الفصل الثاني

حجرة كبير الخَدَم

ألقى ذاك الرجل الذي خاطبه براكسفيلد، والذي كان آخر شخص في العالَم يتوقَّع كبير الخَدَم رؤيته، مع أنَّه كان يتذكَّر إشارته على نافذة الحجرة جيدًا، نظرةً خاطفة حادَّة امتزج فيها الفضول بالارتياب على المَمر الضيق الذي كان مفتوحًا على رواق المنزل الرئيسي. ثم تحوَّلت نظرته بحدةٍ مُماثلة إلى وجه كبير الخدم العجوز الذي كان مشدوهًا ومُضطربًا، وكان السؤال الذي تلاها حادًّا مثلها.

«هل نام البقية؟»

بدأ براكسفيلد يرتجِف. كثيرًا ما كان يسمح لجاي ماركنمور بالدخول في وقتٍ متأخِّر ليلًا من هذا الباب نفسه في الأيام الخوالي، حين كانت النقرة المُتكرِّرة ثلاث مرات إشارةً مُتفقًا عليها بينهما. وكان يسمع منه في تلك الأيام هذا السؤال نفسه مراتٍ لا يستطيع تذكُّرها من كثرتها. لم يكن ذاك السؤال يُقلقه آنذاك، لكنَّ سماعه مُجددًا في هذه اللحظة، بعد غياب السائل سبع سنوات كاملة بلا مُبرر، قد بثَّ الرعب في نفسه. فلماذا أتى وريث بارونية عائلة ماركنمور ومُمتلكاتهم إلى بيت أبيه مُتسللًا في وقتٍ متأخِّر ليلًا، ساعيًا إلى الدخول خلسة وهو يبدو متوترًا بسبب شيءٍ ما؟ نظر إليه براكسفيلد مُرتابًا.

ثم أجاب قائلًا: «ذهبوا إلى غرفهم يا سيد جاي. أو ربما يكونون في غرفة أبيك. فالسير أنطوني في … في أواخر أيامه يا سيدي.»

فألقى جاي ماركنمور نظرةً عبر المَمرِّ مرةً أخرى. وبينما كان ينظُر، نظر براكسفيلد إليه. رأى براكسفيلد أنَّ جاي قد تغيَّر قليلًا. فقد كان ذلك الأخير مشهورًا دائمًا منذ صباه بحُسن مظهره؛ صحيح أنَّه كان لا يزال حسَن المظهر بعد أن صار في الخامسة والثلاثين من عمره؛ إذ كان طويلًا ونحيفًا وداكن الشعر وحادَّ النظرات؛ أي من نوعية الرجال الذين يجذبون النساء ويثيرون اهتمامهن. لكنَّه بدا كرجلٍ عاش حياة صعبة ورأى بعضًا من جانبها الكريه، وكانت عيناه الجميلتان وتجاعيد فمه، التي كان يُخفيها بالكاد شاربٌ داكنُ اللون ومُعتنًى به جيدًا، تبثُّ إيحاءً شرِّيرًا يُحذِّر أقوياءَ الملاحظة اليقظين من الوثوق به مثقال ذرة. كانت عيناه وشفتاه مفعمةً بالحذَر والحرص حين التفت إلى كبير الخدَم مرة أخرى.

قال بهدوء: «لنذهب إلى حجرتك يا براكسفيلد. أوصِد هذا الباب.»

سار بسرعة عبر المَمرِّ وانعطف إلى الرواق بعدما أصدر هذا الأمر، وحين تبعه كبير الخَدَم، بعد تنفيذ أمره، كان واقفًا عند مدخل الحجرة من الداخل ومُمسكًا الباب بيدِه. وبعدما دخل براكسفيلد وهو لا يزال قلقًا ومندهشًا، أغلق جاي الباب وأوصده بالمفتاح.

قال بصوتٍ خفيض وهو يتَّجِه ببراكسفيلد إلى جوار المدفأة ولهيبها المُبهِج: «أصغِ إليَّ! أريد أن أعرف شيئًا، أظنني قد رأيتُ شخصًا ما وأنا آتٍ. من المؤكد أنك ستعرف. هل عاد جون هاربورو إلى الديار مُجددًا؟»

شعر براكسفيلد بأفكاره تتسارَع عند سماع نبرة هذا السؤال. ثم أومأ مُتفرسًا في وجه جاي.

وأجاب قائلًا: «نعم يا سيدي.» وأردف قائلًا: «عاد إلى الديار اليوم، عصر اليوم تحديدًا.»

سأله جاي: «هل أتى إلى هنا؟»

«أجل يا سيدي، مساء اليوم.»

«لماذا؟ ما سبب مجيئه؟»

«سمع أنَّ أباك مريض يا سيد جاي، فجاء للاطمئنان عليه.»

«هل ذكرني في كلامه؟»

«كلَّا يا سيدي، على حدِّ علمي. لقد … لقد قابل السيد هاري والآنسة فالنسيا.»

«هل عاد إلى … إلى الأبد؟ أقصد ليستقر؟»

«أجل يا سيدي، حسبما فهمت.»

كان براكسفيلد يتساءل في قرارة نفسه عن المقصد من هذه الأسئلة، وظهر هذا التساؤل على قسمات وجهه. لكنَّ وجه جاي كان قد صار جامدًا كأبي الهول. أشاح بوجهه عن كبير الخدَم، وخلع قُبَّعته الأنيقة ومعطفه وقفازاته، ثم ألقى كل ذلك على كرسيٍّ مريح في أحد أركان الغرفة، وبعدها أخرج علبةً من جيب صدره، وأخذ منها سيجارًا وأشعله على مهل. كان براكسفيلد على دراية كافية بأنواع السيجار ليعرف أنَّ هذا السيجار باهظ الثمن، وكان يعرف أيضًا، بناء على مظهر جاي، أنَّ ذاك الابن الضال، الذي ظلَّ غائبًا سبع سنوات دون سماع أي خبرٍ عنه، لم يرجع إلى الديار مُبدِّدًا ثروته ونادمًا على ذلك. فقد كان جاي يرتدي ثيابًا عصرية للغاية؛ فحُلَّته الرمادية الصوفية، التي كانت تحمل علامة «سافيل رو» المُميَّزة، كانت مُتناقضة تناقضًا صارخًا مع الثياب البالية القديمة التي كان هاري ماركنمور يرتديها في أرجاء هذا البيت القديم. وحول الإصبع الوسطى من يدِه التي رفعت عود ثقاب لإشعال السيجار، تلألأ خاتمٌ ألماسي رائع كان بمثابة مِحبس لخاتم آخر مصوغ ببراعة شديدة.

قال جاي مُجددًا: «أصغِ إلي!» وأضاف: «لديَّ سؤال آخر. سمعتُ أنَّ السيدة تريزيرو — التي كانت الآنسة فيرونيكا لايتون — قد عادت إلى هذه المنطقة مُجددًا. أهذا صحيح؟»

أجاب براكسفيلد: «نعم يا سيدي. لقد عادت هي أيضًا، منذ وقتٍ قريب جدًّا. وأخذت بيت الأرملة الموجود عند أقصى مُتنزَّهنا. لقد أخذَتْهُ قبل حوالي شهر من السيد هاري — فهو المُتصرِّف في كل شيء الآن يا سيدي — وانتقلت إليه.»

فصاح جاي مُشدِّدًا على ضمير الغائبة: «أخذَتْه؟» وأضاف: «هي التي أخذته! ماذا؟ … هل مات الكولونيل تريزيرو إذن؟»

أجاب براكسفيلد: «مات في الهند يا سيدي منذ حوالي عام، حسبما فهمت. لذا عادت إلى الديار وجاءت لتبحث عن بيتٍ هنا، وكما قلت، أخذت بيت الأرملة الخاص بنا. ولا يبدو عليها أيُّ مظهر لتقدُّم العمر يا سيد جاي، ولا بأقل قدر! بل أصبحت أجملَ من أي وقتٍ مضى يا سيدي.»

كان براكسفيلد في هذه اللحظة يستعيد ثقته وطلاقة لسانه. وصار يريد التحدُّث.

وتابع قائلًا: «يُقال إنها أرملة شابة فاحشة الثراء يا سيد جاي. وقد قيل لي إنَّ الكولونيل تريزيرو ترك لها كل شيء، وإنه كان رجلًا ثريًّا. وهي تبدو هكذا أيضًا؛ إذ لدَيها طاقم مُميز من الخدم، وأنفقت أموالًا طائلة على البيت بالفعل، وما زالت تُنفِق المزيد. إنها تُقيم حفلًا مَنزليًّا هناك الآن لأناس قادمين من لندن، على حدِّ اعتقادي. أظنها تميل إلى إمتاع نفسها يا سيدي، على ما يبدو.»

فسأله جاي: «ألديها أي أطفال؟»

أجاب براكسفيلد: «ليس لديها أطفال يا سيدي. فلم تُنجِب أي طفل قَط، حسبما قيل لي.»

نظر جاي حوله إلى المَعالِم المألوفة للمِحراب الخاص لكبير الخدم العجوز. بدا له أن لا شيء في الغرفة قد تغيَّر. ثم استقرت عينه على إناء الويسكي الذي كان براكسفيلد قد وضعه على المنضدة قُبيل سماعه صوت النقرة على النافذة مباشرة.

فقال فجأة: «أعطِني كأسًا من الشراب يا براكسفيلد. أظنُّ ما زال لديك قدْر مُتبقٍّ من الويسكي القديم الذي كنا نشربه، حتى بعد مرور سبع سنوات. وبعض المياه الغازية. ولتُعِدَّ شرابًا لنفسك أيضًا؛ فقد مضى وقت طويل منذ أن احتسَينا شرابًا معًا، مع أننا كنا نشرَب معًا كثيرًا في هذه الغرفة نفسها في الأيام الخوالي!»

وضحك ضحكةً ساخرة وهو يرفع الكأس التي أعطاه براكسفيلد إيَّاها بعد قليل، لكنَّ كبير الخدم العجوز لم يُبادله الضحك. فبعدما رفع براكسفيلد كأسَه بوقارٍ وتمتم مُعرِبًا عن أطيب تمنياته، بدا نزَّاعًا إلى العاطفية.

إذ قال: «إنه وقت طويل جدًّا يا سيدي. نعم، وقت طويل جدًّا يا سيد جاي! لكني واثق بكل تواضُع من أنه قد انتهى يا سيدي، أتمنى أن تكون عائدًا إلى الديار إلى الأبد.»

ردَّ جاي بضحكة ساخرة أُخرى قائلًا: «إذن، فآمالك محكوم عليها بالخيبة يا براكسفيلد. فأنا لا أنوي ذلك! لن أعيش مرةً أخرى في ماركنمور كورت. فأنا أحيا حياةً ناجحة وأجني أموالًا طائلة من دونه، ولا أعتزم زراعة الكرنب هنا في الوقت الذي أستطيع فيه زراعة أشياء أكثر إدرارًا للربح في مكانٍ آخر. لا يا براكسفيلد. لن أعود.»

قال كبير الخدم العجوز: «ولكن يا سيد جاي، ماذا عن أبيك؟» وأضاف: «لن يظلَّ على قيد الحياة طويلًا يا سيدي. واللقب والأملاك يا سيد جاي!»

أجاب جاي قائلًا: «لا أستطيع تجنُّب وراثة لقب البارونية يا براكسفيلد، وإن كنتُ لا أكترث بذلك مثقال ذرة، وأمَّا الأملاك، فيُمكن أن تُدار جيدًا بما يكفي دون مساعدتي أو وجودي. وفي الواقع، أنا لا أريدها أصلًا! فأنا رجل ميسور؛ فقد كنتُ أعمل في سوق الأوراق المالية لأكثر من ستِّ سنوات يا براكسفيلد، وجنيتُ أموالًا طائلة.» ثم أضاف مقاطعًا التهنئة التي قدَّمها له كبير الخدم العجوز: «ولكن أصغِ إليَّ الآن، لقد قُلت إن هاري صار بمثابة مديرٍ مالي للأملاك، هل يؤدي مهامه جيدًا؟»

أجاب براكسفيلد: «بل جيدًا جدًّا يا سيدي، من وجهة نظري. لقد ترك تشارلزورث — مديرنا المالي القديم — أظنك تتذكره جيدًا يا سيد جاي — الأوضاع تسوء، ووالدك لم يكبح جماحَه. ولكن حين بلغ أخوك سنَّ الرشد، أجرى مع أبيك بعض الترتيبات وتولَّى السيد هاري مقاليد الأمور، ثم أحال تشارلزورث إلى التقاعُد، ومنذ ذلك الحين، صار مسئولًا عن كل شيء. وبالطبع حظِيَ بمساعدةٍ كبيرة من الآنسة فالنسيا يا سيدي؛ إذ صارت أختك شابةً ذكية جدًّا يا سيد جاي. أظنك سوف … سوف تسمح لي بالذهاب لإحضارهما يا سيدي قبل أن تخلُد إلى فراشك؟»

تجرَّع جاي آخرَ ما تبقَّى في كأسه، ومزج لنفسه شرابًا آخر، ثم جلس على كرسي كبير بجوار الحطب المُشتعِل، وهزَّ رأسه.

وأجاب قائلًا: «لن أخلُد إلى الفراش يا براكسفيلد. لقد أتيتُ من البلدة من أجل مسألة خاصة، وسأعود إلى البلدة في قطارٍ سينطلِق في الصباح الباكر جدًّا من محطة ميتبورن. لكني سأقابل الصغيرين؛ فالمسألة التي جئتُ من أجلها، في الواقع، ستُسوَّى معهما. ولكن أولًا وقبل كل شيء، أريدك أن تُخبرني بشيءٍ أو اثنين، ثم يُمكنك أن تذهب وتخبرهما بأنني هنا، بهدوءٍ تام ومن دون أن تزعج السير أنطوني؛ فلا أريده أن يعرف أنني موجود بالقُرب منه. والآن، أولًا، تقول إن السيدة تريزيرو تقيم حفلًا منزليًّا الآن في بيت الأرملة؟»

ردَّ براكسفيلد قائلًا: «نعم يا سيدي. حفل كبير.»

فعلَّق جاي قائلًا: «إذن فمن المُستبعَد أنَّهم يستيقظون مبكرًا هناك في الوقت الحالي.»

قال براكسفيلد: «بل سمعتُ أنهم ينامون متأخرًا جدًّا يا سيدي. فهم يظلُّون ساهرين يرقصون وما إلى ذلك.»

واصل جاي كلامه: «ممتاز. والآن، أصغِ إليَّ، هل ما زالت السيدة رين تملك نزل سيبتر إن، الواقع في القرية؟»

وهنا تغيَّر لون وجه براكسفيلد المُكتنِز؛ إذ احمرَّ خجلًا كفتاةٍ صغيرة.

ثم قال مُتلعثمًا بضحكةٍ خجولة: «حسنًا يا سيدي. كلَّا، لم تعُد تملكه. فالحقيقة يا سيدي — وأظنك ستضحك عليَّ يا سيد جاي — أنني والسيدة رين يا سيدي، قد تزوَّجْنا منذ أربع سنوات يا سيدي. لذا فالسيدة رين صارت السيدة براكسفيلد الآن.»

فصاح جاي: «يا إلهي!» وأردف قائلًا: «لقد أوقَعَت بك أخيرًا يا براكسفيلد، هاه؟ إذن، أظن أن السيدة براكسفيلد موجودة هنا؟»

فأجاب كبير الخدم: «لا يا سيدي، ولم تكن هنا قَط. فأنا أعيش هنا كالمعتاد. أما زوجتي، يا سيدي، وابنتها بوبي — هل تتذكرها يا سيد جاي؟ كانت فتاة جميلة صارت شابة حسناء — تعيشان الآن في كوخ وودلاند كوتيدج الريفي الواقع على الجانب الآخر من مُتنزَّهنا. فقد أخذتْهُ زوجتي يا سيدي حين تركت سيبتر.»

فقال جاي: «أوه!» وأضاف قائلًا: «إذن مَن صار يملك سيبتر الآن؟»

«رجل يُدعى جريمسدِل يا سيدي، كان يعمل في السابق سائسًا لدى السير جيمس مارشانت. لقد أضفى على النزل تحسينًا كبيرًا يا سيدي؛ لأنَّ طريقَنا الرئيسي صار يشهد مرور الكثير من السيارات منذ أن بدأ الاعتماد على التنقُّل بها.»

أومأ جاي برأسه وأخرج ساعته ناظرًا إليها.

تمتم قائلًا: «لم تبلُغ العاشرة بعد.» ثم جلس دقيقة أو اثنتين مُستغرقًا في تفكيرٍ عميق كما بدا عليه بوضوح، بينما كان براكسفيلد يُراقبه بفضول. ثم قال جاي أخيرًا وهو يرفع ناظرَيه من على المدفأة: «حسنًا يا براكسفيلد. اذهب وأخبِر الصغيرَين بأنني هنا. ولكن تذكَّر أن تفعل ذلك بهدوء! وشدِّد عليهما أنَّ والدي ينبغي ألَّا يعرف أي شيء.»

وافق براكسفيلد قائلًا: «حسنًا يا سيدي. ربما يكون كلاهما — أو أحدهما — معه، لكنِّي سأتدبَّر ذلك الأمر. تُوجَد مُمرضة مُدرَّبة في المنزل يا سيد جاي؛ لذا ستعتني بالسير أنطوني في أثناء وجودهما هنا بالأسفل.»

لم يرُدَّ جاي، وغادر براكسفيلد الغرفة عبر المنزل الصامت وصعد الدرَج إلى غرفة هاري ماركنمور في الطابق العلوي. كانت الغرفة مُضاءة لكنها فارغة. فقال براكسفيلد لنفسه إنَّ هاري سيكون مع أبيه. فعبَر الرواق وقرع باب فالنسيا برفق. فلبَّت فالنسيا الاستدعاء فورًا، وخرجت مُرتدية رداءً منزليًّا، ولكن شيئًا ما في وجه كبير الخدَم العجوز جعلها تنظُر إليه بقلق. لكنَّ براكسفيلد هزَّ رأسه.

وسارع بالقول: «ليس ما يجول في بالك يا آنسة فالنسيا. لا، لا داعي للقلق؛ فالحقيقة أنَّ السيد جاي موجود في الطابق السُّفلي! لقد أتى مباشرة بعد صعودِك أنتِ والسيد هاري، ويريد أن يلقاكما، أنتما الاثنان. ولكن ينبغي ألَّا يعلم السيد أنطوني.»

تجمَّدت قسمات وجه فالنسيا. فلم يكن لدَيها ذكرى عن أي محبةٍ شعرت بها في طفولتها تجاه أخيها الأكبر، وبقدْر ما كانت تتذكَّر، لم تسمع عنه أي شيءٍ طيب قَط؛ فالشيء المؤكَّد أنَّه تجاهل أُسرته كأنها غير موجودة، طوال سبع سنوات كاملة. فنظرَت بارتيابٍ وتردُّد إلى براكسفيلد.

وسألته: «ماذا يريد؟»

رَدَّ كبير الخدم العجوز قائلًا: «كلُّ ما أستطيع قوله يا آنسة أنه يقول إنه جاء ليقابلكِ أنتِ والسيد هاري بشأن مسألة خاصة، ويريد ألَّا يعرف والدك بذلك.»

تحوَّلت فالنسيا بناظريها عن براكسفيلد مُلقية نظرةً خاطفة عبر الرواق المُعتم. كان يحوي على جانبيه عددًا هائلًا من المداخل المُتراصَّة التي كانت تُؤدي إلى غُرَف كالمغارات؛ إذ كان من الممكن أن يبيت في منزل ماركنمور كورت حوالي دزينتين أو ثلاث من الضيوف، لكنها كانت تعلم استحالة تجهيز أيٍّ من هذه الغُرَف في أقل من أربع وعشرين ساعة؛ إذ كانت كل غرفة منها رطبة وباردة ومهجورة.

قالت: «أين ستُبيِّته بحق السماء يا براكسفيلد؟» وأردفت قائلة: «لا يُوجَد في المنزل فراش جاهز لتمنحه إيَّاه.»

أجاب براكسفيلد: «لن يمكث يا آنسة فالنسيا. لستُ … لستُ على درايةٍ تامة بتحركاته المُقرَّرة، لكنِّي أظنه سيرحل حالما يُقابلكِ أنتِ والسيد هاري. لقد تحدَّث عن استقلال قطار في الصباح الباكر جدًّا من ميتبورن.»

تردَّدت فالنسيا لحظة، ثم تحرَّكت صوب الغرفة التي كان والدها المريض يُلازِمها.

وهمست قائلة لبراكسفيلد: «أخبِره بأننا سننزل في غضون بضع دقائق. أين هو، في غرفة الجلوس النهارية؟»

أجاب براكسفيلد: «كلَّا يا آنسة؛ بل في غرفة كبير الخدَم.»

أومأت فالنسيا وانصرفت، فيما عاد براكسفيلد إلى الزائر.

أجابه قائلًا: «سيأتيان في غضون دقيقة أو اثنتَين يا سيدي. كلاهما!»

قال جاي بلا مُبالاة: «أظنهما قد تغيَّرا.»

فقال براكسفيلد: «أوه، جدًّا يا سيدي. فسبع سنوات مدة طويلة يا سيدي في عُمريهما.»

تابع جاي: «دعْنا نرَ. سيكون عمر هاري — كم يا تُرى؟ — ثلاثة وعشرين، وسيكون عمر فالنسيا حوالي عشرين … عشرين تقريبًا. إممم! هل لأختي أي علاقات غرامية؟»

ردَّ براكسفيلد قائلًا: «لا، على حدِّ عِلمي يا سيدي. يبدو يا سيدي أنَّ الآنسة فالنسيا شابة لا تُفضِّل مُجتمع الرجال، حتى الآن. أظن أنَّ الخروج والأنشطة غير المنزلية هي ما يستهويها يا سيد جاي، كالبستنة والألعاب الرياضية والمشي والقليل من صيد الأرانب، وما إلى ذلك. إنها شابة تتمتَّع بصحة جيدة جدًّا يا سيدي. ها أنا ذا أسمعهما قادمَين يا سيدي، من الأفضل أن أترككم وحدَكم.»

فقال جاي بهدوء: «قف مكانك يا براكسفيلد. فأنا أريدُك أن تكون حاضرًا.»

نهض من كرسيِّهِ حين دخل أخوه وأخته الغرفة، وظلَّ واقفًا على سجادة المدفأة ثم أومأ لهما بلا مبالاة، كما لو كان لم يَغِب عنهما سوى يومٍ واحد. ولكن حين تقدَّما نحوَهُ وصافحاه، تغيَّرت إيماءة التحية على وجهه إلى إيماءة استحسان، وابتسم لأخته.

قال: «كيف حالكَ يا هاري، كيف حالكِ يا فالنسيا؟» وأضاف: «لقد تغيَّرتما كثيرًا! وأنتِ يا فال، أصبحتِ آية في الجمال بكل تأكيد! هذا ما يحدُث لجميعكنَّ أيتها الفتيات الصغيرات الدميمات! حسنًا، هذا صحيح. أظن أنني، بصفتي الأخ المُتشدِّد الصارم، يجب أن أُعرِب عن خالص أملي في أن تكون خصالك حسنة كمظهرك!»

ردَّت فالنسيا قائلة: «وفِّر على نفسك هذا العناء يا جاي!» ثم رمقَتْهُ بنظرةٍ حادة وهي تأخذ الكرسي الذي قام من عليه. ثم قالت: «آمُلُ أن تكون خصالك أنت كذلك. وإن كنتُ أشكُّ في هذا!»

نظر جاي إلى أخيه، وفي الأثناء رمق فالنسيا بنظرةٍ جانبية من طرف عينه.

ثم قال بضحكةٍ تمزج بين التندُّر والسخرية: «إذن فأختنا صار لديها لسان يا سيد هاري، هاه؟» وأضاف قائلًا: «لا بأس! فدائمًا ما كان هذا دأب نساء العائلة، حسبما أظن. حسنًا، ألستُما سعيدَين برؤيتي؟»

فسألته فالنسيا: «ولِمَ عسانا نَسعَد؟» وأردفت: «لم تكن قريبًا منَّا قَط، ولم تبعث برسالةٍ إلى أيٍّ منَّا ولو مرة واحدة طوال سبع سنوات، صحيح أنَّك أخونا — أو أخونا غير الشقيق بالأحرى — لكنك غريب عنا.»

وهنا تراجَع براكسفيلد، الذي كان واقفًا بشيءٍ من الخجل بين المنضدة والباب، إلى ركنٍ منزوٍ في الغرفة، فيما نَهَر هاري ماركنمور أُخته.

إذ همس قائلًا: «لا تقولي ذلك يا فال. فالأمر ليس هكذا تمامًا، كما تعلمين.» ثم نظر إلى أخيه الأكبر، الذي كان ينظر إلى فالنسيا من مكانه على سجادة المدفأة بعينَين مُتأمِّلتَين مُبتسمتَين. وقال باستنكار: «إن لسان فالنسيا مُتفلِّت قليلًا. نحن بالطبع سعيدان برؤيتك يا جاي.»

ردَّ جاي: «حسنًا يا هاري، يا فَتَاي.» وأضاف قائلًا: «سأعتبركما كذلك بالطبع.»

أصرَّت فالنسيا على كلامها قائلة: «لا أعرف لِمَ عسانا نَسعَد برؤيتك. فكما قلت، نحن غرباء. من المؤكَّد أنك لم تنتظِر منِّي أن أعرفك.»

فأجاب جاي قائلًا: «لعلَّكِ ستعرفيني معرفةً أفضل يا فتاتي، بطريقةٍ مختلفة تمامًا، قريبًا. هيا تعالَيا! سنخوض ما يكفي من هذه المحادثات الأُسرية المُبهجة.» وتابع وهو يهمُّ بالجلوس: «لقد أتيتُ خصِّيصى لأقابلكما. وأفضِّل التطرُّق إلى صُلب الموضوع مباشرة. أَصغيا إليَّ أنتما الاثنان، إذا أخذ الوضع الراهن مجراه العادي، فلن يظلَّ أبي على قيد الحياة طويلًا وسوف أرثُ اللقب والأملاك. أليس كذلك؟»

قال هاري: «بلى.»

واصل جاي حديثه: «لا أستطيع تجنُّب وراثة اللقب. أمَّا الأملاك، فلا أريدها. لقد صار لديَّ ما يكفي، وسأملك المزيد. لا أعرف الطريقة القانونية لتنفيذ ذلك، لكني على أي حال أعتزم التنازل، بطريقةٍ أو بأخرى، عن الأملاك لكُما حالما تئول إليَّ، وسنُكلِّف المُحامين بالعمل على ذلك. يُمكن أن تعتبراها مِلككما، من الآن فصاعدًا. مفهوم؟»

دُهِش هاري ونظر إلى أُخته. لكنَّ فالنسيا كانت تنظُر إلى جاي.

قالت فجأة: «يا له من كرَم بالِغ منك!» وأضافت قائلة: «ولكن لماذا تأتي لتُخبرنا بهذا الآن؟»

أجاب جاي قائلًا: «لأنني ذاهب إلى أمريكا، بخصوص بعض الأعمال، سأسافر إلى نيويورك ومكانين آخرين أو ثلاثة، في غضون يومٍ أو اثنين، ولن أعود قبل عام كامل، وربما أكثر من ذلك. وأردتكما أن تعرفا، تحسُّبًا لوقوع أي شيء. إذا مات والدي … حسنًا، سيواصل هاري تسيير الأمور فحسب، وحين أعود، سنوثِّق كل شيءٍ قانونيًّا. ستئول عزبة ماركنمور إليكما؛ فأنا لا أريدها. أتسمعانني؟ وهل تسمعني أنت أيضًا يا براكسفيلد؟»

أجاب كبير الخدم قائلًا: «أسمعك يا سيدي.»

ثم واصل جاي كلامه قائلًا: «لا أريد من ماركنمور سوى شيءٍ واحد فقط، وأريده الآن.» وأضاف قائلًا وهو يُخرِج مفتاحًا صغيرًا: «هاري، تعرف غرفتي القديمة؟ اصعد راكضًا إلى هناك، وافتح الدُّرج الأيمن للمكتب الموجود في رُكنها، واجلُب لي حافظةَ جيبٍ جِلدية خضراء ستجدها هناك، هذا ما أريده. فتًى مطيع!» نظر إلى فالنسيا حين أخذ هاري المفتاح وذهب، فرآها تُحدِّق بشدَّة إلى يدِه اليُمنى. فسألها بضحكةٍ خفيفة: «حسنًا!» وأردف قائلًا: «إلامَ تنظرين؟»

ظلَّت فالنسيا صامتة للحظة. ثم تكلمت فجأة.

أجابت قائلة: «أنظر إلى هذا الخاتم الغريب الذي ترتديه حول إصبعك الوسطى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤