الجزء الحادي عشر

الوفاة. الدفن

لم يكن فيودور ميخايلوفيتش، بطبيعته، شخصًا ميالًا للعمل إلا نادرًا. وأتصور أنه لو كان شخصًا ذا ثراء، غير مضطر للسعي وراء المال من أجل أن يعيش؛ لظل، ربما، بلا عمل، ولوجد دائمًا موضوعات للعمل الأدبي الدءوب.

بحلول مطلع عام ١٨٨١م، انتهينا من سداد ديوننا التي ظلت تعذبنا طويلًا، بل كان لدينا أيضًا رصيد مالي لدى مجلة «البشير الروسي» عن أعمال أديناها، بلغت قيمته حوالي خمسة آلاف روبل. بدا الأمر كما لو أننا لم نعد بحاجة ملحة للعمل، لكن فيودور ميخايلوفيتش لم يشأ أن يركن للراحة. لقد قرر أن يشرع من جديد في العمل على إصدار «مذكرة الكاتب»؛ إذ إنه بعد كل هذه السنوات العجاف، تراكمت لديه كثير من الأفكار المؤرقة عن الواقع السياسي لروسيا، وقد وجد أنه لن يستطيع أن يعبر عنها في حينه إلا في مجلته. وبالإضافة إلى ذلك، فإن النجاح المدوي للعدد الوحيد من «مذكرة الكاتب»، الذي عام ١٨٨٠م، أيقظ فينا الأمل في أن يجد الإصدار الجديد من المجلة جمهورًا واسعًا من القراء، وبطبيعة الحال كان فيودور ميخايلوفيتش يعتز اعتزازًا شديدًا بأفكاره الحميمة، وقد افترض أن يقوم بإصدار «مذكرة الكاتب» على مدى عامين، يبدأ بعدها في تحقيق حلمه بكتابة الجزء الثاني من «الإخوة كارامازوف»، حيث يعود أبطاله القدامى كلهم تقريبًا للظهور، ولكن بعد مرور عشرين عامًا، في العصر الحديث، حيث يصبح بإمكانهم، ربما، أن يقدموا الكثير، وأن يواجهوا الكثير أيضًا في حياتهم، تُظهِر الخطة المستقبلية، التي وضعها فيودور ميخايلوفيتش بناءً على قصصه وملاحظاته، أنها كانت خطة هامة وشيقة على نحو غير عادي، وللأسف الشديد لم يُكتب لهذه الرواية أن تظهر للوجود.١
سارت الاشتراكات التي تم الإعلان عنها في «مذكرة الكاتب» على نحو جيد، وبحلول العشرين من يناير بلغ عدد المشتركين حوالي …٢

كان لدى فيودور ميخايلوفيتش عادةٌ حميدة تتمثل في إحجامه عن اعتبار نقود الاشتراكات ملكًا خاصًّا له، قبل أن يلبي طلبات المشتركين؛ ولذلك فتح حسابًا في بنك الحكومة باسمي، كنت أضع فيه النقود التي نتسلمها من الاشتراكات، وبفضل ذلك كان لديَّ إمكانية إعادة الأموال للمشتركين على وجه السرعة إذا لزم الأمر.

في النصف الأول من شهر يناير كان فيودور ميخايلوفيتش في صحة جيدة، كان يزور أصدقاءه، بل وافق أيضًا على الاشتراك في المسرحية المنزلية التي اقتُرح تنظيمها في بيت الكونتيسة صوفيا تولستايا في مطلع الشهر التالي. كان الحديث يدور حول عرض مشهدين أو ثلاثة من ثلاثية الأمير ألكسي تولستوي، وقد أخذ فيودور ميخايلوفيتش على عاتقه القيام بدور الراهب في مسرحية «موت إيفان الرهيب».

توقفت نوبات الصرع لمدة ثلاثة أشهر؛ الأمر الذي جعل من مظهره النشِط وحيويته يحيي الأمل في نفوس الجميع أن شتاء هذا العام سيمر بسلام. وبدءًا من منتصف شهر يناير شرع فيودور ميخايلوفيتش في العمل في عدد يناير من «مذكرة الكاتب»، التي أراد أن يعبر فيها عن أفكاره وأمنياته بخصوص «المجلس المحلي». كان موضوع المقالة من هذا النوع الذي من المحتمل ألا تسمح الرقابة بتمريره،٣ وهو ما كان يثير قلق فيودور ميخايلوفيتش. وقد بلغ نبأ هذا القلق نيكولاي سافيتش أباظة،٤ وذلك من خلال الكونتيسة صوفيا تولستايا، وكان أباظة قد تم تعيينه للتو رئيسًا للجنة الرقابة، فطلب من الكونتيسة إبلاغ فيودور ميخايلوفيتش ألا يخشى شيئًا؛ إذ إنه سوف يقوم بنفسه بالرقابة على مقالته. وفي الخامس من عشرين من يناير، كانت المقالة جاهزة وتم إرسالها للمطبعة لجمعها، ومن ثم لم يبقَ إلا مراجعتها المراجعة الأخيرة وتسليمها للرقيب، ثم طبعها لتصدر في عدد «المذكرة» في اليوم الأخير من الشهر.

كان الخامس والعشرين من يناير موافقًا الأحد، وكان لدينا زوار كثيرون. جاء إلينا البروفيسور أوريست وطلب من زوجي أن يقرأ في التاسع والعشرين من يناير، في ذكرى وفاة بوشكين، في الأمسية الأدبية، التي ستقام لصالح الطلاب. وحيث إن زوجي لم يكن يعلم بعدُ بمصير مقاله حول «المجلس المحلي»، وإذا ما كان عليه أن يستبدل بها غيرَها، فقد رفض في البداية الاشتراك في الأمسية. ولكنه وافق فيما بعد. كان فيودور ميخايلوفيتش، كما لاحظ كل ضيوفنا، ممتلئًا بالصحة، مرحًا، ولم يكن هناك أي شيء ينبئ بما حدث له بعد بضع ساعات.

في صباح السادس والعشرين من يناير، استيقظ فيودور ميخايلوفيتش، كعادته، في الساعة الثانية، وعندما دخلت إلى غرفته، حكى لي أن حادثًا صغيرًا قد وقع له في الليل؛ فقد سقطت حاملة ريشة الكتابة على الأرض وتدحرجت تحت المكتبة (وكان شديد الاعتزاز بهذه الحاملة؛ لأنه كان يستخدمها، فضلًا عن الكتابة، لحشو سجائره)؛ وحتى يتمكن من استعادتها، فقد اضطر لتحريك المكتبة جانبًا. كانت المكتبة، بداهة، ثقيلة؛ مما اضطره لأن يبذل جهدًا كانت نتيجته أن اندفع الدم فجأة من الشريان الرئوي ليصعد إلى فمه، وحيث إن كمية الدم لم تكن كبيرة، فإن زوجي لم يولِ الأمر اهتمامًا زائدًا، حتى إنه لم يرغب أن يوقظني في الليل. انزعجت بشدة، ودون أن أخبره بشيء، أرسلت صبيَّنا الصغير بيوتر في طلب الطبيب ياكوف بوجدانوفيتش بريتسل، الذي كان يتولى علاج زوجي بشكل دائم، للحضور على عجل، وللأسف لم يستطع الطبيب الذهاب إلى مرضاه إلا بعد الخامسة.

كان فيودور ميخايلوفيتش هادئًا تمامًا، وقد راح يتحدث ويمازح الأطفال، ثم أخلد لقراءة «العصر الحديث». وفي حوالي الساعة الثالثة حضر إلينا أحد الزوار، وكان شخصًا طيبًا من الذين يودهم زوجي، إلا أن هذا السيد كانت له خصلة سيئة؛ إذ كان دائمًا حادًّا في جدله. وعندما راح يتحدث وزوجي بشأن المقالة المزمَع نشرُها في «المذكرة»، إذا به يبدأ في إثبات شيءٍ ما، وقد اعترض عليه زوجي، الذي كان ما يزال تحت تأثير الخوف من النزيف الذي فاجأه بالليل، وسرعان ما حمي الجدل بينهما. ذهبت محاولاتي في تهدئة الجدل بينهما سُدًى، على الرغم من أنني أخبرت الضيف مرتين أن فيودور ميخايلوفيتش ليس على ما يرام، وأن كثرة الحديث والصياح أمور ضارة بصحته. وأخيرًا، وفي حوالي الساعة الخامسة، انصرف الضيف، وتأهبنا للذهاب لتناول طعام الغداء، وإذا بفيودور ميخايلوفيتش يجلس فجأةً على أريكته، ثم يصمت ساكنًا لمدة ثلاث دقائق، وفجأة، ويا لهول ما رأيت! تتخضب ذقن زوجي بالدم ويروح تيار رفيع من الدم ينساب على لحيته.٥
صرخت بشدة، وعلى صرختي هُرِعت إليَّ الخادمة ومعها الأطفال. على أية حال لم يكن فيودور ميخايلوفيتش مرتاعًا، بل على العكس راح يحاول إقناعي أنا والأطفال بالتزام الهدوء؛ ثم اقتاد الأطفال إلى مكتبه، وراح يعرض عليهم العدد الأخير من مجلة «اليعسوب». الذي تلقاه لتوه، حيث كان هناك رسم كاريكاتوري لاثنين من الصيادين تعثَّرا في شبكتهما ليسقطا في المياه.٦ لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنه راح يقرأ على الأطفال أبياتًا منشورة من الشعر بصورة مضحكة، حتى إن الطفلين هدئا وكفَّا عن البكاء. ساد الهدوء البيت لما يقرب من ساعة، وها هو الطبيب يصل، وكنت قد أرسلت في طلبه مرة أخرى. عندما بدأ الطبيب في الفحص ونقر المريض بإصبعه، إذا بالنزيف يعود إليه مرةً أخرى وبقوة في هذه المرة، حتى إن فيودور ميخايلوفيتش فقد وعيه. وعندما أفاق كانت الكلمات الأولى التي قالها لي: آنيا، أرجوكِ، أرسلي بسرعة في طلب القس، أريد أن أعترف وأن أتناول القربان!

وعلى الرغم من أن الطبيب راح يؤكد أنه لا يوجد أي خطر، فإنني قمت على تنفيذ رغبة زوجي لأهدئه. كنا نسكن بالقرب من كنيسة فلاديميريسكايا، وقد وصل إلينا الأب ميجورسكي بعد نصف ساعة. استقبل فيودور ميخايلوفيتش القس بكل هدوء وانشراح، واعترف اعترافًا طويلًا وتناول القربان. ما إن غادر القس البيت، حتى دخلت ومعي الأطفال إلى غرفة فيودور ميخايلوفيتش لأهنئه بتناول الأسرار المقدسة، وهنا باركني أنا والأطفال ودعا لهم بحياة آمنة وأن يحب بعضهم بعضًا، وأن يحبوني ويعتنوا بي. وبعد أن صرف فيودور ميخايلوفيتش الأطفال، شكرني على السعادة التي أعطيتُها له، ورجاني أن أسامحه، إذا كان قد أغضبني لسببٍ ما. وقفت أمامه بين الحياة والموت، لا أملك من القوة لأقول له أي شيء. دخل الطبيب وأرقد المريض على الأريكة، ومنعه من إتيان أقل حركة أو الحديث، وطلب أن نبعث في طلب طبيبين، أحدهما من معارفه، أ. أ. بفيفر، والبروفيسور ديمتري كوشلاكوف، الذي كان زوجي يستشيره أحيانًا في مرضه. وما إن أدرك كوشلاكوف من مذكرة الطبيب فون بريتسل، أن حالة المريض سيئة، حتى حضر على الفور. وفي هذه المرة لم يعودا مرةً أخرى لفحص المريض، وقرر كوشلاكوف أنه ما دام النزيف لم يكن حادًّا نسبيًّا (ما يقرب من فنجانين أو ثلاثة)، فمن المحتمل أن يحدث «تخثُّر»، وأن تتحسن حالته. ظل الطبيب فون بريتسل يراقب فيودور ميخايلوفيتش في فراشه طوال الليل، وكان زوجي يبدو أنه ينام في هدوء. أما أنا فقد أخذتني سِنة من النوم عند انبلاج الصبح فقط.

مر السابع والعشرون من يناير هادئًا لا يعكر صفوه شيء، لم يتكرر النزيف، بدا فيودور ميخايلوفيتش هادئًا مرحًا، طلب رؤية الأطفال وتحدث إليهم همسًا. وفي منتصف النهار أعرب عن عدم ارتياحه بشأن «المذكرة»، وقد حضر مُرتِّب الطباعة من مطبعة سوفورين وأحضر معه التصحيح النهائي. وقد اتضح أن هناك ضرورةً لحذف سبعة أسطر حتى تصبح المادة كلها من ملزمتين تامتين. انتاب زوجي القلق، لكنني اقترحت أن نختصر بضعة أسطر من الصفحات الأولى، وهو ما وافق زوجي عليه. وعلى الرغم من أنني احتجزت مرتِّب الطباعة حوالي نصف ساعة، فإن فيودور ميخايلوفيتش رأى بعد تصحيحَين قرأتهما عليه، أن الأمر أصبح على ما يرام. وقد عرَفت من المُرتِّب أن بروفة العدد قد أُرسلت إلى نيكولاي سافيتش أباظة، وأنها أُجيزت، وقد أثلج ذلك صدر فيودور ميخايلوفيتش.

وفي هذه الأثناء انتشر خبر مرض فيودور ميخايلوفيتش في أنحاء المدينة، وبدءًا من الثانية ظهرًا وحتى وقت متأخر من المساء، ظل قرْع الجرس مستمرًّا، حتى اضطررت لربطه. جاء إلى البيت للاطمئنان على صحة فيودور ميخايلوفيتش من يعرفهم ومن لا يعرفهم، جاءوا ومعهم خطابات يعبِّرون فيها عن تعاطفهم معه، وآخرون أرسلوا برقيات. كانت زيارة المريض ممنوعة، وكنت أخرج للزائرين لمدة دقيقتين أو ثلاث لأخبرهم بحالة المريض. كان فيودور ميخايلوفيتش مسرورًا للغاية بهذا الاهتمام والتعاطف العام، وكان يسألني همسًا، ويملي عليَّ أحيانًا بضع كلمات ردًّا على خطابٍ ما مؤثر. وقد حضر البروفيسور كوشلاكوف ووجد أن الحالة الصحية أفضل كثيرًا، وطمأن المريض أنه خلال أسبوع سوف يتمكن من القيام من الفراش، وأنه سيشفى تمامًا في خلال أسبوعين. وأمره أن ينام أكثر قدر استطاعته؛ ولهذا فقد كان بيتنا بمن فيه يركَن للهدوء والنوم مبكرًا للغاية. وحيث إنني قضيت البارحة جالسةً على الكرسي ولم يغمض لي جفن، فقد وضعت في الليلة التالية حشيةً على الأرض، إلى جوار الأريكة التي ينام عليها زوجي، حتى يسهل عليه استدعائي. ولما كنت مرهقة من جراء الأرق الذي عانيته في الليلة السابقة، فقد استغرقت في النوم في الحال. استيقظت بضع مرات، وعلى ضوء القنديل الخافت رأيت زوجي العزيز المريض نائمًا. استيقظت في حوالي السابعة صباحًا لأرى زوجي ناظرًا باتجاهي.

– حسنًا، كيف حالكِ يا عزيزي؟ سألته وقد التفتُّ ناحيته.

– تعرفين يا آنيا — قال فيودور ميخايلوفيتش بصوت خفيض — لم أنم منذ ثلاث ساعات، كنت أفكر طوالها، والآن فقط أدركت بوضوح أنني سأموت اليوم.

– يا عزيزي، لماذا تفكر في ذلك؟ قلت له وأنا في حالة من القلق الشديد. إنك الآن أفضل؛ توقف النزيف، ومن البدهي أن «تخثُّرًا» قد حدث، كما أخبرنا كوشلاكوف. بالله عليك، لا تعذب نفسك بالشكوك، ستعيش طويلًا، أؤكد لك!

– كلا! أنا أعرف، يجب أن أموت اليوم. أشعلي شمعة يا آنيا، وأعطيني الإنجيل!

كان هذا الإنجيل قد أُهدِي لفيودور ميخايلوفيتش في توبولسك (عندما كان في طريقه إلى المعتقل) من زوجات الديسمبريين (براسكوفيا أنينكوفا، وابنتها أولجا إيفانوفا، ناتاليا ديمترييفنا مورافيوفا، أبوستول،٧ فون فيزينا). وهؤلاء رُحْن يتوسلن إلى حارس المعتقلين أن يسمح لهن بأن يلتقين بالمجرمين السياسيين القادمين من بعيد، وقد قضين معهن ساعة، و«باركْنَنا في طريقنا الجديد، ورسمْن علينا علامة الصليب، وأهدوا لكل واحد منا الإنجيل؛ الكتاب الوحيد المسموح به في المعتقل.»٨ لم يفترق فيودور ميخايلوفيتش عن هذا الكتاب المقدس طوال السنوات الأربع التي قضاها في الأعمال الشاقة.٩ بعد ذلك ظل هذا الكتاب على مقربة دائمًا من زوجي على مكتبه، وكثيرًا ما كان يفتحه كيفما اتفق، عندما كان يفكر أو تنتابه الشكوك في أمرٍ ما، فيقرأ أول ما تقع عليه عيناه في الصفحة (على اليسار). والآن كانت لدى فيودور ميخايلوفيتش الفرصة لأن يتأكد من شكوكه مستخدمًا الإنجيل، قام بنفسه وفتح الكتاب وطلب مني أن أقرأ.
فُتِح أمامي إنجيل متى، الإصحاح الثالث، الصفحة الثانية: «ولكن يوحنا منعه قائلًا: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليَّ؟ فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر.»١٠

– هل تسمعين «اسمح الآن»؟ هذا يعني أنني سأموت. قال زوجي ذلك وأغلق الكتاب.

لم أتمالك نفسي من البكاء، بينما راح فيودور ميخايلوفيتش يهدئ من روعي بكلمات حنونة رقيقة، شكرني على الحياة السعيدة التي عاشها معي، وأوصاني بالأطفال قائلًا إنه يثق فيَّ، ويأمُل أن أظل أحبهم دائمًا، وأن أرعاهم. ثم قال لي كلمات يندُر بين الرجال من يستطيع أن يقولها لزوجته بعد أربعة عشر عامًا من الحياة الزوجية: تذكَّري يا آنيا، لقد أحببتك دائمًا حبًّا شديدًا، ولم أخنكِ أبدًا حتى في أفكاري!

كنت في حالة بالغة من التأثر بكلماته المخلصة، ولكنني كنت أيضًا مضطربة خشية أن يصيبه التأثر بأي ضرر. توسلت إليه ألا يفكر في الموت، وألا يكدرنا بشكوكه، وطلبت منه أن يستريح وأن يخلد للنوم. أطاعني زوجي، توقف عن الحديث، لكن وجهه، وقد كسته السكينة، كان يوحي بوضوح أن فكرة الموت لم تفارقه، وأن انتقاله إلى العالم الآخر أمر لا يخيفه.

وفي حوالي الساعة العاشرة صباحًا، استغرق فيودور ميخايلوفيتش في نوم هادئ وقد تشبث بيدي. جلست لا أحرك ساكنًا خشية أن توقظه فجأةً أيُّ حركة. لكن زوجي استيقظ فجأة. نهض عن الوسادة نصف نهوض، وإذا بالنزيف يعود من جديد. كنت في حالة من الحزن الشديد، على الرغم من أنني حاولت أن أبدو نشيطة. أكدت لزوجي أنه نزف قليلًا من الدم، وسوف يتكون، على الأرجح، تخثر كما حدث قبل ذلك. اكتفى فيودور ميخايلوفيتش بأنْ هزَّ رأسه في أسًى ردًّا على كلماتي المطمئنة، وكان مقتنعًا تمامًا بأن نبوءته عن موته اليوم ستتحقق.

بحلول منتصف النهار بدأ الأقارب والمعارف والغرباء في التوافد، وتلقينا الكثير من الخطابات والبرقيات. وقد حضر أيضًا ربيب فيودور ميخايلوفيتش، وكنت قد أرسلت إليه خطابًا أُخبره فيه بمرض زوجي. أصرَّ بافل ألكسندروفيتش على الدخول إلى المريض، لكن الطبيب لم يسمح له، وعندئذٍ راح ينظر إلى الغرفة من فتحة الباب. انتبه فيودور ميخايلوفيتش إليه وهو يختلس النظر، اضطرب وقال لي: «آنيا، لا تسمحي له بالمجيء إليَّ، إنه يثيرني!»

في هذه الأثناء، ازداد بافل ألكسندروفيتش إيسايف توترًا وراح يحدث الجميع — الذين جاءوا ليتعرفوا على حالة فيودور ميخايلوفيتش، المعارف منهم والغرباء — أن «والده» لم يترك وصية، وأنه يجب إحضار كاتب العقود إلى البيت حتى يستطيع فيودور ميخايلوفيتش أن يوصي بنفسه بما يملكه. عندما علم البروفيسور كوشلاكوف، الذي جاء لمتابعة المريض من الربيب، نيتَه استدعاءَ كاتب العقود، اعترض على ذلك، وأعلن أن من الضروري الحفاظ على قوة المريض بكل وسيلة؛ لأن مثل هذا المشهد العملي، حيث يُطلب منه التوصية والشرح، لا يمكن إلا أن يدفع بفكرة موته السريع إلى الأمام، وأن أي انفعال يمكن أن يقتل المريض.

في حقيقة الأمر، لم تكن هناك حاجة إلى وصية، فالحقوق الأدبية لمؤلفات فيودور ميخايلوفيتش قد أهداها إليَّ زوجي قبل ذلك في عام ١٨٧٣م. وباستثناء خمسة آلاف روبل كانت لدى هيئة تحرير «البشير الروسي»، لم يكن فيودور ميخايلوفيتش يملك أي شيء، أما ورثة هذا المبلغ الصغير فكانوا نحن؛ أي أنا والأطفال.

لم أبتعد دقيقة واحدة طوال اليوم عن زوجي، كان يمسك يدي بيده ويقول لي هامسًا: «مسكينة … عزيزتي … لمن تركتك؟ … مسكينة … كم ستكون حياتك صعبة! …»

رحت أهدئ من روعه وأبعث بالأمل في الشفاء في نفسه، ولكن كان من الواضح أنه لا يملك ذرةً واحدة من الأمل، وكانت فكرة أنه سيترك أسرته دون مورد تقريبًا تعذبه. فلم نكن نملك سوى أربعة أو خمسة آلاف روبل لدى هيئة تحرير «البشير الروسي».

همس لي عدة مرات قائلًا: «نادي على الأطفال.» ناديت … مد زوجي شفاهه إليهم … قبَّلوه، ثم خرجوا على الفور بأمر من الطبيب، أما فيودور ميخايلوفيتش فقد ودعهم بنظرة حزينة، وقبيل وفاته بساعتين، جاء الأطفال إليه بناءً على دعوته، فطلب إعطاء الإنجيل لابنه فيديا.

في أثناء اليوم حضر إلينا جمهور من شخصيات مختلفة، لم أخرج لمقابلتهم. جاء أبولون نيكولايفيتش مايكوف وتحدث بعض الوقت مع فيودور ميخايلوفيتش، الذي راح يرد تحيته همسًا.

وفي حوالي السابعة تجمع لدينا العديد من الضيوف، جلسوا في غرفتَي الاستقبال والمائدة ينتظرون كوشلاكوف، الذي اعتاد أن يأتي إلينا في هذا الوقت. وفجأة ودون أي مقدمات، أخذت فيودور ميخايلوفيتش رجفة، نهض على أثرها بالكاد من الأريكة، لينساب شريط أحمر من الدم مخضَّبًا وجهه. رحنا نناوله قطعًا من الثلج، لكن النزيف لم يتوقف. في هذا الوقت تقريبًا وصل مايكوف مرة أخرى ومعه زوجته آنَّا إيفانوفنا التي قررت الذهاب لإحضار الطبيب ن. ب. تشيريبنين. كان فيودور ميخايلوفيتش فاقدًا للوعي، بينما جثوت أنا والأطفال عند رأسه نبكي، كنا نبذل قصارى جهدنا حتى لا ننفجر في النحيب بصوت عالٍ، فقد حذرنا الطبيب من أن الحاسة الأخيرة التي تبارح الإنسانَ هي السمع، وأن كل خرق للهدوء قد يُطيل أمد الاحتضار ويزيد من عذاب المحتضر. كنت أمسك يد زوجي بيدي، وأُحس بنبضه يتلاشى أضعف فأضعف. وفي الساعة الثامنة وثمانٍ وثلاثين دقيقةً مساءً١١ انتقل فيودور ميخايلوفيتش إلى الخلود. لم يستطع الطبيب تشيريبنين أن يلحق، اللهم إلا بسماع دقات قلبه الأخيرة.١٢
عندما حانت لحظة النهاية، أطلقت وأطفالي العنان لأحزاننا … بكينا وانتحبنا وأطلقنا بعض الكلمات، قبَّلنا وجه الراحل الغالي ويديه التي كانت ما تزال دافئة. كان كل شيء يبدو لي مبهمًا، لكن شيئًا واحدًا كنت أعيه بشكل واضح؛ هو أنه ومنذ هذه اللحظة انتهت حياتي الخاصة المليئة بالسعادة التي لا حدود لها، وأنني أصبحت يتيمةً روحيًّا إلى الأبد، أنا التي أحبت زوجها حبًّا شديدًا مخلصًا، والتي أفخر بحبِّ وصداقة واحترام هذا الإنسان النادر ذي الصفات الأخلاقية الرفيعة، والذي لا يعوِّض فِقدانَه أيُّ شيء. وفي هذه اللحظات الرهيبة حقًّا للفراق يبدو لي أنني لن أتحمل وفاة زوجي، وأن قلبي يكاد ينفطر (كم يخفق هذا القلب الآن بشدة بين جوانحي!) وأنني سأفقد عقلي على الفور.١٣
بالطبع، فإن كل إنسان عانى في حياته، ولكن هؤلاء يعانون أحزانهم النفسية في هذه اللحظات التي لا تنسى، في معظم الأحوال، وهم بين ذويهم، بين أحبائهم وأقاربهم، عندها تكون لديهم إمكانية أن يعبروا عن مشاعرهم التي تؤرقهم قدرَ استطاعتهم، وعلى النحو الذي يريدونه، دونما خجل أو تحفُّظ. لم يكن من نصيبي أن أنال هذه السعادة الكبرى، لقد توفي زوجي الغالي في حضور جمع غفير من الناس، جزء منهم كانوا يكنُّون له الاحترام العميق، لكن جزءًا آخر كان لامباليًا تمامًا تجاهه، وتجاه الحزن الذي لا يخبو أوارُه في أسرتنا التي تيتمت. وكأن الظروف شاءت أن تزيد من وطأة أحزاني، إذا بي أجد بين الحضور الأديب بوليسلاف ماركيفيتش،١٤ الذي لم يزرنا مرة واحدة، يأتي الآن بناء على رغبة الكونتيسة صوفيا تولستايا ليعرف على أية حالة وجد الطبيب فيودور ميخايلوفيتش. ولمعرفتي بماركيفيتش فقد كنت على يقين أنه لن يتمالك نفسه عن وصف الدقائق الأخيرة من حياة زوجي، وقد كنت أشعر بالأسف أن وفاة شخص عزيز على قلبي لم تحدث في هدوء، على انفراد، بين أناس يخلصون له من أعماق قلوبهم. وقد تحققت مخاوفي؛ علمت بكل أسًى في اليوم التالي، أن ماركيفيتش أرسل إلى مجلة «وقائع موسكو» وصفًا «فنيًّا» للحدث المؤسف الذي وقع. وبعد يومين أو ثلاثة قرأت المقالة نفسها («وقائع موسكو»، العدد ٣٢) ولم أتعرف على الكثير مما جاء بها. لم أتعرف على نفسي في تلك الأحاديث، التي بدت وكأنها وُضعت على لساني، فقد كانت بعيدةً كلَّ البعد عن شخصيتي وعن مزاجي النفسي في تلك الدقائق الحزينة الخالدة.١٥

لكن الله الرحيم أنزل عليَّ السكينة: في هذا المساء الحزين، وفي حوالي الساعة العاشرة، وصل أخي العزيز إيفان جريجوريفيتش سنيتكين. كان قد جاء من الريف في بعض شئونه متجهًا إلى موسكو، وبعد أن عزم أمره على العودة إلى بيته، فكر دون سبب ظاهر، في الذهاب إلى بطرسبورج لمقابلتنا. صحيح أنه كان قد قرأ في إحدى الصحف عن مرض فيودور ميخايلوفيتش، لكنه لم يولِ هذا الخبر أهمية كبري، مفترضًا أن زوجي كثيرًا ما تقع له نوبة صرع مزدوجة. كان قطاره قد تأخر فقرر، بعد أن أقام في أحد الفنادق، أن يأتي لزيارتنا مساء. وبعد أن وصل إلى مدخل بيتنا، لاحظ بدهشة أن جميع نوافذ شقتنا مضاءة بشدة، وأن شخصين مثيرين للشبهة يرتديان ما يشبه القفطان يقفان عند المدخل. أحدهما أسرع خلف أخي على السلَّم وقال له بصوت خفيض: أيها السيد، من فضلك، اطلب منهم أن يكلفونا بالأمر.

– أي أمر؟ سأله أخي دون أن يدرك ما يحدث.

– إننا حانوتيان، جئنا بشأن الدفن.

– ومن الذي مات هنا؟ سألهما إيفان جريجوريفيتش دون تفكير.

– مؤلفٌ ما، لا أتذكر اسمه. هكذا أخبرنا البواب.

أخبرني أخي أن قلبه قد تجمَّد، هُرع إلى أعلى واندفع داخلًا عبر باب الشقة، الذي لم يكن مغلقًا، حيث وقف أمامه عدد من الأشخاص. وبعد أن ألقى بمعطفه، أسرع أخي نحو غرفة المكتب، حيث كان جثمان فيودور ميخايلوفيتش مُسجًّى على الأريكة.

كنت جاثيةً بالقرب من الأريكة، وما إن شاهدت أخي حتى أسرعت نحوه. تعانقنا بشدة، وسألته: «فانيا، من أخبرك أن فيودور ميخايلوفيتش قد توفي؟» كنت قد نسيت تمامًا أن أخي لا يسكن في بطرسبورج، وأنه يعيش في موسكو الآن، ولا يمكن أن يعرف ويصل إلى هنا بمثل هذه السرعة. بداهة، كنت مصدومة من الحزن، ومن الموت المفاجئ (فبالأمس فقط كان البروفيسور كوشلاكوف يؤكد لي الأمل في شفاء زوجي)، حتى إنني فقدت القدرة على تصور أي شيء بوضوح.

اعتبرت أن وصول أخي في هذا الوقت العصيب هبة حقيقية من الله، فضلًا عن أن وجود أخي الحبيب وصديقي المخلص، فيه بعض من العزاء، فإلى جواري الآن إنسان مخلص، أستطيع أن أسأله النصح وأن أضع على كاهله كل همومي البسيطة، حتى وإن كانت معقدة فيما يخص دفن فيودور ميخايلوفيتش. وبفضل أخي استطعت أن أتغلب على كل الأمور العملية، وأن أتجنب العديد من الأمور الصعبة الكريهة في هذه الأيام الحزينة. مضى مساء الثامن والعشرين من يناير بطوله، وتلَتْه أربعة أيام (٢٩ يناير–الأول من فبراير) ظلت في ذاكرتي كابوسًا يعذب روحي. الكثير مما حدث بقي ماثلًا أمامي بوضوح تام، كما انمحت من ذاكرتي أحداث أخرى كثيرة، وقد عرفت الكثير أيضًا من خلال أشخاص آخرين. أتذكر، على سبيل المثال، أنه في الساعة الثانية عشرة من مساء نفس اليوم جاء لزيارتنا أ. س. سوفورين، وكان حزينًا للغاية بسبب وفاة زوجي، وكان يقدره تقديرًا رفيعًا ويحبه. وقد وصف سوفورين زيارته المسائية في مجلة «العصر الحديث».١٦

بحلول الساعة الواحدة ليلًا كانت الاستعدادات الضرورية كلها قد اتُّخذت. وقد وُضع جثمان العزيز لدينا على منصة الدفن وسط غرفة المكتب. من جهة الرأس كانت المكتبة ذات الأرفف وعليها أيقونة وقنديل مُضاء. كان وجه المرحوم يغمره الهدوء وكأنه ما يزال حيًّا نائمًا يبتسم في حلمه «بالبِر» الذي يعرفه الآن.

بعد منتصف الليل تفرق كلُّ الغرباء. ذهبت لأضع في الفراش أطفالي، الذين أعياهم الحزن على موت أبيهم وبكاؤهم المستمر عليه طوال المساء، بينما ذهبنا — ثلاثتنا (أمي وأخي وأنا) — لنهجع دون إزعاج بالقرب من الجثمان. أتذكر بامتنان بالغ التقدير هذه الليلة الأخيرة، عندما كان زوجي العزيز ما يزال ملكًا خالصًا لأسرته، وكان ما يزال بإمكاننا أن نطلق العِنان للتعبير عن أحزاننا دون شهود، دون خجل ودون تحفُّظ. نبكي بغزارة، نصلي بحرارة ليرحم الله روح الميت ونطلب من الراحل أن يعفو عن الصغائر التي لا مفر منها في الحياة العائلية، التي قد أكون قد ارتكبتها في حق زوجي الحبيب دون وعي أو دون فهم.

وقفت أنا وأخي ثم جلسنا عند نعش الميت حتى الرابعة صباحًا، ثم أصر أخي أن أذهب للنوم، وأقنعني أخيرًا أن عليَّ أن أستجمع قواي لما سوف أواجهه غدًا من اضطرابات لا مفر منها.

في التاسع والعشرين من يناير، في الساعة الحادية عشرة، جاء إليَّ شخص مَهيب من وزارة الداخلية آنذاك، الأمير لوريس ميليكوف. وبعد أن أعرب لي عن تعازيه بشأن مصابي، قال الموظف إن لديه مبلغًا يود أن يسلمه لي لنفقات دفن المتوفى. لم أكن أعرف مقدار هذا المبلغ، ولكنني لم أرغب في أخذه، كنت أعرف بالطبع أن لدى كل الوزارات تقليدًا يقضي بإعطاء الأسرة التي فقدت عائلها مساعدةً من أجل دفن المتوفى من أفرادها، وأن هذه المساعدة لا تعد عيبًا، لكنني كنت أشعر بالإهانة من هذا العرض. طلبت من الموظف أن يبلِغ شكري العميق للأمير لوريس ميليكوف للمساعدة التي قدمها، لكنني أعلنت أنني لا أستطيع قَبولها، لأنني أرى أن من واجبي الأخلاقي أن أدفن زوجي من أمواله التي اكتسبها. وعلاوة على ذلك، فقد أخبرني الموظف، نيابةً عن الأمير، أن أطفالي سوف يتلقون تعليمهم في المؤسسات العلمية التي أرغب في التحاقهم بها، وذلك على نفقة الحكومة. طلبت من الموظف أن يبلغ الأمير امتناني القلبي لعرضه الكريم، ولكنني قررت في نفسي أن أطفالي لا بد أن يتلقوا تعليمهم لا على نفقة الحكومة، وإنما من أعمال والدهم، ثم أعمال أمهم. ولسعادتي الكبرى، فقد نجحت في إنجاز التزامي، وقد تعلم أولادي فيما بعد من الأموال التي حصَّلتها من إصدار الأعمال الكاملة لوالدهم. كنت على قناعة عميقة أنني برفضي قَبولَ المساعدة في الدفن وتعليم الأولاد، فقد تصرفت تمامًا كما كان سيتصرف زوجي خالد الذكر.

منذ الحادية عشرة صباحًا توافد المعارف والغرباء، بعد أن علموا من الصحف بموت فيودور ميخايلوفيتش، لحضور القدَّاس على جثمانه، وقد كانوا من الكثرة بحيث امتلأت بهم سريعًا حجرات المنزل الخمس، وبحلول لحظة القداس كنت مضطرة، أنا والأطفال، أن نشق طريقنا بصعوبة لكي نقف إلى جوار النعش.

كنت قد دعوت القس الأب …١٧ لكي يقوم بمراسم القداس، وكان المنشدون قد جاءوا في اليوم الأول من كنيسة فلاديميرسكايا. وفي اليومين الأخيرين في القداسات الرئيسية التي أُعلن عنها (في الواحدة ظهرًا والثامنة مساء) جاءت، بناءً على طلبي وبموافقة وكيل الكنيسة، جوقة كنيسة كاملة من كاتدرائية إيساكييفسكي يرؤسها ي. ف. بوجدانوفيتش. ولكن كان هناك وفود أخرى تأتي يوميًّا من مختلف المؤسسات برئاسة قس من الكنيسة، ومعهم منشدون، كانوا يطلبون السماح لهم بإقامة القداس عند نعش الكاتب. أتذكر وفدًا جاء من الفيلق البحري قام القس الخاص به بإقامة قداس مَهيب بمصاحبة غناء الجوقة البحرية الرائعة.

لن أستمر في تعداد أسماء هذه الشخصيات التي حضرت القداس عند قبر زوجي. هنا وقف أبرز ممثلي أدبنا، الذين تعاطفوا مع فيودور ميخايلوفيتش وقدَّروا موهبته؛ وكذلك الذين ناصبوه العداء الصريح، والذين أدركوا، بعد وفاته، مدى الخسارة الفادحة التي لحقت بالأدب الروسي، والذين أرادوا أن يعبِّروا عن احترامهم لواحد من أنبل ممثلي هذا الأدب. وقد حضر إلى أحد القداسات التي أقيمت مساءً الأميرُ العظيم، الذي كان في مقتبل العمر آنذاك، ديمتري قنسطنطينوفيتش؛ الأمر الذي أثار دهشة الحضور.

وطوال اليوم، التاسع والعشرين من يناير، سألني كثير من الناس أين سيُدفن فيودور ميخايلوفيتش؟ تذكرت أن فيودور ميخايلوفيتش قد أعرب عن إعجابه بجبانة دير نوفوديفيتشي، أثناء دفن نكراسوف، وقد قررت أن يُدفن هناك. طلبت من صهري بافل جريجوريفيتش سفاتكوفسكي أن يقوم بالاتفاق بشأن المقبرة، وفوضت ابنتي ليليا في اختيار مكانها، وأرسلتها مع صهري إلى نوفوديفيتشي، وكان هدفي الرئيسي من ذلك أن تتمكن الفتاة من المرور عبر المدينة وتتنفس هواءً نقيًّا. (يا لهم من أطفال مساكين! ثلاثة أيام على التوالي، قبيل الدفن، لم يغادروا البيت، جالسين في حجراتهم، المكتظة بالناس الذين جاءوا ليحضروا كل القداسات التي أقيمت.) وكانت ليليا توزع الزهور من الأكاليل، الموضوعة على المتوفى، على المعجبين بموهبة أبيها؛ للذكرى.

وفي أثناء الرحلة إلى نوفوديفيتشي وصل فيساريون فيساريونوفيتش كوماروف،١٨ المحرر في جريدة «وقائع سان بطرسبورج»، الذي أخبرني أنه جاء ممثلًا لكنيسة ألكسندر نيفسكي التي تعرض أي مكان في جبَّانتها ليجد فيه زوجي راحته الأبدية. «إن الكنيسة — يقول كوماروف — ترجو قَبول المكان مجانًا، وسوف تعتبر أن دفن رفات الكاتب دستويفسكي، الذي دافع بكل حماس عن العقيدة الأرثوذوكسية، في الكنيسة شرفًا كبيرًا.» إن العرض الذي قدمته كنيسة ألكسندر نيفسكي، كان أمرًا مشرفًا، إلى حد أن رفضه سيكون أمرًا مؤسفًا حقًّا. وفي الوقت نفسه، فمن المحتمل أن يكون صهري سفانكوفيتش قد انتهى من شراء مقبرة في دير نوفوديفيتشي. لم أكن أعرف كيف أتخذ قراري وكيف أجيب على كوماروف. ولحسن حظي، عاد صهري وأخبرني أن رئيس الدير أظهر بعض الصعوبات بشأن المكان الذي اختارته ابنتي، ومن ثم فقد تم تأجيل شراء المقبرة إلى الغد. كنت راضية تمامًا. وحيث إن الكنيسة قد عرضت اختيار مقبرة في أي مكان من جبَّانتها، فقد طلبت من كوماروف اختيار مكان في جبانة تيخفينسكي، بالقرب من مقبرتَي كارامازين١٩ وجوكوفسكي،٢٠ اللذين كان فيودور ميخايلوفيتش يحب أعمالهما. ومن الصدف السعيدة أن يكون المكان الشاغر إلى جوار تمثال الشاعر جوكوفسكي، وقد اختير مكانًا للراحة الأبدية لزوجي خالد الذكر.
في الثلاثين من يناير، وأثناء القداس اليومي، حضر الهوفميستر٢١ نيكولاي أباظة، وسلَّمني خطابًا من وزير المالية يفيد بأنه «تقديرًا للخدمات التي قدمها المرحوم زوجي للأدب الروسي» فقد خصص القيصر الإمبراطور لي ولأطفالي معاشًا سنويًّا قدره ألفا روبل. بعد أن قرأت الخطاب توجهت بالشكر الحار لنيكولاي أباظة على هذا الخبر الطيب، ثم دخلت من فوري إلى مكتب زوجي، لأنقل إليه الخبر السار، وأخبره أن الأطفال منذ الآن سيكونون مُؤمَّنين، وما إن دخلت إلى الغرفة، حيث يرقد جثمانه، حتى تذكرت أنه لم يعُدْ بيننا، فأخذت في البكاء المرير. (أود أن أذكر، بالمناسبة، أن هذا النسيان غير المفهوم لي استمر، على أقل تقدير، حوالي شهرين بعد وفاة فيودور ميخايلوفيتش؛ فتارة أُسرع إلى البيت، حتى لا يضطر لانتظار الغداء، وتارة أشتري له حلوى، وتارة أخرى أفكر، في نفسي، أن من الضروري أن أبلغه ببعض الأنباء التي سمعتها. بالطبع كنت أتذكر بعد دقيقة أنه قد توفي، وعندها أشعر بأسًى لا يوصف.)

جدير بالذكر أنني دائمًا ما أستعيد ذكرى هذين اليومين ونصف اليوم، التي ظل فيها جثمان زوجي خالد الذكر موجودًا في البيت، بشيء من الخوف. كان أكثر ما يعذبني آنذاك، أن شقتنا لم تكن تخلو ولو لساعة واحدة من الغرباء: تيار كثيف من الناس يمشي في خطوات استعراضية، وتيار آخر يأتي من المدخل الخلفي ليقطع الشقة كلها، ليتوقفوا جميعًا في غرفة المكتب، حتى لا يبقى هناك بمرور الوقت سوى قليل من الهواء، حتى إن القناديل والشموع الكبيرة المحيطة بالنعش كانت تنطفئ. لم تكن وجوه الغرباء موجودة لدينا في أثناء النهار فقط، وإنما في الليل أيضًا، كانت هناك أناس يريدون قضاء الليل بجوار نعش فيودور ميخايلوفيتش، وآخرون كانوا يريدون قراءة المزامير، وقد راحوا يقرءونها على مدى ساعات طويلة. أذكر أن الياور الأمير نيكولاي فيودوروفيتش جايدن، الذي كان يقدِّر بعمق موهبةَ فيودور ميخايلوفيتش، ظل يقرأ المزامير في الليلة الأخيرة إلى جوار النعش قبل إخراج الجثمان من البيت.

كل ذلك يدل، بطبيعة الحال، على الحزن الصادق لدى محبِّي موهبة فيودور ميخايلوفيتش، وعن الاحترام العميق لذكرى الراحل. وليس بمقدوري سوى أن أشعر وأن أعبر عن خالص امتناني لهؤلاء الذين تعاطفوا مع زوجي.

ولكن في سياق امتناني القلبي ذاته، كنت أشعر في نفسي بشيء من «الغصة»؛ لأن المجتمع قد انتزع مني زوجي العزيز، وأن الذين أحاطوه، وإن كانوا يكنُّون له مشاعر الحب، فإنني، أقرب مخلوق إليه، لم أستطع أن أكون معه على انفراد، لم أستطع كذلك أن أقبِّل وجهه ويديه مراتٍ ومرات؛ أن أضع رأسي فوق صدره كما فعلت في الليلة الأولى لوفاته. إن وجود الغرباء اضطرني لأن أتحفظ في إبداء مشاعري؛ خوفًا من أن يقوم مندوب صحيفة نكرة في اليوم التالي بوصف حزني بتعبيرات سخيفة. لم يكن أمامي سوى تلك الغرفة الصغيرة، التي أستضيف فيها أمي، لأهرب إليها؛ حتى أتمكن من الاستسلام لحزني. كنت ألجأ إلى أمي عندما أشعر بضعفي؛ أختبئ؛ ألقي بنفسي فوق فراشها، وأحاول أن أفسر لنفسي قدر ما أستطيع ماذا حدث. لكن أحدًا لا يريد أن يتركني في هدوء وفي عزلة: يطرقون الباب ويقولون إن وفدًا قد وصل من مؤسسة كذا ويود أن يعبر بصفة شخصية عن تعازيه. كنت أخرج إليهم، فيقوم مندوب الوفد، الذي يكون قد أَعد مسبَّقًا خطابًا بليغًا في الحديث عن الأهمية التي كان يشغلها زوجي المرحوم في الأدب الروسي، وكيف طرح تلك الأفكار السامية التي كان ينادي بها، ثم يروح يتحدث عن «الخسارة الفادحة التي مُنيت بها روسيا من جراء موته»، كنت أستمع في صمت، ثم أشكره بحرارة وأصافحه، ثم أعود راجعة إلى أمي. وبعد برهة، وفد جديد، يرغب حتمًا في لقائي والتعبير عن تعازيه لي شخصيًّا، فأخرج وأستمع إلى خطاب عن أهمية زوجي، وعن «الرجل الذي فقدته روسيا»، بقيت أستمع على مدى ثلاثة أيام إلى خطب العزاء، وفي النهاية وصلت إلى حال من القنوط، فقلت في نفسي: «ما لي الآن و«روسيا»! تذكَّروا يا ناس من الذي فقدته أنا! لقد فقدت أفضل إنسان في العالم، الإنسان الذي وهبني السرور والفخر والسعادة في حياتي، شمسي، إلهي! ارحموني، ارحموني أنا شخصيًّا ولا تُحدِّثوني عن خسارة روسيا في هذه اللحظة!»

عندما يأتي إليَّ شخص واحد من أعضاء الوفود العديدة يريد أن يعبر عن أسفه من أجلي، لا من أجل روسيا، فهذا هو الذي سيترك حقًّا أثرًا في نفسي، وسوف أمسك بيد هذا الغريب وأقبِّلها.

كنت مقتنعة تمامًا أن أفكاري في هذه الأيام مضطربة وغير طبيعية؛ الأمر الذي ساعد عليه أيضًا أنني كنت، بالمناسبة، أعاني من سوء حالتي الصحية: مرت خمسة أيام (٢٦–٣١ يناير) لم أغادر فيها الغرف الخانقة، ولم أكن أتغذى فيها إلا على الخبز والشاي. كان أقربائي الطيبون يأخذون الأطفال للنزهة، وإلى منازلهم، ليتناولوا طعام الغداء لديهم؛ لأن الزحام الذي كان يملأ شقتنا، ودخول الضيوف من بابها الخلفي، لم يكن ليمكن الطاهية من إعداد الطعام، فكنا جميعًا نتناول طعامًا جافًّا.

في اليوم الأخير (الثلاثين من يناير) راحت تنتابني حالات هيستيرية؛ وفي واحدة منها وقع لي حادث كان من الممكن أن يوديَ بحياتي: فبعد انتهاء أحد القداسات، أحسست بضيق عصبي في حلقي، فطلبت من أحد القريبين مني أن يُحضر لي نقطة من دواء الفاليريان. بدأ الواقفون بالقرب من غرفة الاستقبال يصيحون على الخادمة قائلين: «أحضروا فاليريان، فاليريان! أين فاليريان؟» ولما كان هناك اسم «فاليريان»، فقد خطرت على رأسي المضطرب فكرة مشوشة: أرملة تبكي والجميع ينادون على فاليريان ما ليساعدها. وبسبب هذه الفكرة السخيفة رحت أضحك بغيظ، وأصيح «فاليريان! فاليريان!» وحتى المحيطون دخلوا في هيستيريا شديدة. لسوء الحظ، لم تعثر الخادمة على قنينة الفاليريان القطَّارة، فأرسلوها على الفور إلى الصيدلية، بعد أن طلبوا منها بالمرة إحضار روح النشادر أيضًا، في حالة إذا ما دعت الحاجة له لإفاقتي. بعد عشر دقائق تم إحضار الدواءين، وكنت ما أزال أواصل الضحك الهيستيري، وأخبط على أيدي النساء اللائي كن يُحطنني. هنا قامت إحدى السيدات الفضليات، صوفيا فيكتوروفنا أفيركييفا — وهي سيدة تتميز بالحزم — بوضع ثلاثين نقطة، وربما أكثر، في إحدى الكئوس من سائلٍ ما، وعلى الرغم من مقاومتي، فقد أرغمتني على شربه. لكنني شعرت بلذعة حارقة في لساني، فأخرجت منديلي وبصقت فيه ما تجرعته. وقد تبين أن صوفيا فيكتوروفنا خلطت، من فرط تسرُّعها، بين قنينتَي الدواء، فأعطتني ما يزيد على ثلاثين نقطة من روح النشادر، بدلًا من نقطة الفاليريان. راحت دموعي تنساب طوال الليل على جلدي، وكنت أشعر بالألم في فمي ولساني، وقد استمر الأمر لمدة أسبوع بعد ذلك، ولو أنني شربت ما في الكأس لحدث حرق في المريء والمعدة، وربما هدد ذلك حياتي، أو أصابني بمرض خطير.

نسيت أن أذكر، أن من بين العديد من الذين زارونا في اليوم التالي لوفاة زوجي، الفنان الشهير كرامسكوي،٢٢ وقد أعرب عن رغبته في رسم صورة لوجه المتوفى بالحجم الطبيعي، وقد أنجز عمله بموهبة فائقة. وفي هذه الصورة يبدو فيودور ميخايلوفيتش وكأنه لم يفارق الحياة، وإنما راح في نوم عميق، وقد علَتْ وجهَه المضيء ابتسامتُه، كما لو كان قد عرَف سر الحياة الأخرى المكنون.٢٣
وبالإضافة إلى كرامسكوي، حضر عدد آخر من الفنانين من الرسامين والمصورين الفوتوغرافيين، الذين رسموا والتقطوا الصور لاستخدامها في الكتب كصور توضيحية. كما زارنا أيضًا النحَّات المعاصر الشهير الآن ليوبولد برنشتام،٢٤ ولم يكن معروفًا آنذاك. وضع برنشتام قناعًا لزوجي، استطاع بفضله أن يصنع تمثالًا نصفيًّا مطابقًا له تمامًا.٢٥
وفي يوم السبت، الحادي والثلاثين من يناير، جرى نقل جثمان فيودور ميخايلوفيتش من شقتنا إلى دير ألكسندرنيفسكي. ليس بإمكاني أن أصف لكم موكب الدفن، فقد وصفه الكثيرون غيري.٢٦ فأنا لم أشاهد الموكب بأكمله أو رأيته في الصور، فقد سِرت وراء النعش مباشرةً ولم أشاهد سوى من كانوا بالقرب مني. ووفقًا لشهود العيان، فقد كان مشهدًا رائعًا: طابور طويل من أكاليل الزهور المحمولة على قوائم ارتكاز. العديد من جوقات المنشدين من الشباب، ينشدون أناشيد الدفن، بينما يسير النعش مرتفعًا فوق الزحام، وجمهور هائل من البشر يبلغ عشرات الآلاف يسيرون خلف الموكب، كان مشهدًا مؤثرًا للغاية. كان الأمر الأكثر مدعاةً للتقدير لهذا الموكب الحزين لجثمان فيودور ميخايلوفيتش؛ هو أنه لم يسبق الإعداد له من جانب أي طرف من الأطراف. وقد أصبحت مثل هذه الجنازات المهيبة تقليدًا عامًّا فيما بعد. كان أمرًا شائعًا أن تكون مواكب الجنازات الاحتفالية في ذلك الزمن متواضعة نسبيًّا (باستثناء جنازة الشاعر نكراسوف)، ولم يكن الوقت المتاح للاجتماع لتنظيمها (يومان) كافيًا. وقد أخبرني أخي عشيةَ خروج النعش، محاولًا إدخال السرور على نفسي، أن ثمانية مؤسسات تعرض إحضار باقات الزهور لوضعها على قبر فيودور ميخايلوفيتش. وفي الصباح إذا بالباقات والأكاليل يبلغ عددها أربعًا وسبعين، وربما أكثر. وقد تبين فيما بعدُ أن كل المؤسسات والمنظمات، كلٌّ بمبادرة خاصة منها، قد استعدت بإكليلها واختارت وفدًا يمثلها. باختصار، فقد اتفقت كل الأحزاب من كل التيارات على التعبير عن حزنها على وفاة دستويفسكي، وعن رغبتها الحارة في تخليد ذكراه بأقصى ما تستطيع.

خرج موكب الدفن من البيت في الساعة الحادية عشرة ليصل إلى دير ألكسندر نيفسكي بعد الثانية ظهرًا. كنت أسير بجوار ابني وابنتي، لا تفارقني الأفكار الحزينة؛ كيف سأقوم على تربية أطفالي دون والدهم الذي كان يحبهم بشدة؟ يا لها من مسئولية جسيمة وقعت على كاهلي؛ بدءًا من هذه اللحظة أمام ذكرى زوجي! ترى هل أستطيع أن أقوم بجدارة بإنجاز واجباتي؟ أقسمت، وأنا أسير خلف نعش فيودور ميخايلوفيتش، أن أكرِّس حياتي لأطفالنا، وقطعت عهدًا على نفسي أن أكرس ما تبقَّى لي من عمر في بذل كل ما لديَّ من قوة لإحياء ذكري زوجي خالد الذكر، وعلى نشر أفكاره السامية. والآن، وأنا أقترب من نهاية حياتي، أضع يدي على قلبي، بعد أن حققت كل الوعود التي بذلتها في تلك الساعات الصعبة وأنا أودع جثمانه، بقدر جهدي وطاقتي.

في تلك الليلة، في الثلاثين من يناير، وفي كنيسة دوخوفسكي — الملحقة بدير ألكسندر نيفسكي، حيث وُضع نعش فيودور ميخايلوفيتش — أقيمت صلاة ليلية احتفالية. وصلت إلى الصلاة بصحبة أطفالي. كانت الكنيسة تغص بالمصلين، وكان أغلبهم من الشباب والطلاب من شتى المؤسسات التعليمية العليا والمنتسبين والأكاديمية اللاهوتية. وقد قضى أكثرهم الليل بطوله في الكنيسة يتبادلون تلاوة المزامير عند نعش دستويفسكي. وقد أخبرني البعض بملحوظة لها مغزاها، وتتلخص تحديدًا في أنه عند حضور الحراس لتنظيف الكنيسة، لم يجدوا عقب سيجارة واحدًا؛ الأمر الذي أدهش القساوسة؛ فمن المعتاد، عندما تطول الصلاة، أن يقوم البعض سرًّا بالتدخين في الكنيسة وإلقاء الأعقاب، أما هنا فلم يلجأ أيٌّ من الحضور إلى التدخين؛ احترامًا لذكرى المتوفى.

في اليوم الأول من فبراير ١٨٨١م أقيم في الكنيسة الملحقة بدير القديس ألكسندر نيفسكي قداسٌ جنائزي. كان مظهر الكنيسة رائعًا: وُضع النعش في وسط المعبد مغطًّى بالعديد من باقات الزهور، أما باقي الأكاليل فقد صُفَّت وهي مزدانة بالشرائط العريضة، وقد بدت عليها كتابات مفضَّضة وأخرى مذهَّبة، بامتداد حوائط المعبد، مستندة على ركائز مرتفعة، وهو ما أضفى على المكان جمالًا خاصًّا.

كان أخي قد اصطحب ابنتي إلى دير نيفسكي يوم القداس الجنائزي، بينما ذهبت أنا وابنتي في عربة يوليا دنيسوفنا زاسيتسكايا (ابنة الفدائي دافيدوف)، وكانت من أشد المعجبات بموهبة زوجي، بناءً على دعوتها لاصطحابنا إلى هناك. انطلقنا في الساعة العاشرة، وقبل أن نصل إلى الدير ببضعة أمتار، سارت عربتنا بمحاذاة عربة كان يستقلها أحد عقداء الجيش. حيَّاها الرجل فأشارت له زايتسكايا ردًّا على تحيته. وفي الميدان كان هناك حشد هائل من بضعة آلاف من الناس، وكان الاقتراب من باب الكنيسة أمرًا بالغ الصعوبة. اضطررنا للوقوف وسط الميدان. نزلت ومعي ابنتي من العربة متوجهة إلى الباب، بينما وقفت زايتسكايا في العربة في انتظار وصول العقيد، وأخبرتني أنه سيصطحبها إلى الدير. مررنا بصعوبة وسط الحشود، لكنهم أوقفونا طالبين منا بطاقاتِ الدخول. بطبيعة الحال كنت قد نسيت، في غمرة الحزن والارتباك، أن أحضر معي البطاقات، متصورة أنهم سيسمحون لنا بالدخول بدونها. أجبت بأنني «أرملة المتوفى، وهذه ابنته.»

– هنا العديد من أرامل دستويفسكي، سواء بمفردهم، أو مع أطفالهن. كان هذا هو الرد الذي تلقيته.

– لكنك ترى أنني أرتدي ملابس حداد كاملة.

– هن أيضًا كن يضعن خُمُرًا. من فضلكِ أظهري بطاقة الدعوة.

بالطبع لم أكن أحمل حتى بطاقة الدعوة. حاولت أن ألح في طلب الدخول، ثم رحت أتوسل أن ينادوا أحدًا من منظمي الدفن، وذكرت لهم أسماء جريجوريفيتش، ريكاتشيف،٢٧ أفيركييف، لكنهم أجابوا بقولهم: «أين سنبحث عنهم؟ وهل يمكن العثور عليهم فورًا وسط الآلاف من الناس؟»

غلبني اليأس، ناهيك عما يمكن أن يقوله الناس الذين لا يعرفونني جيدًا، إذا لم يروني في الصلاة الليلية على زوجي، علاوة على أنني كنت أرغب إلى حدٍّ لا يوصف أن أودعه في اللحظة الأخيرة، أصلي من أجله، أبكي عند قبره، لم أكن أعرف ما الذي ينبغي أن أفعله، كنت أظن أن زايتسكايا قد نجحت بالفعل في الدخول ولن يكون بمقدورها أن تنتشلني من محنتي. ولحسن الحظ لم يحدث ذلك: استخدم مرافقها سلطته وأكد على شخصيتي، وعندها سمحوا لنا بالمرور، أسرعت أنا وابنتي نحو الكنيسة، ولحسن الحظ كانت الصلاة قد بدأت لتوها.

قام بمراسم القداس رئيس الأساقفة نيستور والأسقف فيبورجسكي، وبصحبتهم قساوسة وأرخميندرات، كما حضر القداس رئيس أكاديمية اللاهوت يوهان يانيشيف٢٨ والقائم بأعمال الدير الأرخميندريت سيميون، الذي كان على معرفة جيدة بزوجي.٢٩
قام بالغناء على نحو مؤثرٍ الجوقةُ الكاملة لدير ألكسندر نيفسكي، وكذلك جوقة كاتدرائية إيساكييفسكي، وقبيل إقامة الصلاة ألقى المطران يانيشيف خطابًا بليغًا، أظهر فيه بوضوحٍ كلَّ فضائل فيودور ميخايلوفيتش، الكاتب والمسيحي.٣٠
امتلأت جبانة تيخفينسكي بالجمهور. راح الناس يتسلقون التماثيل ويجلسون فوق الأشجار، وقد تزاحم بعضهم خلف الأسوار. راح الموكب يسير ببطء، وقد مالت نحوَه من الجانبين أكاليلُ الزهور التي حملها مختلِفُ الوفود. وبعد أن تم الدفن راحوا يلقون بالكلمات فوق القبر المفتوح. كان أول المتحدثين هو ألكسندر بالم،٣١ العضو السابق في جماعة بتراشيفسكي، ثم تبعه أوريست ميلر، البروفيسور قنسطنطين بيستوجيف، ريومين، فلاديمير سولوفيوف، بافل ألكسندروفيتش جايديبوروف، وآخرون كثيرون. وعند القبر المفتوح أُلقيت أيضًا كثير من القصائد مكرسة لذكرى المتوفى.٣٢ لقد فرش الجمهور القبر بباقات الزهور التي أحضروها حتى وصلت إلى قمة الضريح تقريبًا. أما باقي الأكاليل فقد تم تقسيمها إلى أجزاء، وأخذ الحضور أوراقها وزهورها معهم؛ للذكرى. أُغلق القبر في حوالي الساعة الرابعة. وقد أصابني الضعف بسبب البكاء والجوع، أنا والأطفال، فعدت إلى المنزل، ولم يكن الزحام قد انفض بعد.
١  استنادًا إلى مذكرات أ. س. سوفورين فإن دستويفسكي كان يخطط لأن يُدخل أحد أبطال روايته من آل كارامازوف «إلى الدير، ثم يجعل منه ثوريًّا، وقد يرتكب جريمة سياسية، وقد يتم إعدامه، ولعله كان يبحث عن الحقيقة، ومن الطبيعي، خلال هذا البحث، أن يصبح ثوريًّا.» (أ. س. سوفورين، المذكرات، موسكو، براج، ١٩٢٣م، ص١٦)، كما يورد أ. م. سليفيتسكي، كاتب الأطفال، في مذكراته «أن رواية اسمها «الأطفال» كان من الممكن أن تكون، وفقًا لفكرة دستويفسكي، تكملة لرواية «الإخوة كارمازوف»؛ حيث يمثل الأطفال فيها الأبطال الرئيسيين للرواية السابقة …» (دستويفسكي في مذكرات معاصريه، الجزء الثاني، ص٣٥٥). وهناك بعض الأدلة الأخرى على تكملة لرواية «الإخوة كارامازوف»، ساقتها أيضًا في كتابها عن دستويفسكي الباحثةُ الألمانية ن. هوفمان، التي جاءت إلى بطرسبورج لجمع عدد من المواد من آنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا نفسها. وقد سجلت الباحثة ما روته زوجة دستويفسكي عن تطور الأحداث في تكملة الرواية المفترضة: «وفقًا لخطة الكاتب، كان من المفترض أن يعود أليوشا إلى العالم الدنيوي، بناءً على وصية الأب زوسيما، وأن يحمل على كاهله معاناة هذا العالم وما به من ذنوب. يتزوج من ليزا، ثم يتركها من أجل جروشنكا الخاطئة، التي توقظ في نفسه «طبيعة آل كارامازوف»، وبعد فترة عاصفة من الضلال والشكوك والرفض يعيش وحيدًا. ثم يعود مرة أخرى ليدخل الدير، وهناك يحيط نفسه بالأطفال، يهَبُ بطل دستويفسكي حياته كلها من أجلهم، يحبهم بإخلاص فيُعلِّمهم ويأخذ بهم إلى الطريق المستقيم. من منا لا يربط هنا بين هذا المشهد وبين حكاية الأمير ميشكين (في رواية «الأبله». المترجم) عن الأطفال؛ ومن منا لا يتذكر على الفور قصة البطل الصغير، إنها نفس السمات الطفولية المبهجة، التي لا تنكشف إلا بالحب.» Hoffmann Th., Dostojewsky. Eine biographische Studie, Berlin, (1899, s. 427).
٢  فقرة مفقودة في المخطوطة.
٣  الإصدار الأخير من «مذكرة الكاتب» (يناير، ١٨٨١م) «وصية» دستويفسكي. كتبها بشعور من القلق البالغ على التطور التاريخي القادم لروسيا ولشعبها: «ظهر بعد ذلك هذا السُّكْر الطائش، بحر من السُّكْر يغطي روسيا، وعلى الرغم من أنه ما يزال يجتاح روسيا حتى الآن، إلا أن الشعب لم يفقد إطلاقًا — حتى وهو غارق حتى أذنيه في هذا السُّكْر، حتى ولو ارتوى من الخمر — تعطشه إلى عالم جديد على أي حال، إلى الحقيقة الجديدة، الحقيقة الكاملة. الأمر الأهم هنا، هو أن شعبنا واحد، أي متَّحد بأسره، متحصن بقوته الباقية فقط، لا يؤيده أحد روحيًّا. هنا … وحدة الأرض.» لكنها ليست سوى «البداية …» (دستويفسكي، ١٩٢٦–١٩٣٠م، الجزء الثاني عشر، ص٤٣٣-٤٣٤). في هذه الكلمات عبر دستويفسكي عن حلمه الطوباوي أيضًا بشأن وفد «السترات الرمادية»، الذين تمت دعوتهم لإعادة تشكيل المجلس المحلي بروح ديمقراطية ومن ثَم إنقاذ روسيا. وفي الوقت نفسه فقد رسم دستويفسكي هذه الصورة الشاملة لانحلال المجتمع الروسي كله، الأمر الذي جعله يطلب بداهة، انطلاقًا من إحساسه بالخوف على مصير إصدار يناير من المذكرة، أن يقوم ن. س. أباظة، رئيس الإدارة العليا للصحافة، بتغيير الرقيب (الذي كان من المفترض أن يكون ن. ي. ليبيديف). وقد أخذ ن. س. أباظة على عاتقه مسئولية مراقبة إصدار يناير («بيتربورجسكي ليستوك»، وصحيفة بطرسبورج، ١٨٨١م، ٣ فبراير، العدد ٢٤).
٤  نيكولاي سافيتش أباظة (١٨٣٧–١٩٠١م): سيناتور، عضو مجلس الدولة في ١٨٨٠-١٨٨١م. عمل رئيسًا لإدارة البريد، قام برقابة الإصدار الأخير «لمذكرة الكاتب».
٥  لا يمكن اعتبار هذه الرواية التي ذكرتها أ. ج. دستويفسكايا صحيحة على إطلاقها، وهناك رواية أخرى ذُكرت فيما بعد تصف الظروف التي أحاطت بمرض وفاة دستويفسكي. فآنَّا جريجوريفنا لا تشير هنا إلى سبب آخر على قدر كبير من الأهمية هو الذي تسبب في الإسراع بوفاة الكاتب؛ ويتلخص في أن شجارًا عائليًّا وقع بسبب الميراث الذي تركته كومانينا عمة الكاتب، التي توفيت عام ١٨٧١م. ففي عام ١٨٨١م آلت إلى دستويفسكي قطعة أرض من الضيعة التي كانت تملكها عمته في ريازان؛ بشرط أن يسدد مبلغًا ماليًّا لأخواته اللائي لم يدخلن في هذه القسمة. وقد ذهبت فيرا ميخايلوفنا إيفانوفا، أخت دستويفسكي، إليه تطلب منه أن يتنازل عن نصيبه في ضيعة ريازان لأخواته. واستنادًا إلى مذكرات ابنة الكاتب، نشِب بين دستويفسكي وأخته نقاش حادٌّ حول ميراث كومانينا، انتهى باندفاع الدم من حلقه توفي بعده بيومين (انظر لوبوف دستويفسكايا، ص٩٦-٩٧. والحقيقة أن ل. دستويفسكايا تنسُب وقْع هذا الحديث خطأً إلى السادس والعشرين من يناير، والصواب هو الخامس والعشرين). ومما يؤكد ما جاء بمذكرات لوبوف دستويفسكايا عن الجدل الحاد الذي دار بين دستويفسكي وأخته فيرا إيفانوفا، ما ذكرته آنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا عن وفاة زوجها في خطابها إلى ن. ن. ستراخوف المؤرخ الحادي والعشرين من أكتوبر ١٨٨٣م. وقد نُشر هذا الخطاب: جروسمان، ص٣٥٢.
٦  يؤكد ل. ب. جروسمان أن آنَّا جريجوريفنا أخطأت في اسم المجلة، عندما ذكرت أنها «اليعسوب». الصحيح أن دستويفسكي كان يعرض على طفليه عددًا من مجلة رسوم فكاهية من سلسلة «الرغبة أقوى من الإكراه» (صيادا السمك)، وقد رُسم على ظهر الغلاف إعلان للاشتراك في مجلة «أسكولكي» (الشظايا) عام ١٨٨١م. وقد كتبت آنَّا جريجوريفنا على الإعلان بالقلم الرصاص (وهو محفوظ الآن في بيت بوشكين)، تقول: «شاهد فيودور ميخايلوفيتش هذا الرسم في يوم مرضه في السادس والعشرين من يناير ١٨٨١م» (جروسمان، ص٣٢٠).
٧  غير دقيق؛ كانت زوجة الديسمبري م. إ. مورفايوف أبوستول تُدعى ماريا قنسطنطينوفنا؛ على أن الحديث لم يكن يدور هنا بشأنها، وإنما عن جوزيفين آدموفنا مورافيوفا (براكمان قبل الزواج) زوجة الديسمبري أ. م. مورفايوف، التي كانت تعيش في هذه الفترة في توبولسك. انظر: م. د. فرانتسيف، «المذكرات». «البشير التاريخي»، العدد ٦. عن لقاء دستويفسكي في توبولسك بزوجات الديسمبريين، انظر أيضًا: مذكرات إ. ل. ياسترجيمبسكي. السيرة، ١٢٧.
٨  «المسنون»؛ «مذكرة الكاتب»،١٨٧٣م (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
٩  يذكر دستويفسكي هذا الحادث في «مذكرة الكاتب» عن عام ١٨٧٣م في مقالته «المسنون» (دستويفسكي، ١٩٢٦–١٩٣٠م، الجزء الحادي عشر، ص١٠).
١٠  في طبعة الإنجيل الصادرة في عشرينيات القرن الماضي (التاسع عشر. المترجم) توجد كلمة «اسمح». في الطبعات الحديثة استبدلت بكلمة «اتركني». هذا الموضع من الإنجيل تحديدًا ورد في الطبعات التالية بالكلمات الآتية: «أمسك به يوحنًا قائلًا: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليَّ؟ فأجاب يسوع وقال له: اتركني الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر.»
كان لكلمات الإنجيل التي فُتحت أمام فيودور ميخايلوفيتش معنًى ومغزًى عميقان في حياتنا. لعله كان من الممكن أن يبرَأ زوجي من مرضه بعد فترة من الوقت، لكن بُرأَه لم يكن ليستمر طويلًا؛ ومن المعروف أن العمل الإجرامي الذي وقع في أول مارس، كان من شأنه دون شك أن يهز فيودور ميخايلوفيتش بقوة، وكان يحب القيصر؛ محرر الفلاحين؛ وربما انفجر آنذاك شريانه الرئوي الهش، ولو وافته المنية. بالطبع فقد كان من المتوقع أن تترك وفاته في هذا الوقت العصيب أثرًا كبيرًا، ولكنه لم يكن ليصبح ذا أثر هائل كالذي حدث له بعد وفاته بالفعل (في يناير. المترجم): كانت أفكار المجتمع كلها ستصبح مشغولة بالتفكير في هذا العمل الوحشي، وفي النتائج الوخيمة التي يمكن أن تنشأ في تلك اللحظة المأسوية من حياة الدولة. في يناير ١٨٨١م، عندما بدا أن كل شيء هادئ، تأتي وفاة زوجي باعتبارها «حدثًا اجتماعيًّا»؛ لقد بكاه أناس من مختلف الاتجاهات السياسية، أناس من كل طبقات المجتمع. وقد حظي بموكب جنائزي استثنائي، ودُفن في احتفال مَهيب اجتذب جمهورًا عريضًا من القراء والمعجبين، وحتى من بين الذين كانوا من غير المهتمين بالأدب الروسي.
وهكذا اكتسبت الأفكار السامية لزوجي انتشارًا أوسع وحظيت بتقدير رفيع يليق بموهبته.
بعد وفاة القيصر، المحرر الرحيم، كان من الممكن ألا تحظى أسرتنا بالعطف السامي الإمبراطوري، الذي تحقَّق بفضله حلمُ زوجي الدائم بأن ينال أطفالنا تعليمًا جيدًا، ليتمكنوا في النهاية أن يصبحوا خدمًا مفيدين للقيصر وللوطن (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
  في الأول من مارس عام ١٨٨١م تم اغتيال ألكسندر الثاني على يد أحد أعضاء جماعة إرادة الشعب.
١١  أحد الحضور (لعله ماركيفيتش) سجل بدقة لحظة الوفاة (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
١٢  أخبرني نيكولاي بتروفيتش تشيريبنين منذ عدة سنوات مضت أنه ما يزال يحتفظ بالسماعة الطبية التي استخدمها باعتبارها أثرًا هامًّا (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
١٣  أشار ب. ماركيفيتش في مذكراته «بضع كلمات عن وفاة ف. م. دستويفسكي» («وقائع موسكو»، ١٨٨١م، الأول من فبراير، العدد ٣٢) إلى وقت الوفاة؛ الساعة الثامنة وست وثلاثون دقيقة. عن وفاة دستويفسكي، انظر أيضًا: مذكرات أ. س. سوفورين «عن المرحوم» (دستويفسكي في مذكرات معاصريه، الجزء الثاني، ص٤١٧–٤١٨)، نعي دستويفسكي، الذي كتبه أ. س. سزفورين («المجلة الفنية»، ١٨٨١م، العدد الثاني)، خطاب آنَّا جريجوريفنا إلى ن. ن. ستراخوف المؤرخ الحادي والعشرين من أكتوبر ١٨٨٣م (في كتاب: جروسمان، ص٣٥٢)، مذكرات ابنة الكاتب (ل. ف. دستويفسكايا، ص٩٨-٩٩)، مذكرات ن. ن. ستراخوف (السيرة، ص٣٢٣-٣٢٤).
١٤  يوليسلاف ميخايلوفيتش ماركيفيتش (١٨٢٢–١٨٨٤م): كاتب رجعي، كاتب روايات ظهرت في «البشير الروسي» هاجم فيها العدميين.
١٥  الأرجح أن النفور الذي كانت تكنُّه آنَّا جريجوريفنا ﻟ «ب. م. ماركيفيتش» يعود في الأساس إلى دستويفسكي نفسه. فقد دأب ماركيفيتش، المحرر الدائم في مجلتَي «البشير الروسي» و«وقائع موسكو» اللتين كان يملكهما كاتكوف، على نشر الوشايات السياسية في مقالاته الهجائية ضد نشطاء حركة التحرير الروسية، وضد عدد من الكتَّاب الروس، وعلى الأخص ضد سالتيكوف شيدرين وإيفان تورجينيف. وقد قام باتهام الأخير بوجود علاقة بينه وبين «العدميين الروس» والإرهابيين. وعلى الرغم من أنه لا توجد أية آراء سلبية منشورة لدستويفسكي بشأن نشاط ماركيفيتش المذكور، لكنه كان من الواضح في الوقت نفسه أن ماركيفيتش، شأنه في ذلك شأن أفسيينكو وميشيرسكي، كان يمثل صحافة «الطبقة العليا»، التي كان دستويفسكي يضمر لها كراهية شديدة. وقد دفع الغلو المتطرف لآراء ماركيفيتش الرجعية وما اتسمت به مقالاته من وقاحة بدستويفسكي للنفور منه. وعلى سبيل المثال فقد استمرت «وقائع موسكو» في نشر مقالات ماركيفيتش البذيئة ضد أ. ب. فيلوسوفوفا، الشخصية الاجتماعية البارزة، القريبة من الدوائر الديمقراطية الراديكالية، وكان دستويفسكي يكنُّ لها دائمًا مشاعر الاحترام الخالص. وقد كانت آنَّا جريجوريفنا على دراية، بطبيعة الحال، بمقالات ماركيفيتش الهجائية ضد فيلوسوفوفا.
١٦  انظر مقالة نيزناكوميتس (الاسم المستعار ﻟ أ. س. سوفورين وتعني «مجهول» (المترجم)) «عن المرحوم». «العصر الحديث»، ١٨٨١م، الأول من فبراير، العدد ١٧٧١.
١٧  فقرة مفقودة في المخطوطة.
١٨  فيساريون فيساريونوفيتش كوماروف (١٨٣٨–١٩٠٧م): صحفي وناشر.
١٩  فاسيلي أندرييفيتش جوكوفسكي (١٧٨٣–١٨٥٢م): شاعر روسي.
٢٠  نيكولاي ميخايلوفيتش كارامزين (١٧٦٦–١٨٢٦م): كاتب روسي، مؤرخ، مؤسس المدرسة الروسية العاطفية. رئيس تحرير عدد من الصحف والمجلات الروسية. أشهر أعماله «تاريخ الدولة الروسية».
٢١  رئيس ديوان البلاط. (المترجم)
٢٢  إيفان نيكولايفيتش كرامسكوي (١٨٣٧–١٨٨٧م): رسام، صاحب أشهر الصور الشخصية لكتَّاب مثل تولستوي ونكراسوف. تعرف على دستويفسكي عام ١٨٨٠م في بيت سوفورين.
٢٣  نشرت مجلة «البشير التاريخي» (١٨٨١م، العدد الثالث، ص٤٨٧-٤٨٨) مقالة عن الصورة التي رسمها كرامسكوي لدستويفسكي، والموجودة في الوقت الحالي في بيت بوشكين (المتحف الأدبي)، ففي صباح اليوم التالي للوفاة أبلغ أحد رفاق الكاتب الرسام بالنبأ، وعلى الفور توجه إلى بيت المرحوم، وهناك نصب أدواته واستمر في رسم صورة المتوفى لعدة ساعات بالقلم الرصاص والحبر، لتجيء واحدة من أفضل أعماله، ولتُظهر التشابه بين الصورة وصاحبها على نحو مدهش. أما المصورون الفوتوغرافيون، الذين حاولوا التقاط صور للكاتب المسجَّى في الغرفة الصغيرة في ضوء خافت، فضلًا عن اضطرارهم لأن تكون الصورة جانبية فقط، باءت محاولاتهم بالفشل. وقد طلب كرامسكوي من أرملة المرحوم أن تقبل منه هذه الصورة باعتبارها هدية متواضعة مقابل هذه الساعات من المتعة التي أعطتها له أعمال دستويفسكي.
٢٤  ليوبولد أدولفوفيتش برنشتام (١٨٥٩–١٩٣٩م): نحَّات وجوه، أقام تماثيل نصفية لكل من بوشكين ودستويفسكي وسالتيكوف، شيدرين وجونشاروف وفلوبير.
٢٥  كان ل. أ. برنشتام يعتزم القيام بنحت تمثال نصفي لدستويفسكي حتى إبان حياته، وفي خطابه المؤرخ السادس من نوفمبر ١٨٨٠م طلب د. ف. جريجورفيتش من دستويفسكي الموافقةَ على إقامة التمثال، كما أرسل خطابًا آخر في هذا الصدد إلى آنَّا جريجوريفنا في العشرين من يناير ١٨٨١م (انظر: «من أرشيف دستويفسكي» خطابات الكتاب الروس، براج، ١٩٢٣م، ص٢٦-٢٧). عن قيام ل. أ. برنشتام بعمل قناع وتمثال نصفي لدستويفسكي، انظر: S. Bernstam. Léopold Bernstam. Sa Vie – son oeuvre. Paris, 1913, pp. 5-6.
٢٦  توجد قائمة كاملة من المطبوعات الدورية التي أفردت على صفحاتها وصفًا لجنازة دستويفسكي، انظر في كتاب أ. ج. دستويفسكايا: الدليل البيبلوجرافي للمؤلف والأعمال الفنية الخاصة بحياة وإبداع ف. م. دستويفسكي … ١٨٤٦–١٩٠٣م (سان بطرسبورج)، أما مذكرات معاصري الكتاب فيضمها الدليل الذي وضعه س. ف. بيلوف، «ف. م. دستويفسكي في مذكرات معاصريه. الدليل البيبلوجرافي». «النشرات العلمية لمعهد ألكسندر جيرتسين للعلوم التربوية»، العدد ٣٢٠، ص٢٧٤–٣١٦. للاطلاع على أكثر وصف اكتمالًا لجنازة دستويفسكي، انظر: مجلة «فسيميرنايا إيلوستراتسايا»، ١٨٨١م، العدد ٦٣١.
٢٧  ميخائيل ألكسندروفيتش ريكاتشيف (١٨٤٠–١٩١٩م): دكتور في الفيزياء، عضو عامل في أكاديمية العلوم.
٢٨  يوهان ليونتييفيتش يانيشيف (١٨٢٦–١٩١٠م): كاتب لاهوتي، رئيس أكاديمية اللاهوت في بطرسبورج (١٨٦٦–١٨٨٣م). كان على علاقة ودية مع دستويفسكي.
٢٩  يذكر قنسطنطين بوبيدونستسيف في خطابه إلى ف. م. دستويفسكي، المؤرخ الرابع والعشرين من فبراير ١٨٧٩م: «حضر لزيارتي الأب الأرخميندريت سيميون، وقد أحضر معه التفاصيل التي اقتبسها من كتاب دفن القساوسة لتسليمها لك، وكان قد نسي أن يخبرك بها عند لقائك إياه» (التراث الأدبي، الجزء الخامس عشر، ص١٣٥). من البدهي أن دستويفسكي استخدم هذه الاقتباسات في فصل «رائحة الجثة» («الإخوة كارامازوف»)، الجزء الثالث، الكتاب السابع، الفصل الأول.
٣٠  نشرت «البشير الكنسي»، ١٨٨٠م، العدد ٦، السابع من فبراير، خطاب إ. ل. يانيشيف، الذي ألقاه في أثناء مراسم القداس الجنائزي الذي أقيم لدستويفسكي. وكان دستويفسكي قد تعرف على يانيشيف في فيسبادن في عام ١٨٦٥م، وظل يحمل له منذ هذا التاريخ مشاعر الصداقة والإخلاص (انظر: المجلد الأول من «خطابات» دستويفسكي، حيث نشر به خطابا دستويفسكي إلى يوان ليونتييفيتش يانيشيف).
٣١  ألكسندر إيفانوفيتش بالم (١٨٢٢–١٨٨٥م): عضو في جماعة بتراشيفيتس، كان ينشر كتاباته تحت اسم مستعار هو «ب. ألمينسكي»، كتب رواية بعنوان «ألكسي سلوبودين»، وصف فيها دستويفسكي وبتراشيفتس ودوروف بأسماء مختلفة.
٣٢  انظر نشرة: «فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي، السيرة، مؤلفاته، الدقائق الأخيرة في حياته، حمل الجثمان، الدفن، الاحتفال الحماسي للمجتمع الروسي»، موسكو، ١٨٨١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤