الفصل الثامن عشر

أرسل حسن أفندي رسالة رسمية إلى عزيز باشا — كما علم القارئ عن عزمه — يسأله فيها: أن يقدم حسابًا عن الخمسين ألف جنيه التي استدانها من طاهر أفندي، أو أن يردها قبل نهاية السنة، وبعد يومين دهش حسن إذ وردت إليه رسالة من عزيز باشا هذا نصها:

حضرت الفاضل حسن أفندي بهجت المحامي

بعد الاحترام، أتى إليَّ كتابكم الذي كتبتموه لي رسميًّا بإيعاز طاهر أفندي عفت وفيه تطالبوني بمبلغ الخمسين ألف جنيه أو بتقديم حساب عنه، فعجبت من هذه المطالبة؛ لأن المبلغ المذكور رددته إلى طاهر أفندي، ونحن في باريس لمَّا عدلت عن الاتفاق الذي كان بيننا.

حرر في ٢٧ ديسمبر سنة …
كاتبه عزيز نصري

دهش حسن أفندي من هذا الجواب؛ لأنه خالف منتظره تمام المخالفة، فمضى به إلى طاهر أفندي ولما اجتمع به في غرفته الخاصة دفع الجواب له، وقال: لقد حيرني جواب عزيز باشا يا طاهر أفندي كيف يتجاسر أن يكتب هذا الكلام، وهو يعلم أن الصك عندك ناطق بالدين.

فابتسم طاهر أفندي، وقال: هذا هو الجواب الذي كنت أتوقعه، فأرجوك أن تعطينيه؛ لأنه برهانٌ دامغٌ على أنه لم يتصرَّف بالمال في المشروع الذي اتفقنا عليه، فعليه إذن أن يدفع المال بتمامه بموجب الصك الذي عندي عليه، أليس كذلك؟

– من غير بد، ولكن ما سر المسألة؟

– يريد أن ينكر المال.

– عجيب! هل يجن إلى حد أن يدعي أنه دفع المبلغ مع أن الصك لم يزل عندك؟ فضحك طاهر أفندي، وقال: وأنا أتعجب مثلك، فسنرى بماذا يبرهن على صحة دعواه؟

– دعني إذن أرفع القضية عليهِ.

– لا، دعه الآن، لم تحن ساعته بعد، هل يضيع حقي إذا تأخرت عن مطالبته بضعة أشهر؟

– كلَّا، ولكن أخاف أن يعود فيلفق الحساب.

– كَلَّا كَلَّا، لا يلفق الحساب؛ لأن تلفيقه أصعب عليه جدًّا من إنكار الصك أو الإدعاء بأنه أوفى المبلغ، فدعنا من مسألته إلى حين آخر وأصرف همك الآن إلى مشروعنا.

– لا أكلُّ عن الجهاد في سبيله، ولكني لاحظت أن بعض الأهالي يناظروننا فيه، وبعضهم يسعون مساعي مناقضة لمساعينا.

– عجيب! لماذا؟

– حسد، لا يريدون أن وطنيًّا ينجح، لَمَّا علموا أني ساعٍ في هذا المشروع بكل قوتي أخذوا يقاومونني.

– كيف عرفت ذلك؟

– عرفته من بعض رجال الحكومة المخلصين لي.

– من هم هؤلاء المعاكسون؟ دعهم يشتركون معنا إذا كان له مطمع.

– لم يقل لي من هم، ولكنني ظننت أن عزيز باشا نصري في مقدمة المقاومين، ولعل السبب مسألة الخمسين ألف جنيه التي يود أن ينكرها وتغيظه من مطالبته بها.

– هل يبتغي أن أسامحه بهذا المبلغ الجسيم لكي ينكف عن المقاومة؟

– ربما.

– خسئ النذل، آخذ حبة قلبه إذا أنكر مالي، فاسعَ سعيك، وأنا أُريك مَنْ مِنَّا يكيد الآخر أنا أم عزيز هذا؟ لقد خُدعت بهذا الرجل، ولكنني أدرس فيه درسًا كان ينقصني.

– لست أؤكد تمام التأكيد أنه هو المقاوم، ولكن اشتباهي بهِ مجرد ظن قد يكون سيئًا حملني عليه بعض الأمور.

– ولكنه ظن راجح؛ لأني فهمت أن هذا الرجل طماع جدًّا.

– جدًّا جدًّا، وقد قيل لي: أنه كان يعذب زوجته لكي يضطرها أن تهبه أملاكها بالطرق القانونية.

– هل هي غنية؟

– إنها أغنى منه أضعافًا.

– إذن لا يبعد أن يكون طامعًا بالخمسين ألف جنيه ويؤمل استبقاءها كترضية له لكي ينكف عن المقاومة، ولكن خاب فأله، غدًا يكون حمد بك عندي؛ لأجل العشاء — كما تعلم — فسآكل دماغه.

– ولكن لا تنسى يا طاهر أفندي أن «أكل الدماغ» وحده غير كافٍ؛ لأنه لا يلبث أن ينشأ بدله دماغ جديد، ولكن يجب أن تثقل كفه أيضًا، تثقلها جدًّا؛ لكيلا يستطيع أن يتزعزع قلبه من مكانهِ.

– لا تخفْ، لا أضنُّ بأمر من الأمور اللازمة، أرجو أن توافي غدًا مساء حسب المنتظر، وإذا رأيت الدكتور يوسف بك فذكرْه؛ لأني لا أود أن يغيب أحدكما عن مأدبة الغد.

– إلى الملتقى إذن.

– إلى الملتقى — إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤