الفصل السادس

الشامي

كانت الغرفة ذاتُ اللونين الأخضر والذهبي نصفَ فارغة وهو يشقُّ طريقه إلى إحدى زواياها، وتباطأَ مارسيل في الكلام. شهدت الأمورُ تقدمًا مع المفتِّش، على ما يبدو؟ آه، لكن المفتش جرانت كان خارقًا. حصل على رجلٍ كامل من خنجر صغير! (باستثناء طبعات الصباح الباكر، أذاعت الصحافةُ وصف الرجل المطلوب في جميع أنحاء بريطانيا.) لقد كان شيئًا مرعبًا. إذا كان هو، أي مارسيل، سيُحضر له شوكةَ سمك مع الطبق الرئيسي، فقد يتمُّ ذلك لإثبات أنه كان لديه طبقةٌ من الجلد السميك على إصبَع قدمه الصغيرة اليُسرى.

تبرَّأ جرانت من أي صفاتٍ هولمزية من هذا القبيل. «التفسير المعتاد المقدَّم لمثل هذه الأخطاء الصغيرة هو أن المذنب واقعٌ في الحب.»

قال مارسيل ضاحكًا: «آه، ليس صحيحًا! أنا أتحدَّى حتى المفتش جرانت أن يجدَني مذنبًا في ذلك.»

سأل جرانت: «أوه؟ هل تكره البشر؟».

لا؛ أحَبَّ مارسيل بني جنسه، لكن على جرانت أن يعرف أن زوجته كانت امرأةً صارمة.

قال جرانت: «أعتقد أنني تعرفتُ على فتًى يعمل معكم في حجرة المؤن في يوم سابق. ليجارد، أليس كذلك؟»

آه راءول. إنه فتًى طيبٌ جدًّا. وجميلٌ أيضًا، أليس كذلك؟ هل رأيت عينيه والمنظرَ الجانبي لوجهه؟! لقد أرادوه أن يُمثِّل في السينما، لكن راءول لم يوافق. وكان سيُصبح رئيسَ الفندق. ولو كان لمارسيل أيُّ رأي في ذلك الأمر، لأصبح لراءول كذلك.

أخذ وافدٌ جديد الطاولةَ المقابلة، وذهب مارسيل، بعد اختفاء اللباقة من وجهه مثل رُقاقات الثلج على الرصيف المبلَّل، للاستماع إلى احتياجاته بمزيجٍ من الغطرسة المتسامحة وشرودِ ذهنٍ سماوي اعتاد عليه في التعامل مع الجميع باستثناء الخمسة المفضَّلين لديه. تناول جرانت وجبتَه على مهَل، ولكن حتى بعد التباطؤ في تناول القهوة، كان لا يزال الوقتُ مبكرًا عندما وجد نفسَه في الشارع. كان شارع ستراند رائعًا كالنهار ومزدحمًا، حيث التقى المتأخِّرون في العودة إلى المنزل بالمبكِّرين في البحث عن المتعة مما تسبَّب في حالةٍ من القلق ملأَت كلًّا من ممرِّ المشاة والطريق. مشى ببطءٍ على الرصيف المبهرَج باتجاه محطةِ تشارينج كروس، داخل وخارج الضوء المتغيِّر القادم من نوافذ المتاجر: ضوء وردي، ضوء ذهبي، ضوء ماسي؛ محلُّ أحذية، محل ملابس، محال الحُلي. بعد وقتٍ قصير، في الرصيف الأوسعِ أمام «عنق الزجاجة» القديم، تضاءل الحشدُ وأصبح الرجالُ والنساء يمشون فُرادى بدلًا من مجموعاتٍ من الغوغاء. استدار رجلٌ كان يسير على بُعد عدة يارداتٍ أمام جرانت وكأنه يبحث عن رقم حافلةٍ قادمة. نظر نظرةً خاطفة على جرانت، وفي الضوء الماسي الساطع من النافذة، ظهَر على وجهه الهادئ فجأةً قناعٌ من الرعب. ودون تردُّدٍ لحظةً أو إلقاءِ نظرة على اليمين أو اليسار، اندفع متهورًا نحوَ حركة المرور أمام حافلةٍ مسرعة. واحتُجِز جرانت بالحافلة التي مرَّت بسرعةٍ أمامه مُحدِثةً ضجةً كبيرة، ولكن قبل أن يلتفَّ آخِرُ جزء منها، كان قد ابتعد عن الرصيف ملاحقًا الرجلَ باضطرابٍ هائل. في تلك اللحظة المزدحمة، عندما كانت عيناه تهتمَّان بالعثور على شخصٍ يهرب أكثرَ من البحث عن المخاطر التي تُهدده هو شخصيًّا، فكَّر بوضوح، «ألن يكون الموتُ تحت حافلةٍ في شارع ستراند أمرًا فظيعًا بعد مراوغة الألمان لمدة أربع سنوات!» بعد سَماع صرخةٍ في أذنه، فرَّ متوترًا بما يكفي للسماح لسيارة أجرةٍ بالمرور بجواره على بُعد بضع بوصات يقودها سائقٌ يشتم ويعلو صوته بالسِّباب. تفادى سيارةً رياضية صفراء، ورأى شيئًا أسودَ يطنُّ عند كوعه الأيسر، تعرف عليه على أنه عجَلة أمامية لحافلة، قفز إلى الخلف، وهوجم على يمينه بسيارةِ أجرة أخرى، وقفز خلفَ الحافلة أثناء مرورها، على بُعد ياردة من الحافلة التالية ووصل إلى مكانٍ آمن على الرصيف البعيد. بنظرةٍ سريعة إلى اليمين واليسار. وجد أن الرجل يسير بخطًى ثابتة نحو شارع بيدفورد. من الواضح أنه لم يتوقَّع مثلَ هذا القرار السريع من جانب المفتش. أقسمَ جرانت مَجازًا بإشعال شمعةٍ للقديس الذي جعله يعبر الشارعَ بأمان، وبدأ يسير بشكلٍ عادي مما أبقاه على مسافةٍ مناسبة من الشخص الذي يُطارده. والآن، إذا نظر حوله قَبْل شارع بيدفورد، سيعلم أنه لم يكن مخطئًا — وأنها حقًّا كانت رؤيته هي التي أخافَتْه وليس فكرة مفاجئة. لكنه لم يكن بحاجةٍ إلى إلقاء نظرةٍ أخرى على الرجل للتحقق من انطباعه عن عظام الوجنتَين البارزة، والوجه الداكنِ الرفيع، والذقن البارز. وكان يعرفُ بالتأكيد كما لو أنه رآها أن هناك ندبةً حديثة على سبَّابة الرجُل اليسرى أو إبهامِه.

بعد ثانيةٍ نظَر الرجل إلى الوراء — ليس بتلك النظرة الخاطفة الشاردة التي يُعطيها المرء، دون معرفة السبب، ولكن بدوَران الرأس لمدة ثانيتين مما يعني تدقيقًا متعمَّدًا. وبعدها بثانيةٍ واحدة، اختفى في شارع بيدفورد. حينها ركَض جرانت بسرعة. كان بإمكانه أن يرى بوضوحٍ في عقله ذلك الشخصَ النحيف الذي يهرب مسرعًا في الشارع المظلِم المهجور دون أن يوقِفَه أحد. عندما انعطَف عند الزاوية وتوقَّف، لم يستطع رؤيةَ أيِّ أثر لطريدته. الآن، لم يكن من الممكن حتى لشخص بسرعةِ العدَّاء الأوليمبي بيرلي أن يبتعدَ عن الأنظار في ذلك الوقت إذا كان قد سلَك مسارًا مستقيمًا؛ لذلك سار جرانت بسرعة، متوقعًا حدوثَ خدعة، بالجانب الأيمن من الشارع، وعينه حذرةٌ عند كل ركن. انتابه القلق لعدم حدوث شيء؛ نما بداخله شعورٌ بأنه قد خُدع. توقَّف ونظر إلى الوراء، وأثناء قيامِه بذلك، في نهاية شارع ستراند، تحرَّك شخصٌ من مدخلٍ على الجانب الآخر من الشارع وهرب عائدًا إلى الشارع الرئيسي المزدحم الذي كان قد تركه. في غضونِ ٣٠ ثانية، وصل جرانت إلى شارع ستراند مرةً أخرى، لكن الرجل كان قد اختفى. كانت الحافلات تأتي وتذهب، وسيارات الأجرة تسير بالقرب من المكان، والمتاجرُ مفتوحةً في جميع أنحاء الشارع. لم يكن اختيارُ وسيلة للهروب أمرًا صعبًا. لعَنه جرانت، وحتى وهو يلعنه فكَّر، حسنًا، لقد خدَعَني بدقةٍ شديدة، لكنني أتوقع أنه يلعنُني أكثرَ مما ألعنه لحماقتِه في إظهار أنه يعرفني. كان ذلك سوءَ حظٍّ بالغًا. وللمرة الأولى شعَر بالرضا عن الصحافة التي جعلَت ملامحه متاحةً للجميع؛ رغبةً منها في تثقيف عامة الناس. قام بدوريات في الشارع بعضَ الوقت، ملقيًا نظرةً استكشافية وإن كانت غيرَ متفائلة على المتاجر أثناء مرورِه عليها. ثم انسحب إلى ظلام أحدِ المداخل، حيث بقي بعضَ الوقت متمسِّكًا باحتمالية أن الرجل قد اختبأ بدلًا من أن يهرب، وسيظهر مرةً أخرى عندما يعتقد أن المكان أصبحَ آمنًا. وكانت النتيجة الوحيدة لذلك أن شرطيًّا فضوليًّا كان يُراقبه بعضَ الوقت من الجانب الآخر من الشارع إذ أراد أن يعرف ما الذي كان ينتظره. خرج جرانت إلى النور وشرح الظروفَ للضابط المعتذِر، وتوصَّل إلى أن الرجل قد هرب، وذهَب للاتصال هاتفيًّا بشرطة سكوتلانديارد. كان دافعُه الأول عندما خدَعه الرجل وهرب هو نشْرَ فرقة شرطةٍ في شارع ستراند، لكن الشيء الذي منَعه هو رؤيتُه حركةَ المرور السريعة ومعرفته أنه بحلول الوقت الذي يصل فيه أيُّ شخص من جسر نهر التيمز، ولو في سيارةٍ سريعة، قد يكون الرجل المطلوب في طريقه إلى جولدرز جرين أو کیمبرویل أو إلستري. كانت الأجواءُ غيرَ مناسبةٍ لنشر القوة.

بينما كان يتوجَّه ببطءٍ نحو ميدان ترافلجار بعد إجراء المكالمات الهاتفية، ابتهجَت معنويَّاته. في الساعة الماضية كان يشعر بالاشمئزاز من نفسه إلى حدٍّ عجزَت مفرداته عن وصفه. كان الرجل أمامه على بُعد ست ياردات، وتركه يُفلت من بين أصابعه. الآن أصبح الجانب المضيء للوضع واضحًا. لقد ارتكب زلَّة هناك بالتأكيد، ولكن حتى في نهاية الزلة تطوَّرَت الأحداث — تطورَت كثيرًا — عما كانت عليه عندما بدأ. كان يعلم على وجهِ اليقين أن الشاميَّ كان في لندن. كان ذلك تقدمًا هائلًا. وإلى أن قُدِّمت أوصافُه للشرطة في الليلة السابقة، لم يكن هناك ما يمنع القاتلَ من مغادرة لندن في أيِّ لحظة. كان سيتعيَّن عليهم النظرُ في التقارير الواردة من جميع أنحاء بريطانيا — وكان لدى جرانت تجرِبةٌ مريرة مع مثلِ هذه التقارير عن الرجال المطلوبين — وربما القارة، لولا ذلك اللقاءُ الذي حدَث مصادفةً في شارع ستراند، وافتقارُ الرجل إلى ضبطِ النفس في لحظةِ هَذَيان. الآن علموا أنه كان في لندن، ويمكنهم حشدُ قواتهم. كان بإمكانه الرحيلُ عبر الطرق الفرعية، لكنه لم يستطع بأي طريقةٍ أخرى، وقد رأى جرانت أنه سيجدُ صعوبةً في استئجار سيارة من أي مرأب معروف. ذلك فقط جعَل الأمورَ صعبة عليه ولكنه لم يمنعه من الذَّهاب إذا أراد ذلك، لكنه جعل خروجَه أبطأَ بكثير. كان مكوثُه في هذه الظروف مستغرَبًا عندما كان الطريق خاليًا. لكن جرانت كان يعرف عادةَ اللندني المتعنِّتة المتمثلة في التشبُّث بالمدينة التي يعرفها، وتفضيل الأجانب للمجاري على العَراء مثل الفئران. كلاهما سيكون أكثرَ ميلًا للاختباء من الركض. وبالطبع فإن الرجل المطلوب، رغم أن أوصافه لم تُنشَر، لم يكن لديه أيُّ ضمان بأن الشرطة لم يكن بحوزتها أوصافه. كان سيتطلَّب الأمرُ المزيدَ من الشجاعة أو التهور أكثر مما يمتلكه معظمُ الرجال لمواجهة محصِّل تذاكر أو مسئولِ قوارب في هذه الظروف. لذلك علق الرجل بالمدينة. من الآن فصاعدًا سيكون تحت رحمة إحدى الدوريات المستمرَّة لشرطة النجدة، وكانت فرص وقوعه تحت أيديهم مرةً أخرى ضئيلة للغاية. علاوةً على ذلك، فقد رآه جرانت. وكان ذلك تقدُّمًا هائلًا آخر. فلن يتَمكَّنا من الالتقاء مرةً أخرى، ولو على مسافةٍ بعيدة، دون أن يتعرَّفه جرانت.

الشامي في لندن، صديق القتيل الذي من المفترض أن يكون في لندن، الشامي الذي يمكن التعرُّف عليه، الصديق الذي على وشك تعقُّبِه عن طريق أوراقه النقدية؛ كانت الأمور، كما علَّق مارسيل، تشهد تقدُّمًا. في نهاية شارع سانت مارتن لين، تذكر جرانت أن هذه كانت آخرَ ليلة لعرض «ديدنت يو نو؟» كان سيذهب إلى هناك قليلًا ثم يعود إلى شرطة سكوتلانديارد. كانت أفكاره أكثرَ جدوى من غيرِ تحريض، وكان هدوء الغرفة في شرطة سكوتلانديارد بمثابة تحريضٍ صامت يُثير جنونَه. فأفكاره لن تعمل أبدًا حسَب الطلب. وتزيد احتماليةُ أن ينزل عليه الوحي وسطَ الشوارع المزدحمة، وسط الغوغاء الغاضبين الذين يتحفَّظون على الشامي في مكانٍ ما، أكثرَ من العزلة المضلِّلة في غرفته.

كانت المسرحية قد بدأَت منذ ٢٠ دقيقةً تقريبًا عندما عثَر جرانت، بعد محادثةٍ مع المدير، على ستِّ بوصات مربَّعة في الجزء الخلفيِّ من شُرفة المسرح الدُّنيا ليحضر واقفًا. كان الموقع رائعًا، حيث كان يشاهد العرض من مكانٍ مميز مظلم بعيدٍ جدًّا. وكان المسرح، الذي لم يتَّسع للجميع قطُّ، ممتلئًا من الأرض إلى السقف، والضوء الورديُّ الخافت يُضفي عليه طابَعًا من الإثارة التي لا توجد إلا عندما يكون كلُّ رجل من الجمهور متحمسًا. وقد كانوا جميعًا متحمِّسين، ذلك الحشد الخاص بليلة العرض الأخيرة، الراغبين بشدةٍ في توديع سبب هُيامهم. ملأ التملُّق، والصداقة الحميمة، والندمُ أجواءَ المكان مما جعل التجمعَ غيرَ بريطاني على الإطلاق؛ بسبب انغماسه في مشاعر الوقت الراهن. وبين الحين والآخر، عندما كان لا يذكر جولان نكتةً قديمة، قد يطلب أحدهم التصحيح. فيصيح قائلًا: «قل كل شيء يا جولي! قل كل شيء!» ويقول جولي كلَّ ما عنده. تهادت راي ماركابل بجَمالها على خشبة المسرح شبهِ الفارغة بخفَّةِ ورقة شجر في مهبِّ الريح شبهَ مترددة. كانت دائمًا، عندما ترقص، تمثل مجرد جزء بسيط من الإيقاع خلف الموسيقى؛ لذلك بدا كأن الموسيقى هي القوةُ المحركة، بدلًا من أن تكون شيئًا مكملًا، كما لو كانت الموسيقى هي التي ترفعها وتجعلُها تدور وتلف، وتطفو بميل، وتنصرف عنها بلطفٍ عندما تنتهي. وفي استجابة متكررةٍ لمطالبهم الصاخبة، دفعَتها الموسيقى إلى الحركة، وجعلتها تضحكُ وتتألق وترتجف، مثل كرةٍ بِلَّورية مثبَّتة على نافورةِ ماء، ثم ألقت بها بانحدارٍ سريع في حالةِ سكون لاهث قطعه صوتُ التصفيق الحاد. لم تكن لديهم رغبةٌ في أن يسمحوا لها بالرحيل، وعندما احتجزها أحدهم في النهاية بالقوة في الكواليس، وبُذلت جهودٌ لمتابعة القصة، كان هناك نَفادُ صبر ظاهر. لم يرغب أحدٌ في مشاهدة حبكة الليلة. ولم يرغب أحدٌ في ذلك من قبل. هناك عدد كبير جدًّا من روَّاد المسرح الأكثر حماسًا لم يكونوا على درايةٍ بوجود شيء من هذا القبيل، وكان عددٌ قليل منهم، إن وُجد، قادرًا على تقديم شرحٍ واضح له. والليلة، كان الإصرار على إضاعة الوقت بمثلِ هذه اللامبالاة حماقة.

لقد هدَّأهم دخولُ الجَوقة المُثْلى في بريطانيا قليلًا. اشتهرَت فتياتُ وفينجتون الأربعَ عشرةَ في قارتَين، وأعطت دراساتهن في الحركة المتزامنة المرء شعورًا يُضاهي الرضا التامَّ — الرضا الذي لا يُشبَع منه أبدًا — الذي يشعر به المرءُ عند رؤية حرَّاس الملك أو الملكة يعملون. لم يَدُرْ رأسٌ أكثرَ من اللازم، ولم تخرج إصبَعُ قدمٍ عن مسارِها. لم تكن هناك ركلةٌ أعلى من نظيرتها، أو سقوطٌ أسرع من الآخر. عندما نفَضَت آخرُ فتاة من الأربع عشرة تنُّورتَها الكولومبية ذاتَ اللونين الأسود والبرتقالي في حركةٍ جريئة قليلًا وهي تختفي خلفَ ديكور المسرح، كان الجمهور قد نسي راي تقريبًا. تقريبًا، ولكن ليس تمامًا. كان راي وجولان يسيطران على المسرح — فقد كانت ليلتَهما وليلةَ جمهورهما. وفي الوقت الحالي، أصبح نفادُ الصبر بشأن أيِّ شيء بخلاف راي أو جولان أمرًا ملحوظًا جدًّا لا يمكن تجاهله. كانت الأمسية بمثابة تصعيدٍ طويل من الإثارة تقترب بسرعةٍ من مرحلة الهستيريا. شاهد جرانت ببعض الشفقة الابتسامةَ الساخرة التي عبَّر بها المغني الرئيسي عن شُكره للاستحسان المعتاد الممنوح لأدائه الانفرادي العاطفي. فقد تغنَّى بتلك الأغنية المنفردة أصحابُ طبقات الصوت العالية فاتِرو الهمَّة في جميع أنحاء بريطانيا، وصفَّر بلحنِها جميعُ فِتيان التوصيل، وعزَفَتها، ببريقٍ أقلَّ، كلُّ فرقة موسيقية راقصة. من الواضح أنه كان يتوقع أن يُعيدها ثلاث مراتٍ على الأقل، ولكن بعد دندنة الجوقة الأخيرة معه لم يُظهروا أيَّ تقدير ملحوظٍ لها. حدث خطأٌ ما. لم يتمكنوا حتى من رؤيته. وبأفضلِ قدرٍ من الرشاقة التي تمكَّن من حشدها، أخذ مكانه خلف راي ماركابل، ورقَص وغنَّى ومثَّل معها — وفجأةً وجد جرانت نفسه يتساءل عما إذا كان فقدانه لبريقِه نجَم عن لمعان شخصية راي ماركابل، أم أنها قد استخدمَت تلك الشخصية عمدًا لإبقاء أضواء المسرح مسلَّطةً عليها. لم يُساور جرانت أيُّ شكوك بشأن المسرح أو بشأن السماحة المِهنيَّة للممثلات الرئيسيات. فنجوم المسرح تدمع أعينُهم بسهولةٍ ويُنفقون ببذخٍ على قصةٍ تعيسة الحظ، لكن طبيعتهم الطيبة تتلاشى عند مواجهة منافسٍ ناجح. وتشتهر راي ماركابل بكرمٍ واسع وعقلانية لطيفة. ولكن حينها، كان وكيلُها الصحفي يفوق معدلَ المراوغة العادية لذلك السباقِ الماكر. كان جرانت نفسُه قد قرأ «فقرات» عنها ولم يعرف أنها من أعمال وكيلها إلا عندما انتقلَت عيناه إلى العنصر التالي محلِّ الاهتمام. كان لدى وكيلها الصحفي تلك الصفةُ السامية في جعل وجود الشخص المعلَن عنه في القصة نتيجةً عرَضيَّة للموضوع الرئيسي بشكل كامل ومقنع.

ثم كانت هناك حقيقةٌ مشبوهة وهي أنها حَظِيَت بثلاثة ممثِّلين أساسيين خلال العامَين الماضيَين، بينما بقي باقي طاقم العمل على حالهم. هل يمكن أن تكون طريقتُها الودودة، وتواضعها، وأنوثتها — لم تكن هناك كلمةٌ أخرى لذلك — تمويهًا؟ هل كانت محبوبةُ لندن الرقيقةُ قاسيةً من الداخل؟ لقد تصوَّر أنها كما التقى بها «بالخارج»، متواضعة، ذكية، عاقلة للغاية. لا تستعرض طِباعها أو خصوصياتها. فتاة ساحرة تتصرَّف بذكاء. ويصعب تصديقُها. كان يعرف العديدَ من النساء المحتالات من النوع الرقيق اللاتي ليس لديهن مشاعرُ حنونة بغضِّ النظر عن تبرُّجهن. لكن حلاوة راي ماركابل لم يَشُبها شائبة، حلاوة كان من الممكن أن يُقسِم على صدقها. كان يُراقبها عن كثبٍ الآن، محاولًا من أجل رضاه — فقد كان معجبًا بها بشدةٍ — دحْضَ ذلك الإيحاء الذي طرَحَه عقلُه بشكل لاإرادي. لكن ما أثار استياءه أنه وجد شُكوكَه، الآن بعد أن اعتُرف بها وأصبحَت موضعَ تحقيق، تتأكَّد ببطء. كانت تتجنَّب الرجل. عندما بحَث عن الدلائل كانت جميعُها موجودة، لكن حِيكَت بمهارةٍ لم يشهَدْها جرانت من قبل. لم يكن هناك شيءٌ شديد الفظاظة مثل محاولة مشاركة التصفيق أو صرف الانتباه عنه، أو حتى مقاطعة التصفيق بتدخلٍ منها. كل هؤلاء يمكن أن يَذيع صيتُهم لما يفعلونه؛ ومِن ثم، من وجهة نظرها، هذا غيرُ مسموحٍ به. خطَر بباله أنها لم تكن شديدةَ الدهاء فحسبُ على نحوٍ يُغنيها عن اللجوء إلى مثلِ هذه الطريقة، بل كانت قويةً للغاية على نحوٍ يجعلها في غير حاجةٍ إليها. لم يكن عليها سوى استخدامِ شخصيتها المتوهِّجة بلا ضمير، ويتلاشى المنافسون كما تتلاشى النجومُ أمام الشمس. كان يظهر عجزها فقط مع جولان — فقد كان متوهجًا وقويًّا مثلها، إن لم يكن أكثرَ منها — ولذا كانت تُعاني منه. ولكن مع ممثِّلها الرئيسي — مغنٍّ رائع، حسَن المظهر، ووَدود — لم تجد صعوبة. لقد قالوا، كما يتذكَّر الآن، إنه من المستحيل العثورُ على ممثلٍ رئيسي جيد بما يكفي لها. كان هذا السبب. لم يكن يشكُّ في ذلك الآن. كان هناك شيءٌ غريب بشأن الوضوح الذي استجلى به فجأةً طريقةَ تفكيرها، غيرَ متأثرٍ بالإغراء الذي أحاط به. فقط هو وهي في كلِّ ذلك الحشد الثمل كانا منعزلَين، غيرَ متأثِّرَين بالعاطفة ويراقبان الوضع. لقد شاهدَها وهي تلعب مع ذلك البائس الحزين ببرود وتعمُّد كما كان سيفعل مع سمَك السلمون المرقَّط في نهر التيست. بابتسامةٍ ولطفٍ، أخذَت من يديه ما كان يمكن أن يكون انتصارًا، وثبَّتَته على ملابسها المبهِرة. ولم يُلاحظ أحدٌ أن النصر قد ضلَّ طريقه. وإذا كانوا ظنُّوا شيئًا من الأساس، فقد ظنوا أن الممثل الرئيسيَّ لم يرْقَ إلى المستوى المطلوب الليلةَ — ولكن، بالطبع، كان من الصعب الحصولُ على ممثلٍ رئيسي جيد بما يكفي من أجلها. وبعد أن استولت على قيمته، كانت ستسحبه من يدِه في نهاية المشهد بفطنةٍ ميكافيلية انتهازية إلى الأمام لمشاركة التصفيق، حتى يعتقد كلُّ شخص في المبنى أنه لا يستحقُّ الكثير! وتبرز دونيتُه وتبقى في الذاكرة. أوه، نعم، كان هذا ماكرًا. أصبحَت هذه المسرحية داخل المسرحية بالنسبة إلى جرانت التسليةَ التي استحوذَت على انتباهه في تلك الأمسية. كان يرى راي ماركابل الحقيقية، وكان المشهد غريبًا بشكل لا يُصدَّق. كان مستمتعًا للغاية لدرجة أن الستارة الأخيرة وجَدَته ما زال في مؤخرة الشُّرفة، تصمُّ آذانَه الهتافاتُ ويَشعر بالبرد بشكلٍ غريب. ارتفعت الستارة مِرارًا وتَكرارًا، ومرةً بعد مرة، على خشبة المسرح المتلألئة، وبدأ سَيل الهدايا والزهور يتدفَّق على أضواء المسرح. ثم جاء وقت إلقاء الخُطَب؛ أولًا، جولان، مُمسِكًا بزجاجة ويسكي مربَّعةٍ كبيرة محاولًا أن يكون مضحكًا، لكنه لم ينجح لأن صوته لم يظلَّ ثابتًا. ظن جرانت أن في ذهنه صورةً للسنوات المفجعة للغرف القذرة في البلدات القذرة، والعروض مرتين كلَّ ليلة، والخوف المروع الدائم من الطيور. لقد غنَّى جولان مدةً طويلة للحصول على عَشائه؛ لذا لا عجب أن المأدُبة أفقَدَته القدرةَ على الكلام. بعد ذلك جاء المنتج. ثم راي ماركابل.

قالت بصوتها الواضح البطيء: «السيدات والسادة، قبل عامين، عندما لم يعرفني أحد، كنتم لطفاءَ معي. لقد فاجَأتُموني حينها. والليلة فاجأتموني مرةً أخرى. لا يسَعُني إلا أن أقول شكرًا لكم.»

ظن جرانت أن خُطبتها متقنةٌ جدًّا، وهم يهتفون لها بصخب. مناسبةٌ تمامًا للدور. وانصرف. كان يعرف ما سيحدث؛ خطبة من كل شخصٍ وصولًا إلى خادم المسرح الذي يستدعي الممثِّلين، وقد سمع ما يكفي. نزل عبر الدهليز ذي اللونَين القرمزي والأصفر البرتقالي وخرَج إلى الظلام شاعرًا بانقباضٍ غريب في صدره. لو لم يكن قد ألقى جانبًا في السنوات الخمس والثلاثين من عمره كلَّ هذه المعوقات معتبرًا إياها وهمًا، لَظن المرءُ أنه أصيب بخيبةِ أمل. كان معجبًا جدًّا براي ماركابل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤