الباب الأول

حياته

عائلة فرجيل

ولد بوبليوس فرجيليوس مارو Publius Vergilius Maro في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر عام ٦٨٤ بعد تأسيس مدينة روما؛ أي بعد سنة ٧٠ق.م. في قرينة صغيرة وراء نهر البو Po تسمى أنديس Andes تبعد عن مانتوا Mantua بثلاثة أميال رومانية، بالقرب من ضفاف نهر المينكيو Mincio في غاليا كيسالبين Cisalpine Gaul؛ أي إنه ولد قبل هوراتيوس Horatius بخمس سنوات، وقبل جيوس أوكتافيوس Caius Octavius، الذي أصبح نصيره فيما بعد ومعضده الأكبر، بسبع سنين، وفي أثناء قنصلية جنيوس بومبي الأكبر Gnaeus Pompeius Magnus، وماركوس ليكينيوس كراسوس Marcus Licinius Crassus.
يحدِّثنا البعض عن أبوَيْه فيقولون إنهما لم يكونا من الأثرياء المترفين؛ بل كانا متوسطَي الحال، وليس معنى هذا أنهما كانا يُعانيان آلام الفاقة، ويقول بروبوس Probus، إن والد فرجيل كان فلاحًا،١ ويخبرنا دوناتوس Donatus أن هناك من يقول إنه كان فخاريًّا، بينما يقول الأغلبية إنه كان أجيرًا يعمل لدى ماجيوس Magius، كحامل رسائل أو منادٍ لأحد الحكَّام المحليين، وليس عبدًا كما يدَّعي البعض.
ويقول دوناتوس أيضًا، إن هذا الوالد استطاع بجده ونشاطه أن يكسب عطف وتقدير سيده، فزوَّجه ابنته التي يقول بروبوس وفوكاس Focas إنها كانت تُدعَى ماجيا بولا Magia Polla.٢ ومما لا شك فيه أن هذا الزواج قد حسَّن كثيرًا حالَه ومركزه. هذا فضلًا عن أنه تمكَّن من مضاعفة دخله الضئيل شيئًا فشيئًا بأن استأجر قطعةً من الأحراش وربَّى النحل، ولا يقولون عن أمه سوى أنها كانت من قبيلةٍ إيطاليةٍ ذات شهرةٍ واسعةٍ وثروةٍ عظيمة.

ولما كانت أسماء فرجيل الثلاثة لاتينية الأصل، فقد ظن البعض أن مسقط رأس عائلته هو وسط إيطاليا، بيد أنه لم يَرِد في تاريخ سير القدماء أي دليلٍ قاطعٍ يُثبت صحة هذا الظن. ولو أن النحوي فوكاس يُطلق على فرجيل لقب «المغني الأترسكي». هذا وقد استطاع فريق آخر أن يكتشف وجود نكهة أترسكية في اسم الأم «ماجيا» وكذلك في اسم الجد «ماجيوس». ومهما كان أثر الحدس والتخمين في هذه النقطة بالذات. فيجب أن نعلم جيدًا أن فرجيل كان يحب كثيرًا أن يُنسب هو ومدينته إلى الأصل الأترسكي.

غير أنه فيما يتعلَّق بهذا الموضوع، يُستحسن أن نتحرَّى عن مركز مانتوا السياسي، وعادات العناصر التي استوطنتها، وأخلاقها بصفةٍ خاصة، وأن نتحرَّى عن كل هذه المسائل في غاليا ترانسبادانا Transpadane Gaul بصفة عامة. في الوقت الذي وُلد فيه فرجيل. وقد سبق أن قدمنا أن فرجيل كان يفتخر بأصل مدينته الأترسكي وبتفوُّق الأترسك Etruscans على العنصرَيْن الآخرَيْن؛ أي على العنصر الغالي الكينوماني Cenomanian Gauls الذي يحتمل أن يكون قد اجتاح مقاطعة مانتوا حتى حدود مينكيو، وعلى العنصر الوينيتي Veneti، ويؤكد بليني Pliny أيضًا أن مانتوا في عصره كانت المدينة الأترسكية الوحيدة التي ظلَّت وراء نهر البو.٣
ومن المعروف يقينًا أن الكينوماني Cenomani والوينيتي كانوا حلفاء الرومان منذ عام ٢٢٥ق.م. في حربهم ضد الغال، وأنهم حاولوا بعد الحرب البونية الأولى أن يغِيرُوا على قلب إيطاليا، ثم ظلُّوا حلفاء لهم بعد ذلك. ثم بعد ذلك بسنواتٍ قليلةٍ قادَت روما قواتها ضد الإنسوبري Insurbri، وأسسوا أول مستعمرة لاتينية في منطقة ترانسبادانا في كريمونا Cremona عام ٢١٨ق.م.، حيث أقام ستة آلاف مستعمر من أواسط إيطاليا.٤ وفي عام ٢٠٠ق.م. ثار الكينوماني ضد الرومان وحاولوا مع الإنسوبري الهجوم على كريمونا، ولكنهم رُدُّوا على أعقابهم وهُزموا في ذلك العام على يد إلبريتور لوكيوس فوريوس بوربوريو L. Furius Purpureo، وكذلك هزمهم القنصل جيوس كورنيليوس كيثيجوس C. Cornellus Cethegus عام ١٩٧ق.م. على شواطئ المينكيو؛ ومن ثم عادوا أصدقاء وحلفاء روما من جديد.
وفي نفس الوقت قويت مستعمرة كريمونا اللاتينية سنة ١٩٠ق.م.؛ فقد وفد إليها ستة آلاف عائلة مستعمرة انتشرت في المقاطعات المجاورة، وبعد انتصار كيثيجوس أصبحت غاليا ترانسبادانا خاضعة كليةً للرومان الذين عقدوا معاهدات صداقة وتحالف مع شعوب الكلت Celts المختلفة بعد عام ١٩٤ق.م. وأسست مستعمرة لاتينية جديدة عام ١٨٣ق.م. في أكويليا Aquileia لمنع غال ترانسالبينا Transalpine Gauls من الإغارة على أراضي الوينيتي كما كانوا يحاولون ذلك مرارًا. وبعد الانتصار على الكيمبري Cimbri سنة ١٠٠ق.م. أسست مستعمرة لاتينية ثالثة في إبوريديا Eporedia، وفي إيفريا الحديثة Ivrea.
دامت هذه الحال في غاليا ترانسبادانا التي اجتيحت في نفس الوقت من جميع الجهات بالمستعمرين من تجَّار وجُبَاة ضرائب في روما حتى نهاية عام ٩٠ق.م.؛ أي حتى العام الذي اتَّحدَت فيه الشعوب الإيطالية التي ظلَّت حينًا من الدهر تُطالب بحقوق المساواة مع المواطنين الرومان، وحملوا السلاح ضد روما، وبذا قامَت الحرب الاجتماعية كما يُسمُّونها وبرهنت على إخلاص الطوائف المختلفة للشعب الروماني، فلما كسب الرومان الحرب سلَّمت مدن غاليا كيسالبينا التي ثارت، فألقَت السلاح وخضعَت، فتمتَّع سكانها بحقوق المواطنين الرومان. وهكذا تحوَّلت المستعمرة اللاتينية كريمونا إلى مدينةٍ يتمتَّع سكانها بالامتيازات التي للمواطنين الرومان.٥
وقد ترتَّب على القانون الذي اقترحه جنيوس بومبي سترابو Cn. Pompeius Strabo والد بومبي العظيم في عام ٨٩ق.م.، أن منحت بلاد غاليا ترانسبادانا التي ظلَّت مخلصة لروما الحقوق اللاتينية (ius Latii)؛ أي الحقوق التي كانت للمستعمرات اللاتينية الأخرى، والتي أعطَت حق الانتخاب لمن كانوا يحتلون بعض المناصب العامة. ولا نعرف هل نفذ هذا القانون أم ظل مجرد وعدٍ تُعهِّد به ليحول دون نشر الصفاء بين شعوب ترانسبادانا. حقيقةً لم تهدأ القلاقل التي كانت بين هذه الشعوب، ولا نعرف هل يعود السبب في ذلك إلى أنهم كانوا يريدون الاحتفاظ بالوعد الذي مُنح لهم أو إلى أنهم كانوا يطمعون في نيل الحقوق التي يتمتع بها المواطن الروماني كلها. ويخبرنا شيشرون Cicero أن جيوس سكريبونيوس كوريو C. Scribonius Curio الذي كان قنصلًا في عام ٧٦ق.م. اعتبر مطالب شعوب ترانسبادانا عادلة، ولكنه أكد تعذر منحها لأنها ليست من صالح الجمهورية،٦ ولا يذكر شيشرون متى قدمت هذه المطالب، ولكننا نعرف أن شعوب ترانسبادانا ثارت في عام ٦٦ق.م. مطالبةً بحقوق امتيازات المواطن الروماني، وأن يوليوس قيصر استقال من منصبه ككويستور وأنصف الطوائف الثائرة.٧ وبعد عام قامت منافسة في روما نفسها بين رقيبين؛ أحدهما ماركوس كراسوس Marcus Crassus الذي كان ينادي بأن تمنح حقوق المواطن الروماني للشعوب القاطنة وراء نهب البو، بينما كان منافسه يُعارض هذه السياسة، ثم استقالا٨ دون أن يصلَا إلى نتيجةٍ.

ومن هنا تكون الفكرة بأن والِدَيْ فِرجيل، ولا سيما أبوه، يحتمل أن يكونا من نسل أحد المستعمرين اللاتينيين القادمين من وسط إيطاليا، فكرة صحيحة وليست خاطئة مطلقًا.

كما أنه من الصعب أن نتصوَّر أنه يجوز لنا أن نخطئ في طابع عائلة فرجيل السلالي، وقد ولد ونُشِّئ في مقاطعةٍ يسكنها خليطٌ من القوم لا تجانس بين أفراده. ويسمي فرجيل وينيتيا في إحدى فقرات ماكروبيوس Macrobius.٩ هذا، ويجعل سرفيوس Servius، الذي كان معاصرًا لماكروبيوس، مانتوا جزءًا من وينيتيا؛ أي جزءًا من المقاطعة العاشرة الأوغسطية التي جعلت أيضًا كريمونا وبرسكيا Brescia مستعمرات رومانية واقعة فيها.١٠

مسقط رأس فرجيل

يتفق كتاب تاريخ حياة مشاهير الرجال على أن أنديس هي مسقط رأس فرجيل، وأنها كانت قريبة من المدينة؛ وبذلك يصفون الشاعر بأنه مانتوي، ويعلنون أنه وُلد في مانتوا، متذكرين ما كتب فوق قبره. ويزعم البعض أن والدي فرجيل من مواطني مانتوا، وأنه ولد في أنديس بمحض الصدفة. بيد أنه لا يمكننا أن نقبل هذا الزعم؛ لأن أقدم التقارير التي وصلَتْنا عن والدي الشاعر تقول إنهما كانا فلاحين يعملان بالزراعة، ولا يبدو لكتَّاب تاريخ مشاهير الرجال أن فرجيل من مانتوا إلا لأن أنديس التي ولد فيها لا تبعد كثيرًا عن مانتوا؛ ولأن له فيها منزلًا ورثه إما عن جده من أمه، وإما عن أبيه الذي كان قد ضاعف دخله تدريجيًّا. وهذا رأي معقول محتمل فضلًا عن أنه يتفق مع ما نُقل إلينا عن مانتوا. ولو كان هذا حقيقيًّا فإنه لا يضعف قول كتَّاب سِير المشاهير وقول ماكروبيوس الذي يسمي فرجيل a rure Mantuano poetam.١١
ولم يختلف كتَّاب حياة المشاهير في غير نقطةٍ واحدةٍ حول أنديس، فإن دوناتوس وسانت جيروم St. Jerome يسميان أنديس باجوس Pagus، بينما يسميها بروبوس «فيكوس» Vicus. و«باجوس» كلمة لاتينية معناها قرية تحيط بها أراضٍ تسمى باسمها. أما فيكوس، فليست إلا بضعة بيوت في قرية أو مدينة. أما دوناتوس الذي يستقي معلوماته من سويتونيوس Suetonius فيثق في آرائه كلٌّ من ربيك Ribbeck وكارتولت Cartault أكثر من غيره.
ولقد أجمع كُتَّاب تاريخ مشاهير الرجال على أن فرجيل وُلد في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر، ويؤيد اتفاقهم هذا كتَّابٌ آخرون.١٢ مثل ديل Diehl وكارتولت وهين Heyne وربيك. وقد يبدو أن هذا التاريخ مستمدٌّ مما كُتب على ضريحه وكان لا يزال صالحًا للقراءة في نهاية القرن الأول بعد الميلاد. هذا فضلًا عن أن هين يعتقد أن يوم ميلاد فرجيل كان يحتفل به الشعراء، ويصدق على هذا مارشال Martial١٣ وأوسونيوس Ausonius١٤ ومن المحقق أن سيليوس إيتاليكوس Silius Italicus الذي اعتاد أن يحتفظ بالكتب والتماثيل وصور المؤلفين القدماء كما اعتاد أن يبجلهم أيضًا؛ كان يتوق بصفة خاصة إلى تقديم فروض الولاء لفرجيل فاعتاد أن يخص يوم ميلاد الشاعر بهيبة أعظم من التي كان يخص بها يوم ميلاده الشخصي. ولا سيما إذا تصادف وكان في نابولي Naples حيث اعتاد زيارة قبر الشاعر كما لو كان معبدًا.١٥
ولا يمكن أن تُروى قصة مولد فرجيل كما تُروى قصة ميلاد أي شخص عادي. ولقد نقل إلينا دوناتوس الأساطير التي حيكت في تاريخ مبكر حول مهده ثم أضيف إليها من الخيال الشعبي ومن خيال الناقدين. وتتعلق أولى هذه الأساطير بالحلم النبوي الذي رأته أم الشاعر ذات يوم. فيقول دوناتوس إنها عندما كانت حبلى رأت في المنام أنها ولدت غصنًا من الغار ما كاد يلمس التربة حتى انغرس فيها ونما سريعًا إلى شجرة تحمل مختلف الثمار والأزهار.١٦ وإن وجود هذه الأسطورة في سجل تاريخ حياة الشاعر القديم؛ لبرهان قاطع على ما كان يحظى به من تقدير.
أما الأسطورة الأخرى فهي مكملة للأولى، فبينما كانت والدة فرجيل تسير مع زوجها في البلدة في اليوم التالي للرؤيا، إذ جاءها المخاض وأحسَّت بآلام الوضع، فانتحت جانبًا عن الطريق ووضعت طفلها في أخدود١٧ وليس في هذه القصة ما هو غريب، ولكنها تشير إلى مصدرها الأسطوري؛ حيث تتعلق بالأسطورة السابقة الخاصة بالحلم، ثم التفاصيل المضحكة التي تتبعها. ويظن باسكولي Pascoli أن أخدود الأسطورة لم يكن سوى أخدود للحبوب. ويؤيد وجهة نظره هذه أن فرجيل ولد في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر؛ أي في موسم بذر الحبوب. وعلى أية حال، فلا يبدو أن فوكاس يفهم الموضوع بهذه الصورة؛ لأنه يروي أن التربة الخضراء كانت تزود الطفل الصغير بالأزهار اليانعة، وبهدية من هدايا الربيع عبارة عن فراش من الكلأ الأخضر،١٨ أما المقصود من الأسطورة الخاصة بالأخدود فلا يتعدَّى إظهار ما تتمتع به أم الشاعر من تواضع.
غير أن دوناتوس يروي أسطورة ثالثة، فيقول إنه منذ أبصرت عين فرجيل نور الدنيا، لم يصرخ كما يصرخ الولدان عادةً بل كانت ترتسم على وجهه نظرة لطيفة جدًّا تكاد توحي بأملٍ معقودٍ على مصيرٍ عظيم.١٩ ويبدو للناقدين أن شأن هذا الصبي الذي تدفَّق من بين شفتيه شعرٌ كهذا الشعر الرقيق، لا يمكن أن يكون شبيهًا بحال الأطفال الآخرين؛ ولذا لم يصرخ ولم يقطب جبينه الصغير في تجهُّم قبيح.
أما رابعة الأساطير التي يرويها دوناتوس كنبوءة؛ فهي أسطورة شجرة الحور؛ إذ يقول إنه قد زرع في المكان الذي وُلد فيه فرجيل، كما جرَت العادة، أحد أغصان شجر الحور، فنما بأسرع ما يكون، ووصل إلى ارتفاعٍ شاهقٍ لم تصله غير أشجار الحور التي زرعت منذ أمدٍ بعيد، ويقول دوناتوس إنهم سمَّوْا هذه الشجرة «شجرة فرجيل» وإن النساء الحبالى كنَّ يُبجِّلنها كثيرًا كما يقرَأْن صلواتهن أمامها.٢٠

وقد نجد في هذه الأسطورة نواةً من الصحة، ونعني بذلك استخدام المكان ووجود شجرة فرجيل المبجَّلة في الموضع الذي وُلد فيه الشاعر في عصر سويتونيوس الذي يعتمد عليه دوناتوس.

ويحتمل أيضًا أن تكون هذه الحقائق التاريخية هي التي خلقت هذه الأسطورة والأساطير الأخرى أيضًا التي تمثل الشاعر وقد ولد في الحقول في أخدود بجوار شجرة الحور المقدسة تخليدًا له. كما يحتمل أن توحي هذه الشجرة المزروعة في التربة التي ولد فيها الشاعر، كما جرَت العادة، إلى أن يعتقد المرء أنها زرعت هناك لتشير إلى المكان الذي وُلد فيه فرجيل.

ويجدر بنا الآن أن نقف لحظةً لنتأمَّل اللحظة التاريخية التي وُلد فيها فرجيل الذي وجد نفسه في شبابه مدفوعًا إلى أن يتغنَّى بأعمال الشعب الروماني الرائعة، وأن يجعل روما عدوة بلاد الإغريق في شعره الحماسي وهو في سن البلوغ.

وقبل أن يولد فرجيل بعامٍ واحد، انتصر بومبي الكبير في الحرب الطويلة الخطيرة التي كانت تدور رحاها في إسبانيا ضد سرتوريوس Sertorius، وعاد إلى روما يكلِّل جبينه إكليل المجد هو وليكينيوس كراسوس Licinius Crassus الذي ساعده في التغلب على الحصون الأخيرة التي احتمى فيها عبيد سبارتاكوس Spartacus الثائرون. فاتفق القائدان الشهيران على أن يحتفظا بحكومة الجمهورية لنفسهما وطالبا بالقنصلية، فحصلا عليها في العام التالي. وكانت هناك حاجة ملحة إلى كبح جماح النظام الاستبدادي الذي فرضته أوليجاركية مجلس الشيوخ وريثة نظام سلا Sulla الطاغية، على جميع طبقات المجتمع. فما إن أصبح بومبي وكراسوس قنصلَيْن حتى بدآ الإصلاح بنشاط، وأُلْغِي دستور سلا وظهر مجلس الشيوخ وفاز الشعب وطبقة الفرسان بحقوقهم. ولم يكن من الممكن في غير عصر قنصلية هذين الرجلين القويين إحياء الرقابة؛ وهي وظيفة كان الرومان يمقتونها وحرَّموها منذ خمسة عشر عامًا تقريبًا.
ولقد قام مراقبا هذا العام لوكيوس جيليوس L. Gellius وجنيوس لنتولوس Cn. Lentulus بتعداد المواطنين الرومانيين فوجدا أنه يصل إلى أربعمائة وخمسين ألف مواطن، ثم أعدا العدة للاحتفال بالألعاب الأوليمبية السابعة والستين، وهو حفل جرَت العادة أن يعلنوا عنه كل خمس سنوات في الكامبوس مارتيوس Martius Campus بعد التعداد مباشرةً. وكان الغرض منه ماليًّا ذات يوم، وأحيانًا دينيًّا بتطهير الشعب بواسطة تقديم ذبيحةٍ عبارة عن خنزيرٍ وخروفٍ وثورٍ (Suovetaurilia). ففي هذا العام بالذات، وفي هذه اللحظة من تاريخ روما، وُلد في قرية مجهولة من غاليا ترانسبادانا، سيد الشعر اللاتيني العظيم الذي كان مكتوبًا له أن ينقل إلينا بأناشيده آخر صدًى عن الحوادث الرومانية التي كانت تقع في عصره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤