتكلفونها، مثلهم في ذلك مثل الأعضاء التي تشترك في تغذية بنيتها، وتوزيع غذائها بين أجزائها في غير كلفة ولا روية.

نعم، إن علوم المدرسة والكتاب قد تقرِّب المرء إلى فهم هذه الحاسة الاجتماعية، بيد أنها لا تخلقها لسبب بديهي: وهو أن العادة الاجتماعية تتربى بالاشتراك مع المجتمع ولا تتربى بالفهم والسماع، وشواهد ذلك بينة من المقابلة بين الأمم التي تساوت في انتشار التعليم، ولم تتساوَ في التربية الاجتماعية أو التربية السياسية، فظاهر جدًّا من المقابلة بين هذه الأمم أن المسألة مسألة تربية عامة مشتركة، وليست مسألة فهم يستقل به كل متعلم من طريق المدرسة والكتاب.

فالأمة الألمانية أمة متعلمة كثيرة المدارس والجامعات تروج فيها الكتب المبسطة والكتب المطولة، ويندر فيها الأميون، ولا يخلو فرع من فروع العلم من نابغة ألماني يسهم فيه برأي جديد أو تفسير مبتكر، ولأبنائها ولع بالإحاطة والاستقصاء وتبويب المباحث وترتيبها تُضرب به الأمثال، ولا تسبقها فيه أمة حديثة، وقد كان ينبغي أن تكون قدوة بين الأمم في التربية السياسية لو كان مدار الأمر على معارف المدرسة أو معارف المطالعة، ولكنها مع هذا أقل في هذه الخصلة من أمم أخرى دونها في انتشار التعليم ووفرة الاطلاع؛ إذ كانت أحوالها التاريخية حائلة بينها وبين المشاركة في حكم نفسها معودة لها أن تدين بنوع واحد من الحكم هو حكم السيطرة والطاعة، ومرجع ذلك إلى وجودها في وسط القارة الأوروبية هدفًا للغزاة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وعرضة للمنازعات بين أمرائها إذا هي استراحت من الغزوات الأجنبية.

فتعاقبت العصور وهي أشتات من الولايات المتفرقة تَخضع كل ولاية منها لأمير يحكمها على النظام العسكري، ويترقب منها طاعة المستسلم المعترف بضرورة هذه النظم العسكرية، فلم تتعود الوحدة القومية، ولم تتدرب على مراقبة حكامها، ولم تسرِ بينها عادات المشورة والمراجعة ولا الخبرة بترشيح من يسوسها في حدود هذه العادات وبرعاية من هدايتها، فلا جَرم سهل فيها وثوب المستبدين إلى مراكز السيطرة، وتعذَّر فيها إسقاط مستبد من هؤلاء بغير كارثة تصدمه من خارج بلاده، ولولا طول العهد باستبداد الحاكم وخضوع الرعية لكانت أحرى بمن هم أفضل من هؤلاء الحكام.

ونكاد نقول: إن نوع الحكومة لا يهم ما دام المحكومون على قسط وافر من الحاسة السياسية عارفين بحقوقهم مقتدرين على أخذ الولاة باحترامها، غير أن المبدأ القائل «بأن الحكم من الأمة للأمة» هو أصلح المبادئ لمجاراة هذه الحاسة السياسية في وجهتها، وهو المبدأ الذي يعطي المحكومين فرصة بعد فرصة لاختيار الأفضل من الساسة والأكفاء من القادة والولاة ورؤساء الدواوين.

وكما جاء في الأثر: «كما تكونوا يُوَلَّ عليكم».

وكما قال الأفوه الأودي:

تمضي الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن توالت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤