الفصل الخامس

متَّهَم

بعدما استمعا رغمًا عنهما لرنين ناقوس الوفاة الرتيب الكئيب، عبَرا الممر العميق، الذي كان السيد فرانسيمري قد وطِئه قبل ذلك بساعةٍ واحدة فقط بخطواتٍ وثَّابة مفعمًا بالمرح والابتهاج، دون أن يتوقَّع إطلاقًا ما ينتظِره من مأساةٍ وكآبة، وشقَّا طريقهما عبر المُتنزَّه المُنار بضوء الشمس نحو ماركنمور كورت. ظلَّا صامتَين بعض الوقت؛ إذ كان كلاهما منشغلًا بأفكاره الخاصة. لكن قائد الشرطة التفت فجأةً إلى رفيقه.

وقال له: «إذا صحَّ أنَّ السير أنطوني قد مات بالفعل، ولا أشكُّ في ذلك؛ لأنه لا أحد سواه في القرية قد يقرعون له ناقوس الوفاة، فمن الغريب أن يموت هو وابنه الأكبر في الصباح نفسه، يا سيد فرانسيمري! والآن، أظنُّ أنَّ اللقب سيئول إلى السيد هاري ماركنمور بالطبع.»

لكنَّ بال السيد فرانسيمري كان مُنشغلًا بالتفكير في شيءٍ آخر، وهزَّ رأسه.

أجاب كما لو كان مُتشككًا: «ربما.»

قال قائد الشرطة: «نعم.» وأضاف قائلًا: «ولكن لماذا تقول ربما؟ إنه التالي في ترتيب الورثة، أليس كذلك؟»

ردَّ السيد فرانسيمري قائلًا: «حسنًا، لقد قيل لي إن جاي ماركنمور قد غادر بيته منذ سبع سنوات، ولم يزُره قطُّ منذ ذلك الحين، أعرف هذا يقينًا. والآن، من المُرجَّح أن يكون جاي ماركنمور قد تزوَّج في هذه السنوات السبع؛ فهذا أمر وارد، على أي حال. وفي هذه الحالة، إذا كان لديه ابن، فسيئول إليه اللقب والأملاك؛ لأنني عرفتُ مُصادفة أنَّ حق وراثة أملاك ماركنمور مقصور على فرع مُعيَّن من الورثة. وهذا سيتضح عاجلًا أو آجلًا بالتأكيد.»

تمتم قائد الشرطة قائلًا: «بل لا بدَّ أن تتَّضِح أمور كثيرة. لا يراودني مثقال ذرة من الشك في أن جاي ماركنمور قد قُتِل! ولكن لماذا؟! من الواضح أنه عاد إلى بيته القديم — وأظنه قد أتى بعدما استُدعي لرؤية أبيه — وها هو وُجِد مقتولًا في أول الصباح الباكر! سيتطلَّب حل هذا اللغز بعض التفكير. من حُسن الحظ أنَّ ذاك الرجل بليك كان موجودًا في سيلكاستر حين سمعت الخبر، وقد أيقظته من فراشه في فندقه فورًا وأحضرته معي.»

سأله فرانسيمري: «مَن بليك؟»

أجاب قائد الشرطة: «فردٌ من قسم التحقيقات الجنائية. إنه واحد من أذكى الرجال الذين يحظون بهم في نيو سكوتلاند يارد الآن؛ إنه رقيب مُحقِّق بالفعل، ومن المُرجَّح أنه سيعتلي مناصبَ أعلى. لقد جاء إلى سيلكاستر منذ يوم أو اثنين بخصوص قضية احتيال أتعبتْنا بشدة، والآن سأجعله يتركها ويصبُّ اهتمامه على هذه القضية. فحسبما رأيته منه بالفعل، وما سمعته عنه سابقًا، يُمكنني القول إنه يحظى بكل صفات نِمسٍ بشري.»

قال فرانسيمري: «أظنه سيحتاج إلى هذه الصفات. فقضية هذا الصباح بها كل السمات التي تجعل منها لغزًا استثنائيًّا، ويبدو أن مسرح الجريمة خالٍ من أي خيط. لكننا قد نعرف المزيد قريبًا.»

كانا يسيران آنذاك على الطريق الفرعي الخاص المؤدي إلى مُقدمة المنزل، وحين أصبحا في نطاق مائة ياردة من رواق البيت، رأيا رجلًا طويلًا ظَهَر من بين الشجيرات ثم دنا من الباب الأمامي ودخل.

قال السيد فرانسيمري: «أظن أن هذا هو السيد جون هاربورو، الذي يسكن في بيت جرايكلويستر الكبير الواقع على الجانب الآخر من القرية. فقد سمعتُ من مُدبرة منزلي الليلة الماضية أنه قد عاد إلى الديار أخيرًا. لقد رحل لفترةٍ طويلة مثل جاي ماركنمور، بل للفترة نفسها. سبع سنوات، كان يصطاد خلالها الحيوانات البرية الكبيرة ويقنصها في كل أنحاء العالم. لم أقابله من قبل، وأظن أنك أيضًا لم تقابله.»

أجاب قائد الشرطة: «سمعتُ عنه. إنه شريك في شركة «هاربورو، تشيتل آند فيرويذر» المصرفية الكبيرة، أليس كذلك؟»

قال السيد فرانسيمري: «بلى، لكنه شريك خامل. فلم يضطلع قَط بأي دور نشط في الشركة. لقد فهمتُ أنه رجل فاحِش الثراء. حسنًا، ها قد وصلنا، ويا ليتنا جئنا بشأن أيِّ مسألة أخرى غير هذه.»

كان الباب الأمامي لمنزل ماركنمور كورت مفتوحًا، وداخل الصالة الداخلية مباشرة، وجد الوافدان الجديدان الرجل الطويل الذي كانا قد رأياه للتو، ورجلًا عجوزًا ذا مظهر مهني، وبراكسفيلد.

قال قائد الشرطة هامسًا لرفيقه وهما يتقدَّمان دون كُلفة أو رسميَّات: «ها هو تشيلفورد، محامي السير أنطوني، موجود هنا بالفعل. من الأفضل أن نُخبره قبل إبلاغ الفتى والفتاة. ومن حُسن الحظ أنني لا أرى أيًّا منهما.»

حدَّق الرجال الثلاثة الموجودون في الصالة إلى زيِّ قائد الشرطة شبه العسكري بدهشة واضحة، وسرعان ما تقدَّم نحوهما الرجل العجوز على عجل. فرمقه قائد الشرطة بنظرةٍ تحذيرية، واستهل الكلام.

سأله قائلًا: «هل الفتى والفتاة موجودان في أي مكان هنا، يا تشيلفورد؟» وأردف قائلًا: «لا؟ إذن، اجعل براكسفيلد يأخُذنا إلى إحدى الغرف دقيقةً أو اثنتين … وحدَنا.» وانحنى هامسًا في أُذن المحامي: «لديَّ خبر سيئ.»

حدَّق تشيلفورد كما لو أنَّه عَجَز عن فهم مقصد هذه الرسالة، ثم همس بدَوره في أذن براكسفيلد، ففتح كبير الخدم العجوز بابًا، وقاد المجموعة إلى داخل غرفة خافتة الإضاءة كانت واحدة من الغرف الكثيرة التي نادرًا ما تُستخدَم في ماركنمور كورت. وبينما كان يُغلِق الباب عليهم، استدعاه قائد الشرطة طالبًا منه العودة.

قال له: «لا تذهب يا براكسفيلد. ادخل، وأغلِق الباب. هل أنا مُحق في افتراض أنَّ سيدك العجوز قد مات؟» ثم أضاف مُشيرًا لكبير الخَدَم بالانضمام إليهم: «لقد سمعتُ أنا والسيد فرانسيمري جرس ناقوس الوفاة؛ لذا ظننا …»

فأجاب براكسفيلد بحُزن: «لقد مات السير أنطوني في أثناء نومه في وقتٍ مُبكر من صباح اليوم يا سيدي. لكنِّي لا أستطيع تحديد الوقت بالضبط.»

تابع قائد الشرطة قائلًا: «حسنًا، أريد أن أسألك سؤالًا أو اثنين يا براكسفيلد. هل كان السيد جاي ماركنمور هنا؟»

«هنا يا سيدي؟ وقت وفاة أبيه؟ كلَّا، كلَّا، لم يكن هنا.»

«هل أتى إلى هنا؟ هل كان هنا أمس؟»

«كان السيد جاي ماركنمور — أو بالأحرى السير جاي كما صار الآن — هنا الليلة الماضية يا سيدي. ظل هنا بعض الوقت، ثم رحل في حوالي العاشرة والنصف يا سيدي.»

«رحل إلى أين؟»

«لا أعرف بالضبط يا سيدي. كان يعتزم زيارةَ شخصٍ ما في الجوار، لكني لا أعرف هوية هذا الشخص. وكان ينوي — أي السير جاي — ركوب قطار الصباح الباكر المُتجه إلى لندن من محطة ميتبورن يا سيدي.»

فنظر قائد الشرطة إلى السيد فرانسيمري.

وهمس له جانبًا قائلًا: «يقع مُنخفَض ماركنمور هولو على جانب مَمشى الروابي المؤدي إلى ميتبورن.» ثم التفت مرةً أخرى إلى كبير الخدم العجوز مُضيفًا: «إذن، فأنت لم ترَه أو تسمع أي شيء عنه منذ أن غادر هذا البيت في العاشرة والنصف يا براكسفيلد؟» وكرَّر سؤاله قائلًا: «ألم تسمع أيَّ شيء؟»

«أنا يا سيدي؟ كلَّا يا سيدي. لم أرَ ولم أسمع.»

وهنا تساءل المحامي فجأة: «ما كل هذا؟» وأضاف: «هل حدث شيءٌ ما؟»

فأجاب قائد الشرطة قائلًا: «من الأفضل أن أخبركما مباشرة.» ثم ألقى نظرة خاطفة على الباب وخفض صوته. وقال: «لا أريد إزعاج الفتى والفتاة. يجب أن تُبلغهما بالخبر السيئ برفقٍ يا تشيلفورد، بصفتك محامي العائلة. الحقيقة أنَّ جثة السيد جاي ماركنمور قد وُجِدت على الروابي في المكان المُسمَّى ماركنمور هولو. إنه …»

فأطلق براكسفيلد صرخةً حادة. واعتلى الشحوب وجهه الذي عادة ما يكون ورديًّا.

صاح قائلًا: «جثة! إذن فقد …»

فقال له قائد الشرطة: «على رِسْلك يا صديقي! اهدأ! نعم … لقد مات … ويؤسفني القول إنه … في الحقيقة … وبكل تأكيد … قد قُتِل!»

انخرط براكسفيلد في نوبة بكاء. فأمسكه السيد فرانسيمري من ذراعه برفق، وقاده إلى مقعدٍ في أحد التجاويف العميقة في الحائط حيث تُوجَد إحدى النوافذ، وحاول تهدئته. وفي هذه الأثناء، روى قائد الشرطة موجزًا سريعًا لأحداث صباح هذا اليوم على مسامع تشيلفورد وهاربورو. فازداد وجه المحامي المُتجهم تجهُّمًا.

وسأله أخيرًا: «إذن، فأنت على يقين — بناء على ما رأيته بالفعل — من أنها جريمة قتل.»

قال قائد الشرطة مؤكدًا: «ليس عندي أي شك. إنها جريمة قتل! يجب أن نتقصَّى تفاصيلَ ما فعله وأماكن وجوده بين الساعة العاشرة والنصف من الليلة الماضية والصباح الباكر من هذا اليوم. فطبيب الشرطة يقول إنَّه قُتل بالرصاص في حوالي الساعة الرابعة. فماذا كان يفعل؟ وأين كان؟ أعني خلال هذه الفترة؟ أنت تعيش في ماركنمور يا تشيلفورد، أليس كذلك؟»

أجاب تشيلفورد قائلًا: «في ضواحيها، لكنه لم يأتِ لزيارتي قَط، إذا كان هذا ما تُفكِّر فيه. ولم أكن أعرف أنَّه كان هنا قبل هذه اللحظة.»

فسأل قائد الشرطة السيدَ هاربورو: «وأظنه لم يأتِ لزيارتك يا سيد هاربورو؟»

فقال هاربورو: «كلَّا. كلَّا البتة.»

فقال قائد الشرطة: «أظن أنَّ كلًّا منكما كان يعرف الآخر على الأرجح قبل أن يرحل جاي عن الديار. حسنًا، لدَينا الكثير لنُنجِزه يا تشيلفورد، من الأفضل أن تذهب وتُخبر أخاه وأخته وتُهيئهما للأمر. فجثته سُتنقَل إلى هنا — بعد قليل — وسيُجرى التحقيق هنا. أبلِغهما بالخبر السيئ؛ فيجب أن يعرفا.»

أومأ تشيلفورد بالإيجاب، وغادر الغرفة في صمت. فيما عاد براكسفيلد بعدما مسح دموعه.

قال: «أرجو أن تعذروني على انفعالي العاطفي أيها السادة. فكما تعرفون، لقد قضيتُ أربعين عامًا في خدمة هذه العائلة، إنهم كعائلتي، إن جاز لي القول. فلتتفضَّلا أيها السادة بالتوجه إلى غرفة الجلوس النهارية، إذا سمحتم؛ إذ يُوجَد قدْر مناسب من نيران التدفئة الآن، في حين أنَّ هذه الغرفة مهجورة دائمًا، وأشد برودة من أن يُطيق المرء المكوث فيها.»

تَبِع الرجال الثلاثة كبير الخدم العجوز عبر الصالة إلى الغرفة التي كان هاربورو يتحدَّث فيها إلى هاري وفالنسيا في الليلة السابقة. وسرعان ما انضمَّ إليهم الأخ وأخته هناك برفقة تشيلفورد. وبعدما ألقى قائد الشرطة نظرة خاطفة واحدة عليهما، التفت إلى السيد فرانسيمري متنفسًا الصعداء.

وقال له هامسًا: «رائع!» وأردف قائلًا: «إنهما هادئان تمامًا! يعرفان كيف يُسيطران على مشاعرهما! تلك علامة أكيدة على النَّسل العريق والأخلاق الحميدة المُتوارثة! تلك هي النوعية التي تفضِّلها يا فرانسيمري … صفوة حقيقية!»

ثم وجد نفسه في الدقيقة التالية يشرح الموقف بهدوء لهاري وفالنسيا، اللَّذين أنصتا له واستوعبا كل التفاصيل التمهيدية التي استطاع أن يخبرهما بها.

واختتم ناظرًا إليهما بالتناوب: «أهم شيء الآن أن نعرف أين كان أخوكما بين الساعة العاشرة والنصف، حين رحل عن هنا كما قال لي كبير خُدَّامكما، والصباح الباكر من اليوم. ألا تعرفان؟»

قال هاري: «إطلاقًا. لم يُخبرنا بأي شيء.»

لكنَّ فالنسيا هزَّت رأسها.

وقالت: «هذا غير صحيح. لقد أخبرنا بشيءٍ ما. ألا تتذكَّر يا هاري، قُبيل رحيله مباشرة؟»

أجاب هاري قائلًا: «لا شيء مُحدَّد. لم أستخلص أيَّ معلومة مُحدَّدة على أي حال.»

سألها قائد الشرطة: «ماذا قال لكِ يا آنسة ماركنمور؟»

أجابت فالنسيا قائلة: «أتذكَّر كل حرف. قال إنه يجب أن يرحل؛ لأنَّه كان مُرتبطًا بموعدِ عمل في الجوار. وقال إنَّ العشاء سيكون جاهزًا له في المكان الذي سيذهب إليه. ولكن … هذا كل ما قاله.»

«ألم يذكر أيَّ تلميح عن وجهته، ولا هوية الشخص الذي كان سيلتقيه؟»

«إطلاقًا.»

وسرعان ما انقسمت جماعة الموجودين في الغرفة آنذاك إلى أقسام. فانزوى هاربورو والسيد فرانسيمري في أحد أركان الغرفة، وانزوى تشيلفورد وهاري في ركنٍ آخر، فيما ظلَّ قائد الشرطة وفالنسيا على الأرضية المُجاورة للمدفأة يتحادثان بنبراتٍ خفيضة. وفجأة فُتِح الباب بقوة، وقال براكسفيلد، الذي كان لا يزال دامعًا، بصوتٍ شِبه هامس مُعلنًا:

«جاءت السيدة تريزيرو!»

نظر كل الموجودين نحو السيدة تريزيرو — التي لم تنسَ التقاليد وأتتْ مُرتدية ثوبًا مُصممًا خصِّيصى من قماش الملابس الدينية الحالك السواد — وهي تدخل الغرفة بسرعةٍ متجهة إلى فالنسيا. لكنَّ أحد الرجال كان يوزِّع نظراته بينها وبين رفيقه المُلاصق له؛ فبينما كان السيد فرانسيمري يرمق السيدة تريزيرو وجمالها بنظرة إعجابٍ خاطفة، كان نظرُه ثاقبًا كفاية ليرى أنَّ جون هاربورو لم ينتفِض حين رآها فحسْب، بل صار شاحبًا بشدة، ثم احمرَّ وجهه ثم اعتلاه الشحوب مُجدَّدًا وهو يعتصِر شفتَيه الجامدتَين. وقد لاحظ شخصٌ آخر في الغرفة أيضًا كل ذلك، ألا وهو فالنسيا.

لكنَّ السيدة تريزيرو لم ترَ شيئًا، أو بدا أنها لم ترَ شيئًا. كان واضحًا عليها أنها مُفعمة بالحماسة؛ إذ كانت وجنتُها أشدَّ توردًا من المعتاد وكانت شفتاها مُفترَّقتَين قليلًا، وقد ظنَّ ثلاثة على الأقل من الرجال الحاضرين أنها بَدَت كما لو كانت آتية لتلقِّي التهاني وليس تقديم التعازي. ولكن حين اقتربت من فالنسيا، صبغت قسمات وجهها المُتلوِّن بتعبيرٍ من التعاطف المحتشِم اللائق.

قالت بنبرة ناعمة لطيفة: «آه يا مسكينتي فالنسيا!» واستطردت قائلة: «والدُكِ العزيز! لقد أتيتُ فورًا، حالما سمعت الخبر، لأُعرِب لكِ ولهاري عن مدى حُزني، ولأرى ما بوسعي فعله. لكنكما كنتما تتوقَّعان هذا، أليس كذلك؟ ومن المؤكَّد أنه كان طاعنًا في السن. ويُوجَد شيء آخر، لا شكَّ أنكما ستُبلغان السير جاي فورًا … إنني … في الحقيقة يا فالنسيا لقد رأيتُ جاي الليلة الماضية بعدما … بعدما جئتُ إلى هنا، كما تعرفين … و… حسنًا، لقد غيَّر خُططه، ولن يكون موجودًا في العنوان الذي أعطاكما إيَّاه في لندن إلَّا بعد بضعة أيام. لكنِّي أعرف مكانه … وأليس من الأفضل أن تبعثا إليه ببرقيةٍ فورًا؟ فكما ترين …»

كانت تتحدَّث بسرعة شديدة أعجزت فالنسيا وكل الحاضِرين عن إيجاد فرصة للنطق ولو بكلمة. ولكن في هذه اللحظة، بينما كانت تُخرِج قصاصةً ورقية من المِعصم ذي الفرو الكثيف المُحيط بيدها، قاطعها هاري ماركنمور بحدة.

قال بشيء من الغضب: «فليُوقفها أحد.» وأردف قائلًا: «أخبروها.»

فسار تشيلفورد عبر أرضية المدفأة رافعًا إحدى يديه.

وقال بهدوء: «سيدة تريزيرو.» وأضاف: «إنني … الحقيقة أنك لا تعلمين ما حدث صباح اليوم! من الأفضل أن تعرفي. السير أنطوني ليس فقَط مَن مات … بل مات ابنه أيضًا. لقد …»

فصاح السيد فرانسيمري الذي كان مُتيقظًا بشدة، قائلًا: «حذارِ! سيُغشى عليها!»

مدَّ قائد الشرطة إحدى يدَيه. لكن السيدة تريزيرو دفعتها جانبًا. كان الشحوب قد اعتلى وجهها حتى شفتَيها، واتَّقدَت عيناها وهما تُحدِّقان إلى تشيلفورد.

ثم قالت بحدة: «مات؟» وأضافت: «جاي ماركنمور! مات! هذا كذب!»

ردَّ تشيلفورد كما لو كان يشعُر بقليلٍ من الانزعاج وكثير من الازدراء: «مع الأسف الشديد يا سيدتي، هذه الحقيقة المُطلقة. لقد عُثِر على السيد جاي ماركنمور ميتًا صباح اليوم، على الطريق بين هنا وميتبورن، ومن المؤكَّد أنه قُتِل.»

شهقت السيدة تريزيرو وانتفضت إلى الوراء حتى ارتطمت بالطاولة الكبيرة التي كانت تملأ وسط الغرفة. ثم اتَّكأت عليها مُتثاقلة، ورفعت يدَها نحو حلقومها، كأنها بدأت تختنق بشيءٍ ما. وظلَّت عيناها، اللَّتان كانتا تزدادان اهتياجًا ويأسًا، تُحدِّقان إلى وجوه الحاضرين واحدًا تلوَ الآخر حتى استقرَّتا أخيرًا على هاربورو، الذي كان يُراقبها باهتمامٍ شديد. ثم رفعت يدَها عاليًا مُشيرة إليه بصيحةٍ أقرب إلى الصراخ.

وقالت: «قُتِل؟» وتابعت قائلة: «جاي! قُتِل؟ إذن … إذن … فها هو الرجل الذي قتله! أعرف ذلك! أتجرؤ على القول إنك لستَ الفاعل يا جون هاربورو! تعرف أنك الفاعل! لقد توعَّدت — منذ سبع سنوات — بأنك ستقتله وقتما وحيثما تلتقيه مُجددًا! والآن … الآن … نفَّذتَ وعيدك! جاي؟ مات؟ إنني … آه يا إلهي … إنني … وعدته … الليلة الماضية … قبل بضع ساعات فقط … بأن … بأن أتزوَّجه! إننا … يا فالنسيا! كنا سنتزوَّج فورًا!»

تمتم السيد فرانسيمري قائلًا: «إنها تُصاب بالإغماء الآن!» وأضاف: «يا إلهي! يا لها من معلومات مفاجئة!»

ثم هبَّ مُسرعًا نحو السيدة تريزيرو وهي تخِرُّ متثاقلةً على الأرض بآهةٍ حادة، وأخرجها من الغرفة بمساعدة فالنسيا وتشيلفورد، وأرسل براكسفيلد إلى مُدبِّرة المنزل. وبعدما تركها هي وفالنسيا مع السيدة تريزيرو، عاد مع تشيلفورد إلى الرجال الثلاثة الآخرين. كان قائد الشرطة واضعًا يدَيه خلفه ومُتكئًا بظهره على رفِّ المدفأة الكبير، فيما كان هاربورو واقفًا قُبالته على الجانب الآخر من الطاولة وقد أصابه شحوب شديد، أمَّا هاري ماركنمور، فكان واقفًا بعيدًا قليلًا وهو يَرمقهما بنظراتٍ مرتابة بالتناوب.

كان قائد الشرطة يقول: «إنه اتهام مُحرِج، لكنه مُوجَّه بتأكيد قاطعٍ يا سيد هاربورو. لم تبدُ مُتردِّدة إطلاقًا في توجيهه!»

فقال هاربورو: «لقد رأيتَ بنفسك أنها وجَّهته في لحظةِ انفعال شديد. و… وحزن.»

فقال قائد الشرطة بجفاء: «من واقع خِبرتي، فهذه بالضبط هي اللحظات التي تتكشَّف فيها الحقيقة. ومع ذلك، بما أنها قد قالته أمامَنا جميعًا، لعلَّك ستُخبرني بشيءٍ ما من أجل مصلحتك. هل سَبَق وأن أطلقتَ هذا الوعيد الذي تحدَّثَتْ عنه؟ هل سَبَق وأن توعَّدْتَ بقتل جاي ماركنمور وقتما وحيثما تلتقيه مجددًا؟»

وهنا سعَل تشيلفورد سعلةً جافة استنكارية.

وقال: «صحيحٌ أنني لستُ محامي السيد هاربورو، لكنني لو كنتُ كذلك، لنصحتُه بكلِّ ما أُوتيت من قوة بألَّا يجيب على هذا السؤال، يا قائد الشرطة. كما تعرف.»

ردَّ قائد الشرطة قائلًا: «هذه ليست ساحة قضائية. بل مُحادثة خاصة بين رجالٍ مُهذَّبِين. وكما قالت السيدة تريزيرو ما قالته أمامنا، يحق للسيد هاربورو أن يقول ما لدَيه … أمامنا.»

صاح هاربورو فجأة: «سأقول!» واستطرد قائلًا: «لقد توعَّدتُ بذلك منذ سنوات. توعَّدتُ بذلك تحت وطأة استفزازٍ شديد … أشد استفزازٍ على الإطلاق. لكنَّ … كل ذلك تلاشى تمامًا، منذ أمد بعيد — أعني الإحساس بالغضب وما إلى ذلك — تلاشى داخلي. ولو كنتُ التقيتُ جاي ماركنمور الآن — أو في أي وقتٍ خلال هذه السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة — كنتُ سأصافِحه.»

فقال رئيس الشرطة: «رائع!» ثم أشار إلى هاري ونظر إلى هاربورو. وأضاف قائلًا: «من أجله — ومن أجل أُخته — أخبرني، متى كانت آخر مرةٍ رأيتَ فيها جاي ماركنمور؟»

نظر هاربورو أيضًا إلى هاري. وبينما كان ينظر، عادت فالنسيا إلى الغرفة. فالتفت إليها.

ثم قال بهدوء: «سأُخبرك. لم أرَ جاي ماركنمور قَطُّ منذ سبع سنوات. ولا أعرف أيَّ شيءٍ عن ملابسات مَوته … لا شيء إطلاقًا!»

أومأ قائد الشرطة، ولم يقُلِ الرجال الآخرون أيَّ شيء. لكنَّ فالنسيا حدَّقت إلى هاربورو لحظة، ونظر هو أيضًا إليها؛ بدا لعَينَي السيد فرانسيمري المُراقِبتَين المُتيقظتين أنَّ نظرة فَهْم خاطفة قد مرَّت بينهما. ثم اتجَّهَت نحو أخيها، ونقرَتْ على ذراعه والتفتتْ إلى قائد الشرطة.

وسألته: «ألا يُوجَد أشياء يجب فِعلها؟ وتحضيرات يجب تجهيزها؟» وأضافت: «هلَّا تُخبرني بها؟»

انصرف قائد الشرطة مع الأخ وأُخته، ورحل هاربورو أيضًا دون أي كلمةٍ أخرى، فيما تُرِك تشيلفورد والسيد فرانسيمري وحدَهما. وبعد قليلٍ خرجا إلى الشرفة، وظلَّا يسيران جَيئةً وذهابًا وسط صمتٍ تام في البداية.

قال السيد فرانسيمري أخيرًا: «أتصوَّر أنَّ ما سمِعناه للتوِّ من السيدة تريزيرو نشأ أصلًا من قصة حُب قديمة؟ أظنُّ أنَّ هاربورو وجاي ماركنمور كانا غريمين، هاه؟»

أجاب تشيلفورد قائلًا: «الكل يعرف ذلك يا سيدي العزيز.» وأضاف: «فحين كانت السيدة تريزيرو لا تزال الآنسة فيرونيكا لايتون، كان أبوها قسَّ أبرشية ماركنمور، أتعرف ذلك! كانت فتاة لعوبًا بلا أي شكٍّ لا سبيل إلى تقويمها، وكان الشباب الساعون وراءها لا يُحصَون. لكنَّ هذين الاثنين كانا في مُقدمة سباق الظفر بها، ودائمًا ما خالَجَني شعور بأن رحيلهما عن الديار هكذا كان بواسطتها وبسببها. وأرى أنها تزوَّجَت الكولونيل تريزيرو إمَّا بدافعٍ من غيظها من جرح كبريائها، أو من أجل أمواله، وأُرجِّح أنه كان من أجل أمواله. ثمَّة لُغز يُحيط بما حدث آنذاك؛ لغز غريب لم يتَّضِح قط.»

فقال فرانسيمري: «وها نحن الآن أمام لُغز آخر!» وأردف: «و… ويبدو أنَّ السيدة تريزيرو ضالعة فيه.»

قال المحامي بضحكةٍ جافة: «نعم!» وأضاف: «لقد باحت ببعض الأشياء الآن. لكنَّ ماركنمور كان معها الليلة الماضية. السؤال الآن هو أين كانا؟ وكم من الوقت بقي معها؟»

لم يردَّ السيد فرانسيمري. فقد رأى شيئًا ما، ورفع يدَه مُشيرًا إليه. كان الرجال الذين يحملون جثة جاي ماركنمور قد ظهروا للتوِّ من حافة الغابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤