الفصل التاسع عشر

عرف القارئُ — مما فات — أن عزيز باشا كان يبذل جهده في أن يخطب نعيمة ابنة حسين باشا عدلي لأخيه؛ لكي تُصبح ثروة حسين باشا أخيرًا تحت تصرُّفه؛ لأنه ما زال — إلى ذلك العهد — يسيطر على أخيه بحق الدالة الأخوية؛ لأنه أصغر منه، وكان خليل منصاعًا لأخيه أيضًا لذلك السبب عينه؛ ولأن الانقياد من طبعه؛ ولهذا كان يطمع عزيز باشا أن تئول ثروة حسين باشا عدلي إليهِ أخيرًا.

وقد حدثتْه نفسُهُ — غير مرة — أنْ يخطب نعيمة لنفسه لا لأخيهِ، ولكن لم يجسر؛ لأنه رجح — بل أكد — أن عدلي باشا يحسب زواجه من ثانية نقيصة، وربما يَستدل منها على طمعهِ فصد نفسه عن هذا المطمع، واهتم أن يناله على يد أخيهِ فصمم على أن يبذل جهده في أن لا يدع نعيمة تُفلت من يديهِ، ولكن لم يتكلفْ لهذه المهمة عَنَاءً كبيرًا؛ لأن حسين باشا كان ممن يعبئون بالشرف والأصل والمقام جدًّا، وكان بيت حامد باشا حسني من بيوت مصر المعتبرة، وأسرته من الأسر العظيمة الوجيهة، فكان حسين باشا يعد مصاهرة هذه الأسرة شرفًا؛ ولهذا كان يسره جدًّا أن يزوج ابنته من خليل ابن حسني باشا.

وقد علم القارئ — مما مضى — أن عزيز باشا وحسين باشا تفاوضا في هذا الموضوع واتفقا، وأن حسين باشا أخبر ابنته بهِ ولكنه لم يسألها رأيها بهذا الموضوع، ولا هو ينتظر رأيها، وإنما يتوقع أن تظهر رضاءَها فلما خاب مؤمله في تلك المرة الأولى حسب سكوتها وإطراقها من قبيل الحياء والخجل فاقتصر الكلام معها على نية أن يستجوبها مرَّة ثانية.

وبعدما تقرر الأمر بينه وبين عزيز باشا اختلى بنعيمة في مخدعها وجعل يفاوضها فبدأها في الكلام قائلًا: كلمتك يا بنتي عن أمر يهمك وإلى الآن لم تطلعيني على فكرك فيه ولا أطلعتِ أمكِ، مع أنها ساقت حديثها معك إليهِ والآن أودُّ أن أعرف فكرك بصراحة.

– أي أمر تعني يا أبي؟

فضحك حسين باشا، وقال: كأنكِ لا تدرين حقيقة.

فأطرقت نعيمة وسكتت فقال لها أبوها: كلمني أمس عزيز باشا بشأن خطبتك لأخيه فوعدته، والآن أود أن أعرف فكركِ بهذا الشأن.

فرفعت نظرها فيه قائلة: هل لمعرفة فكري أهمية بهذا الأمر يا أبي؟

– بالطبع ألا يجب أن نعرف ما إذا كنتِ تريدين أو لا؟

– لماذا؟

– عجيب! كيف تقولين لماذا؟ أليس من الواجب إطلاع الفتاة على نصيبها واستطلاع أفكارها؟

– إذن أمر زواجي يترتب على إرادتي يا أبي؟

– نعم.

– فلماذا وعدت عزيز باشا قبل أن تتحقق إرادتي؟

– لأني أنا أريد ولا أظنك تخالفين إرادتي.

– لا أحب أن أخالف لك إرادةً يا أبتاه، ولكن إذا كان ميل قلبي مخالفًا لميل قلبك في الأمر الذي يخصني ويخصني وحدي، فهل تضطرني أن أوافق إرادتك وأقهر قلبي؟

وكادت تجهش بالبكاء، فنظر فيها حسين باشا نظرة المستغرب؛ لأنه لم يكن ينتظر هذا الجدل منها، وقال لها: ماذا تعنين بهذا القول يا بنتي؟

– لا أظن قصدي خفيًّا عليك.

– أتعنين أنكِ لا تريدين ما أريد؟

– إني مُطيعة لك يا أبي، وأُريد كل ما تريد غير هذا الأمر؛ لأن مسألة اقتراني برجل مهمة جدًّا وتخصني وحدي، فأرجو أن أُترَك فيها لمطلق حريتي، أليس هذا حقًّا يا أبي؟

– كَلَّا، نعم، إن مسألة زواجك تخصك وحدك، ولكنها تهمني أنا أيضًا يا بنتي.

– لا أنكر أنها تهمك، ولكن هل يجوز أن تتوقف على إرادتك دون إرادتي؟

– لماذا لا يجوز؟ إلا إذا كنت تشائين أن تتزوجي على هواكِ.

– لا، لست أعني ذلك يا أبي، ولكني أقول إنه لا يجوز أن أتزوج مَنْ لا أُريده.

– وخلاصة القول: أنكِ لا تريدين خليل بك بعلًا لكِ.

– نعم، لا أريده.

– لماذا؟

– لأن قلبي لا يهواه.

– لا أفهم هذا الكلام يا نعيمة؛ لأن مسألة قلب وهوًى ونحو ذلك؛ لا تليق بنا نحن، وعار عليكِ أن تقولي أهوى أوْ لا أهوى، ولا يليق ببنت حسين باشا عدلي أن يكون للهوى والقلب دخلٌ في أمر زواجها البتة.

فنظرت فيه نعيمة مبهوتة، وقالت: عجيبٌ يا أبي، إذن ما الذي له دخل في مسألة الزواج؟ وما هو الشرط الأساسي في الزواج؟

– الشرط الأساسيُّ أن يكون الطالبُ موافِقًا، وخليل بك أفضلُ عندي من كل فتًى يطلب يدك.

– ولكني لا …

وغصت بكلامها وطفر الدمع من عينيها.

– ماذا؟ «لا».

فاستمرَّت نعيمة تذرف الدمع وتكفكفه بمنديلها ولا تتكلم.

– لماذا تبكين يا بنتي؟ ألا إني أحبكِ، وأريد لك كل الخير، فلماذا؟ ألا تريدين خليل زوجًا؟

– رحماك يا أبي! اسمح لي أن أقول: إني لا أحبه فكيف أتزوجه؟

– متى صار زوجَك تحبينه حب الزوجة للزوج؛ لأنه فتًى جميلُ الطلعة حلو العشرة ظريف الحديث، وذو مكانة سامية بين الناس. فضلًا عن أسرته العريقة في المجد والشرف، ألعلكِ تطمعين بأفضل منه.

– لا أطمع بأفضل يا أبي ولا أناقشك في محامده ولكن الأمر الجوهري أني لا أميل إليهِ فكيف أستطيع مساكنته؟ وكيف أستلذ عشرته بل هو كيف يستطيب الإقامة معي؟

– متى صرتما زوجين استطبتُما أحدُكما عشرة الآخر، وحينئذٍ تجدين خليل أفضلَ مما تتوهمينه.

– إن قلبيَ نافرٌ يا أبي، فلماذا تضطرني أن أقهره لكي أفعل رغبتك؟ بربك دعني من هذا الزواج الذي أحسبه جحيمي.

– ما كنت أظنكِ يا نعيمة تناقضينني إلى هذا الحد.

– إني أحترم كلمتك جدًّا يا أبتاه، ولكن مسألة الزواج جوهرية جدًّا، فبالله دع لي الحرية فيها.

– أراكِ يا نعيمة تخرجين عن دائرة الأدب التي ربيتك فيها، كيف أدع لك الحرية؟ أي فتاة غيرك تقول هذا القول.

– ألست أنا بشرًا كسائر الناس، لي نفس وإرادة وحقوق؟

– نعم، ولكن لا حرية لك ولا لغيرك من النساء.

– لماذا تُحرم الفتاة حقَّ التمتع بحريتها، وهي ذات نفس وجسد كالرجل؟

– أراكِ تتمحكين كثيرًا، وصرت أخشى أن أستاء منك يا نعيمة، فدعي هذا الكلام الفارغ، ألا تعلمين أن الفتاة المسلمة يجب أن تكون إما تحت أمر أبيها أو أخيها أو رجلها، وما نحن إفرنج حتى تسير المرأة على هواها — والعياذ بالله.

– أليس ظلمًا أن تُقيَّد المرأة كل حياتها بإرادة غيرها؟

– كَلَّا؛ لأن المرأة صغيرةُ العقل فيجب أن تكون تحت سيطرة غيرها؛ لئلا تضل عن سواء السبيل، وبما أنكِ أنتِ لا تعرفين مصلحتك فأنا انتقيت لك بعلًا أعرف جيدًا أنه أفضل لك من كل من يمكن أن يطلب يدك، فخير لكِ أن تطاوعيني يا بنتي.

فتنهَّدَت نعيمة، وتدفق الدمع المدرار من عينيها ولم تعد تتكلم.

– لماذا تبكين يا بنتي؟ أَتَشُكِّين بأني أُريد لك كل خير؟

– كلَّا كلَّا، يا أبي إني واثقةٌ كل الثقة بحسن قصدك، وهل يمكن أن أرتاب بك؟ معاذ الله ولكن …

– ماذا؟

– لا أقدر أن أتزوج خليل بك.

– ولكني وعدت أخاه يا نعيمة، فهل يهون عليكِ أن أنقض عهدي وكلام الشرف الذي فُهْتُ به؟

– لماذا تعد من غير أن تطلعني قبلًا على قصدك حتى لا تضطر أن تخلف بوعدك؟

– أخبرتك قبلًا.

– ولكني لم أجبْكَ جواب الرضى.

– سكتِّ، والسكوتُ جوابٌ في مثل هذه الحال.

– إذا كان جوابًا فغيرُ صريحٍ؛ لأنه كما يحتمل أن يكون بالإيجاب يحتمل أن يكون بالسلب، وما كان سكوتي حينئذٍ إلَّا عن خجل.

– هذا ما ظننته حينئذٍ، وحسبت أنك لا تخالفين إرادتي التي أعلنتها ووعدت بها.

– ولكن لم يكن خجلًا فقط بل كان خوفًا أيضًا، خفت أن يثور غضبك فسكتُّ.

– والآن لماذا لا تخافين أن تُغضبيني؟

– لأني أغتنم فرصة حلمك لأبين لك حقيقة ميلي، فاعذرني يا أبي، لا أقدر أن أتمم رغبتك.

– عجيب! لقد وعدت فماذا أقول للرجل؟

– لا بأس، تقدر أن تقول له إنك أنت راغب، ولكن أنا لست راغبة، وأن الأمر لا يتم إلا برغبتي التامة، وبهذا الجواب لا تكون قد غيرت قولك.

– أبكل قحة تعلميني ما أقول يا بنة، أَأَنا حسين باشا عدلي أقول هذا القول ولا أقدر أبتُّ في المسألة ما لم ترغب فيها ابنتي أولًا، خسئتِ يا لَضياع التربية والتهذيب، إنك تؤلمينني يا نعيمة، وستكونين علة حسرة في قلبي كل أيام حياتي.

وعند ذلك نهض وخرج من مقصورتها إلى القاعة غاضبًا، فأسرعت نعيمة وراءه ووقعت على قدميه تقبِّلهما وهي تقول: اعذرني يا أبتي لا أقصد أن أغيظك، ولا يهنأ لي عيش إن كنت غاضبًا.

– هل رضيتِ؟

– لست أعني هذا، ولكني أتوسل إليك أن ترضى عليَّ وتتأمل مسألتي جيدًا، فتدرك أني محقة فيما قلته.

– اخرجي من هنا اخرجي، إنكِ نقمتي ونغصة عيشي.

وعند ذلك خرجت نعيمة والدموع تنسكب على خديها، وهي تكفكفها بمنديلها وعادت إلى مقصورتها.

وبعد ذلك اجتمع حسين باشا بزوجته عصمت هانم وأخبرها ما كان من رفض نعيمة وقحتها في الأجوبة، وإصرارها على الرفض، وطلب إليها أن تُجاهد في إقناعها ما استطاعتْ، وكان الوقت العصر، فقالت له: ندعها اليوم وغدًا أغتنم الفرصة الموافقة لمخاطبتها بهذا الموضوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤