الفصل الخامس والعشرون

قبضة الشيطان

كان البروفيسور مائلًا إلى الأمام مُتكئًا على عصا سيرِه، فيما كان المُحقق يُراقب الحطَّاب بنظرةٍ حادة جانبية، وشعر الاثنان بأنهما على وشك كشفٍ جديد. لكن عقل بليك كان مُنشغلًا بشكٍّ غريب غامض. لقد تحدَّث روبر عن التخمين، ولم يكن بليك يُريد تخمينًا، كان يتساءل في قرارة نفسه عمَّا قصدَه روبر بالتخمين. ومع ذلك، فرغم كلِّ ما كانوا يعرفونه، ربما يكونان في تلك اللحظة قابَ قوسين أو أدنى من الحقيقة التي كانا يتلهَّفان إلى معرفتها.

قال أخيرًا: «حسنًا؟» وكرَّر قائلًا: «حسنًا؟ ما هو؟»

ردَّ روبر قائلًا: «يبدو تافِهًا حين سردِه، إن جاز القول، وأنا لستُ بارعًا.» وأضاف: «ولكن، ها هو ذا! كان ذلك في ليل الإثنين الماضي، عشيةَ العثور على جاي ماركنمور، وراء تلك البقعة هناك، في ماركنمور هولو. في تلك الليلة، بعدما تناولتُ عشائي، غادرتُ كوخي مُتجهًا إلى ميتبورن سيرًا؛ إذ كنتُ أريد لقاء رجلٍ هناك. سلكتُ جانب التل، خلف وودلاند كوتيدج بالضبط، وانطلقت عبر ذاك الدرب العُشبي الذي يمتدُّ أعلى الروابي من هناك إلى مكانٍ قريب من محطة قطار ميتبورن. وبعد أن قطعتُ ربما ميلًا أو نحو ذلك على ذاك الدرب، سمعتُ رجلَين قادمَين نحوي …»

قاطعه بليك مُتسائلًا: «في أيِّ وقتٍ حدث ذلك يا روبر؟»

«في حوالي الساعة الثامنة والربع، وكان يُخيِّم على الأجواء ظلامٌ جميل. لمَّا كان لديَّ أسبابٌ خاصة تجعلني لا أريد أن يراني أحد على طريق ميتبورن؛ لذا فحين سمعتُ هذين الرجُلين قادمَين نحوي، تسللتُ إلى خلف كتلةٍ كبيرة من أشجار الجولق كانت قريبةً مني، ووقفتُ ساكنًا بلا حراك. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، سار هذان الاثنان حتى صارا على مسافةٍ أقربَ إليَّ؛ رأيتهما ظِلَّين أسودَين بلا ملامح مُقابل اللون الرمادي الذي كان يكسو السماء فوق طريق سيلكاستر، أتفهمني. رجل طويل القامة بعضَ الشيء، ورجل قصير بعض الشيء. وعلى بُعد بضع ياردات منِّي، توقَّف الرجل الطويل وأشعل سيجارًا. فرأيتُ وجهه في ضوء عود الثقاب. وحينئذٍ صُدِمت للغاية؛ لأنه كان الرجل الذي لم أتوقَّف قطُّ عن التفكير فيه طوال سبع سنوات مريرة، ولك أن تُخمِّن مَن كان؛ جاي ماركنمور! رأيتُهُ بوضوحٍ شديد — لدقيقة واحدة فحسب — كما أراك الآن، وأنا واثق من أنني لم أخطِئْه؛ لأن وجه هذا اللعين لم يطرأ عليه تغيير كبير كذلك التغيير الذي أعترفُ بأنه كان سيُلاحظه في وجهي لو رآني. كان واقفًا هناك، ولولا ذلك الرجل الآخر الذي كان معه، لهاجمته فورًا حيثما كان. لكن لم أفعل! واصَلا المسير وهما يتحدَّثان، ولم يسكُتا قَطُّ منذ رأيتهما لأول مرة …»

سأله بليك: «هل سمعتَ ما كانا يقولانه؟»

«لا أتذكر، مجرد كلمات متقطعة. حتى صارا أمامي بالضبط، حينئذٍ، وبينما كانا يمرَّان بي، سمعتُ شيئًا واضحًا بما يكفي. كان جاي ماركنمور هو مَن قاله؛ إذ قال: «سآتي إلى هنا في حوالي الرابعة صباحًا لألحق بشيءٍ ما في الرابعة من ميتبورن إلى فارشام.» ثم ضحك. وقال: «ستكون مُطمئنًا تُشخِّر في فراشك آنذاك، بلا شك.» فقال له الرجل القصير: «لا تُبالِغ في يقينك من ذلك!» وأردف قائلًا: «فأنا أستيقظ مُبكرًا جدًّا كالطيور حين أكون في الريف!» ثم واصلا السير، نحوَ ماركنمور، ورأيتُهما يختفِيَان خلف ناصية أجمةٍ من الشجيرات موجودة هناك. وبعدئذٍ …»

فقاطعه بليك قائلًا: «لحظة يا روبر. ذاك الرجل الثاني، الشخص القصير الذي وصفتَه. هل كان يتحدَّث كرجلٍ ريفي؟ كأي شخص موجود هنا في هذه المنطقة، كما تعلم؟»

فأجاب روبر بتأكيدٍ قاطع: «لا!» واستطرد قائلًا: «لم يكن كذلك! بل كان يتحدَّث بلكنة لندنية. لم يكن شخصًا من أهالي هذه المنطقة، على حدِّ علمي. فقد ذهبتُ إلى لندن، مع الأسف! وأظنه لندنيًّا، في رأيي.»

«ألم ترَ وجهه؟»

«لم أرَ شيئًا منه، سوى قامته، إن جاز القول. كان يقِف بعيدًا، إن جاز التعبير، خارج نطاق الضوء حين كان جاي يُشعِل سيجاره؛ لذا لم أرَ شيئًا من ملامح وجهه. لكنه كان رجلًا قصيرًا وعريضًا بعض الشيء. لم أُولِهِ انتباهًا كبيرًا بالتأكيد؛ لأنني كنتُ أتمنى لو أنه لم يكن موجودًا هناك أصلًا!»

سأله بليك: «حسنًا، وماذا بعد؟»

قال روبر: «واصلتُ السير إلى ميتبورن، وقضيتُ حاجتي مع الرجل الذي كنتُ أريد لقاءه، وحين انتهيتُ من ذلك، شربتُ بعضًا من شراب المزر معه في حانة كوك آند باي، وبعدئذٍ عُدتُ إلى بيتي مُجددًا.»

قال بليك: «حسنًا. كما توقَّعتُ بالضبط! و…» وهنا سكت ورمق روبر بنظرةٍ تنمُّ عن دراية كبيرة. ثم سأله: «أهناك أيُّ شيء آخر؟»

قال روبر: «لن أكتم أيَّ شيء. لديَّ شيءٌ آخر. لا تنسَ أنني أبقيتُ جذوةَ مشاعري تجاه جاي ماركنمور مُشتعلة طوال سبع سنوات! فأي رجل أسِيئَ إليه وظُلِم مثلما حدث معي لا ينسى بسهولة. وحين عُدتُ إلى كوخي، وحدي، في تلك الليلة، بعد مَجيئي من ميتبورن، جلستُ أفكِّر. وتذكَّرت — لأنني لم أكن ناسيًا! — ما قاله جاي لذلك الرجل الذي كان معه، عن أنه سيكون موجودًا على ذلك الممشى المؤدي إلى ميتبورن في الرابعة من صباح اليوم التالي. لذا استيقظتُ في الساعة الثالثة، وانطلقتُ لألقاه عازمًا، إذا وجدتُه هناك، أن أُسوِّي معه المسألة العالقة بيننا إلى الأبد!»

فسأله بليك بهدوء: «وهل وجدتَه؟»

نظر روبر نظراتٍ خاطفة إلى المُحقِّق والبروفيسور بالتناوُب.

وأجاب بهدوءٍ مُماثل قائلًا: «أجل!» وتابع: «وجدته! ولكن بعدما سبقَني إليه شخصٌ آخر. كان جسده دافئًا آنذاك، لكنه كان ميتًا تمامًا، برصاصةٍ اخترقت دماغه!»

تنهَّد البروفيسور تنهيدةً بسيطة، لكن بليك لم يُبدِ أيَّ أمارة دهشة، وكان صوته، حين تحدَّث، أشدَّ جمودًا من أيِّ وقتٍ مضى.

قال: «أي أنَّ الأمر كان قد وقع بالفعل قبل أن تصِل إلى هناك للتو؟» ثم سأله: «أرأيتَ أيَّ أحدٍ بالقُرب من هناك؟»

هزَّ روبر رأسه.

وأجاب قائلًا: «حين وجدته، ظننتُه أطلق الرصاص على نفسه. لكنِّي نظرتُ حوله عن قربٍ وبدقة، ولم أرَ سلاحًا، لا مُسدسًا، ولا طبنجة، ولا أيَّ شيء من هذا القبيل. ثم نظرتُ في كل الأرجاء من حولنا، فلم أرَ أيَّ أحد! كان هذا الصباح ضبابيًّا، ولم يكن المرء يستطيع أن يُبصِر مَدًى بعيدًا جدًّا من الرؤية، كان ثمَّة ضبابٍ بين الأجمات وكُتَل الشجيرات الكثيفة، وكان الضباب مُموَّجًا على طول قِمَم الروابي. كلَّا، لم أرَ أحدًا … لم أرَ سواه، ميتًا.»

سأله بليك فجأة: «هل لمستَه؟»

اعتلت وجه الحطَّاب نظرةٌ مُتجهمة بغرابة، ونظر في هذه اللحظة، ليس إلى المُحقِّق، بل إلى البروفيسور، كما لو كان يشعُر بأنه يحظى ببعض التعاطُف والتفهُّم في وجوده.

ثم تمتم قائلًا: «إنه شيء غريب، لكني قبل أن ألقاه بدقيقةٍ واحدة، لم يكن شيء أحبَّ إليَّ من أن أضعَ يديَّ عليه! كنتُ سأمسكه من رقبته وأنتزِع روحه كما ينتزِع الكلب روحَ فأر! ولكن حين رأيته راقدًا هناك عند قدَمَي، مُزهَق الروح، شعرت … شعرت بأنني لا أطيق أن ألمس جسدَه بيدي! لقد كان … كان ميتًا! لكني مع ذلك فعلتُ شيئًا ما، وعرفت بذلك الشيء الذي فعلتُهُ أنه كان لا يزال دافئًا.»

قال البروفيسور بهدوء: «هيا أكمِل … هيا!» وأضاف: «ما هو يا تُرى؟»

أجاب روبر مباشرة قائلًا: «رأيتُ خاتمًا حول إصبعه. خاتمًا من تلك الخواتم التي يبيعها هؤلاء النساء الغجريَّات على الطرقات هنا؛ شيئًا بلا قيمة، كما تفهم، لكنه لافت للنظر. وقد خطر ببالي — ولا أعرف لماذا — أنَّ مايرا قد أعطتْهُ ذلك الخاتم. فنزعتُهُ من حول إصبعه، ورحلتُ آخذًا إيَّاه معي، تاركًا ماركنمور هناك، مُحدِّقًا إلى السماء!»

تنهَّد البروفيسور تنهيدةً طويلة. لكن بليك تحدَّث.

إذ تساءل قائلًا: «ماذا فعلتَ بذلك الخاتم يا روبر؟»

فقال روبر وهو يضع إصبعَين في جيب صداره: «إنه هنا!» وأضاف: «أظن أنَّ فتاتي المسكينة قد أعطتْهُ إياه! إذ كانت مُغرَمة بمِثل هذه الحُلي الصغيرة التافهة. لقد خدعَها هؤلاء النساء الغجريَّات مرارًا وكُنَّ يَبِعْن لها بعضًا من مثل هذه التفاهات الرديئة مقابل أموال طائلة. لكني ظننتُ في قرارة نفسي أنَّ هذا كان خاتمها، وما كنتُ لأسمح له بأن يحمِلَه معه إلى قبره!»

فقال له بليك بصراحةٍ قاسية: «حسنًا، لقد كنتَ مُخطئًا. فالسيدة تريزيرو هي مَن أعطت جاي ماركنمور هذا الخاتم، وقد أعطاها خاتمًا آخرَ مِثله بالضبط. اشترياهما من متجرٍ للتُّحَف القديمة في بورتسموث هارد. أي إنه لم يكن خاتم مايرا قط.»

حدَّق روبر إلى المُحقِّق. فأومأ بليك برأسه إيماءة تأكيد. وعندئذٍ، رمى روبر الخاتم على الأرض أمامه فجأة بإيماءة اشمئزاز، بعدما كان يُقلِّبه في راحة يده.

وتمتم قائلًا: «ظننتُ أنه ربما يكون خاتمها!» وأضاف: «ولكن بما أنه ليس كذلك …»

أخذ بليك الخاتم من الأرض، ثم نهض واقفًا على قدمَيه.

وقال: «والآن يا روبر، هل هذه هي الحقيقة كلها؟»

أجاب روبر: «هذا كلُّ ما أعرفه. لا أعرف كلمةً أخرى زيادة على ذلك يا سيدي.»

سأله بليك: «وهل ستُصِرُّ على ما قلتَه؟»

قال روبر مؤكدًا: «أُصِرُّ على كل كلمةٍ قلتُها.»

أضاف المُحقِّق وهو يلتفت إلى البروفيسور قائلًا: «هذا ما وصلتْ إليه المسألة. لقد سمعنا الآن أنَّ رجلًا كان برفقة جاي ماركنمور عشيةَ جريمة القتل، وعرِف أنَّ جاي سيكون موجودًا على الروابي في الرابعة من صباح اليوم التالي. فمَن ذاك الرجل؟»

أجاب البروفيسور قائلًا: «من المُرجَّح أن يكون هو الرجل الذي حدَّثني عنه موظف مكتبه. هذا رأيي، على أي حال.»

فقال بليك: «حسنًا، لنذهب. سألقاك مُجددًا يا روبر؛ لقد أعطيتَنا طرَف خيطٍ سيقودنا إلى شيءٍ ما، بلا شك.»

لكن البروفيسور تباطأ في خُطاه.

وقال وهو يلتفِتُ إلى الحطَّاب: «أصغِ إليَّ يا صديقي. أتعرف فندق مايتَر في سيلكاستر؟ جيد جدًّا؛ أنا مُقيم هناك. تعالَ وزُرْني هناك الليلة، هاك بطاقتي، اسأل عني. إذا كنتَ تُريد الهجرة، فسأُدبِّر لك المال. الليلة، تذكَّر هذا، في أيِّ وقتٍ تشاء بعد الساعة الثامنة.»

ثم نكز مرفق بليك، ورحل به مُسرعًا خارج الغابة قبل أن يستطيع روبر شُكرَه، وسار بوتيرةٍ سريعة حتى صار ورفيقه عند جانب التل مُجددًا.

قال: «هذا الرجل مُستسلِم لاكتئابٍ وحزنٍ بالغٍ يا صديقي!» وأردف قائلًا: «مسكين! مسكين! أشعر بأسًى عميقٍ وصادق عليه. لقد قضى سبع سنوات مُنعزلًا وحيدًا يفكِّر في حبه القديم؛ يا للفظاعة!»

قال بليك: «يؤسِفني القول إن لديك نزعةً عاطفية قوية جدًّا يا سيدي!» وأضاف: «أنا أيضًا أشعر بالأسى على هذا الرجل؛ فمِن الواضح أنَّ هُجران مايرا له وارتباطها بشخصٍ آخر قد ترك في قلبه أثرًا سيئًا بالغًا. لكني سأُخبرك برأيي أيها البروفيسور؛ أنا أرى أنَّ السيد روبر يجِب أن يكون شاكرًا جدًّا لأنني لم أطلُب منه أن يسير معي إلى مركز الشرطة في سيلكاستر! فلو لم أكن مُؤمنًا بأنَّ السيكولوجيا علمٌ، لكنتُ رغبتُ في مثوله هناك بالتأكيد. لكني قيَّمتُ شخصيته، وراقبتُه عن كثب، وأظنُّ أنني أتفهَّم العمليات الغريبة التي تدور في ذهنه، وأعتقد أنه أخبرَنا بالحقيقة. كنتُ أتمنى فقط لو أنه جاءني وأطلعَني على هذا السرِّ قبل أسبوع!»

فقال البروفيسور بصِدق وصراحة: «أتعرف، أظنُّ أنني ربما كنتُ سأفعل ما فعله بالضبط، لو كنتُ مكانه؟» وأردف قائلًا: «لقد تعاطفتُ تمامًا مع هذا الرجل التعيس. لكن الشيء المُهم الآن، يا صديقي العزيز، هذا الشخص المجهول؛ كيف ستتعقَّبه وتعثُر عليه؟»

قال بليك: «الشيء الغريب في ذلك أنَّ صعوبته واضحة، على أقل تقدير. إذا افترضْنا أنَّ رواية روبر صحيحة — مثلما أفترض — فنحن بذلك لدَينا رجل غريب، ذو لكنةٍ لندنية، كما قال روبر، وهو ما كان يقصد به على الأرجح أنه رجل من الطبقات ذات التعليم الراقي، كان موجودًا على الروابي مع جاي ماركنمور، في وقتٍ مُتأخِّر من مساء يوم الإثنين. فمن هو؟ وهل أتى إلى هنا مع ماركنمور من لندن؟ أم إنهما التقَيا في القطار؟ أم إنهما التقَيَا على الطريق بين ميتبورن وماركنمور؟ لا نعرف. ولكن تُوجَد أسئلة أهمُّ من أيٍّ من هذه الأسئلة، أحدُها على سبيل المثال، إلى أين كان ذلك الرجل ذاهبًا؟ وثانيها: إلى أين ذهب حين افترق عن ماركنمور؟ وثالثها وأهمها: إذا كان هو الرجل الذي أردى جاي ماركنمور قتيلًا بالرصاص في صباح اليوم التالي، فأين كان موجودًا منذ أن افترقا حتى وقت الجريمة؟ أين قضى ليل الإثنين؟ لا يمكن أن يكون قد قضاه بعيدًا عن هذه المنطقة، إذا صحَّ أنه انتظر مُتربصًا بضحيته في الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي!»

قال البروفيسور معترفًا: «أمر مُحيِّر!» وأضاف قائلًا: «ومع ذلك، أظنُّ أنَّ الرجل، إذا كان سيحظى بغنيمةٍ كبيرة، فلم يكن ليُمانع تحمُّل الانتظار بضعَ ساعاتٍ في هذه الغابة حتى اغتنامها؛ فالليالي دافئة في الوقت الراهن، وتُوجَد ملاذات كثيرة هنا، في هذه الوديان. الآن، ما يُحيرني هو ذا: إذا كان هذا الرجل هو مَن قتل جاي ماركنمور، وأنا مُتأكد من ذلك، فلماذا لم يقتله في ليل الإثنين ويهرُب في الظلام؟»

ضحك بليك.

وأجاب قائلًا: «سأُخبرك بالسبب. لقد كان رجلًا أسرَّ إليه جاي ماركنمور بمسألة الصبغة هذه. جاء معه إلى هنا، وهو على درايةٍ تامة بما كان جاي يفعله. كان يعلم أن الأمور المالية للصفقة كانت ستُسوَّى في تلك الليلة على الأرجح. وانتظر حتى الصباح ليستطيع الاستيلاء على الأموال والتركيبة التي حدَّثْتنا عنها، مع رأيك الذي كان مُرفقًا بها. من المُرجَّح أنه هو الرجل الذي حدَّثك عنه موظف مكتب ماركنمور في فولجريف كورت، وسيتوجَّب علينا محاولة العثور عليه. لكن الخيط الذي نملِكه واهٍ وضعيف، حتى الآن.»

أومأ البروفيسور برأسه، وسكت ونظرَ حوله. كانا، في أثناء مُحادثتهما، قد مشَيَا ببطءٍ على طول جانب التل حتى بلغا امتدادًا ريفيًّا أشدَّ وحشة وخلوًّا من مظاهر الحياة بكثير. كانا يقِفان في هذه اللحظة على حافةِ وادٍ عميق مَحفور في الأرض الواقعة بالأسفل على عُمق حوالي مائتي قدم، وكان الانحدار شديدًا جدًّا عند أجزاء مُتفرقة من الحافة؛ وفي التجاويف والفرجات المُظلمة المُوحشة التي كانت تقع على عمقٍ سحيق بالأسفل، كانت تُوجَد تَكَتلات كبيرة من أشجار الطقسوس والصنوبر تتخلَّلها كُتل ضخمة من الحجر الجيري الرمادي وتفصِل بعضها عن بعض، وكان كل شيء يُخيم عليه صمتٌ كئيب وغريب. لكن البروفيسور كسرَه فجأة.

إذ صاح قائلًا: «يُوجَد شخصٌ ما يلوِّح لنا!» وأضاف: «هناك بالأسفل! إنها امرأة!»

نظر بليك في الاتجاه المُشار إليه، وانتفض مذهولًا. فعلى بُعدٍ شديدٍ أسفلهما، إلى يمينهما قليلًا، رأى هيئة امرأةٍ واقفة بالقُرب من أيكة أشجار عند سفح الجزء الأشدِّ انحدارًا من الوادي. وكانت، كما قال البروفيسور، تسعى جاهدةً إلى جذب انتباههما.

فقال: «يا إلهي!» وأضاف: «تلك الآنسة فالنسيا ماركنمور! ما الذي تفعله هناك؟ هل تعرف ما الاسم الذي يُطلِقونه على هذا المكان؟ قبضة الشيطان! وأظنُّ أنَّ القبضة هنا تعني شقًّا عميقًا شديد الانحدار في الأرض. ولكن ما الذي قد تريده؟»

قال البروفيسور مُقترِحًا: «لنشُقَّ طريقنا إلى الأسفل. فمن الواضح أننا مَطلوبان. عجبًا! يُوجَد رجلان أيضًا!»

كانت هيئتا رَجُلَين قد خرجتا للتوِّ من وسط كتلةٍ من شجيرات الصنوبر بالقُرب من مكان وقوف فالنسيا. فعرف بليك فجأة أنهما هاربورو والسيد فرانسيمري. وحين أدركا هوية المُحقِّق بدورهما، بدآ هما أيضًا يُلوِّحان له.

تمتم بليك قائلًا: «يُوجَد خَطْبٌ ما بالأسفل!» وأضاف: «يبدو لي كأنهم اكتشفوا شيئًا ما. انظر هنا يا سيدي! هذا الرجل الطويل هو هاربورو، الذي اتَّهمتْهُ السيدة تريزيرو بالقتل، كما أخبرتُك، والآخر هو السيد فرانسيمري، ذلك السيد العجوز الذي اضطلع بدورٍ كبير في القضية.»

ردَّ البروفيسور قائلًا: «أعرف فرانسيمري بالاسم فقط. إنه عضو في جمعية أَثَرية أنتسِب أنا أيضًا إليها، وكنتُ أتواصل معه بالمُراسلة. والآن، كيف نستطيع الوصول إلى هناك دون أن ينكسِر عُنقانا؟»

قال بليك: «من المؤكد أننا سنجِد ممشًى للشياه بالقُرب من هنا. وحيثما تستطيع الشاة المشي، نستطيع نحن أيضًا، إذا اقتضتِ الحاجة.»

لكنهما ظلَّا يبحثان لبضع دقائق قبل أن يجدا سبيلًا للنزول إلى أعماق الوادي، حيث كان الآخرون ينتظِرون قدومهما. وحالَمَا وصل البروفيسور إلى تجاويف الوادي، كان مذهولًا من طابع الجرف الذي شقَّا طريقهما عبره؛ إذ بدا أشبه بالهاوية. وفوق البُقعة التي كانت فالنسيا ورفيقاها يقفون عندها، كانت الجدران الجرانيتية شاهقةَ الارتفاع وشبيهةً بجُرُف عالٍ، وكان يُوجَد، عند مكانٍ مُعين، انخفاضٌ شديد الانحدار عن حافة الجرف مقداره حوالي مائتَي قدمٍ ينتهي بكتلةٍ بدائية مهجورة ذات نمَطٍ متقطِّع من صخور وشجيرات مُتداخلة، وكان الثلاثة يقفون عند الحافة السفلية لهذا الجزء المُقفر، ناظرين بالتناوب إلى تجاويفه، وإلى الرجُلَين اللَّذين كانا يُهرعان نحوهم على أرضية الوادي المستوية. وخلف السيد فرانسيمري مباشرة، كان كلبُه الإيرديل ممسوكًا بزمامٍ صُنع من منديل سيِّدِه وهو مُهتاج ويئنُّ مُتذمرًا، وكان من الواضح أنه يرغب بشدة في معاودة اختراق شجيرات الجولق التي جُرَّ من وسطها بفظاظة.

قال بليك: «هذا كلب فرانسيمري؛ ذلك الكلب النجيب الذي نبش الأرض واكتشف المُسدَّس الآلي!» وأضاف: «هل اكتشف شيئًا آخرَ يا تُرى؟»

أقبل هاربورو نحوَهما رويدًا. وبينما كان يدنو، رمق بليك بنظرةٍ تحذيرية وأشار إلى أشجار الصنوبر.

قال بصوتٍ خفيض بينما كانا يدنوان منه: «أصغِيَا إليَّ! يُوجَد رجل يرقُد ميتًا في الداخل هناك! لا بدَّ أنه سقط من فوق الجرف. لقد وجدَه الكلب، لم نستطِع أن نُبعِده، فدخلتُ لإحضاره ورأيتُ هذا الرجل ميتًا، كما قلت. تعالَيَا وانظُرا!»

كانا قد وصَلا إلى الاثنين الآخرَين في ذلك الوقت، وبلا أي سؤالٍ آخر أو أي تحيَّاتٍ رسمية، اندفع بليك وسط الأشجار، وتبِعَه الرجال الثلاثة.

تساءل قائلًا: «أين هو؟ ومَن هو؟» وأضاف: «أهو شخص تعرفونه؟»

قال هاربورو: «بل غريب، يبدو أشبَهَ بسائح!» واستطرد قائلًا: «هنا، عند سفح الصخور!»

أزاح هاربورو أغصان الصنوبر، التي كانت مُتشبِّثة بمَوضعها وصعبة التحريك، وثبَّتها بيدَيه جانبًا ليكشف فجأة عن جثةِ رجل راقِد في وضعية مُلتوية غريبة عبر كتلة حجرية حادَّة الحواف. كانت نظرة واحدة إلى الأعلى كافيةً لإظهار ما حدث له؛ لقد انزلق من أعلى حافة الهاوية الواقعة على ارتفاعٍ شاهق، وهوى مباشرةً دون أن يعترِضَه شيء حتى ارتطم بالمكان الذي كان راقدًا عليه، وبالقُرب منه، كانت تُوجَد عصا السير التي سقطت من يدِه في أثناء وقوعه.

وثب بليك فجأةً إلى الأمام بصيحة حادة، وقَلَب وجه الجثة — الذي كان حتى هذا الحين مُنسحقًا وسط وسادة من الطحالب والخلنج — نحو الضوء. ثم قام وهو يُحدِّق إليه.

قال: «يا إلهي!» وأضاف: «إنه كرولي؛ الرجل الذي التقيتُه …»

لكنَّ البروفيسور أطلق صيحةً أقوى وأشدَّ ذهولًا بكثيرٍ حين رأى بدوره وجه الرجل الميت.

إذ قال: «كرولي؟» وأردف قائلًا: «كرولي؟ يا إلهي! هذا كارتر! كارتر! أؤكد لك أنه كارتر!»

شعر بليك وكأنَّ هذا الإيضاح قد غمر دِماغه مثل موجةٍ باردة كالثلج. فالتفت إلى البروفيسور رامقًا إيَّاه بنظراتٍ متفحصة مُدققة.

وصاح قائلًا: «كارتر!» وأضاف: «مساعدك؟»

«أجل، مساعدي!»

«الرجل الذي حمل رسالتَكَ المُوصَدة بأختامٍ شمعية إلى جاي ماركنمور؟»

قال البروفيسور مؤكدًا بجدية شديدة: «هو بعَينه!» وأضاف: «يا إلهي! ما معنى كل ذلك؟»

هوى بليك فجأة جاثيًا على رُكبتَيه بجوار الرجل الميت، وأدخل إحدى يدَيه فجأة في جيبٍ داخلي في ثيابه، ثم جيبٍ ثانٍ، ثم ثالث. وبحركةٍ مفاجئة مُماثلة، أخرج حافظة رسائل، وسحَبَ من داخلها رزمة من الأوراق النقدية وورقتَين. رمى النقود بلا مُبالاة على الحجارة، وفتح الورقتَين على عجل، وبعد ثانيةٍ واحدة، وضعهُما في يد الأستاذ بقوة.

وقال بهدوء: «هذا معناه!» واستطرد قائلًا: «ها هي تركيبة سبيندلر، وها هو رأيك فيها. و… هذا هو الرجل الذي قتل جاي ماركنمور!»

ثم نظر حوله إلى الرجال الثلاثة. كان البروفيسور يُحدِّق بعينَين جامدتَين إلى الورقتَين اللَّتَين سُلمتا إليه للتو، وكان السيد فرانسيمري يُحدِّق إلى البروفيسور، فيما كان هاربورو، الذي بدا قلقًا وحائرًا، ينظر بارتيابٍ إلى الرجل الميت. وكان هو أول مَن تحدَّث، مُلتفتًا إلى المُحقق.

سأله بصوتٍ خفيض: «هل تظنُّ أنه … أنه قتل جاي ماركنمور ليأخُذ تلك الأشياء؟»

قام بليك من جثوِه.

وقال بهدوء: «وهل من تفسيرٍ آخر غير ذلك؟» وتابع قائلًا: «لقد اتَّضحَتِ لي المسألة برمَّتها الآن! كنتُ أنا والسير توماس، الواقف هنا بيننا، نعرف شيئًا ما عن ذلك سلفًا، لكني حتى ما قبل بضع دقائق لم أكن أشكُّ في هذا الرجل. غير أنَّ المسألة، كما قلت، صارت واضحةً لي الآن تمامًا. هذا الرجل، الذي التقيتُه منذ بضع ليالٍ في نزل سيبتر، وادعى أن اسمه كرولي، وقال إنه كان يقضي إجازةً ويجوب أرجاء هذه المنطقة الريفية سيرًا على الأقدام، هو في الحقيقة كارتر، أحد مساعدي السير توماس في مُختبره بكمبريدج. كان هو مَن ائتمَنَه السير توماس على طردٍ مُوصَدٍ بأختام شمعية وكلَّفه بتوصيله مباشرة إلى جاي ماركنمور في لندن؛ لأنه، أي كارتر، كان سيمرُّ على لندن في طريقه إلى هنا لقضاء إجازته. الآن، مع أنَّ كارتر لم يكن يعرف طبيعة محتوى ذاك الطرد بالضبط، كان قد عرف من السير توماس أنَّ مُحتواه ذو أهميةٍ علمية بالغة وقيمة مالية هائلة. كُلِّف آنذاك بتوصيله إلى يدَي جاي ماركنمور شخصيًّا. وقد فعل ذلك. وفي وقتٍ لاحِق من ذلك اليوم، سافر جاي ماركنمور إلى هنا. وكذلك كارتر. ربما التقَيَا على متن القطار، أو ربما سافرا معًا. ولكن في كل الأحوال، اكتشفتُ أنا والسير توماس للتوِّ أنهما كانا معًا على الرَّوابي في وقتٍ متأخِّر من تلك الليلة يتحدَّثان معًا سرًّا. كان جاي ماركنمور، مما عرفتُه عنه، رجلًا ثرثارًا غير مُتحفِّظٍ وصريحًا ومُعتادَ البَوح بما في نفسه، ومن المُرجَّح أنَّه، حين علم أنَّ كارتر كان مساعد السير توماس، أفضى إليه بالسِّر. وقد تيقنتُ أنا والسير توماس للتوِّ من أنَّ جاي ماركنمور أخبر كارتر بأنه سيكون موجودًا عند مُنخفَض ماركنمور هولو أو بالقُرب منه في ساعةٍ مُبكرة جدًّا من صباح اليوم التالي. فماذا يفعل كارتر؟ ينسُج خطةً يعتزِم بموجبها التسكُّع طوال الليل — ولتتذكَّروا أنها كانت ليلةً دافئة! — ثم التربُّص بجاي ماركنمور في الصباح الباكر وقتله من أجل الحصول على السرِّ والأموال، التي كان من المُزمَع تجميعها ثمنًا لهذا السِّرِّ في تلك الليلة من جاي ولانسبري والبارون فون إيكهاردشتاين. ونفَّذ كل ذلك بالفعل. وماذا يفعل بعدئذٍ؟ يرحَل بهدوءٍ بين هذه التلال والغابات مُواصلًا جولة سَيره؛ فمن سيشْتَبِهُ في رجلٍ سائر ذي مظهرٍ بريء؟ لكنه، بعدما قرأ الصحف في تلك الأثناء، شقَّ طريقه سيرًا، بصفته سائحًا، إلى نزل سيبتر حيث التقيتُه، وأعترفُ بأن كذبته انطلَتْ عليَّ تمامًا هناك. وتلك، كما تفهمون، هي إحدى عادات القاتل القديمة، وهي أن يحوم حول مسرح جريمته، مُفعمًا بفضولٍ مَرَضِيٍّ لمعرفةِ ما يُقال وما يُفعل. لم يشتبِهْ أيُّ أحدٍ في هذا الرجل إطلاقًا، وحتى أنا نفسي لم أتصوَّر قطُّ أنه قد يكون ذا صلةٍ بهذه القضية. مكث ليلته في سيبتر، ورحل عابرًا هذه الروابي. وهنا! … هنا تعرَّض لهذا الحادث المُميت، ولولا ذلك، ولولا أننا وجدْنا هذا، وهاتَين الورقتَين بحوزته، لا أعتقد أننا كنا سنعرف أبدًا أنه هو مَن قتل جاي ماركنمور! لكننا ها نحن أُولاءِ نعرف الآن.»

ثم انحنى إلى الأسفل وسحب قُبعة الرجل الميت الليِّنة على وجهه ليُغطيه بها. وحين رفع ناظريه مُجددًا، كان البروفيسور لا يزال يُحدِّق في تأمُّلٍ إلى الورقتَين اللتَين كان يُمسكهما، وكان السيد فرانسيمري يُحدِّق إلى البروفيسور، مُتجهِّمًا على غير عادته. لكن هاربورو كان بالفعل يبتعِد بخطواتٍ طويلة سريعة عبر الأشجار، نحو فالنسيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤