الفصل الثاني

المفتش جرانت

ضغط مفوض الشرطة باركر بسبابته المشذبة بعناية على زرِّ الجرس العاجي أسفلَ طاولته، وظلَّ ضاغطًا حتى ظهَر أحدُ تابعيه.

قال للرجل: «أخبر المفتشَ جرانت أنني أودُّ رؤيته»، وكان ذلك الرجل يبذل قُصارى جهده ليبدوَ مذعنًا في حضور الرجل العظيمِ الشأن، لكن المرحلة المبكرة من بدانته أحبطَت نواياه الطيبة وأجبرَته على الانحناء للخلف قليلًا من أجل الاحتفاظ بتوازنه، وكذلك زاوية أنفِه التي كانت رمزًا للوقاحة. انسحب الرجل لإيصال الرسالة مدركًا فشلَه بمرارة ودفَن ذكرى ارتباكِه بين الكمال غير المتعاطف للملفَّات والأوراق التي استُدعي بعيدًا عنها، وعلى الفور دخل المفتش جرانت إلى الغرفة وألقى التحية على رئيسه بسرور. وأشرق وجهُ رئيسه لاشعوريًّا في حضوره.

إذا كان لدى جرانت ما يفوق المميزاتِ المعتادةَ للتفاني في العمل، وقدرٌ جيدٌ من الذكاء والشجاعة، فإن آخرَ وظيفة يمكن أن تتوقَّعها له هي ضابط شرطة. فقد كان متوسطَ الطول هزيلَ البِنية، وكان … الآن، إذا قلتُ أنيقًا، فستُفكر بالطبع على الفور في شيءٍ مثل دُمية عرض الملابس (مانيكان)، شيء مثالي بعيدًا عن كل الصفات الشخصية، ومن المؤكد أن جرانت لم يكن كذلك، ولكن إذا كان بإمكانك تخيُّلُ نوعٍ من الأناقة ليس مِثل دُمَى عرض الملابس، فهذا هو جرانت. سعى باركر سنواتٍ دون جدوى لمحاكاةِ أناقة مرءوسه؛ ولم ينجح إلا في أن ينتقيَ ملابسه بعناية فائقة. كان يفتقر إلى الذَّوق في الأمور المتعلقة بالملابس كما كان يفتقر إليه في معظم الأمور. فقد كان كادحًا. ولكن كان هذا أسوأَ ما يمكن أن يُقال عنه. فعندما كان يبدأ في الكدح وراء شخصٍ ما، كان هذا الشخص يتمنَّى عادة أنه لم يولَد قطُّ.

نظر إلى مرءوسه الآن بإعجابٍ لا يشوبه أيُّ استياء، مُقدِّرًا الأجواءَ الصعبة — فقد كان مستيقظًا طوال الليل بسبب عرق النَّسَا ومع ذلك جاء إلى العمل.

وقال: «جاوبريدج تعاني بشدة. في الواقع، تمادى الوضعُ في جاو ستريت حتى بلغ حدَّ التلميح إلى حدوث مؤامرة.»

«أوه؟ هل هناك من يراوغهم؟»

«لا، لكن مسألة الليلة الماضية هي خامس أمر كبير يحدث في منطقتهم في الأيام الثلاثة الماضية، وقد ضاقوا ذَرعًا من ذلك. يريدون منَّا تولِّيَ هذه القضية الأخيرة.»

«ما هي؟ مسألة صفِّ المسرح، أليس كذلك؟»

«نعم، وأنت الضابط المسئول عن التحقيقات. لذا اشْرَع في العمل. يمكنك أخذُ ويليامز معك. أريد أن يذهب باربر إلى بيركشاير من أجل عملية السطو التي وقعَت في نيوبري. سيحتاج السكان المحليُّون هناك إلى الكثير من التملُّق؛ لأننا استُدعينا، وباربر أفضل في ذلك الأمر من ويليامز. أعتقد أن هذا كل شيء. من الأفضل الذَّهابُ إلى جاو ستريت على الفور. حظًّا طيبًا.»

بعد نصف ساعة، كان جرانت يُجري مقابلةً مع جرَّاح شرطة جاوبريدج. قال الجراح إن الرجل قد وصل إلى المستشفى جثة هامدة. وكان السلاح خنجرًا رفيعًا وحادًّا للغاية. دُفع إلى ظهر الرجل على الجانب الأيسر من العمود الفقري بقوةٍ لدرجة أن المقبض ضغطَ ملابسه لتصيرَ لفافةً منعَت تدفق الدم. وما تدفَّق نُضِح حول الجرح دون أن يخرج إلى السطح الخارجي على الإطلاق. في رأيه، طُعن الرجل وقتًا طويلًا — ربما ١٠ دقائق أو أكثر — قبل أن ينهارَ عندما ابتعد عنه الواقفون أمامه. في سقوط مثل هذا، سترفعه الجماهيرُ وتنقله. في الواقع، يستحيل على المرء السقوطُ لو أراد ذلك في مثل هذا الحشدِ المكتظ. وظنَّ أنه من المستبعَد تمامًا أن يكون الرجلُ على علم بأنه قد تعرَّض للطعن. فقد كان هناك الكثيرُ من الضغط والتدافع والإيذاء اللاإرادي في هذه المناسبات بحيث لا يمكن ملاحظةُ ضربة مفاجئة وغير مؤلمة للغاية.

«وماذا عن الشخص الذي طعنه؟ هل لاحظتَ أي شيء مميز في الطعن؟»

«لا، إلا أن الرجل كان قويًّا وأعسَر.»

«ليست امرأة؟»

«لا، سيحتاج الأمر إلى قوةٍ أكبر مما تتمتع به المرأةُ لدفع النَّصل بالطريقة التي دُفع بها. كما ترى، لم يكن هناك مكانٌ لسحب الذراع للخلف. لا بد أن الضربة سُدِّدت من موضعٍ مريح. يا إلهي، لقد ارتكبَها رجل. رجلٌ حازم للغاية.»

سأل جرانت، الذي أحبَّ سماع الآراء العِلمية حول أيِّ موضوع: «هل يمكنك إخباري بأيِّ شيء عن القتيل ذاتِه؟».

«ليس الكثير. تنشئة جيدة — مزدهرة، ينبغي أن أقول.»

«هل هو ذكي؟»

«نعم، جدًّا، كما أعتقد.»

«من أيِّ نوع؟»

«هل تقصد نوع المهنة؟»

«لا، يمكنني أن أستنتج ذلك بنفسي. أيُّ نوع من الطبع — أظن أنك تُسمِّيه كذلك — كان يتَّسمُ به الرجل؟»

«حسنًا فهمتُ قصدك.» فكَّر الجراح لحظةً. ونظر برِيبةٍ إلى مُحاوره. «حسنًا، لا أحد يستطيع أن يجزم بهذا — هل تعي هذه الحقيقةَ؟» وعندئذٍ اعترف جرانت بالصفة التالية: «لكن يجب أن أصفَه بأنه من أصحاب «القضايا الخاسرة».» رفع حاجبَيه مستفهمًا من المفتش، وأضاف وهو واثقٌ من فهمه: «كانت لديه صفاتٌ عَملية بما فيه الكفاية في وجهه، لكنَّ يدَيه كانتا يدَي رجل حالم. سترى بنفسك.»

نظَرا معًا إلى الجثة. كان شابًّا في التاسعة والعشرين أو الثلاثين من عمره، أشقرَ الشعر، عسليَّ العينين، نحيفًا، متوسطَ القامة. كانت اليدان، كما أوضح الطبيب، طويلتَين ورفيعتَين وغير معتادتَين على العمل اليدوي. قال الجراح وهو يُلقي نظرة على قدَمَي الرجل: «من المحتمل أن يكون وقف كثيرًا. وكان يسير وإصبع قدمِه اليسرى معوَجٌّ للداخل.»

سأل جرانت: «هل تعتقد أن الجانيَ كان مُلمًّا بعلم التشريح؟». كان من شِبه المستحيل أن يُصدِّق أحدٌ أن حفرة صغيرة جدًّا كهذه جعلَت الرجلَ يفقد حياته.

«لم يتمَّ ذلك بمثل دقةِ الجراح، إذا كان هذا ما تَعنيه. وبالنسبة إلى الإلمام بعلم التشريح، ففعليًّا كلُّ شخص عاش في فترة الحرب لديه معرفةٌ عمَلية بعلم التشريح. ربما كانت مجردَ ضربة حظ — وأنا بالأحرى أميل إلى ذلك.»

شكَره جرانت وذهَب لتولِّي الأمر مع مسئولي جاو ستريت. وُضِعَت على الطاولة المحتوياتُ الضئيلة لجيوب الرجل. شعر جرانت ببعض القلق عندما رأى قلةَ هذه الأشياء. منديل قُطني أبيض، وكومةٌ صغيرة من القِطَع النقدية (نصفَي كراون، ونصفَي شلن، وشلن، وأربعة بنسات، ونصف بنس) والمفاجأة مسدَّس خدمة. كان المنديل باليًا جدًّا ولم يكن به ملصقٌ يُبين طريقة الغسيل كما لا يحمل حرفًا أوَّليًّا. كان المسدس محشوًّا بالكامل.

فحص جرانت الأشياءَ باشمئزازٍ في صمت. سأل قائلًا: «هل توجد ملصقاتُ غسيل على ملابسه؟».

لا، لم تكن هناك ملصقاتٌ من أي نوع.

ولم يأتِ أحدٌ ليُطالب بجثته؟ أو حتى للاستفسار بشأنه؟

لا أحد سوى تلك العجوز المجنونة التي طالبَت بكل شخص عثرَت عليه الشرطة.

من الواضح أنه سيفحص الملابسَ بنفسه. ومن ثم فحص بدقةٍ كلَّ قطعة من الملابس. كان كلٌّ من القبعة والحذاء باليَين جدًّا، لدرجة أن اسم صانع الحذاء، الذي من المفترض أن يكون على البطانة، كان قد طُمس. واشتُريت القبعة عندما كانت جديدةً من شركة كانت تمتلك متاجرَ في جميع أنحاء لندن والمقاطعات. كِلاهما كانا من نوع جيد، وعلى الرغم من أنهما كانا باليَين، فإن نوعهما لم يكن رديئًا. كانت البدلة الزرقاء عصرية، بل بالأحرى تفصيلها مميز جدًّا، وربما ينطبق الشيء ذاتُه على المعطف الرمادي. كانت ملابس الرجل الداخلية جيدةً إن لم تكن باهظةَ الثمن، وكان القميص ذا لونٍ شائع. في الواقع، كانت جميع الملابس تعود إلى رجلٍ إما كان مهتمًّا بالملابس أو ينتمي لمجتمع يفعل ذلك. ربما كان موظَّفَ مبيعات في متجر ملابس للرجال. وكما قالوا في جاوبريدج، لم تكن هناك ملصقاتُ غسيل. وهذا يعني أن الرجل إما أنه أراد إخفاءَ هُويَّته أو أن ملابسه الداخلية تُغسَل عادةً في المنزل. ونظرًا إلى عدم وجود أي علاماتٍ لطمس الملصقات، فقد كان التفسير الأخير هو التفسيرَ المعقول. من ناحية أخرى، أُزيل اسم الخياط عمدًا من البدلة. ويشير ذلك بالإضافة إلى قلة متعلقات الرجل بالتأكيد إلى رغبته في إخفاء هُويته.

وأخيرًا الخنجر. لقد كان سلاحًا صغيرًا رهيبًا رفيعًا مثل الأفعى. كان المقبض من الفِضَّة، ويبلغ طوله نحوَ ثلاث بوصات، وعليه صورة قديس ملتحٍ يرتدي عباءة. وكانت مواضعُ متفرقة منه مطليَّةً بألوان أولية زاهية مثل الصور المقدَّسة المزخرفة في البلدان الكاثوليكية. بشكلٍ عام كان من النوع الشائع إلى حدٍّ ما في إيطاليا وعلى طول الساحل الجنوبي لإسبانيا. أمسَكَه جرانت بحذر شديد.

سأل: «كم عدد الأشخاص الذين لمَسوه؟».

كانت الشرطة قد صادَرَته بمجرد وصول الرجل إلى المستشفى وكان من الممكن إزالتُه. ولم يلمسه أحدٌ منذ ذلك الحين. لكن وجه جرانت أصبح خاليًا من تعبيرات الرِّضا التي كانت تَعْلوه عندما أُضيفَت معلومة أنه قد فُحِص السلاح بحثًا عن بصمات الأصابع ولم يجدوا شيئًا. ولا حتى بصمةً غيرَ واضحة تُكدِّر لمعانَ سطح القديس المتعجرف الذي نُقش عليه.

قال جرانت: «حسنًا، سآخذ هذه الأشياءَ وأمضي قُدُمًا.» وترك تعليماتٍ مع ويليامز لأخذ بصمات الرجل الميت ثم فحَص المسدسَ بحثًا عن أي خصائصَ غريبة. من وجهة نظره، بدا أنه مسدسُ خدمة عاديٌّ للغاية من النوع الذي كان شائعًا في بريطانيا منذ الحرب مثل الساعات البندولية ذات الصندوق الخشبي. ولكن، كما قيل، أحبَّ جرانت سَماع ما ستقوله السُّلطات بشأن رجلها. لذا استقلَّ سيارةَ أجرة وقضى بقية اليوم في مقابلة الأشخاص السبعة الذين كانوا بالقرب من الشخص المجهول عندما سقط الليلة السابقة.

عندما كانت سيارة الأجرة تتجوَّل به ترك تفكيرَه يجول بشأن الموقف. لم يكن لديه أدنى أملٍ في أن يكون هؤلاء الأشخاص الذين أجرى معهم مقابلاتٍ ذَوي فائدة له. لقد أنكَروا جميعًا أي معرفة بالرجل عند استجوابهم أولَ مرة، ولم يكن من المحتمل أن يُغيروا رأيهم بشأن ذلك الآن. وأيضًا، لو رأى أيٌّ منهم رفيقًا للرجل الميت سابقًا، أو لاحظ أيَّ شيء مريب، لصاروا على أتم الاستعداد لقول ذلك. ووفقًا لخبرة جرانت فإن ٩٩٪ من الأشخاص يُقدِّمون معلوماتٍ غيرَ مفيدة إذا ما لزم المرء الصمت. مرةً أخرى، قال الجرَّاح إن الرجل تعرض للطعن قبل أن يلتفت إليه أحد، ولن يبقى أيُّ قاتل بالقرب من ضحيته حتى يتم اكتشافُ ما حدث. حتى مع احتمالية أن يخطر ببال القاتل ارتكابُ خدعة، فإن فرص وجود صلةٍ بينه وبين ضحيته كانت جيدة جدًّا للسماح للرجل العاقل — والرجل العازم على الحفاظ على نفسه عادةً ما يكون حاذقًا بدرجة كافية — بالانغماس فيها. لا، فالرجل الذي فعل ذلك قد ترك الصفَّ في وقتٍ سابق. يجب أن يجد شخصًا لاحظَ الرجلَ المقتول قبل وفاته ورآه يتحدث مع شخصٍ ما. كان هناك، بالطبع، إمكانيةُ مواجهة أنه لم يكن هناك محادثة، وأن القاتل قد اتخذ مكانًا خلف ضحيته وتسلل بعيدًا عندما انتهى الأمر. في هذه الحالة، كان عليه أن يعثر على شخص رأى رجلًا يُغادر الصف. وينبغي ألا يكون هذا أمرًا صعبًا. يمكن الاستعانة بالصحافة.

فكَّر بتكاسل في نوع الرجل الذي سيكون عليه. لم يستخدم أيُّ رجل إنجليزي حذرٍ مثلَ هذا السلاح. ولو استخدم الفولاذ بأيِّ حال من الأحوال، فإنه سيأخذ شفرة حلاقة ويقطع عنقَ شخص. لكن سلاحه المعتادَ كان الهراوة، وفي حالة فشل ذلك، كان المسدس. كانت هذه جريمةً خُطِّط لها ببراعة ونُفِّذَت بمهارة كانت غريبةً على تفكير الرجل الإنجليزي المعتاد. أعلنت الأنوثةُ الطاغية بها عن شخص شاميٍّ، أو على أقل تقدير شخص اعتاد على عادات الحياة الشامية. ربما كان بحَّارًا. ربما ارتكبها بحار إنجليزي اعتاد على موانئ البحر الأبيض المتوسط. ولكن حينها، هل كان من المحتمل أن يفكر البحَّار في أي شيء ماكر مثل صفِّ الانتظار؟ كان من المرجَّح أن ينتظر في ليلة مظلمة وشارع منعزل. روعة الأمر كانت شامية. كان الرجل الإنجليزي مهووسًا بالرغبة في الضرب. ولكن طريقة الضرب لم تكن تَعنيه عادة.

جعل ذلك جرانت يُفكر في الدافع، وظن أن الدوافع الأكثر وضوحًا هي: السرقة، والانتقام، والغَيرة، والخوف. استُبعد الدافع الأول؛ فقد كان من الممكن أن يسرق متمرِّسٌ خبير جيوبَ الرجل عدة مرات في مثل هذا الحشد، دون أي عنفٍ يُذكر. هل كان انتقامًا أم غَيرة؟ على الأرجح، كان الشاميون معروفين بضعفهم فيما يخصُّ مشاعرهم؛ فيمكن لإهانة أن تثير استياءهم مدى الحياة، وابتسامةٍ شاردة من محبوبهم، تُفقدهم السيطرة على أنفسهم. هل فرَّق الرجل عسليُّ العينين — الذي كان بلا شك جذابًا — بين الشامي وفتاتِه؟

من غير سببٍ، لم يعتقد جرانت ذلك. ولم يغفل لحظةً عن هذا الاحتمال، لكنه لم يعتقد ذلك. بقي الخوف. هل كان المسدس المحشوُّ بالكامل مُعَدًّا للرجل الذي طعن ظهر المالك بتلك القطعة الفولاذية؟ هل كان القتيل ينوي إطلاق النار على الشامي بمجرد رؤيته، وهل عرَف القاتلُ ذلك وعاش في رعب؟ أم أنه كان العكس؟ هل كان القتيل يحمل سلاحًا للدفاع عن نفسه ولكن لم ينفعه ذلك؟ ولكن حينها سيكون هناك رغبةُ الرجل المجهول في إخفاء هُويته. فمسدسٌ محشوٌّ في هذه الظروف يعني الانتحار. ولكن إذا كان ينوي الانتحار فلماذا لم يؤجِّله حتى ذَهابه إلى المسرحية؟ وما الدافع الآخر الذي حدا بالرجل إلى عدم الكشف عن هُويته؟ هل هو خلافٌ مع الشرطة — اعتقال؟ هل كان ينوي إطلاق النار على شخصٍ ما، وخوفًا من عدم تمكُّنه من الهرب، جعل نفسه مجهولَ الاسم؟ كان ذلك واردًا.

كان من الآمن إلى حدٍّ ما، على الأقل، افتراضُ أن الرجل الميت والرجل الذي سمَّاه جرانت في ذهنه الشامي كانا يعرف أحدُهما الآخرَ حقَّ المعرفة بالقدر الكافي لإثارة أحدِهما غضَبَ الآخر. وكان جرانت لا يؤمن كثيرًا بأن الجماعات السرية أصلُ جرائم القتل غير المعتادة. فالجماعات السرية تستمتع بالسرقة والابتزاز وكلِّ الأساليب القذرة للحصول على شيء مقابلَ لا شيء، ونادرًا ما يكون هناك أيُّ شيء غير مألوف بشأنها، كما كان يعلم من تجارِبَ مريرة. علاوةً على ذلك، لا توجد جماعاتٌ سرية مثيرة للإعجاب في لندن في الوقت الحالي، وكان يأمُل ألا تبدأ في الظهور. فالقتل حسَب الطلب كان يُصيبه بالملل الشديد. وما أثار اهتمامه هو إمكانية تلاعب العقل بالعقل، والعاطفة بالعاطفة. مثل الرجل الشامي والرجل المجهول. حسنًا، يجب أن يبذل قصارى جهده لمعرفة هوية الرجل المجهول — وهذا من شأنه أن يوفِّر له معلوماتٍ عن الرجل الشامي. لماذا لم يُطالب به أحد؟ ولكن هذا سابقٌ لأوانه، بالطبع. قد يتعرَّفه شخصٌ ما في أي لحظة. فبرغم كل شيء، لم يفتقده أهله إلَّا لليلة واحدة فقط، ولا يندفع الكثيرُ من الناس لرؤية رجلٍ مقتول لمجرد أن ابنهم أو أخاهم لم يعُد إلى المنزل لليلة.

بصبرٍ ومراعاةٍ وعقل يَقِظ، أجرى جرانت مقابلاتٍ مع الأشخاص السبعة الذين كان قد عزم على رؤيتهم وجهًا لوجه. صحيحٌ أنه لم يكن يتوقع تلقِّيَ معلومات منهم مباشرة، لكنه أراد أن يراهم بنفسِه وأن يُشكِّل رأيًا عنهم. وجدهم جميعًا يُمارسون أعمالهم المختلفة باستثناء السيدة جيمس راتكليف، التي كانت طريحةَ الفراش ويُرافقها الطبيب، الذي أعرب عن أسفه للصدمة العصبية التي ألمَّت بها. تحدثَت شقيقتها — فتاة فاتنة ذات شعر عسلي — إلى جرانت. من الواضح أنها جاءت إلى قاعة الاستقبال وهي رافضةٌ تمامًا فكرةَ السماح بدخول أي ضابط شرطة إلى شقيقتها في حالتها الحاليَّة. كانت رؤية ضابط الشرطة في الواقع أمرًا مذهلًا حتى إنها نظرت مرةً أخرى إلى بطاقته لاإراديًّا، وابتسم جرانت بداخله أكثرَ بقليل مما بدا عليه.

قال معتذرًا: «أعلم أنكِ تكرهين رؤيتي» كانت نبرةُ صوته حقيقيةً إلى حدٍّ ما «ولكني أتمنى أن تدَعيني أتحدَّث مع شقيقتك لمدة دقيقتَين فقط. يمكنك الوقوف خارجَ الباب ومعكِ ساعةُ إيقاف. أو يمكنك الدخول إذا أردتِ ذلك، بالطبع. لا يوجد شيء سريٌّ على الإطلاق فيما أريد أن أقوله لها. كل ما في الأمر أنني مسئولٌ عن التحقيقات في هذه القضية، ومن واجبي رؤية الأشخاص السبعة الذين كانوا بالقرب من الرجل الليلة الماضية. سيساعدني بشدةٍ إذا تمكنتُ من حذفهم جميعًا من القائمة الليلةَ والبدءِ في مهامَّ جديدة غدًا. ألا ترين؟ إنها مجرد شكليات لكنها مفيدة للغاية.»

كما كان يأمُل، أفلح هذا النوع من الجدل. فبعد قليل من التردد، قالت الفتاة: «دعني أذهب وأرَ ما إذا كان بإمكاني إقناعُها.» لا بد أن تقريرها عن ملامح المفتش الفاتنة كان تقريرًا ورديًّا؛ لأنها عادت في وقتٍ أقلَّ مما تجرَّأ على أمله وأخذَته إلى غرفة شقيقتها، حيث أجرى مقابلةً مع امرأة باكية أكَّدَت أنها لم تُلاحظ الرجل حتى سقط، وكانت عيناها الدامعتان تنظران إليه باستمرار بفضولٍ مخيف. كان فمُها مختبئًا خلف منديل ظلَّت تضغط عليه. تمنى جرانت أن تُزيحه لحظةً. فقد كان لديه نظريةٌ مفادها أن الأفواه تُفشي الأسرار أكثرَ من العيون — عندما يتعلق الأمر بالنساء بالتأكيد.

«هل كنتِ تقفين خلفه عندما سقط؟»

«نعم.»

«ومَن كان بجانبه؟»

لم تستطع أن تتذكَّر. لم يكن أحدٌ يهتم بشيء إلا بالدخول إلى المسرح، وعلى أي حال لم تُلاحظ قطُّ الأشخاصَ في الشارع.

قالت مرتجفةً وهو يُغادر: «أنا آسفة. أود أن أكون مفيدةً إن استطعت. ما زلت أرى ذاك الخنجر، وسأفعل أيَّ شيء لإلقاء القبض على الرجل الذي ارتكب الجريمة.» عندما خرج جرانت أبعَدَها عن تفكيره.

كان زوجها، الذي اضطُر أن يُسافر إلى المنطقة المالية بلندن من أجل لقائه — بإمكانه معرفة كلِّ شيء من شرطة سكوتلانديارد، لكنه أراد أن يرى كيف كانوا يقضون وقتَهم في اليوم الأول بعد جريمة القتل. قال إنه كان هناك قدرٌ غير محدود من التدافع العنيف في الصف، عندما فُتحت الأبواب؛ لذلك تغيرَت علاقاتهم مع الأشخاص المحيطين بهم قليلًا. وبقدر ما يتذكر، كان الشخصُ الواقف بجانب القتيل وأمامه هو شخصيًّا رجلًا كان ضمن مجموعةٍ من أربعة أفراد ودخل معهم. وقال، مثل زوجته، إنه لم يرَ الرجل بوعي حتى سقط.

وجَد جرانت أن الخمسة الآخرين يتمتَّعون بالقدر ذاتِه من البراءة واللاجَدْوى. لم يلاحظ أحدٌ الرجل. أذهلَ ذلك جرانت قليلًا. كيف لم يرَه أحد؟ لا بد أنه كان هناك طَوال الوقت. لا يشق المرء طريقَه إلى رأس صفِّ الانتظار دون جذب أكبر قدرٍ من الاهتمام غير المريح. وحتى أكثر الأشخاص غفلةً سيتذكرون ما رأته أعينُهم حتى لو كانوا غيرَ مدرِكين لما لاحَظوه حينها. كان جرانت لا يزال في حيرة عندما عاد إلى مقرِّ سكوتلانديارد.

هناك أرسَل إشعارًا إلى الصحافة يطلب من أيِّ شخص رأى رجلًا يُغادر صفَّ الانتظار التواصلَ مع شرطة سكوتلانديارد. وكذلك أرسل وصفًا كاملًا للرجل المتوفَّى، والتقدم المحرز في التحقيقات بالقدرِ الذي يمكن عرضُه على الجمهور. ثم استدعى ويليامز وطلب منه بيانًا بالمهمة التي كان مكلَّفًا بها. أفاد ويليامز أنه قد صُوِّرت بصمات القتيل وفقًا للتعليمات وأُرسلت للتحقيق بشأنها، لكن الشرطة لم تتعرَّفه. ولم يُعثر على بصماتٍ مماثلة بين قوائم الأسماء. ولم يستطع خبيرُ المسدسات العثورَ على أي شيء شخصي بشأن المسدس. ربما كان مستعملًا، واستُخدم كثيرًا، وكان بالطبع سلاحًا قويًّا للغاية.

قال جرانت باشمئزاز: «هاه! يا له من خبير!» وابتسم ويليامز.

وذكَّره: «حسنًا، لقد قال إنه لا يوجد شيءٌ مميز حياله.»

ثم أوضح أنه قبل أن يُرسِل المسدسَ إلى الخبراء، فحصَه بحثًا عن بصمات الأصابع، وقد وجَد الكثير منها وقام بتصويرها. والآن ينتظر النتيجة.

قال جرانت: «أحسنت»، وذهب لرؤية مفوض الشرطة حاملًا نسخة بصمات أصابع الرجل الميت معه. وسلَّم باركر ملخَّصًا عن أحداث اليوم دون الإدلاء بأي نظرياتٍ عن الأجانب تتجاوز ملاحظةَ أن هذه الجريمة كانت غير إنجليزية على الإطلاق.

قال باركر: «يا لها من أدلة قيِّمة غير مُجدية تلك التي لدينا! كل شيء ما عدا الخنجر، وهذا أشبهُ بشيء ملفَّق أكثر من كونه جزءًا من جريمة حقيقية.»

قال جرانت: «هذا ما أشعر به بالضبط.» وأضاف خارجًا عن السياق: «أتساءل كم شخصًا سينتظر في الصفِّ الليلةَ في وفينجتون.»

فقدَت البشريةُ إلى الأبد كيف كان يمكن لباركر التكهنُ بشأن الإجابة عن هذا السؤال الرائع بدخول ويليامز.

قال باقتضاب: «بصمات المسدس سيدي»، ووضعها على الطاولة. التقطها جرانت بدون حماسٍ كبير وقارنَها بالبصمات التي كان يحملها وهو شارد الذهن. بعد فترة وجيزة، تيبَّس على إثر اهتمام مفاجئ مثلما يتيبَّس المؤشر. كانت هناك خمس بصمات واضحة والعديد من البصمات غير المكتملة، لكن لم تكن البصمات المكتملة ولا البصمات الناقصة تخصُّ القتيل. أُرفق بالبصمات تقريرٌ من القسم المختص بالبصمات. لم يكن هناك أثرٌ لهذه البصمات في سجلاتهم.

عاد جرانت إلى غرفته، وجلس يفكر. ماذا يعني هذا الأمر، وما قيمة هذه المعلومة؟ ألم يكن المسدس مِلكًا للقتيل؟ ربما اقترضه؟ ولكن حتى لو كان اقترضه، فمن المؤكد أنه سيكون هناك بعضُ الدلائل التي تشير إلى أنه كان بحوزة القتيل. أم أن المسدس لم يكن في حوزته؟ هل دسَّه شخص آخَرُ في جيبه؟ لكن لا يمكن للمرء أن يدسَّ أي شيء بوزن مسدس الخدمة وحجمِه في جيب رجلٍ لا يعرفه. لا، ليس رجلًا حيًّا، لكن كان من الممكن أن يتم ذلك بعد طعنه بالخنجر. لكن لماذا؟ لماذا؟ لم يتوصَّل إلى حل، وإن كان بعيدَ المنال. أخرج الخنجر من غمده، وفحصه من خلال المجهر، لكنه أدخل نفسه في حالةٍ من فقدان الأمل. كان مُجهَدًا. وكان يريد الخروج والمشي قليلًا. فقد كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة للتو. وكان يريد الذَّهاب إلى وفينجتون ليلتقيَ الرجل الذي كان يعمل حارسًا في الصالة الليلةَ الماضية.

لقد كانت أمسيةً هادئة ذاتَ سماء وردية، تلفُّ لندن، بدرجات من اللون الأرجواني الضَّبابي. استنشق جرانت الهواءَ باستحسان. كان فصلُ الربيع على الأبواب. ففي حالِ تيسَّر له العثور على الشامي، سيتدبَّر أمر الحصول على إجازة — حتى لو كانت إجازة مرضية، إذا لم يستطع الحصول عليها بأي طريقة أخرى — ويذهب للصيد في مكانٍ ما. إلى أين يذهب؟ يمكنك الحصولُ على أفضل صيد في المناطق الجبلية، لكن الرفقة تميل إلى أن تكون مملةً بشكل مزعج. ربما كان سيذهب للصيد في نهر التيست — في ستوكبريدج. إن سمك السلمون المرقَّط ليس لطيفًا، ولكن هناك حانة صغيرة دافئة، بها أفضلُ رفقة. وكان سيحصلُ على حصان يركبه هناك ومِضمار سباق لينطلقَ به عليه. ما أجمل هامبشاير في الربيع!

لذا أخذ يُفكر، وهو يسير بخفةٍ بمحاذاة ضفةِ النهر، في أشياءَ بعيدةٍ كلَّ البعد عن الأمر الذي كان يَشغَل تفكيره آنذاك. والسبب في ذلك أن تلك كانت طريقةَ جرانت. فبينما كان شعار باركر: «فكِّر مَليًّا في الأمر! فكر باستمرار فيه، نائمًا ومستيقظًا، وستجد جوهرَ الموضوع الذي يهمك.» كان هذا صحيحًا بالنسبة إلى باركر ولكن ليس لجرانت. تحجَّج جرانت ذات مرة أنه عندما يُفكر في أمرٍ ما مَليًّا إلى هذا الحد، فإنه لا يستطيع التفكيرَ في أي شيء سوى الألم الذي يشعر به في رأسه، وقد كان يعني ما يقول. فعندما كان يُحيره شيءٌ ما، وجد أنه إذا استمرَّ في القلق بشأنه، لا يُحرز أيَّ تقدم، ويفقد حسَّه التقديري لأهمية الأشياء خلال ذلك. ومن ثَم عندما وصل إلى طريق مسدود، انغمَس فيما أسماه «إغماض عينيه» قليلًا، وعند «فتحهما» مرةً أخرى عادةً ما يجد ضوءًا جديدًا على الأشياء يكشف عن زوايا غيرِ متوقَّعة، ويجعل المشكلة القديمة اقتراحًا جديدًا تمامًا.

كان هناك عرضٌ صباحي عصرَ ذلك اليوم في وفينجتون، لكنه وجد المسرح كالمعتاد تسودُه حالة من الوحشة بالجزء الأمامي وكآبةٌ قذرة بالجزء الخلفي. كان الحارس موجودًا في المبنى، لكن لم يكن أحدٌ متأكدًا تمامًا من مكان وجوده. ففي وقتٍ مبكر من المساء، كانت التزاماتُه كثيرة ومتنوعة، على ما يبدو. بعد عودة العديد من المبعوثين اللاهثين من جميع أنحاء المبنى مع تقاريرَ مفادها أن «لا، يا سيدي، لا يوجد أثر له»، انضمَّ جرانت نفسُه في عملية البحث، وفي النهاية عثر على الرجل في ممرٍّ معتم خلف المسرح. عندما أوضح جرانت مَن هو وماذا يريد، عبَّر الرجل بفصاحةٍ عن اعتزازه وحماسه. فقد كان معتادًا على أن يكون بالقرب من الطبقة الأرستقراطية الموجودة بالمسرح، ولكن لم تكن لديه الفرصةُ كلَّ يوم للتحدث بشكل وُديٍّ مع هذا الكائن المهيب بشدة، مفتش من إدارة التحقيقات الجنائية. كان يبتسم بابتهاج، ويُغير باستمرار زاويةَ قبعته، ويلمس أوسمته بأصابعه، ويجفِّف كفَّيه بشكلٍ عفوي، ومن الواضح تمامًا أنه كان سيقول إنه رأى قردًا في صفِّ الانتظار إذا كان ذلك سيُسعد المفتش. تأوَّه جرانت بينه وبين نفسه، لكنَّ جزءًا بذاته هو الذي كان دائمًا يقف بمعزلٍ عن كل ما يفعله — الجزء المُشاهَد منه الذي كان موجودًا بوفرةٍ لديه — كان مُمتنًّا لشخصية هذا الرفيق. ومع توفير ذلك لمستقبلٍ افتراضي وهو إحدى سمات المحقق المحترف، كان يودِّعه وداعًا وَدودًا يسوده الكثيرُ من عدم الجدوى، عندما قال صوتٌ ساحر: «يا إلهي، إنه المفتش جرانت!» والتفتَ ليرى راي ماركابل بملابسِها الأنيقة، كان واضحًا أنها قاصدةٌ غرفةَ ملابسها.

«هل تبحث عن وظيفة؟ أخشى أنه لا يمكنك حتى الحصول على دورٍ هامشي للغاية في هذه الساعة المتأخرة.» كانت ابتسامتها الصغيرة تُضايقه ونظرَت إليه عيناها الرماديتان بوُدٍّ من تحت جفنَيها المتدلِّيَين. لقد التقيا العامَ السابق بسبب سرقة حقيبة أدوات زينة باهظة الثمن كانت واحدة من هدايا أكثرِ مُعجَبيها ثراءً، وعلى الرغم من أنهما لم يلتقيا مرةً أخرى منذ ذلك الحين، فإنه من الواضح أنها لم تنسَه. ورغمًا عن نفسه، كان يشعر بالإطراء — حتى عندما كان الجزء المشاهَد منه على علمٍ بذلك وكان يضحك. شرَح مهمته في المسرح، وتلاشَت الابتسامة من وجهها على الفور.

قالت: «آه، هذا المسكين!». وأضافت على الفور، واضعةً يدها على ذراعه: «ولكنْ ثمة شيءٌ آخر. هل كنتَ تطرح الأسئلة طوال وقتِ ما بعد الظهر؟ يجب أن يكون حلقُك جافًّا جدًّا. تعالَ نحتسِ كوبين من الشاي معًا في غرفتي. خادمتي هناك وستُعدُّهما لنا. نحن نحزم الأمتعة، كما تعلم. إنه لَأمرٌ محزن للغاية بعد كل هذا الوقت الطويل.»

أرشدَته إلى غرفة تبديل الملابس الخاصة بها، مكان نصفه مُحاط بالمرايا والنصف الآخر بخزائنِ ملابس، وبدا أشبهَ بمتجرٍ لبيع الزهور أكثرَ من أي غرفة مصمَّمة لسُكنى آدمي. وأشارت بيدها إلى الزهور.

«شقتي لن تستوعب أكثرَ مما استوعبت؛ لذا عليها أن تبقى هنا. كان القائمون على المستشفيات مهذَّبين للغاية، لكنهم قالوا بحزمٍ إنهم لديهم ما يكفيهم. وربما لا يمكنني أن أقول «ممنوع الزهور»، كما يفعلون في الجنازات، من غير أن أجرحَ مشاعر الناس.»

قال جرانت: «إنه الشيء الوحيد الذي يمكن لمعظم الناس فِعلُه.»

قالت: «أوه، نعم، أعلم ذلك. أنا لستُ ناكرةً للجميل. فقط تغمرني المشاعر.»

عندما أصبح الشاي جاهزًا، سكَبَت له كوبًا، وقدَّمَت الخادمة بسكويتًا ناعمًا محفوظًا في علبة قصدير. وبينما كان يُقلب الشايَ الخاص به وكانت تسكب لنفسها، أرسل إليه عقلُه رجفةً مفاجئة، مثلما يَكِزُ راكبٌ عديم الخبرة فمَ حصانه عندما يجفل. كانت عسراء!

قال لنفسه باشمئزاز: «يا إلهي! ليست المسألة أنك تستحقُّ إجازة، بل أنك بحاجةٍ إليها. ماذا أردت من التشديد على تصريحٍ مثل هذا؟ كم عدد الأشخاص الذين يستخدمون اليدَ اليسرى برأيك في لندن؟ يتنامى لديك أشدُّ أنواع القلق غرابةً.»

لكسرِ حاجز الصمت ولأنه كان أول ما يخطر بباله، قال: «أنت عسراء.»

قالت بلا مبالاة، كما يستحق الموضوع: «نعم»، وأخذَت تسأله عن تحقيقاته. أخبرَها بقدر ما سيظهر في صحافة الغد ووصَف الخنجر لأنه أكثرُ جوانب القضية إثارةً للاهتمام.

«المقبض فضي صغير عليه صورة قديس وزخارف مطليَّة بالمينا باللونين الأزرق والأحمر.»

ظهَر شيءٌ ما فجأةً في عيني راي ماركابل الهادئتين.

قالت لاإراديًّا: «ماذا؟»

كان على وشك أن يقول: «هل رأيتِ واحدًا مثله؟» لكنه غيَّر رأيه. كان يعلم في الحال أنها ستقول لا، وأنه كان سيتنازل عن حقيقة إدراكه لوجود شيءٍ كان يجب أن يكون على علم به. كرَّر الوصفَ فقالت:

«قديس! يا له من أمر غريب! وغير مناسب! ومع ذلك، في مهمَّة كبيرة مثل الجريمة، أفترض أنك تريد مباركةَ شخصٍ ما.»

مدَّت يدها اليسرى بهدوءٍ ولطف لأخذ كوبه، وبينما كانت تُعيد مَلْئه، شاهد رُسغَها الثابت وسلوكَها غير العاطفي وتَساءل عما إذا كان هذا أيضًا يمكن أن يكون غيرَ معقول من جانبه.

قالت ذاته الأخرى: «بالتأكيد لا. ربما تعاني من نوباتِ تمييزٍ في أماكن غريبة، لكنك لم تصل إلى مرحلةِ تخيُّل الأشياء بعد.»

ناقَشا أحوال أمريكا، التي يعرفها جرانت جيدًا والتي كانت على وشك زيارتها للمرة الأولى، وعندما غادر كان مُمتنًّا لها بصدقٍ على الشاي. نسي كل شيء عن الشاي. والآن لا يُهم كم تأخر موعدُ تناوله العشاء. ولكن أثناء خروجه، طلَب قدَّاحة لسيجارته من الحارس، وفي إطار انطلاقٍ آخرَ للثرثرة وحُسن النية، علم أن الآنسة ماركابل كانت في حُجرة ملابسها من الساعة السادسة مساءَ اليوم السابق حتى ذَهاب خادم المسرح لاستدعائها قبل أول ظهور لها. قال وهو يرفع حاجبَه بطريقةٍ شديدة الإيحاء أن اللورد لاسينج كان هناك.

ابتسم جرانت وأومأ برأسه وذهب بعيدًا، لكن بينما كان في طريق عودته إلى سكوتلانديارد، لم يكن يبتسم. ما الذي ظهر على الفور في عينَي راي ماركابل؟ لم يكن خوفًا. لا، هل كان إدراكًا؟ نعم، كان كذلك. إدراكٌ على أغلب الظن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤