الجزء السادس

العامان ١٨٧٢-١٨٧٣م

١

العام ١٨٧٢م
بحلول خريف عام ١٨٧٢م بدأنا في التعافي بعض الشيء من الآثار الثقيلة لهذا الصيف التعيس الذي عشناه، وبعد أن عُدنا من ستاريا روسا أقمنا في السرية الثانية التابعة لفوج إسماعيلوفسكي في منزل الچنرال ميفيس.١ كانت شقتنا تقع في الطابق الثاني للمنزل القائم في عُمق الفناء. كانت الشقة مكونةً من خمس غرف غير فسيحة وإن كانت مريحة: غرفة استقبال ذات ثلاث نوافذ، مكتب لفيودور ميخايلوفيتش مساحته متوسطة يقع بعيدًا عن غُرَف الأطفال بحيث لا يصِل ضجيجهم وركضهم إلى مسامعه فيقطع عليه حبل أفكاره.

وعلى الرغم من أن زوجي ظلَّ يعمل طوال الصيف على إتمام روايته، فإنه كان غير راضٍ تمامًا عنها، حتى إنه تخلَّى عن الخطة التي سبق أن وضعها وأعاد كتابة الفصل الثالث منها من جديد.

في شهر أكتوبر سافر فيودور ميخايلوفيتش إلى موسكو، واتفق مع هيئة التحرير على نشر الفصل الثالث من الرواية في العددَين الأخيرَين من «البشير الروسي». جدير بالذكر أن رواية «الشياطين» لاقت نجاحًا كبيرًا في أوساط القراء، لكنها خلقت لزَوجي، مع ذلك، أعداءً كثيرين في عالمَ الأدب.٢
بانتهاء فصل الشتاء أتيحت الفرصة لفيودور ميخايلوفيتش أن يلتقي لدى نيكولاي سيميونوف٣،٤ بنيكولاي دانيليفيسكي وكان من أنصار فورييه، وذلك بعد مرور خمسٍ وعشرين سنة لم يلتقِ خلالَها زوجي به مرة واحدة. كان فيودور ميخايلوفيتش في أوج سعادته بهذا اللقاء. وكان قد قرأ لدانيليفسكي كتابه «روسيا وأوروبا»، فأراد أن يتحدَّث معه بشأنه مرةً أخرى. ولمَّا كان الأخير يتهيأ لمغادرة المكان مسرعًا، فقد دعاه فيودور ميخايلوفيتش لتناوُل طعام الغداء في منزلنا في اليوم التالي. وما إن علم أصدقاء دانيليفيسكي ومُحبُّوه بشأن هذا اللقاء حتى جاءوا من أنفسهم إلينا للمشاركة في هذا الغداء. لكم أن تتخيَّلوا الرُّعب الذي أصابني عندما ذكر لي زوجي أن عدد الضيوف المتوقَّعين يبلغ، بالإضافة لنا، حوالي عشرين شخصًا. وعلى الرغم من إمكانياتي المُتواضعة فقد نجحتُ في إعداد غداءٍ لائق سادته الحيوية، حتى إنَّ الضيوف ظلُّوا يتبادلون أحاديثهم الشيقة حتى منتصف الليل.

٢

توطئة إلى مذكرات عام ١٨٧٢م
عندما كنت أفكر في وضعِنا المالي السيئ، كنت أحلم بطريقةٍ لعلِّي أستطيع بها أن أُساهم في زيادة دخلنا. فكرتُ في ممارسة الاختزال من جديدٍ وخاصة أنَّني حققتُ فيه نجاحًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة. طلبتُ من أقاربي ومعارفي أن يجدوا لي عملًا في أيٍّ من المؤسسات. وقد وجد أستاذي في الاختزال بافل أولخين عملًا عن طريق أحد معارفه في مؤتمر اقتصاديات الغابات، وقد اقترح عليَّ مُحرر مجلة الغابة، نيكولاي شافرانوف،٥ أن أسافر إلى موسكو في الفترة من الثالث إلى الثالث عشر من أغسطس. لسوء الحظ كنتُ أشعر آنذاك بالإرهاق من جرَّاء الأحداث التي مرَّت بي ذلك الصيف فرفضتُ هذا العمل.
وفي شتاء عام ١٨٧٢م أخبَرني أخي، الذي انتقل مع زوجته الشابة إلى بطرسبورج، أنَّ مؤتمرًا، لا أذكر في أي مجال، سيُعقد قريبًا في واحدةٍ من مدن المنطقة الغربية،٦ وأنهم يبحثون عن مختزل للعمل فيه. على الفور كتبتُ إلى المسئول عن اختيار المُختزلين، وقد قمتُ بذلك بموافقة فيودور ميخايلوفيتش الذي، على الرغم من تأكيده أنني أرعى الأطفال وأقوم على تصريف شئون المنزل، بل وأساعده فوق هذا كله في عمله، فإنني بذلك أؤدي كلَّ ما في وسعي تجاه الأسرة، فإنه لم يشأ أن يقف في سبيلي عندما رأى رغبتي المُتحمسة في أن أكسب بعض النقود بجهدي، وقد اعترف لي بعد ذلك أنه كان يأمُل أن يأتي الرفض من جانب رئيس المؤتمر، الذي ردَّ بالإيجاب وأبلغني بالشروط. لن أقول إن المكافأة كانت مُغرية؛ رغم أن الجزء الأكبر منها سيذهب على السفر والإقامة في الفندق. المُهم أن النقود، بالمناسبة، لم تكن هي الهدف، بقدْر ما كان البدء في العمل، فلو أنني أنجزت عملي بشكلٍ جيد، فلعلِّي أستطيع أن أحصل على توصية من رئيس المؤتمر للحصول على أعمال أخرى تدر دخلًا أكبر.

لم تكن هناك أية أسباب جادة حتى يعترض فيودور ميخايلوفيتش على سفري، فقد بذلَتْ أمي وعدًا بالحضور إلينا إبَّان غيابي لرعاية الأطفال والقيام بأعمال البيت. وفي الوقت نفسه لم يكن لدى زوجي في هذا الوقت أيُّ عمل لي؛ كان يعمل آنذاك في تنقيح خطة رواية «الشياطين». على أي حال، لم يلقَ سفري أي ترحيبٍ إطلاقًا من جانبه، فراح يختلِق كافة الأسباب حتى لا يسمح لي بالسفر. سألني؛ كيف، وأنا المرأة الشابة، أذهب وحدي إلى مدينة بولندية، لا معارف لي فيها، وكيف سأرتِّب أموري وهلمَّ جرًّا. بعد أن استمعت إلى هذه الاعتراضات تذكَّر أخي أن أحد رفاقه السابقين مسافر إلى المنطقة الغربية وهو على معرفة جيدة بها، ودعاني وزوجي لزيارته وتناوُل الشاي في بيته للتعارُف ومعرفة كافة المعلومات التي يُريدها منه.

ذهبنا لبيت أخي في الموعد المُحدَّد. كان فيودور ميخايلوفيتش يتمتَّع بصحة جيدة وقد مضى عليه وقتٌ طويل لم تُداهمه النوبة، وكان مزاجه رائعًا. تحدَّثنا بهدوءٍ مع أخي وزوجته ونحن في انتظار صديقه، ولم أكن قد رأيتُه من قبل، ولكنَّني سمعت عنه كثيرًا من أخي. كان شخصًا طيبًا من القوقاز، لا يتمتَّع بذكاء خاص، كانوا يُسمُّونه «الآسيوي الفظ» بسبب سرعة غضبه وتصرُّفه على نحوٍ مفاجئ. كان هذا اللقب يُثير حنقه، وحتى يُثبت أنه «أوروبي» كان يُعلن عن إعجابه بشوبان٧ في الموسيقى وريبين٨ في التصوير ودستويفسكي في الأدب. وقد استقبل أخي ضيوفه في الصالة. وعندما علم صديقه أنه سوف يتعرَّف على فيودور ميخايلوفيتش وربما يُقدِّم له خدمة أيضًا، شعر بسعادةٍ بالِغة، على الرغم من أنه كان يبدو وجِلًا. وما إن دخل إلى غرفة الاستقبال ورأى معبوده حتى شعر بالارتباك حتى إنه لم ينبس ببنت شفة، انحنى مُسلِّمًا على زوجي وعلى ربَّة البيت. كان يبلُغ من العمر عشرين عامًا، طويل القامة، أكرت الشعر، عيناه واسعتان وشفاهه شديدة الحمرة.

عندما رأى أخي ارتباك رفيقه سارع بتقديمه إليَّ. أمسك «الآسيوى» بيدي وقبَّلها. هزَّها عدة مرات بشدَّة ثم قال بلسان ألثغ: كم أنا مسرور لذهابك إلى المؤتمر وأنَّ باستطاعتي أن أكون مفيدًا لك!

أضحكني حماسُه البالِغ، لكن هذا الحماس أغضب زوجي. وعلى الرغم من أن فيودور ميخايلوفيتش كان يُقبِّل أيدي السيدات، وإن حدث ذلك نادرًا، ولم يكن يُعطي لهذا الأمر أي أهمية، فقد كان دائمًا ما يشعر بالغضب إذا ما قبَّل أحدُهم يدي. عندما لاحظ أخي أن مزاج فيودور ميخايلوفيتش قد تغيَّر (وكان مزاج زوجي ينقلب من حال إلى نقيضه على نحوٍ حاد) سارع بالدخول في الحديث عن الجانب العملي للمؤتمر. مرةً أخرى اضطرب «الآسيوى» بشدة وراح يُجيب على الأسئلة وهو ينظر إليَّ مُعظم الوقت دون أن يجرؤ على النظر إلى فيودور ميخايلوفيتش. أذكر جيدًا إجاباته المُهذبة وإن اتَّسمت بالسخافة.

– ألا تعتقد أن الوصول إلى الإسكندرية صعب؟ سألته، وهل هناك تغيير كثير للقطارات؟

– لاتقلقي، آنَّا جريجوريفنا، سوف أُرافقك بنفسي، وإذا شئتِ أستطيع أن أسافر معك في نفس عربة القطار.

– هل يوجد في الإسكندرية فندق محترم بحيث يمكن لامرأةٍ شابة الإقامة به؟ سأله زوجي.

نظر الشاب إليه بفرحٍ وصاح بحماس: إذا أرادت آنَّا جريجوريفنا، فباستطاعتي أن أقيم معها في نفس الفندق، رغم أنني كنتُ أنوي الإقامة عند أحد رفاقي.

– آنيا، هل سمعتِ؟ الشاب موافق على الإقامة معك؟ يا للروعة! صاح فيودور ميخايلوفيتش بصوت عالٍ وضرب المائدة بكل قوته. سقط كوب الشاي على الأرض وتهشَّم. هُرعت ربة البيت لتُمسك بقوة المصباح المُشتعل الذي راح يهتز من قوة الضربة، بينما انتفض فيودور ميخايلوفيتش من مكانه واندفع صوب المدخل. ألقى معطفه على كتفَيه وهرب.

ارتديتُ ملابسي على عجل وانطلقتُ في أثره: عندما خرجت إلى الشارع شاهدتُ زوجي يسير مسرعًا مُتخذًا الاتجاه المعاكس لمنزلنا. هرولتُ خلفَه حتى تمكنتُ من اللحاق به بعد خمس دقائق. كنتُ ألتقط أنفاسي بصعوبة، ولكنَّني لم أفلح في إيقافه على الرغم من توسُّلاتي له أن يتوقَّف، تخطيتُه مسرعةً وأمسكت بيدي بياقتَي مِعطفه الذي كان مطروحًا على كتفَيه: فيديا، هل جُننت! إلى أين تُسرع؟ هذا ليس طريقنا! قف، أدخل ذراعيك في المعطف، لا يصحُّ ذلك، سوف تُصاب بالبرد!

كان لمظهري المُضطرب أثره على زوجي فتوقَّف وارتدى معطفه. أغلقتُ الأزرار وتأبَّطتُ ذراعَه وأخذته في الاتجاه المعاكس. التزم فيودور ميخايلوفيتش الصمت وقد بدت عليه الحيرة والارتباك.

ما الأمر؟ لعلها الغيرة مرة أخرى. أليس كذلك؟ كنت أنا أيضًا مرتبكةً وأنا أتحدث؛ هل تظن أنني نجحت خلال بضع دقائق أن أقع في هوى «الآسيوي الفظ»، وهو أيضًا أُغرِم بي، وأننا عقدنا عزمَنا على الهروب معًا؟ أهذه هي الحقيقة؟ ألا تشعر بالخجل؟ هل صحيح أنك لا تُدرك أنك تسيء إليَّ بغيرتك هذه؟ إننا متزوِّجان منذ خمس سنوات وأنت تعلم كم أُحبك، كم أُقدِّر سعادتنا الزوجية، ومع ذلك فأنت حريص على الغيرة من أول من تُقابله، وتضع نفسك بذلك وتضعني في موقف مُضحك!

اعتذر زوجي وراح يُبرر موقفه ووعدني أنه لن يستسلم لغيرته بعد ذلك. لم أستطع أن أظلَّ طويلًا غاضبة: كنت أعلَم أنه لا يستطيع أن يتمالك نفسه عندما تجتاحه سورة الغيرة. رحتُ أضحك وأنا أتذكَّر هذا الشاب المتحمِّس ثم غضب فيودور ميخايلوفيتش المفاجئ وفراره. عندما رأى زوجي التحوُّل في مزاجي أخذ هو الآخر يسخَر من نفسه متسائلًا كم من الأشياء حطمها في بيت أخي، وكيف حطم بالمناسبة هذا المتحمِّس المعجَب به.

قضينا مساءً رائعًا. قطعنا المسافة المُتبقية إلى المنزل سيرًا على الأقدام. كان الطريق طويلًا استغرق منَّا ساعةً أو يزيد. ألفَينا أخي في المنزل. فبعد أن رأى فرار زوجي استبدَّ به الخوف، هرول إلينا وكان في شدة القلق عندما لم يجِدْنا في المنزل. ساعة بأكملها قضاها هنا مع هواجِسه المُرعبة، وقد اندهش بشدةٍ عندما رآنا في حالة طيبة. أبقيناه ليحتسي معنا الشاي ورُحنا جميعًا في الضحك ونحن نتذكَّر ما حدث. وعندما سألناه كيف شرح للقوقازي هروبنا المُفاجئ أجاب: عندما سألني ما الذي يحدُث هنا، قلت له: إذا لم تفهم ما حدث فلتذهب إلى الجحيم.

أدركتُ، بعد الذي حدث، أن عليَّ أن أرفض السفر. كنتُ أستطيع بالطبع أن أقنع زوجي بالسفر. ولكنني كنت أعلَم أنه سيظل قلقًا، مُضطربًا. وقد لا يتمالك نفسَه فيتبعني إلى الإسكندرية، وقد تحدُث فضيحة. وعلى أية حالٍ كنَّا بذلك سنُنفق النقود القليلة التي سنحصل عليها عبثًا.

وهكذا انتهت مُحاولتي لكسب بعض المال بالعمل بالاختزال.

٣

العام ١٨٧٢م، مرض فيديوشا عشية عيد الميلاد

وقعت لأُسرتنا هذه الحادثة العجيبة عشية عيد ميلاد العام ١٨٧٢م. كان فيودور ميخايلوفيتش، وهو الأب البالِغ الحنان، يفكر باستمرار في كيفية إدخال السرور على أطفاله. كان مُهتمًّا بشكلٍ خاصٍّ بإعداد شجرة عيد الميلاد؛ ألح عليَّ بضرورة شراء شجرة كبيرة كثيرة الفروع، وراح يُزينها بنفسه (كانت الزينة لدَينا تنتقل من عامٍ إلى آخر)، وقف على كرسي وراح يُثبِّت الشموع ثم وضع «النجمة» في أعلاها.

كانت شجرة عيد الميلاد عام ١٨٧٢م شجرةً شديدة التميُّز: فقد حضر إعدادها ابني الأكبر فيديا «وهو مُدرك لما يدور حوله». أوقدنا زينة الشجرة مُبكرًا. اصطحب فيودور ميخايلوفيتش طفلَيه بشكلٍ احتفالي إلى غرفة الاستقبال. كان الطفلان مُنبهرَين، بطبيعة الحال، بالأضواء وبالزينة وبالألعاب المُحيطة بالشجرة. وزَّع أبوهما عليهما الهدايا، الابنة كان من نصيبها عروسة رائعة وطاقم شاي من اللعب، بينما حصل الابن على مزمارٍ كبير، سرعان ما راح ينفخ فيه، وطبلة. لكنَّ أكثر ما ترك أثرًا كبيرًا على الطفلَين كان الحصانين وقد أخرجهما من صندوق ورقي كبير. حصانان لهما عرفان وذيلان رائعان. وقد ثُبتت إليهما زحافتان كبيرتان. ألقى الطفلان ألعابهما وجلسا في الزحافتَين، بينما راح فيديا الصغير يُمسك بالأعنَّة ويهزُّها وهو يستحثُّ الحصانين. سرعان ما أحسَّتِ الفتاة بالملَل تجاه الزحافة لتعود إلى لعبها. أما الصبيُّ فقد بلغ ذروة التأثُّر فراح يصيح بالحصانين، يضربهما بالعنان، لعلَّه تذكَّر ما كان يفعله الفلاحون الذين كانوا يمرُّون بجوار بيتنا الصيفي في ستاريا روسا. لم نُفلح أن نُبعده عن غرفة الاستقبال ونضعه في فراشه إلا عن طريق الخداع.

جلسنا طويلًا أنا وفيودور ميخايلوفيتش ورُحنا نتذكَّر تفاصيل عيدنا الصغير، وكان فيودور ميخايلوفيتش سعيدًا ربما أكثر من أطفاله. أخلدت إلى النوم في الثانية عشرة، بينما تباهى زوجي بشرائه كتابًا جديدًا اليوم من فولف،٩ وكان يعتزم قراءته ليلًا. لكنَّ هذا لم يحدُث، ففي حوالَي الساعة الواحدة، سمع زوجي بكاءً حادًّا في غرفة الأطفال، وعلى الفور أسرع إلى هناك ليجد طفلَنا وقد احمرَّ وجهه من البكاء وقد أفلت من بين يدي العجوز بروخورفنا وهو يُتمتم بكلمات غير مفهومة (كان عمره آنذاك أقلَّ من عام ونصف، ولم يكن قد أجاد الكلام بعد) استيقظتُ أنا أيضًا على صراخه وهُرعت إلى غرفته. عندما أحسَّ فيودور ميخايلوفيتش أن صراخ فيديا يُمكن أن يوقظ أخته النائمة معه في نفس الغرفة، قرَّر أن يحمله إلى غرفته. وعندما مررْنا بغرفة الاستقبال شاهد فيديا الزحافة على ضوء الشموع، وهنا صمت للحظة ثمَّ مدَّ جسده بكلِّ ما يملك من قوة لأسفل ناحية الزحافة، حتى إن فيودور ميخايلوفيتش لم يستطع الإمساك به فرأى أنَّ من الضروري أن يُجلسه عليها. وعلى الرغم من أن دموعه استمرت في الانهمار فوق خدَّيه، إلا أنه بدأ في الابتسام مُمسكًا بالعنان وراح من جديد يهزُّه وهو يتلمَّظ وكأنه يقود حصانًا حقيقيًّا. عندما بدا أن الطفل قد هدأ تمامًا، أراد فيودور ميخايلوفيتش أن يحمِله إلى حُجرته، لكن فيديا انفجر في بكاء مُرتفع وظلَّ على بكائه حتى أجلسه أباه مرةً أخرى في الزحافة. هنا أدركتُ أنا وفيودور ميخايلوفيتش أن الرعب الذي انتابنا في البداية — خوفًا من أن يكون الطفل قد أُصيب بمرضٍ ما، مما جعلنا نُقرر استدعاء طبيب، على الرغم من تأخُّر الوقت — كان سببه أن خيال الطفل بداهةً كان نشطًا مشغولًا بشجرة عيد الميلاد وباللُّعب، وبهذه المُتعة التي عاشها وهو يجلس في الزحافة. وها هو يستيقظ ليلًا ويتذكَّر الأحصنة فيرغب في الحصول على لُعبته، ولمَّا لم يجد من يُلبي له هذه الرغبة، رفع عقيرته بالصياح حتى يجد من يُحقق له غايته. ما الذي كان علينا أن نفعله: أخيرًا، وكما يُقال، «انتعش» الطفل ورفض العودة إلى النوم. وحتَّى لا يظلَّ ثلاثتنا مُستيقِظين قرَّرنا أن نذهب أنا والمُربية للنوم، بينما يجلس فيودور ميخايلوفيتش مع الصبي، حتى إذا غلبه النعاس حمله إلى فراشه، وهو ما حدث. وفي اليوم التالي اشتكى لي زوجي بمرح ما حدث له البارحة: أوه، كم عذَّبني فيديا طوال الليل! لقد بقيتُ ساعتَين أو ثلاثًا لم أخفض بصري عنه، كنتُ خائفًا أن يقع خارج الزحافة فيُصاب بمكروه. جاءت إليه المُربية مرتَين تُشير له «باي باي» وهو يهزُّ لها يده ثم يعود للبكاء مرةً أخرى. وهكذا جلسنا معًا حوالي خمس ساعات، حتى بدا عليه التعب وراح يميل جانبًا. أمسكتُه فرأيتُ أنه قد غطَّ في نومٍ عميق، عندئذٍ حملته إلى غرفته. وهكذا لم يتسنَّ لي أن أبدأ قراءة الكتاب الذي اشتريتُه. ابتسم فيودور ميخايلوفيتش وقد بدا عليه الرضا التام أن هذا الحادث الذي أخافنا في البداية قد انتهى بسلام.

٤

العام ١٨٧٣م، طبع رواية «الشياطين» وتحريرها، التعارف
بعد أن أنهى فيودور ميخايلوفيتش رواية «الشياطين» ظلَّ لبعض الوقت مُترددًا بشدةٍ فيما عليه أن يفعله الآن. كان العمل في رواية «الشياطين» قد استنفد كل جهده وتركه مُرهقًا إلى حدِّ أنه كان يشعر باستحالة قيامه في الوقت الحاضر بكتابة رواية جديدة. كان إنجاز الفكرة التي تولَّدت لدَيه في الخارج، وهي إصدار «مذكرة الكاتب» في صورة مجلة شهرية، أمرًا تكتنفه المصاعب.١٠ كان الإنفاق على طبع المجلة وعلى الأسرة (ناهيك عن سداد الديون) يتطلَّب موارد كبيرة للغاية، وبالنسبة لنا فقد طرح علينا سؤالًا مُلغزًا: هل ستلقى هذه المجلة نجاحًا كبيرًا، باعتبارها حدثًا لا مثيلَ له حتى الآن في الأدب الروسي، سواء من ناحية الشكل أو المضمون؟ وفي حالة فشل «المذكرة» فسوف نجد أنفسنا في وضع لا نُحسَد عليه.
كان فيودور ميخايلوفيتش في حالة من الحيرة الشديدة، ولم أكن أعرف أي قرارٍ سيتَّخِذ، لو لم يقترح عليه الأمير فلاديمير بتروفيتش ميشيرسكي في هذا الوقت تحديدًا مهمةَ مُحرِّر مجلة «المواطن» الأسبوعية.١١ وكانت هذه المجلة قد تأسَّست منذ عامٍ فقط وصدرت بتحرير ج. ق. جرادوفسكي.١٢ وقد تجمعت حول هيئة تحرير هذه المجلة الجديدة مجموعة من الشخصيات المرموقة ذات الاتجاه الفكري المُشترك، من بينهم: ق. ب. بوبيدونوستسيف، أ. ن. مايكوف ت. إ. فيليبوف، ن. ن. ستراخوف وأ. أ. بوريتسكي،١٣،١٤ ي. أ. بيلوف،١٥،١٦ وكانوا جميعهم مُتعاطِفين مع فيودور ميخايلوفيتش، الذي استمتع كثيرًا بالعمل معهم. كذلك لم تكن إمكانية مشاركة القراء بصورةٍ أكبر في الموضوعات التي تتناول قضيتَي الآمال والشكوك، التي نضجت في عقلِه، أقلَّ متعة وجاذبية من العمل مع هؤلاء الرفاق. وعلى صفحات مجلة «المواطن» استطاع فيودور ميخايلوفيتش أن يُحقق أيضًا فكرة «مذكرة الكاتب» وإن لم تظهر بالشكل الذي قدَّمه فيما بعد.

كانت الأمور تسير على ما يُرام من الناحية المادية. كان المُحرر يتقاضى نظير مسئولياته ثلاثة آلاف روبل، علاوة على أجره مقابل مقاله من «مذكرة الكاتب»، وفيما بعد مقابل المقالات «السياسية». وقد بلغ إجمالي ما كنَّا نتقاضاه حوالي خمسة آلاف روبل في العام. كما كان لحصولنا على مبلغٍ محددٍ شهريًّا جانبه الإيجابي: فقد أتاح ذلك لفيودور ميخايلوفيتش ألا ينشغِل عن مسئولياته بالاهتمام بالحصول على النفقات اللازمة للحياة والتي كانت تؤثر بشكلٍ مرهقٍ على صحته ومزاجِه.

بالإضافة إلى ذلك، لم يُخفِ فيودور ميخايلوفيتش — عندما وافق على العمل مع الأشخاص المُعجَبين به لتولِّي تحرير «المواطن» — أنه يتحمَّل هذه المسئولية مؤقتًا باعتبار العمل هنا إجازةً من العمل الفني، وحتى يتسنَّى له التعرُّف على نحوٍ أكثر قربًا من الواقع اليومي، وأنه سوف يترُك هذا العمل الذي يُخالف شخصيتَه عندما تظهر لدَيه من جديدٍ الحاجة لعمل إبداعي.

يُعد مطلع العام ١٨٧٣م ذكرى مشهودة بالنسبة إليَّ، وذلك بفضل ظهور الطبعة الأولى من رواية «الشياطين» التي أصدرناها معًا. وتُمثل هذه الطبعة أساسًا لعملِنا المُشترك أنا وفيودور ميخايلوفيتش، وبعد وفاته استمرَّ عملي في النشر ثمانية وثلاثين عامًا.

كان أحد آمالنا لإصلاح ظروفنا المالية (وربما كان أهمَّها) هو إمكانية بيع حق نشر رواية «الأبله» أولًا، ثم رواية «الشياطين» بعد ذلك. كان من العسير علينا أن نُدبِّر هذا الأمر أثناء إقامتنا في الخارج؛ ولم يكن سهلًا حتى بعدما عُدنا إلى روسيا وأصبح بمقدورِنا أن نتفاوَض بأنفسنا مع الناشرين. فقد كان كلُّ من تَوجَّهْنا إليهم يعرض سعرًا بخسًا، فعلى سبيل المثال، فقد دفع لنا بائع الكتب أ. ف. بازونوف١٧ مائة وخمسين روبلًا مقابل حقِّ نشر رواية واحدة هي «الزوج الأبدي» (٢٠٠٠ نسخة)، بينما عرضوا خمسمائة روبل فقط مقابل نشر رواية «الشياطين»، ناهيك عن أنَّهم اشترطوا الدفع على دفعاتٍ على مدى عامَين.
كان فيودور ميخايلوفيتش يحلم في شبابه أن يصدر أعماله بنفسه، وقد كتب عن ذلك خطابًا لأخيه،١٨ كما حدَّثني عن ذلك إبَّان إقامتنا في الخارج. وقد جذبت هذه الفكرة اهتمامي أنا أيضًا، وقد حاولتُ أن أتعرَّف شيئًا فشيئًا على جميع شروط نشر الكتب وتوزيعها. وذات يوم، كنتُ أوصي بطبع بطاقات تعارُف باسم زوجي، وتحدثتُ مع صاحب المطبعة وسألته عن شروط إصدار الكتب. فقال لي إن أغلب الكتب يتمُّ دفع تكاليف طبعها نقدًا. أما إذا كان الكاتب ذائع الصيت، تلقى كتبُه رواجًا عند بيعها، فإن أيَّ مطبعةٍ تُعطيه عن طِيب خاطرٍ قرضًا لمدة نصف عام، فإذا لم يتمكَّن خلال هذه المدة من سداد النقود، فإنها تُلزمه بدفع نسبةٍ محددة من قيمة هذا القرض. وبنفس هذه الشروط يُمكن للكاتب الحصول على الورق اللازم للطباعة. وقد أخبرَني أيضًا عن التكلفة الفعلية للطبعة التي اقترحتُها عليه، أي تكلفة الورق والطباعة والتجليد. وبناء على حساباته فإنَّ تكلفة طبع رواية «الشياطين» في حدود ثلاثة آلاف وخمسمائة نسخة، يُمكن أن تصِل إلى حوالي أربعة آلاف روبل. وقد نصحَني صاحب المطبعة أن تُباع نسخة الرواية (في ثلاثة أجزاء) بعد طباعتها بخطٍّ واضح وعلى ورقٍ مصقول بما لا يقلُّ عن ثلاثة روبلات ونصف الروبل. ويتم خصم حوالَي ثلاثين بالمائة من إجمالي ثمن البيع البالِغ اثني عشر ألفًا ومائتين وخمسين روبلًا لبائعي الكتب، آخِذين في الاعتبار في هذه الحالة أيضًا بعض النفقات الأخرى. فإذا تم بيع الرواية بنجاح فإننا نحصل على صافي ربحٍ مجزٍ.
في ذلك الزمن لم يكن هناك أحدٌ من الكُتاب يتولَّى طبع مؤلَّفاته بنفسه، فإذا ما ظهر من لدَيه الشجاعة على ذلك، فعليه أن يتحمَّل الخسارة ثمنًا لهذه الشجاعة. كان هناك عددٌ من دور النشر: بازونوف، فولوف، إيساكوف١٩ وغيرها، تشتري حق نشر الكتب وطبعها وتوزيعها في كافة أنحاء روسيا. أما الكتب التي تنشرها الهيئات العلمية أو الأفراد فيتولَّى باعة الكتب تخزينها أو بيعها مقابل نسبةٍ تبلُغ خمسين بالمائة بحجةِ أنهم يقومون بتخزينها والإعلان عنها (وهو ما كانوا يفعلونه بتقتير بالِغ) وفي كثير من الأحيان يكون الجزء الذي يُرَد منها للناشر في حالة سيئة.

لمَّا كنت راغبة في إصدار رواية «الشياطين»، فقد حاولتُ أن أسأل في محال الكتب عن النسبة التي يحصلون عليها مقابل بيع الكتب، وهناك كنتُ أحصل على شتَّى الإجابات: البعض يقول إن العمولة تتوقف على الكتاب، وبعض الباعة يحصلون على «من أربعين إلى خمسين بالمائة» وأحيانًا أكثر. وذات مرةٍ كنت أشتري لزوجي كتابًا ثمنُه ثلاثة روبلات، وعندئذٍ رحتُ أختبر البائع فطلبتُ شراءه مقابل روبلين، بحجة أنهم أنفسهم يحصلون على خمسين بالمائة، وعليه فإن الكتاب لا يُكلفهم سوى روبل ونصف. امتعض البائع من اقتراحي وقال إنه لا يحصل إلَّا على «من عشرين إلى خمسةٍ وعشرين بالمائة» وعلى ثلاثين بالمائة من بعض الكتب؛ بشرط أن تكون الكمية المُشتراة من هذه الكتب كبيرة. وقد اكتشفتُ من خلال هذه الاستفسارات، ما هي النسبة التي ينبغي دفعها لبائع الكتب لعددٍ مُعين من النُّسَخ.

وعندما أخبَرْنا عددًا من معارفنا وأصدقائنا برغبتنا في نشر الرواية، سمِعْنا العديد من الاعتراضات والنصائح وتحذيرنا من التورُّط في مشروع لا نعلَم عنه شيئًا، وقد تؤدِّي قلة خبرتنا فيه إلى هلاكنا، وعندها سنُضيف إلى ديوننا القديمة بضعةَ آلافٍ جديدة. لكن هذه الاعتراضات لم تفُتَّ في عضدنا وقرَّرنا أن نضع فكرتنا موضع التنفيذ.

حصلنا على ورق الطباعة من شركة فارجونين،٢٠ وكانت وما تزال تمتلك أفضل مصنع لإنتاج الورق الناعم، أعطيناه لمطبعة زاميسلوفسكي٢١ للطباعة، التي انتقلت ملكيتها آنذاك إلى عائلة البارون بانتيلييف.٢٢ مرَّت نهاية عام ١٨٧٢م وبداية العام التالي وقد كرَّسنا فيها اهتمامنا بالكتاب؛ قرأت التصحيحَين الأول والثاني، بعدَها قام فيودور ميخايلوفيتش بمراجعة النص في صورته النهائية.

في الأيام العشرة الأخيرة تقريبًا من شهر يناير تمَّ تجليد الكتاب وأُرسِل إلى بيتنا جزءٌ منه. كان فيودور ميخايلوفيتش سعيدًا للغاية بمظهر الكتاب، وأنا أيضًا كنتُ معجبةً به. عشية صدور الكتاب أخذه فيودور ميخايلوفيتش ليعرِضَه على واحدٍ من أشهر بائعي الكتب (كان زبونا دائمًا عنده) أملًا في أن يُبدي الرجل رغبتَه في شراء عددٍ من النُّسَخ. قلَّب بائع الكتب الكتاب بين يدَيه وقال: حسنًا، أرسِل لي مائتي نسخةٍ لأبيعها مقابل عمولة.

– وكم تبلغ؟ سأله زوجي.

– لا أقل من خمسين (بالمائة).

لم يُجب فيودور ميخايلوفيتش وعاد حزينًا إلى المنزل ليقصَّ عليَّ نبأ سوء الحظ الذي صادَفَه. كنت قلقةً أنا أيضًا، أما اقتراح بائع الكتب أن يأخُذ مائتي كتابٍ مُقابل هذه العمولة فلم يرُقْني إطلاقًا؛ كنتُ أعلم أنه حتى لو باع هذه الكتب فإننا لن نحصل على نقودنا منه إلَّا بعد مرور وقتٍ طويل.

كان الثاني والعشرين من يناير عام ١٨٧٣م يومًا مشهودًا في حياتنا. في هذا اليوم ظهر إعلاننا في صحيفة «جولوس»٢٣ («الصوت») حول صدور رواية «الشياطين». وفي العاشرة صباحًا وصلَنا مندوب من محل كتب بوبوف٢٤ الواقع بالقرب من شارع الباساج. خرجت من غرفتي إلى المدخل وسألتُه عما يريد.

– لقد ظهر إعلانكم في الصحيفة ولذلك جئتُ لأطلب عشرَ نُسَخ. أحضرت الكتب وأنا أشعر ببعض القلق وقلتُ له: سعر النسخ العشر خمسة وثلاثون روبلًا، عمولتكم عشرون بالمائة، فيكون المطلوب منكم ثمانية وعشرون روبلًا.

– أليست قليلة؟ ألا يُمكن جعلُها ثلاثين بالمائة؟ قال المندوب.

– لا.

– حسنًا، ولو خمسًا وعشرين بالمائة؟

– الحقيقة، لا يُمكن، قلتُ له ذلك وأنا في شدة الاضطراب؛ ولو أنه انصرف لكنتُ قد أضعتُ بذلك أول مشترٍ.

– إذا لم يكن مُمكنًا فإليكِ النقود. وإذا به يُعطينيها.

كنت في غاية السعادة حتى إنني أعطيتُه ثلاثين كوبيكًا مقابل الانتقال. لم يَمضِ وقتٌ طويل حتى جاء صبيٌّ من أحد محال بيع الكتب في مدينةٍ أخرى وقد اشترى عشرَ نسخٍ أيضًا بعمولة عشرين بالمائة، بعد أن ساومني هو الآخر. وقد أراد المندوب الذي أرسلَه محل كتب جلازونوف٢٥ أن يأخذ خمسًا وعشرين نسخة، إذا تنازلتُ عن نسبة خمسةٍ وعشرين بالمائة؛ ونظرًا لحجم الطلب فقد اضطررتُ للتنازُل. وقد حضر عددٌ آخر من الناس، أخذ كلٌّ منهم عشر نُسَخ وقد لجئوا جميعهم للمساومة، ولكنني لم أتنازل لأكثر من عشرين بالمائة. وفي حوالي الساعة الثانية عشرة وصل مندوب يرتدي ملابس مُهندمة ويعمل لدى بائعِ كتبٍ من معارف فيودور ميخايلوفيتش، وأعلن أنه جاء للحصول على عشرين نسخة مُقابل نسبة مئوية. أجبتُه، وقد امتلأتُ حماسًا من أثر النجاح الذي أحرزتُه في البيع في الصباح. إنني لا أبيع بالعمولة وإنما نقدًا.

– كيف؟ لقد وعدنا فيودور ميخايلوفيتش أن نوفد له شخصًا ليحصُل على الكتب مُقابل عمولة وقد جئتُ بناءً على ذلك.

أخبرتُه أن زوجي يُصدر الكتب بينما أتولَّى أنا بيعها، وأن هذا وذاك من بائعي الكتب يدفعون لنا ثمن الكتب نقدًا.

– وهل بإمكاني أن أُقابل فيودور ميخايلوفيتش «نفسه»، قالَها المندوب وهو يُعوِّل، بداهة، على تنازُل زوجي.

– فيودور ميخايلوفيتش يعمل ليلًا، وأنا لا أستطيع إيقاظَه قُبَيل الثانية.

طلب منِّي المندوب أن أُعطيه عشرين نسخة و«سوف ندفع لفيودور ميخايلوفيتش».

وبرغم ذلك ظللتُ على موقفي المُتشدِّد بعد أن شرحتُ له أنَّ أيَّ نسبةٍ نُقدمها في مقابل كميةٍ معلومة، كما أخبرتُه أن ما تبقَّى لدَينا من النسخ لا يتجاوز خمسمائة نسخة وسوف تباع اليوم وفقًا لحساباتي. وقف المندوب برهةً مترددًا ثم عاد أدراجَه بِخُفي حنين، وبعد ساعة جاء من عندهم مندوب آخَر يرتدي ملابس أكثر بساطةً واشترى خمسين نسخةً نقدًا مع خصم ثلاثين بالمائة.

كنتُ متلهفةً بشدة أن أشارك فيودور ميخايلوفيتش سعادتي، ولكن كان عليَّ أن أنتظر حتى يخرج من غرفته.

بالمناسبة، فقد كان هناك شيء غريب في شخصية زوجي: فعندما يستيقِظ من النوم، يبدو وكأنه ما زال تحت تأثير الأحلام والكوابيس الليلية التي تُعذِّبه أحيانًا في نومِه فيظلُّ صامتًا تمامًا ولا يُحب أن يتحدث معه أحد في هذه الفترة. ولهذا اعتدتُ على ألَّا أُزعجه صباحًا (طالما لا توجَد هناك أسباب قهرية للحديث)، وإنما أنتظر حتى يحتسي قدحَين ساخنَين للغاية من القهوة ثم ينتقل إلى حجرة مكتبه. وعندئذٍ أتبعه إلى هناك لأُخبره بكل الأنباء، السارِّ منها والمُحزن. في هذا الوقت يكون فيودور ميخايلوفيتش قد وصل لذروةِ مزاجه الحسن: فيُبدي اهتمامًا بكل شيء، ويسأل عن كلِّ شيء، يُنادي الأطفال، يُمازحهم ويُلاعبهم وهو ما حدث صباح اليوم، أما أنا فجلستُ في مكاني المُعتاد بالقُرب من مكتبه، بعد أن أرسلتُ بالأطفال إلى غرفتهم. ولمَّا رآني فيودور ميخايلوفيتش صامتةً نظر إليَّ مبتسمًا ابتسامةً ساخرة وسألني: حسنًا. أخبريني إذن يا أنيتشكا كيف تسير تجارتنا؟

– على نحو رائع، أجبتُه بنفس النبرة.

– لعلكِ نجحتِ في بيع نسخة واحدة؟

– ليست نسخةً واحدة، وإنما مائة وخمسين بعتُها.

– معقول؟! حسنًا، أُهنئك إذن! واصل فيودور ميخايلوفيتش حديثَه ساخرًا، مُتصورًا أنَّني أمزح.

– فلتعلَم أني أقول الحق، رُحت أحاصِره، ما قولك؟ ألا تُصدقني؟

ثم أخرجت من جيبي قائمة سجلتُ فيها كمية النسخ المباعة، وإلى جانب القائمة رزمة من الأوراق المالية قيمتها حوالي ثلاثمائة روبل. ولمَّا كان فيودور ميخايلوفيتش يعلم أن ما لدَينا من نقودٍ بالمنزل قليل، فإن المبلغ الذي عرضتُه عليه كان كفيلًا بإقناعه أنَّني لا أمزح. وبدءًا من الساعة الرابعة بعد الظهر توالَى قرع جرس الباب: لقد ظهر مشترون جُدد، بالإضافة إلى الذين جاءوا في صباح نفس اليوم ليحصلوا على احتياطيٍّ جديد. كان واضحًا أن الكتاب قد لاقى نجاحًا كبيرًا، وقد شعرتُ ببهجة نادرًا ما تحدُث لي. كنت سعيدة بطبيعة الحال لحصولي على المال، لكن الأهم أنني وجدتُ لنفسي عملًا شيقًا هو إصدار مؤلَّفات زوجي العزيز، كما كنتُ راضيةً أيضًا أن مشروعنا قد حقَّق هذا القدْر من النجاح على عكس تحذيرات مُستشارينا الأدبيِّين.

كان فيودور ميخايلوفيتش أيضًا راضيًا للغاية وبخاصة عندما أخبرتُه بما قاله لي أحد المندوبين «إن الجمهور يسأل عن الرواية منذ زمنٍ بعيد.» كان فيودور ميخايلوفيتش يُقدِّر دائمًا تعاطف الجمهور تقديرًا رفيعًا، لأن الجمهور وحدَه هو الذي كان يدعمه باهتمامه وتعاطُفه طوال زمن نشاطه الأدبي. وقد لعب النقد الأدبي (باستثناء بيلينسكي ودوبروليوبوف٢٦ وبورينين٢٧ دورًا محدودًا للغاية في ذلك الوقت في إظهار موهبته: فهي إما تجاهلت أعمالَه، وإما تعاملَت معها بعدوانية.٢٨ والآن وقد مضى على وفاة فيودور ميخايلوفيتش ما يزيد عن خمسٍ وثلاثين سنة، ما نزال نُعيد، باستغرابٍ بالغ، قراءةَ هذه الآراء النقدية لأعماله، لنرى إلى أي حدٍّ كانت بالِغة السطحية، لا تتَّسِم بالعُمق، تافهة، تعكس كراهية شديدة للكاتب.
اكتملت سعادتي بزيارة بائع الكتب كوجانتشيكوف٢٩ لنا، وقد عرض علينا شراء ثلاثمائة نسخةٍ فورًا بكمبيالاتٍ تستحقُّ السداد خلال أربعة أشهر. كان عرضًا مُغريًا وبخاصة أنه كان سيأخُذ هذه الكتب لبيعها في الأرياف، وبالتالي لن يُضايق باعة كُتبنا في المدن. أكثر ما أحبَطَني هو أنه سيأخذ الكتب ويُعطينا كمبيالة، وهنا جاءني فيودور ميخايلوفيتش ليتشاور معي في هذا الأمر. لم يكن لديَّ آنذاك فكرة عن الكمبيالات التجارية، ولذلك اقترحت على زوجي أن يأخذ في الحديث مع المُشتري حتى أذهب إلى صاحب المطبعة، الذي يسكن بالقُرب منَّا. ولحُسن الحظ وجدتُ واحدًا من الإخوة بانتيلييف فأشار عليَّ ألَّا أُضيع هذه الصفقة الجيدة، وأكَّد لي أنه يمكن خصم كمبيالات كوجانتشيكوف، وأنه موافق أن يأخُذها باعتبارها سدادًا لديوننا للمطبعة. عدتُ بهذه الأخبار إلى البيت وعلى الفور كتب لنا كوجانتشيكوف (الذي كان يحمِل بصحبته دائمًا دفتر كمبيالات، باعتباره تاجرًا مُحنكًا) ثلاث كمبيالات قيمتها سبعمائة وخمسة وثلاثين روبلًا، وأعطاه فيودور ميخايلوفيتش إيصالًا يتسلَّم به الكتب من المطبعة.

باختصار، فقد بدأ نشاطنا في النشر بداية رائعة. وبنهاية العام كنا قد بعنا ثلاثة آلاف نسخة، أما الخمسمائة نسخة المُتبقية فقد امتدَّ بيعها إلى ما يقرب من عامَين أو ثلاثة. والنتيجة أنه بحساب عمولات بيع الكتب وتسديد كافة المصروفات فقد حصلنا على ربحٍ صافٍ يزيد على أربعة آلاف روبل، ممَّا هيأ لنا إمكانية سداد بعض الديون التي أثقلت كاهلنا طويلًا.

لا أظنُّ أنه قد حدثت لنا بعض الخسائر في المرة الأولى: فقد استغل اثنان أو ثلاثة نصَّابين نقص خبرتي في أعمال النشر، لكن هذه الخسارة علَّمتنا أن نكون أكثر حذرًا وألَّا نستسلِم للعروض البراقة، التي تبدو في ظاهرها رائعة، ثم يتضح بعد ذلك أنها خاسرة.

كانت تسمية الرواية «بالشياطين» سببًا في تسميتها بأسماء مختلفة أخرى من جانب القادمين لشرائها، وذلك عند طلبِها من الفتاة بائعة الكتب. البعض كانوا يُسمونها «القوة العدوانية»، والبعض يقول: «أتينا لشراء الأبالسة»، وآخر يقول: «أعطني عشر نسخ من «الجن».» وحتى مُربيتنا العجوز اشتكت لي، بعد أن استمعت مرارًا لاسم الرواية، مؤكدة أنه منذ أن جلبنا إلى شقَّتنا هذه «الروح الخبيثة» (تقصد «الشياطين») فإن ربيبَها (ابني) أصبح أكثر قلقًا نهارًا وينام أسوأ ليلًا.

عندما بدأ فيودور ميخايلوفيتش عمله مُحررًا في مجلة «المواطن»، شغلَه هذا العمل وما يُحيط عملية التحرير من أمور جديدة عليه تمامًا، إلى جانب هذا الكم المُتنوع من الشخصيات التي تسنَّى له الالتقاء بها في هيئة التحرير. أنا أيضًا كنت مسرورة في البداية لتغيير مهنة زوجي، مُفترضة أن تحرير مجلة أسبوعية لا يُمكن أن يُشكل صعوبة، خاصة وأنه سوف يتيح لفيودور ميخايلوفيتش أن يستريح بعض الوقت بعد عملٍ مضنٍ استمر ثلاث سنواتٍ في كتابة رواية «الشياطين». ولكنني شيئًا فشيئًا، أدركتُ أن زوجي، كما أدرك هو أيضًا ذلك، قد ارتكب، بقبوله هذا العمل غير المُلائم لشخصيته، خطأً كبيرًا. كان فيودور ميخايلوفيتش يُمارس مهام التحرير بضميرٍ مُتقد، فكان يقرأ كافة المقالات التي تصل إلى المجلة؛ فضلًا عن تصحيح المقالات المكتوبة دون إتقان وبعضها من تأليف صاحب المجلة نفسه.٣٠ وكان ذلك يستهلك، بطبيعة الحال، وقتًا وجهدًا كبيرَين. ما زلت احتفظ بمسوَّدتَين أو ثلاثٍ لأشعار مكتوبة بشكلٍ أخرق ولكنها تشي بموهبةٍ كبيرة، وكيف ظهرت هذه الأشعار فيما بعد، على نحوٍ رائع، بعد أن قام فيودور ميخايلوفيتش بتصحيحها وتهذيبها.

وإلى جانب القراءة وتصويب مقالات الآخرين، استحوذت على فيودور ميخايلوفيتش المراسلات التي تجري مع كتَّاب المجلة، وقد ظهر معظمها كما ورد نصًّا، وفي حالة اختصارها أو تعديلها، كان هؤلاء الكتَّاب يرسِلون إليه خطابات حادَّة وأحيانًا وقِحة. لم يكن فيودور ميخايلوفيتش ليقف مكتوفَ الأيدي تجاه مثل هذه الخطابات؛ فكان يردُّ عليها بشكلٍ أكثر حدة. وهو ما كان يعود ليندَم عليه في اليوم التالي. ولمَّا كان الردُّ على هذه الخطابات الحادة يتم عادة عن طريقي، ولِعلمي بأنَّ غضب زوجي سوف يهدأ في اليوم التالي وأنه سوف يندَم على غضبه، فقد كنتُ أحتفظ بالخطابات ولا أُرسِلها على الفور، وفي اليوم التالي، عندما كنتُ أراه يعضُّ إصبع الندم على ردِّه الحاد، كنتُ أخبره أن هذا الخطاب لم يرُسَل «صدفة»، عندها كان فيودور ميخايلوفيتش يكتُب ردًّا وهو في حالةٍ أكثر هدوءًا. وما زلتُ أحتفظ في أرشيفي بأكثر من عشرة خطابات من هذه الخطابات «الغاضبة»، التي كان من المُمكن أن تدفع زوجي إلى نزاعٍ مع أناسٍ لم تكن لدَيه الرغبة إطلاقًا في الشجار معهم، ولكنه، تحت تأثير الملل أو الإرهاق، لم يكن باستطاعته أن يتمالك نفسه فيُعبِّر عن رأيه دون أن يضع في اعتباره غرور مراسِلِه. كان فيودور ميخايلوفيتش دائمَ الامتنان لي على تلك الخطابات التي لم ترسَل بالصدفة.

كم مرةٍ اضطُر فيها فيودور ميخايلوفيتش أن يُجري مباحثات شخصية، رغم وجود سكرتير لهيئة التحرير يُدعى فيكتور فيوفيليفيتش بوتسيكوفيتش.٣١ لكنَّ أغلب العامِلين في المجلة كانوا يرغبون في الحديث معه، وقد حدثَ كثيرٌ من سوء الفهم. ولمَّا كان فيودور ميخايلوفيتش صادقًا في حديثه وتصرُّفاته، يُعبر عن رأيه دون مواربة، فقد خلق له ذلك أعداءً في عالَم الصحافة!
وبالإضافة إلى الأضرار المادية، فقد تحمَّل فيودور ميخايلوفيتش العديد من الأضرار النفسية أيضًا إبَّان عمله مُحررًا لمجلة «المواطن»؛ إذ إن الأشخاص الذين لم يكونوا مؤيدين لاتجاه المجلة، أو الذين كانوا كارهين للأمير ميشيرسكي شخصيًّا، نقلوا كراهيتهم وأحيانًا حقدهم نحو دستويفسكي. وقد ظهر له عددٌ كبير من الأعداء حتى في مجال الأدب، باعتباره مُحررًا لهذه المجلة المحافظة.٣٢

الغريب أن كثيرًا من هؤلاء استمروا على كراهيته قبل وبعد وفاته، ولم يستطيعوا أن يغفروا له تحريرَه لمجلة «المواطن». وما تزال آراؤهم الكارهة له تظهر في الصُّحف حتى الآن.

في بداية عمله الجديد ارتكب فيودور ميخايلوفيتش هفوة. فقد استشهد في «المواطن» (في مقالة الأمير ميشيرسكي «نواب من قيرغيزيا في سان بطرسبورج») بكلماتٍ للإمبراطور كان قد وجَّهها للنواب.٣٣
ووفقًا لقواعد الرقابة المعمول بها آنذاك، كان ممنوعًا نشر خُطب أعضاء الأسرة الإمبراطورية؛ فضلًا عن الإمبراطور ذاته، إلا بعد الحصول على تصريح وزير البلاط الإمبراطوري، وكان زوجي لا يدري شيئًا عن هذا البند من القانون. وقد تمَّ استدعاؤه إلى المحكمة دون مُحامين. انعقدت المحكمة في الحادي عشر من يونيو عام ١٨٦٣م في محكمة إقليم سان بطرسبورج.٣٤ ظهر فيودور ميخايلوفيتش شخصيًّا هناك، وقد اعترف بطبيعة الحال، بخطئه وحُكم عليه بغرامة قدرُها خمسةٌ وعشرون روبلًا، والحبس يومَين في المخفر الرئيسي.٣٥ كان زوجي قلقًا لعدم معرفته متى عليه أن يقضي العقوبة، وكذلك لأن ذلك عطَّله عن اللحاق بنا في روسا. وإبَّان اعتقاله تسنَّى له أن يتعرَّف على رئيس محكمة إقليم سان بطرسبورج آنذاك أناتولي فيودورفيتش كوني،٣٦ الذي بذل قصارى جهده حتى يتم حبس زوجي في أصلح مكانٍ ملائم له. ومنذ هذا اليوم نشأت بين كوني وبين زوجي علاقة صداقة وطيدة استمرت حتى وفاته.٣٧
كان علينا أن ننتقل إلى شقة أخرى حتى نعيش بالقُرب من هيئة تحرير مجلة «المواطن»، فانتقلنا لنسكن في شارع ليموفسكايا، عند ناصية حارة جوسيف، في بيت سليفتشانسكي. لم يكن اختيارنا لهذه الشقة مُوفقًا. كانت الغرف ضيقة وموزعة توزيعًا غير مُريح لنا. وحيث إننا انتقلنا في منتصف فصل الشتاء، فقد اضطُررنا أن نستسلِم للعديد من الأمور التي لا تبعث على الارتياح. أحد هذه الأمور هو شخصية صاحِب البيت المُضطربة. كان عجوزًا غريب الأطوار تسبَّبت نزواته لي ولزوجي في إساءات كبيرة. ورد ذكرُها في خطاب فيودور ميخايلوفيتش لي المؤرَّخ التاسع عشر من أغسطس.٣٨
في ربيع عام ١٨٧٣م سافرتُ مع الأطفال إلى ستاريا روسا، بناء على نصيحة الأطباء، وذلك لاستكمال علاجهم بالمياه المالحة الذي كنَّا بدأناه في العام الماضي، والذي كان له عليهم تأثير ملحوظ. لم نُقِم هذه المرة لدى الأب روميانتسيف، إذ جرى تأجير البيت لآخَرين، وإنما في بيت العقيد ألكسندر كارلوفيتش جريبي٣٩ وكان موجودًا في الخدمة في إدارة الإسكان العسكري منذ زمن أراكتشييف.٤٠

كان الفراق عن الأسرة أمرًا قاسيًا بالنسبة لفيودور ميخايلوفيتش، وكان يشعر بالوحشة الشديدة، ولذلك جاء إلينا في ستاريا روسيا أربع مراتٍ خلال فصل الصيف. وقد اضطُر أن يتحمَّل كافة المسئوليات المالية للمجلة أثناء غياب الأمير ميشيرسكي، ناهيك عن تحمُّله العيش في العاصمة طوال أشهر الصيف الحارة في بطرسبورج وما يُصاحبها من مضايقات.

كان للظروف التي ذكرتُها سابقًا أثر بالِغ السوء على أعصاب فيودور ميخايلوفيتش وخاصة على صحته، وهو ما جعله في خريف ١٨٧٣م يتذمَّر من عمله كمُحرر ويحلم بأن يعود ليجلس مرةً أخرى ليُمارس عمله الإبداعي الخالِص.

في عام ١٨٧٣م اختير فيودور ميخايلوفيتش عضوًا في جمعية مُحبي التعليم الديني، وكذلك عضوًا في جمعية بطرسبورج الخيرية السلافية.٤١ وقد بدأ يتردَّد على اجتماعات ولقاءات هاتَين الجمعيتَين. اتسعت دائرة معارفنا وأصبح أصدقاء زوجي ومعارفه يتردَّدون علينا أكثر فأكثر. وبالإضافة إلى ستراخوف الذي ظلَّ لعدة سنواتٍ يتناول طعام الغداء معنا كل أحد، وكذلك أبوللون مايكوف، الذي كان كثيرًا ما يزورنا في هذا الشتاء، بدأ فلاديمير سيرجييفتش سولوفيوف٤٢ — وكان ما يزال في عنفوان الشباب، وقد أنهى تعليمَه لتوِّه — زياراته إلينا.٤٣

في البداية كتب خطابًا لفيودور ميخايلوفيتش، الذي دعاه لزيارتنا. ترك سولوفيوف آنذاك أثرًا طيبًا على زوجي، وكان كلما ازداد لقاءً به وتناول معه شتَّى الأحاديث، ازداد حُبًّا وتقديرًا لعقله وتعليمِه الرفيع. وذات مرة أخبره زوجي عن السبب وراء مودته الشديدة له.

– إنك تذكِّرني بشدة بشخصٍ ما، قال زوجي له، يُدعي شيدلوفسكي،٤٤ كان له أثر عظيم عليَّ في شبابي،٤٥ إنك تشبهه شبهًا كبيرًا شكلًا وموضوعًا، حتى يُخيل لي أن روحه قد انتقلت لتستقر بداخلك.

– وهل مات منذ زمن بعيد؟ سأله سولوفيوف.

– لا، منذ أربع سنوات فقط.

– وهل كنت تظن أنني على مدى عشرين عامًا قبل وفاته كنتُ أعيش بلا روح؟! سأله فلاديمير سيرجييفيتش وانفجر في الضحك. كان في معظم الأحوال مرحًا. تنتقل إليه سريعًا عدوى الضحك. وأحيانًا ما تقع له أحداث طريفة بسبب ما ينتابه من شرود. على سبيل المثال، كان فلاديمير سيرجييفيتش يعلم أن زوجي قد تجاوز الخمسين من العمر، من ثم اعتبر أنني، زوجته، لا بد وأن أكون في نفس العمر تقريبًا. وها هو ذات مرة ونحن نتحدَّث عن رواية بيسميسكي٤٦ «الأربعينيون»، يتوجَّه إلينا بالحديث قائلًا: وأنتما، باعتباركما من الأربعينيين، قد ترَون أن … وهلمَّ جرًّا.

وعندما نطق بهذه الكلمات ضحك فيودور ميخايلوفيتش وقال لي مشاكسًا: هل تسمعين يا آنيا؟ فلاديمير سيرجييفيتش يعدُّك من الأربعينيات!

– الرجل لم يُخطئ، أجبته، فقد ولدت في السادس والأربعين وثمانمائة وألف.

شعر سولوفيوف بالخجل الشديد للخطأ الذي ارتكبه؛ وهنا فقط، للمرة الأولى ينظر إليَّ ليتعرَّف على الفارق الكبير في العمر بيني وبين زوجي. وقد ذكر فيودور ميخايلوفيتش في حديثه عن وجه فلاديمير سولوفيوف أنه يُذكِّره بلوحة من لوحات أنيبال كاراتشي٤٧ المُحببة إليه واسمها «رأس المسيح الشاب».
تعود معرفة فيودور ميخايلوفيتش بيوليا دنيسوفنا زاسيتسكايا٤٨ ابنة الفدائي دنيس دافيدوف٤٩ إلى عام ١٨٧٣م. وكانت قد أسَّست لتوِّها أول ملجأ في بطرسبورج (يتبع السرية الثانية في فوج إسماعيلوفسكي) وقد دعت فيودور ميخايلوفيتش عن طريق سكرتير تحرير مجلة «المواطن» في يومٍ مُحدَّد لمشاهدة الدار التي بنتها للمشرَّدين. كانت يوليا زاسيتسكايا من أتباع الطائفة الريدستوكية،٥٠ وقد حضر فيودور ميخايلوفيتش عدة مرات المناقشات الدينية لريدستوك٥١ وغيرهم من المُبشِّرين لهذا المذهب.
كان فيودور ميخايلوفيتش يُقدر فكر وطيبة ي. د. زاسيتسكايا الشديدة تقديرًا رفيعًا، كان يزورها أحيانًا ويُراسلها أحيانًا أخرى.٥٢

وقد زارتني هي أيضًا وتعاملتُ معها وكانت سيدة غاية في الطيبة والرقة، شاركتني أحزاني عندما توفي زوجي.

في عام ١٨٧٣م كنا نزور آل كاشبيريف:٥٣ وكان فاسيلي كاشيبيرىف، رأس العائلة، يُصدر مجلة «الفجر»، بينما كانت زوجته صوفيا سيرجييفنا٥٤ تصدر وتحرر مجلة أطفال تُسمى «أمسيات عائلية». كان الزوجان يحملان لنا مشاعر طيبة للغاية، وكان فيودور ميخايلوفيتش يُحب زيارتهم. في عام ١٨٧٣م أقام الزوجان أمسية شيقة شارك فيها الكاتب الشهير ألكسي بيسيمسكي، قرأ فيها روايته «البورجوازيون الصغار» التي لم تكن قد نشرت بعد. لم يترك بيسيمسكي انطباعًا قويًّا لديَّ: كان يبدو لي رجلًا سمينًا أخرق، لكنه قرأ روايته بشكلٍ رائع، استطاع بمهارة أن يُميز خلالها أنماط أبطالها.
وفي عام ١٨٧٣م أيضًا جدَّد فيودور ميخايلوفيتش صداقته القديمة بعائلة شتاكينشنايدر٥٥ والتي كانت يلينا أندرييفنا٥٦ بمثابة القلب النابض لها، وهي ابنة المعماري الشهير شتاكينشنايدر.٥٧ كانت امرأة ذكية ومثقفة وكانت تجمع في بيتها كل أحدٍ جمعًا من الأدباء والفنانين. كانت تعامل فيودور ميخايلوفيتش برقةٍ وطيبة بالِغَين. وقد بادلناها نفس المشاعر. بالمناسبة كنتُ من النادر في هذه السنوات أن أذهب إلى المناسبات الاجتماعية، إذ كان أطفالي ما يزالون صغارًا وكان من الخطر تركهم في رعاية المُربية.
كان فيودور ميخايلوفيتش يشعر بالأسى الشديد بسبب قسوة الظروف التي أعيشها في المنزل، وفي شتاء عام ١٨٧٣م أصر على أن أنتهز الفرصة المتاحة لأحصل على اشتراكٍ لمشاهدة الأوبرا الإيطالية التي كان يُغني فيها مُغنون متميزون مثل باتي٥٨ وفوليبين٥٩ وكالتسولاري٦٠ وسكالكي٦١ وإيفراردي٦٢ وغيرهم. كان مكاني في الشرفة في مواجهة الثُّريَّا الضخمة مباشرة، وكنتُ أرى ما يحدث على الجانب الأيمن من خشبة المسرح فقط، وأحيانًا لا أرى سوى الأقدام، بل كنتُ أحيانًا أسأل جارتي: «من الذي يرتدي الحذاء الأصفر الضخم أو الحذاء الوردي؟» ولكن على الرغم من أن المكان لم يكن مريحًا، فإنه لم يمنعني من الاستمتاع بالأصوات الرائعة للفنانين٦٣ كما أنني لم أكن قلقةً على الأطفال، حيث كان فيودور ميخايلوفيتش في هذه الأمسيات يظلُّ بالبيت، فيُهرع إليهم بمجرد سماعه أي صوتٍ أو بكاء ليطمئنَّ على أنَّ كل شيءٍ على ما يُرام.
١  الجنرال ميفيس: صاحب البيت الذي عاش فيه دستويفسكي عام ١٨٧٢م.
٢  استُقبلت رواية «الشياطين» باستهجانٍ تامٍّ سواء من جانب الصحافة اللليبرالية أوالديمقراطية. وقد ظهرت الانتقادات الحادة في مجلة «سيانيا» («الضياء») (١٨٧٣م، الجزء الأول) وكذلك في صحف «بيريجيفيي فيدوموستي» (١٨٧٢م، العدد ٨٣)، «نوفوي فريميا» (١٨٧٣م، العدد ٦١)، «جولوس» (١٨٧٣م)، العدد ١٨). ظهرت المقالات والآراء، كما ظهر الهجاء والهجوم على مقالة «بخصوص المعرض» في الصحف الديموقراطية؛ «ديلو» و«إيسكرا»، كانت أشهرها مقالات د. مينايف («ديلو»، ١٨٧١م، العدد ١١) وب. تكانثيف («المرضى»، «ديلو»، ١٨٧٣م (العددان ٣-٤).) وحتى صحيفة «روسكي مير» («العالم الروسي») ذات التوجُّه الرجعي، جمعت في مقالاتها بين ما هو مناصر للجوانب المتحيزة للرواية (ف. ج. أفسينكو) وبين توجيه اللوم لدستويفسكي لافتقار العمل إلى الحرفية الفنية والإطالة و «الجنوح إلى الخيال» («روسكي مير»، ١٨٧٢م، العدد ٣١٥؛ ١٨٧٣م، العدد ٥). صحيح أن أفسينكو خفف من حدة ملاحظاته النقدية بشكل ملحوظ في مقالته: التوجه النفسي الاجتماعي في الرواية. «البشير الروسي»، ١٨٧٣م، العدد ٨. في حين اكتسبت مقالات ف. ب. بورينين في «وقائع سان بطرسبورج» نبرةً أكثر لينًا وتحفُّظًا، ١٨٧٢م، العدد ١٥، ٣٤٥؛ ١٨٧٣م، العددان ٦، ١٣ (عن بورينين انظر [الجزء السادس، العامان ١٨٧٢-١٨٧٣م، التعليق رقم ٢٨]). تجدُر الإشارة إلى أن النقد الليبرالي زاد من حدَّة هجومه على رواية دستويفسكي: وإذا كان هذا النقد قد صبَّ لعنته عليه، إلا أنه، في الواقع، قد أحجم عن تحليلها. المقالة الوحيدة التي تميَّزت بنبرةٍ موضوعية وهادئة والتي قامت بتحليل «الشياطين» تحليلًا منطقيًّا في خضم الجدل المُحتدِم حول الرواية في الأعوام ١٨٧١–١٨٧٣م، كانت مقالة ن. ك. ميخايلوفسكي «ملاحظات أدبية وصحفية» وذلك في «حوليات الوطن»، ١٨٧٣م، العدد الثاني، انظر كتاب زاموتين، ص١٣١–١٦٧، حيث جرى جمع الآراء التي وردت في المجلات والصحف الدورية عن «الشياطين»، انظر أيضًا [الجزء السادس، العامان ١٨٧٢-١٨٧٣م، التعليق رقم ١١].
٣  نيكولاي بتروفيتش سيميونوف (١٨٢٣م–؟): كاتب، رجل دولة، أخو ب. ب. سيميونوف تيان-شانسكي.
٤  تعرف دستويفسكي، كما يبدو، على الكاتب والصحفي نيكولاي بتروفيتش سيميونوف من خلال أخيه، الرحَّالة الشهير ب. ب. سيميونوف — تيان — شانسكي، وقد كان على معرفة قريبة منه قبل ذلك في الأربعينيات في جماعة بتراشيفسكي ثم التقى به مرةً أخرى في المَنفى في مدينة سيميبالاتينسك. كان ن. ب. سيميونوف عضوًا في هيئة تحرير مَعنية بكتابة قانونٍ للفلاحين وقد تسنَّى له، على الأرجح، أن يتحدَّث مع دستويفسكي في هذا الموضوع.
٥  نيكولاي سميونوفيتش شافرانوف (١٨٤٤–١٩٠٣م): عالم غابات، أستاذ بمعهد بطرسبورج للغابات. انظر الخطاب المؤرَّخ ١٧ يوليو ١٨٧٢م (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
٦  المنطقة الغربية: جزء من الإمبراطورية الروسية في القرنين ١٩-٢٠ تشمل محافظات بيلاروسيا وليتوانيا وأوكرانيا. (المترجم)
٧  فريدريك شوبان (١٨١٠–١٨٤٩م) موسيقار بولندي وعازف بيانو. (المترجم)
٨  إيليا يفيموفيتش ريبين (١٨٤٤–١٩٣٠م): رسام روسي شهير. من أهم أعماله «نوتية نهر الفولجا» و«إيفان الرهيب وابنه». (المترجم)
٩  مافريكي أوسيبوفيتش فولف (١٨٢٦–١٨٨٣م): ناشر وبائع كتب وصاحب مطبعة في بطرسبورج.
١٠  يُصرِّح دستويفسكي نفسه في خطابيه إلى أ. ي. فرانجيل المؤرَّخ الثامن من نوفمبر ١٨٦٥م وإلى صوفيا إيفانوفا المؤرَّخ التاسع والعشرين من سبتمبر ١٨٦٧م أن فكرة إصدار «مذكرة الكاتب» كانت تراوِده قُبَيل سفره إلى الخارج (انظر: الخطابات، المجلد الأول، ص٤٢٤؛ المجلد الثاني، ص٤٤).
١١  بدأ ف. ب. ميشيرسكي في إصدار الصحيفة/المجلة الأسبوعية «المواطن» عام ١٨٧٢م؛ وفي نهاية العام قرَّر أن يدعو دستويفسكي للعمل بالصحيفة/المجلة باعتباره مُحررًا. في الخامس عشر من ديسمبر عام ١٨٧٢م تم رفع التماس لتعيين دستويفسكي مُحررًا بمجلة «المواطن»؛ إذ إن دستويفسكي كان معروفًا بأنه «مجرم سياسي» سابق، وكان موضوعًا تحت الرقابة السرية للشرطة. وقد قدم ميشيرسكي هذا الالتماس بنفسه إلى كلٍّ من مدير ورئيس القسم الثالث ب. أ. شوفالدف وأ. ف. شولتز (انظر مقال ر. كانتور «معلومات جديدة عن دستويفسكي»، «البشير الأدبي»، ١٩٢١م، العدد ١١؛ ومقال ي. ج. أوكسمان «دستويفسكي في هيئة تحرير «المواطن».» في كتاب: «إبداع دستويفسكي»، أوديسا، ١٩٢١م). جاءت موافقة دستويفسكي على العمل في تحرير المواطن «بسبب الوضع المالي المتردِّي للكاتب، كما كتبت بعد ذلك آنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا؛ فضلًا عن رغبة دستويفسكي الشديدة في الانخراط المباشر في الصراع الأدبي والسياسي. كان دستويفسكي مدفوعًا بالرغبة في إمكانية أن يشارك بكتابة مقالاته وهو يشغل أكبر منصبٍ في المجلة. كان قرار دستويفسكي — مؤلِّف رواية «الشياطين» (التي اعتبرها النقد الديمقراطي وحتى الليبرالي بمثابة طعنٍ وهجاءٍ للحركة الثورية وللشباب المعاصر) أن يُصبح محررًا لأكثر الدوريات الأسبوعية رجعيةً، والتحالف مع الكاتب ميشيرسكي عدو التقدُّم، الذي راح يُدافع بكل صلابةٍ عن المزايا الإقطاعية والارستقراطية، العدو اللدود للإصلاحات، من وجهة نظر كلِّ صحف بطرسبورج تقريبًا — انتقالًا طبيعيًّا لدستويفسكي إلى المعسكر الرجعي. كان دستويفسكي يأمُل بمجرد تسلُّمه العمل محررًا «للمواطن» أن يحصل على الحرية والاستقلال الكاملَين في العمل. لكنه راح يعضُّ إصبع الندم على ضياع آماله بأسرع مما كان يتصوَّر: لم يتمكن دستويفسكي بسبب الوصاية والتدخُّل المُتكرِّر من جانب ميشيرسكي في عمله؛ فضلًا عن الهجوم الذي ازدادت حدَّتُه من الصحافة في بطرسبورج من ممارسة نشاطه في التحرير إلَّا قليلًا، كما أضعف كل ذلك على نحوٍ كبير من وضع دستويفسكي في عالم الصحافة الأدبية. لقد تحمل دستويفسكي «آلامًا نفسية» مُبرحة على مدى العام الذي عمل فيه مُحررًا في «المواطن»، لا بسبب «أعداء» الأمير ميشيرسكي فقط، وإنما ينبغي أيضًا أن نعزو هذه الآلام إلى غالبية الصحف الروسية، ربما باستثناء مجلة «أحاديث عائلية» و«البشير الروسي» فسيفولد سولوفيوف (دستويفسكي في مذكرات مُعاصريه، الجزء الثاني، ١٩٦-١٩٧). سرعان ما تصاعد الخلاف الداخلي، وخاصة الصدام «الأيديولجي» الحاد بين دستويفسكي وميشيرسكي، الذي أدى إلى انفصالهما، وأعرب فيها عن فكرته في فرض الرقابة على شباب الطلاب. وقد كتب دستويفسكي خطابًا إلى ميشيرسكي في نوفمبر ١٨٧٣م عبَّر فيه عن استيائه بقوله: «إن فكرتك هذه تتنافى بشدة مع مُعتقداتي وقد أثارت في نفسي القلق» (الخطابات، المجلد الثالث، ص٨٨). عن عمل دستويفسكي في «المواطن» انظر: ف. ب. ميشيرسكي، مذكراتي، الجزء الأول، سان بطرسبورج، ١٨٩٨م (وهي مذكرات تفتقر بشدة إلى الحياد، وقد أغفل فيها ميشيرسكي الحديث عن الصدامات والخلافات بينه وبين دستويفسكي)؛ مذكرات ف. ف. تيموفيفا (أ. بوتشينكوفسكايا) وم. أ. ألكسندروفا في كتاب: دستويفسكي في مذكرات مُعاصريه، الجزء الثاني؛ والعمل المتميز الذي أعده ف. ف. فينوجرادوف (ف. م. دستويفسكي باعتباره محررًا «للمواطن» ومؤلفًا مجهولًا للمقالات الهجائية فيه في كتابه «مشكلة التأليف ونظرية الأساليب»، موسكو، ١٩٦١م).
١٢  جريجوري قنسطنطينوفيتش جرادوفسكي (١٨٤٢–١٩١٥م): كاتب ومؤسِّس صحيفة/مجلة «المواطن».
١٣  ألكسندر أوستينوفيتش بوريتسكي (١٨١٩–١٨٧٩م): كاتب ومحرر لمجلة «إجازة الأحد» عامَي ١٨٦٤-١٨٦٥م، المحرر الرسمي لمجلة «العصر».
١٤  تعرف ألكسندر أوستينوفيتش بوريتسكي على دستويفسكي في الأربعينيات (انظر خطابات دستويفسكي إلى بوريتسكي في الأربعينيات، الخطابات، المجلد الأول). تتذكر ف. ف. تيموفيفا (أ. بوتشينكوفسكايا) قائلة: «يعترف لي دستويفسكي بقوله: إنني أُكِنُّ لهذا الإنسان ثقةً خاصة؛ ففي كل الأحداث الصعبة وفي لحظات الشكِّ في حياتي كنتُ الجأ إليه، ودائمًا ما أجد لدَيه الدعم والسكينة» (دستويفسكي في مذكرات مُعاصريه، الجزء الثاني، ص١٦٢). كان موريتسكي يُدير في الستينيات قسم «العروض النقدية المحلية» في مجلة الأخوين دستويفسكي «الزمن»، وقد تولَّى بعد وفاة ميخائيل دستويفسكي (١٠ يوليو ١٨٦٤م) وظيفة المُحرر الرسمي لمجلة «العصر» حتى توقُّفها. يصف ستراخوف بوريتسكي في مذكراته بأنه «كان إنسانًا ذكيًّا، مُثقفًا، يتميَّز فوق ذلك بخصالٍ نفسية نادرة. كان يمتلك قلبًا طيبًا نقيًّا لا تشوبه شائبة. كان مُتعاطفًا بكلِّ جوانحه لتوجُّهات مجلة «العصر»» (السيرة الذاتية، ص٢٧٢). عن دور ألكسندر بوريتسكي في مجلة «العصر» انظر مقالة أ. س. دولينين «مدخل إلى تاريح الرقابة على المجلَّتَين الأوليَين لدستويفسكي»، في كتاب دستويفسكي، المجلد الثاني، ص٥٧٤–٥٧٧.
١٥  يفجيني ألكسندروفيتش بيلوف (١٨٣٩–١٩٠٩م): شاعر وصحفي ومُترجم، عمل بمجلة «المواطن»، التقى في عامَي ١٨٧٣-١٨٧٤ بدستويفسكي.
١٦  يفجيني ألكسندروفيتش بيلوف؛ مُعلم، مُؤرخ للحركة السلافية، مؤلِّف الكتاب الشهير «تاريخ روسيا قبل إصلاحات بطرس الأكبر» (١٨٩٦م)، عرض فيه تفصيلًا لوجهات نظره وإيمانه بالحركة السلافية. ومن الأمور الشيقة أن بيلوف في شبابِه كان معجبًا بالاشتراكية الطوباوية، كما اشترك في الواقع مع دستويفسكي في تطوُّره الفكري في نفس الاتجاه. في عام ١٨٧٣م تولَّى بيلوف العمل في مجلة «المواطن» في قسم «الفهارس». وله عددٌ من المقالات في «المواطن» عام ١٨٧٣م (الأعداد ٢١، ٢٦، ٣٠، ٣١، ٣٢).
١٧  ألكسندر فيدوروفيتش بازونوف (١٨٢٥–١٨٩٩م): ناشر وبائع كتب، صاحِب عددٍ من المكتبات في موسكو وبطرسبورج؛ كان يُصدر أعمال دستويفسكي.
١٨  انظر خطاب دستويفسكي إلى أخيه ميخائيل المؤرَّخ ٣١ ديسمبر ١٨٤٣م، يناير وأبريل ١٨٤٤م، وأكتوبر ١٨٤٦م (الخطابات، المجلد الأول، ص٦٦، ٦٧، ٦٨، ٧٠، ٧١، ١٠٠، ١٠١).
١٩  ياكوف ألكسييفيتش إيساكوف (١٨١١–١٨٨١م): ناشر في بطرسبورج وبائع كتب.
٢٠  ألكسندر إيفانوفيتش فارجونين (١٨٠٧–١٨٨٠م): أحد مُلَّاك شركة الإخوة فارجونين الشهيرة بتجارة ورق الطباعة.
٢١  الأمير زاميسلوفسكي: صاحب مطبعة في بطرسبورج. قام في السبعينيات بطبع أعمال دستويفسكي.
٢٢  الإخوة بانتيلييف: جريجوري فومين وبيوترفومين (؟–١٩٠٦م): مُلَّاك مطبعة في بطرسبورج كانت تطبع أعمالًا لدستويفسكي.
٢٣  جولوس («الصوت») (١٨٦٣–١٨٦٦م): صحيفة يومية سياسية أدبية ذات توجُّه ليبرالي أصدرَها في بطرسبورج أ. أ. كرايفسكي. وقد دأب دستويفسكي على مُطالعتها، وكان يكتب تعليقاتٍ حادةً على ما تنشره، وذلك في مجلتي«الزمن» و«العصر» اللتَين أصدرهما مع أخيه ميخائيل. (المترجم)
٢٤  ميخائيل فاسيليفيتش بوبوف (١٨٣٦–١٩٠٦م): تاجر، ناشر، صاحب محل لبيع الكتب في بطرسبورج. باع رواية «الشياطين» و«مذكرة الكاتب» لدستويفسكي.
٢٥  إيفان غيليتش جلازونوف (١٨٢٦–١٨٨٩م): ناشر من بطرسبورج وبائع كتب، شغل منصب عمدة بطرسبورج في الثمانينيات.
٢٦  نيكولاي ألكسندروفيتش دوبروليوبوف (١٨٣٦–١٨٦١م) ناقد، كاتب في صحيفة «المعاصر». آخِر أعماله مقال «المنسيون» (مجلة المُعاصر، ١٨٦١م، العدد ٩)، مكرسة بالمناسبة لإبداع دستويفسكي، وهي أكثر الأعمال عُمقًا في تحليل أعمال دستويفسكي المُبكرة: «الفقراء» و«مذلون مهانون». كانت له وجهات نظر في الفن والواقع تُخالف وجهات دستويفسكي الذي كتبَ ردًّا عليها في مقاله «السيد بوف وقضية الفن» (المقصود الناقد دوبروليوبوف). (المترجم)
٢٧  فيكتور بتروفيتش بورينين (١٨٤١–١٩٢٦م): ناقد وشاعر. في البداية انتقد دستويفسكي باعتباره من أنصار «نزعة الأرض»، كما انتقد أيضًا الجوانب السلبية في رواية «الأبله»، لكنه أدهش المؤلِّف نفسه بنقدِه العميق لروايتي «الشياطين» و«الإخوة كارامازوف»، وقد رأى بورينين أن دستويفسكي الروائي أفضل بكثيرٍ من دستويفسكي الكاتب الاجتماعي والفيلسوف والأخلاقي. (المترجم)
٢٨  من الواضح أن آنَّا جريجوريفنا تقصد الآراء الحادة التي وجَّهها النقد المعاصر لرواية «الشياطين» (انظر [الجزء السادس، العامان ١٨٧٣-١٨٧٢، التعليق رقم ٢]) والاستقبال الفاتر لرواية «الأبله». بطبيعة الحال فقد كان دستويفسكي كثيرًا ما يُقاسِم آنَّا جريجوريفنا آراءها بشأن النقَّاد المعاصرين، الذين كان يَميل أكثر منها لأن يَعُدَّهم ضمن «أعدائه». وكان دستويفسكي يتعامل مع صمت النقاد وآرائهم العدوانية بنفس الحدة، وفي الوقت نفسه كان يضع رأي القرَّاء العادِيِّين في مواجهة المقالات النقدية المُتحيزة والتي تفتقد إلى العُمق؛ وفي هذا الصدد، على وجه الخصوص، تحدَّثَت إحدى ملاحظاته التي سجَّلها في دفتره عام ١٨٧٦م: «إنني أجد دائمًا الدعم والتأييد لا مِن النقد، وإنما من الجمهور. مَن مِن النقَّاد لدَيه معرفة بخاتمة رواية «الأبله» هذا المشهد شديد القوة، الذي لم يتكرَّر مُطلقًا في الأدب. حسنًا، إن الجمهور يعترف به» (الأرشيف المركزي للأدب والفن).
أما فيكتور بوريفين فقد كتب كثيرًا عن دستويفسكي بدءًا من النصف الثاني من الستينيات وخاصة في صحيفتي «وقائع سان بطرسبورج» و«الزمن الحديث»، على أن كتاباته كانت تتميز بالسطحية وسوء القصد في مُعظم الأحوال. وقد اعتبر بورينين أن رواية «الأبله» «خليط قصصي مكوَّن من أحداث وشخصيات سخيفة وُضِعت دون أدنى عناية بالهدف الفني لها» (وقائع سان بطرسبورج، ١٨٦٨م، العدد ٢٥٠). وعلى الرغم من أن بورينين، الناقد في صحيفة ليبرالية، أدان الاتجاه النقدي الساخر للرواية، إلا أنه رفض بشدةٍ الآراءَ التي وضعت رواية «الشياطين» جنبًا إلى جنب مع روايات ليسكوف وأفسينكو وماركيفيتش. وأردف قائلًا إنه حتى الصفحات، أكثر صفحات هذه الرواية تحيزًا، فإنها «ثمرة اعتقاد مُخلص، وليست تملُّقًا رخيصًا لغرائز الجماهير الحسِّية الفظة، مثل ما هو موجود في روايات الأساتذة» («وقائع سان بطرسبورج»، ١٨٧٣م، العدد ١٣). كان لهذا الرأي تحديدًا أثره الطيب على دستويفسكي، الذي أبرز مقالة بورينين بشكلٍ خاصٍّ لأن الناقد «في تحليله لروايةِ «الشياطين» طرح فكرة أنَّني إذا كنتُ قد اعتنقتُ إيمانًا مغايرًا لإيماني السابق، فقد حدث هذا بكلِّ صدقٍ (أي أن ذلك لم يكن بقصد التظاهُر، دائمًا بشرف)، وقد مسَّت هذه العبارة شغاف قلبي» (مكتبة الدولة باسم لينين). من الواضح أنه يتعيَّن علينا أن نشرح جزئيًّا، بناءً على هذا الموقف، ما ذكره بورينين إلى جانب ما ذكرَتْه آنَّا جريجوريفنا في مُذكراتها عن بيلينسكي ودوبروليوبوف. إن المقالات الرصينة التي كتبها بورينين عن رواية «الإخوة كارمازوف» («العصر الحديث»، ١٨٧٩م، الأعداد، ١٠٨٧، ١٢٧٣، ١٣٥٧)، والتي تناول فيها الناقد العمل الجديد لدستويفسكي بصورة إيجابية تمامًا، حتى إنه كتب يقول: إن الرواية من حيث عُمقها وطزاجتها في مُعالجتها للحياة الروسية «تبدو أكثر عصريةً بعشر مراتٍ عن أكثر القصص والروايات والأعمال الدرامية والكوميدية المعاصرة.» قد ساهمت في زيادة التعاطُف من جانب دستويفسكي تجاه الناقد، وقد انعكس ذلك الشعور في مذكرات زوجته. على أنَّ آنَّا جريجوريفنا استطاعت أن تجِد من بين النقَّاد الباحثين المُعاصرين لإبداع دستويفسكي اسمًا أكثر جدارة من بورينين وهو فاليريان نيكولايفيتش مايكوف، الذي أشار في مقالاته «شيءٌ ما عن الأدب الروسي في ١٨٤٦م» (الوقائع الوطنية، ١٨٤٧م، المجلد ٥٠) إلى أوجه التشابُه بين واقعية جوجول وواقعية دستويفسكي، وحدَّد بدقة أيضًا أوجه الخلاف بينهما في مقولة: «إن جوجول شاعر يتميز بالنزعة الاجتماعية، بينما يتميز دستويفسكي بالنزعة النفسية.»
٢٩  ديمتري يفيموفيتش كوجانتشيكوف (؟–١٨٧٧م): ناشر من بطرسبورج وبائع كتب.
٣٠  خطاب فيودور ميخايلوفيتش إليَّ والمؤرَّخ التاسع والعشرين من يوليو ١٨٧٣م (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
  الخطابات، المجلد الثالث، ص٧٠. وكما يُصرح دستويفسكي نفسه في هذا الخطاب (المؤرَّخ التاسع والعشرين من يوليو ١٨٧٣م)، فقد قام بإعادة كتابة مقالة ميشيرسكي عن تيوتشيف. وقد نشرت مقالة «الذاكرة النضرة لتيوتشيف» في «المواطن» العدد ٣١ المؤرَّخ ٣٠ يوليو ١٨٧٣م بعد أن قام دستويفسكي بتنقيحها (انظر في هذا السياق: ن. بيلتشيكوف، دستويفسكي عن تيوتشيف، مُلحق بها مقالة ف. ميشيرسكي، «الذاكرة النضرة لتيوتشيف»، مجلة «الماضي»، ١٩٢٥م، العدد ٥).
٣١  فيكتور فيوفيليفيتش بوتسيكوفيتش (١٨٤٣–١٩٠٩م): كاتب، مُحرر بمجلة المواطن في الفترة من ١٨٧٤–١٨٧٩م. أصدر في الفترة من ١٨٧٩–١٨٨١م، وحرَّر في برلين، مجلة «المواطن الروسي».
٣٢  في «مذكرات عن ف. م. دستويفسكي» كتب فسيفولد سولوفيوف يقول: «كان يُعلق آمالًا كبارًا على نشاطه في التحرير منذُ أول لقاءٍ لنا. لكنَّ هذا النشاط لم يكن مُبشرًا إطلاقًا بالنجاح، وهو ما كان من المُمكن التنبُّؤ به على الفور لعِلمنا بشخصيته وبالظروف التي تُحيط به. كانت سُمعة المجلة قد ترسَّخت وراحت الصحافة كلها آنذاك تُهاجم المجلة بحدة وبذاءة.» وقد انهالت السخرية والازدراء على المُحرر الجديد من كل جانب، سخرية غبية ووقحة. لقد تعرَّض مؤلف «الجريمة والعقاب» و«مذكرات من البيت الميت» لوصفِه بالمجنون والمَهووس والمتخلِّف والخائن، بل إنهم دعوا الجمهور للذهاب إلى معرض أكاديمية الفنون ﻟ «مشاهدة صورة دستويفسكي هناك، التي رسمَها بيروف، باعتبارها دليلًا مباشرًا على أن هذا المعتوه مكانه في بيت المجانين» (دستويفسكي في مذكرات مُعاصريه، المجلد الثاني، ١٩٦-١٩٧).
٣٣  نشرت مقالة ميشيرسكي «نواب قيرغيزيا في سان بطرسبورج» في «المواطن»، العدد ٥، المؤرَّخ التاسع والعشرين من يناير ١٨٧٣م. وقد تضمَّن المقطع التالي: «قام أقدم النواب المدعو سلطان محمد … بإلقاء خطابه الذي كتبَه نيابة عن الشعب، وقد ألقاه بأصالةٍ وحزمٍ وبلغةٍ سليمة: «جلالة الإمبراطور»، ولكن عندما اعترض الإمبراطور على هذه الكلمات قائلًا: «هل تتحدَّث بالروسية؟»، ارتبك محمد، حتى إنه نطق بضع كلمات بصوتٍ خفيض باللغة القرغيزية من خطابٍ كان قد أعدَّه ثم أصابه الخرس» (حول هذا المقطع انظر: ي. ج. أوكسمان، «ف. م. دستويفسكي في هيئة تحرير «المواطن»» في كتاب: إبداع دستويفسكي، أوديسا، ١٢٩٢١، ص٦٩–٧١).
٣٤  تكوَّنت المحكمة من الأعضاء: الأمير ي. م. بورخ، ف. ن. كريستيان، ك. أ. بيلياسوف، النائب العام، ج. زيجير (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
٣٥  غير صحيح ما كتبتْهُ آنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا أنَّ دستويفسكي «بالطبع، اعترف بخطئه». انعقدت المحاكمة للنظر في قضية دستويفسكي صباح الحادي عشر من يونيو ١٨٧٣م. وقد حضر دستويفسكي إلى المحكمة، لكنه لم يعترِف بذنبه؛ وقد حضر للدفاع عنه المُحامي ف. ب. جايفسكي مُمثلًا للصندوق الأدبي الذي أعلن أن لجنة الرقابة لا تملك الحقَّ القانوني في رفع القضية (انظر «جولوس»، ١٨٧٣م، ١٣ يونيو، العدد ١٦٢).
٣٦  اناتولي فيودورفيتش كوني (١٨٤٤–١٩٢٧م): شخصية عامة، رجل قضاء، ناشر وأديب.
٣٧  وعن هذا المقطع يحكي أ. ف. كوني في مقالته في كتاب «ف. م. دستويفسكي» وإن كان في الحقيقة قد أخطأ في قوله إن دستويفسكي قد أُدين لنشره «معلومات عن رحلة القيصر» (انظر: أ. ف. كوني، الأعمال الكاملة، المجلد السادس، موسكو، ١٨٦٨م، ص٤٣٢). جمعت الصدفة بين أ. ف. كوني، رجل القانون الروسي البارز والكاتب في عام ١٨٧٣م، ليكون هذا التاريخ بدايةً لصداقة امتدَّت بينهما لسنواتٍ طويلة. كان مؤلِّف الجريمة والعقاب مُهتمًّا بشكلٍ خاصٍّ بمشكلات مخالفة القواعد الأخلاقية والاجتماعية، وكان أ. ف. كوني مُهتمًّا للغاية كذلك بهذه المشكلات باعتباره قانونيًّا بارزًا، وبفضلِه استطاع دستويفسكي أن يحصل على فرصة الحضور في عددٍ من المحاكمات في بطرسبورج في السبعينيات. وقد نظَّم كوني لدستويفسكي رحلةً إلى مستعمرة للمُجرمين الأحداث في عام ١٨٧٥م، وفي النهاية فإن رواية «الإخوة كارامازوف» مَدينة للعديد من النصائح الحرفية التي بذلَها كوني (الباب التاسع «تحقيق تمهيدي» والباب الثاني عشر«خطأ قانوني»). وإلى جانب مقالته عن «ف. م. دستويفسكي» كتب كوني مقالتَين أُخريَين عن دستويفسكي اتَّخذتا طابع المذكرات (انظر: أ. ف. كوني، الأعمال الكاملة، المجلد السادس، موسكو ١٩٦٨م).
٣٨  انظر الخطابات، المجلد الثالث، ص٧٧.
٣٩  أ. ك. جريبي (١٨٠٦–١٨٧٦م): صاحب البيت الذي عاش فيه دستويفسكي في ستاريا روسا.
٤٠  ألكسي أندروييفيتش أراكتشييف (١٧٦٩–١٨٣٤م): وزير مؤقَّت في عهد القيصر بافل الأول، ووزير حربية في الفترة من ١٨٠٨م إلى ١٨١٠م في عهد القيصر الإسكندر الأول.
٤١  غير صحيح؛ الحديث يدور عن لجنة بطرسبورج السلافية الخيرية، التي انبثقت عنها في عام ١٨٧٧م الجمعية السلافية الخيرية لتقديم المساعدات العينية للسلافيين البلقان، ودعم المُتطوعين المُتجهين إلى ميدان الحرب الروسية التركية.
٤٢  فلاديمير سيرجييفتش سولوفيوف (١٨٥٣–١٩٠٠م): فيلسوف وشاعر وكاتب اجتماعي، تعرَّف عليه دستويفسكي في مطلع عام ١٨٧٣م.
٤٣  على الرغم من أن أواصر التعارُف بين دستويفسكي وسولوفيوف عُقدت بالفعل في مطلع عام ١٨٧٣م (خطاب فلاديمير سولوفيوف إلى دستويفسكي المؤرَّخ ٢٤ يناير ١٨٧٣م، مكتبة الدولة باسم لينين)، ويدور الحديث في هذا الخطاب على الأرجح عن الأخ الأكبر لسولوفيوف، الكاتب والناقد فسيفولد سولوفيوف، الذي توطَّدت علاقته بالمناسبة مع دستويفسكي في هذه الفترة (انظر فسيفولد سولوفيوف «مذكرات عن ف. م. دستويفسكي»، «دستويفسكي في مذكرات معاصريه» الجزء الثاني، ص١٨٦–٢٠٩). وقد سافر فلاديمير سولوفيوف إلى الخارج لمدة عامَين فور حصوله في عام ١٨٧٤م على درجة الماجستير، وكانت أطروحته تُسمَّى «أزمة الفلسفة الغربية» وهكذا فإن العلاقة بينه وبين دستويفسكي توطَّدت على نحوٍ أوثق بدءًا من عام ١٨٧٧م فور عودته إلى بطرسبورج. وقد جرَت معظم لقاءاتهما منذ نهاية ١٨٧٧م وحتى خريف ١٨٧٨م عندما راح دستويفسكي يواظِب على حضور المحاضرات التي كان يُلقيها فلاديمير سولوفيوف بنجاحٍ منقطع النظير في سولياني في ضواحي بطرسبورج تحت عنوان «قراءات حول الإله الإنسان». وفي يونيو ١٨٧٨م وإبَّان رحلتهما معًا إلى دير أوبتينا، عرض دستويفسكي على فلاديمير سولوفيوف «فكرته الرئيسية» وبعضًا من الخطة الكاملة لسلسلة رواياته المُنتظرة، التي لم يكتب منها سوى «الإخوة كارامازوف» (انظر في هذا السياق: فلاديمير سولوفيوف، المؤلَّفات الكاملة، المجلد الثالث، سان بطرسبورج، ١٩١٢م، ص١٩٧). وقد حضر دستويفسكي في السادس من أبريل ١٨٨٠م مناقشة أطروحة فلاديمير سولوفيوف للدكتوراة التي كان عنوانها «نقد المبادئ المُحررة». وقد اهتمَّ الكاتب بنظريات الفيلسوف الشاب، وكان أكثر ما لفتَ انتباه دستويفسكي هو جوهر الفكرة القريبة إليه، والتي عبَّر عنها سولوفيوف عندما ذكر أن «الإنسانية … تعرف أكثر بكثيرٍ مما استطاعت أن تُعبِّر عنه فيما أنجزَتْه من علومٍ وفنون» (خطاب دستويفسكي إلى إدوارد يونج المؤرَّخ الحادي عشر من أبريل ١٨٨٠م، الخطابات، المجلد الرابع، ص١٣٦). وبعد وفاة دستويفسكي ألقى فلاديمير سولوفيوف ثلاثَ خُطَب أكد فيها على المُثُل الدينية في إبداع الكاتب: وهكذا فإنَّ الكنيسة، باعتبارها مثالًا اجتماعيًّا إيجابيًّا، وأساسًا وهدفًا لكلِّ أفكارنا وأعمالِنا، وهي مأثرة الشعب بأسرِه، والطريق المستقيم إلى تحقيق هذا المثال. هذه هي الكلمة الأخيرة التي وصل إليها دستويفسكي، والتي أضاءت كل أعماله بنور نبوي» (فلاديمير سولوفيوف، ثلاث خُطَب في ذكرى دستويفسكي، موسكو، ١٨٨٤م، ص١٠). على أن هناك أُسسًا قوية للشك في الإخلاص التام لفلاديمير سولوفيوف، الذي كانت المُثُل التي نادى بها الكاتب غريبة عليه في مُعظمها، وفي آرائه الدينية التي كتب عنها بحدة تامَّة إلى الكاتب والناقد قنسطنطين ليونتيف «إن دستويفسكي يؤمِن بحرارة في وجود الدين وكثيرًا ما نظر إليه من خلال أنبوبٍ بصري، باعتباره موضوعًا قائمًا بذاته، ولكنه لم يستطع إطلاقًا أن يقِف في الواقع على أرضية دينية» (فاسيلي روزانوف، من مراسلاته إلى قنسطنطين ليونتيف «البشير الروسي»، ١٩٠٣م، العدد ٥، ص١٦٢). وعن دستويفسكي وفلاديمير سولوفيوف انظر مقالة الفيلسوف المثالي إرنست ليوبولدوفيتش رادلوف «سولوفيوف ودستويفسكي» في كتاب دستويفسكي، المجلد الأول.
٤٤  إيفان نيكولايفيتش شيدلوفسكي (١٨١٦–١٨٧٢م): شاعر، صديق شباب دستويفسكي. تعرَّف عليه الأخوان دستويفسكي عام ١٨٧٣م عندما وصلا للمرة الأولى للدراسة في معهد الهندسة ببطرسبورج.
٤٥  تعرف دستويفسكي على إيفان نيكولايفيتش شيدلوفسكي في ربيع ١٨٣٧م، بمجرد وصوله مع أخيه ميخائيل إلى بطرسبورج. لقد وقع دستويفسكي في السنوات الأولى لوجوده في معهد الهندسة تحت تأثير شيدلوفسكي، الذي كان يكتب قصائد صوفية غامضة، وكان يعيش قصة حُبٍّ سامية، ويتحدَّث على نحوٍ مُلهم عن مملكة الله ويحلم بلذة بالانتحار. كان دستويفسكي يَحكي لأخيه عن شيدلوفسكي بحماس بالغ: «تنظر إليه، فإذا بك أمام شهيد! كان نحيلًا، خداه غائران، عيناه منديتان، متوهجتان بالحماس، الجمال الروحي لوجهه يستمر فوق ذبوله البدني …، يا له من إنسانٍ مخلص صريح! أن تنساب الآن عندما أتذكَّر الماضي … لقد قُمنا في لقائنا الأخير بالتنزُّه في يكاتير ينهوف. كم كانت أمسية! لقد استعدنا فيها ذكريات فصل الشتاء، عندما تحدثنا عن هيرميروس وشكسبير وشيللر وهوفمان، وقد تحدَّثنا طويلًا عن هوفمان وقرأناه كثيرًا … لقد كنت في حالة من البهجة الشديدة في الشتاء الماضي. وقد عشتُ أجمل ساعات حياتي بفضل معرفتي بشيدلوفسكي … أستطيع أن أقول إن لي رفيقًا، مخلوقًا، أُحبه حبًّا جمًّا!» (الخطاب مؤرَّخ الأول من يناير ١٨٤٠م، الخطابات، المجلد الأول، ٥٦-٥٧). عمل شيدلوفسكي لفترة قصيرة موظفًا في بطرسبورج، ولكنه سرعان ما غادرها عائدًا إلى مسقط رأسه في محافظة خاركوف، وهناك أعد بحثًا كبيرًا في تاريخ الكنيسة الروسية. ولعلَّ من اللافت للانتباه أن أوردينوف، بطل قصة دستويفسكي المُبكرة، يجمل، ربما، كثيرًا من الملامح النفسية لشيدولوفسكي، والذي كان يكتب هو أيضًا بحثًا عن تاريخ الكنيسة. وفي الخمسينيات انخرط شيدولوفسكي في سلك الرهبنة بدير فالويسكي، ومن هناك ذهب للحج في كييف. عاد بعدها إلى قريته، حيث عاش بها إلى أن وافته المنية. ظلَّ دستويفسكي طوال عمره يحتفظ بذكرياتٍ طيبة عن صديق شبابه. ويذكر فسيفولد سولوفيوف أنه عندما طلب من دستويفسكي أن يقص عليه طرفًا من حياته ليكتب مقالةً عنه، أجابه الكاتب: «من الضروري أن تذكر في مقالتك شيدلوفسكي، لا حاجة لك أن تقول إن أحدًا لا يعرفه، وإنه لم يترك بعده اسمًا أدبيًّا. أستحلفك بالله يا عزيزي أن تذكر أنه كان شخصًا عظيمًا بالنسبة لي، وأن اسمه لا ينبغي أن يُطوى في غياهب النسيان» (دستويفسكي في ذكريات مُعاصريه، المجلد الثاني، ص١٩١). ظلت شخصية شيدلوفسكي، الرومانسي الروسي، مطبوعةً للأبد في مخيلة دستويفسكي. ويعد أوردينوف، بطل قصة دستويفسكي «صاحب النزل» أول من بدأ المسار الرومانسي بين أبطاله؛ لينتهي هذا المسار بديمتري كارامازوف الذي ألقى نشيد شيللر. عن شيدولوفسكي ودستويفسكي المبكر، أوديسا، ١٩٢١م.
٤٦  ألكسي فيوفيلاكتوفيتش بيسميسكي (١٨٢١–١٨٨١م): كاتب، مؤلف روايات: «ألف نفس»، «البحر الهائج»، «الماسونيون» وغيرها.
٤٧  كاراتشي Carraccei: عائلة فنية إيطالية من مدرسة بولونيا تُمثل الاتجاه الأكاديمي لود وفيكو (١٥٥٥–١٦١٩م) والأخوان أجوستينو (١٥٥٧–١٦٠٢م) وأنيبالي (١٥٦٠–١٦٠٩م) أسَّسوا في بولونيا «أكاديمية الذين ساروا على الطريق الصحيح» (حوالي ١٥٨٥م) جمعوا بشكلٍ توفيقي بين أساليب أساتذة عصر النهضة. أشهرهم أنيبالي الذي رسم صورًا شخصية واقعية ومناظر طبيعية وجداريات قصر فارنيزي بروما (١٥٩٧–١٦٠٤م). (المترجم)
٤٨  يوليا رئيسوفنا زاسيتسكايا (دافيدوفا قبل الزواج) (؟–١٨٨٢م): كاتبة ومترجمة.
٤٩  دنيس فاسيليفيتش دافيدوف (١٧٨٤–١٨٣٩م): شاعر وكاتب حربي.
٥٠  الريدستوكية: اسم طائفة ظهرت في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إنجيلية مسيحية على اسم اللورد الإنجليزي ريدستوك الذي بشَّر بتعاليمه في بطرسبورج. (المترجم)
٥١  في عام ١٨٧٤م قام جرينفيل ردستوك، الداعية الإنجليزي لمذهب التوبة عن طريق الإيمان، بقراءة عددٍ من المحاضرات في بطرسبورج. وكان لدعوته أثر في نشأة طائفة دينية في روسيا عُرفت باسم الباشكوفيين (أحد أسماء طائفة المسيحيين الإنجيليين في نهاية القرن التاسع عشر على اسم زعيمها آنذاك ف. أ. بشكوف، المترجم). ويتلخص مذهب ردستوك في التوبة عن طريق الإيمان في أن «غفران الذنوب لا يأتي نتيجة الأعمال الصالحة، فالذنوب يمكن أن يُطهرها الدم المُقدَّس، الذي إنساب وغسل كل من آمن بالمسيح، باعتباره المُخلِّص الوحيد، وهو الوحيد الذي يصل بين الله والإنسان». وقد أعرب دستويفسكي عن رفضه لتعاليم ردستوك في «مذكرة الكاتب» عن ١٨٧٦م قائلًا «إن النجاح الحقيقي للورد ردستوك يعتمد في الأساس على أننا «انفصلنا» عن أرضنا، عن أمتنا. ويبدو أننا، الصفوة المثقفة في مجتمعنا، أصبحنا الآن شعبًا غريبًا، صغير العدد للغاية، لا قيمة له إطلاقًا، لكنه يمتلك مع هذا عاداته وخرافاته، التي يمكن اعتبارها دينًا خاصًّا به» (دستويفسكي، ١٩٢٦–١٩٣٠م، المجلد الحادي عشر، ص٢٤٢).
٥٢  لم يُكشف حتى الآن أي خطاب من دستويفسكي إلى زاسيتسكايا. وبخصوص المُراسلات التي جرت بينهما تشير أ. ج. دستويفسكايا إلى «التعليقات على أعمال ف. م. دستويفسكي»: «ربما يمكن العثور لدى ورثة يوليا دينيسوفنا زاسيتسكايا (أبنائها وبناتها) أو لدى أختها الأميرة فيسكونتي على خطابات أرسلها فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي ردًّا على خطابات زاسيتسكايا، وخاصة تلك التي تدور حول قضايا الدين» («إبداع دستويفسكي»، أوديسا، ١٩٢١م، ص٣٤). ليس من قبيل الصدفة أن تكتب آنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا، أن هذه الخطابات تدور «بصفة خاصة حول قضايا الدين ثم تذكر فيما بعد في مذكراتها أن دستويفسكي اشتبك في جدل شديد، وإن كان وديًّا مع ي. د. زاسيتسكايا حول معتقداتها الدينية.» وانتقلت من الأرثوذوكسية إلى اللوثرية، وقد حاول دستويفسكي أن يعيدها إلى الأرثوذوكسية مرة أخرى. عن الجدل الديني بينهما: انظر مذكرات ن. س. ليسكوف: «عن الفلاح الكاتب وأمور أخرى. ملاحظات حول بعض الآراء التي قيلت عن ليف تولستوي». في كتاب ن. س. ليسكوف، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، موسكو، ١٩٥٨م، ص١٤٧–١٥٥.
٥٣  فاسيلي فلاديميروفيتش كاشبيريف (١٨٣٦–١٨٧٥م): أديب، ناشر مجلة «الفجر» (زاريا).
٥٤  صوفيا سيرجييفنا كاشبيريفا: زوجة ف. ف. كاشبيريف. مُحررة وناشرة لمجلة الأطفال «أمسيات عائلية» منذ عام ١٨٧٠م. صديقة لعائلة دستويفسكي.
٥٥  أدريان أندرييفيتش شتاكينشنايدر (١٨٠٢–١٨٦٥م): معماري من بطرسبورج. أنشأ قصر مارينسكي.
٥٦  يلينا أندرييفنا شتاكينشنايدر (١٨٣٦–١٨٩٧م): ابنة شتاكينشنايدر، صاحبة صالون أدبي.
٥٧  تعرفت يلينا شتاكينشنايدر على دستويفسكي في مطلع الستينيات وتجدَّدت صداقتهما في السبعينيات، وقد قام بزيارتها في بيتها كثيرًا، كما أنهما كانا يتراسَلان أيضًا (انظر: الخطابات، المجلد الرابع، ص٦٢، ص١٨٢). وقد انعكست هذه اللقاءات في يوميات ي. شتاكينشنايدر وفي مذكراتها عن دستويفسكي التي لم تكتمل (ي. أ. شتاكينشنايدر، يوميات ومذكرات (١٨٥٤–١٨٨٦م)، موسكو، ليننجراد (١٩٣٤م). عن زيارات دستويفسكي لبيت ي. شتاكينشنايدر انظر أيضًا لمذكرات: ف. ميكوليتش (ل. إ. فيسيليتسكايا)، لقاءات مع الكُتاب، ليننجراد، ١٩٢٩م.
٥٨  أديلينا باتي (١٨٤٣–١٩١٩م): مغنية إيطالية، قدمت عروضها في السبعينيات من القرن التاسع عشر في بطرسبورج.
٥٩  إيميليا فوليبين (١٨٤١–؟م): مغنية إيطالية، قدمت عروضها في السبعينيات من القرن التاسع عشر في بطرسبورج.
٦٠  إنريكو كالتسولاري (١٨٢٣–١٨٨٨م): مغنٍّ إيطالي، قدم عروضه في الستينيات والسبعينيات في بطرسبورج.
٦١  صوفيا سكالكي (١٨٥٠–١٩٢٢م): مغنية إيطالية، قدمت عروضها في السبعينيات في بطرسبورج.
٦٢  كاميللو إيفراردي (١٨٢٥–١٨٩٩م): مُغنٍّ، أستاذ بكونسرفاتوار موسكو وبطرسبورج.
٦٣  أتذكَّر على وجه الخصوص أوبرا Dinorah التي غنت فيها باتي «وكأنها بلبل يزقزق» (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤