الفصل العشرون

وكانت عادةُ نعيمة أنها تقف نحو الساعة الخامسة كل يوم في شرفة دار الحريم وتفتح إحدى نوافذها الصغيرة التي في شُرفة الحريم، وترى حَسَنًا مارًّا في مركبة اعتيادية مقفلة فيراها من نافذة العربة الخلفية. يتراءَيان لحظة واحدة فقط كل يوم، فيضرمان نارًا من الحب تدوم متلهبة ٨٦٤٠٠ لحظة؛ إذا كانت اللحظة مساوية ثانيةً.

في تلك الساعة؛ أي بين الخامسة والخامسة وربع أينما كان حسن يجب أن يطير إلى الحي الذي أودع فيه قلبه، لو كان موعودًا بربح ألف جنيه في تلك الهنيهة القصيرة لَأغفل الألف جنيه وربما أغفل العشرة آلاف جنيه؛ لكيلا يُحرم نظرة من نعيمة، ولكيلا يخيب رجاؤها في انتظاره نحو ربع ساعة في الشرفة. إذا توقع أمرًا يشغله في اليوم التالي عن المرور من تحت الشرفة أخبرها باللغة الرمزية التي كانا يتفاهمان بها.

إذا كانت يده خارجة من نافذة العربة الخلفية علمتْ أنه لا يستطيع المرور في الموعد المعين في اليوم التالي، إذا كانت العربة مكشوفة علمتْ أنه يريد مقابلتها، ومكان المقابلة معلومٌ — وقد علم القارئ أنه في باب الحديقة الخلفي — ثم يعود في العربة. أما إذا كانت هي تستطيع مقابلتَه فإنْ أرتْه منديلًا بيدها علم أنها مستعدة أنْ تقابله في ذاك المساء، وإن كان المنديل مدلًّى من نافذة الشرفة علم أنها ستقابله في مساء اليوم التالي. إن رأى يدها على خدها علم أنها غيرُ مسرورة من أمرٍ، وهكذا إذا هي رأته، وهناك رموزٌ أخرى لا موجب لاستقرائها.

في ذلك العصر بعدما انتهى حسين باشا عدلي من مفاوضة نعيمة على غير جدوى وقفتْ نعيمة في الشرفة كعادتها قبل أن تحين الساعة الخامسة وفتحت النافذة ومدت معصمها منها وفي يدها منديل، وجعلت تتوقع بفروغ صبر مرور حسن في العربة.

كالمعتاد كان الوقت ١٥ دقيقة قُبيل الخامسة، فكانت نعيمة كل دقيقة تمل وتجدد الصبر ستين مرَّة حتى كادتْ روحها تزهق، حانت الخامسة تمامًا وصار مرور حسن متوقَّعًا اللحظة بعد اللحظة أكثر من قبل، فكان قلبها هلعًا وعضلاتها تختلج جزعًا، خافت أن يخرج أبوها أو أُمها إلى الشرفة، فيريانها، فيوجسان منها، لماذا لم تَخَفْ قبلًا؟ كانت تخاف هذا الخوف ولكن كانت واثقةً أنها تستطيع التمويهَ، ولكن في تلك الساعة اشتدَّتْ عليها كلُّ المخاوف؛ لأنها صارتْ تتوهم أن عيون أبويها بالمرصاد عليها، وأنهما يسمعان كل خطرة من خطرات أفكارها ويفهمان كل معنًى من ملامحها.

لم يكن مطمعها حينئذٍ أن ترى حسنًا، ولكن كانت تبتغي أن تكلمه كلمة فقط، كانت تريد أن تُخبره أنها لبثتْ على عهدها، وتسأله هل يستطيع القيام بوعده؟

ما مرَّ بعد الساعة الخامسة دقيقة وفؤادُ نعيمةَ يضطرب خوفًا حتى صح حسابها؛ إذ أتت أمها إلى الشرفة فشعرتْ أن عروة قلبها قد انقطعت، وسقط ذلك الفؤاد الوجل في أحشائها.

سمعتْ وطأةً وما التفتت حتى رأتْ أمها في الشرفة فسقط منديلها من يدها، لا تدري ما الذي أرخى عصب كفها؟ الخوفُ أو الأملُ بلقاء حسن أو إلهامُ الحب، الله أعلم، ولو لم يكن الوقت الغروب والشمس آفلة والجو مكفهرٌّ بحيث لا تنجلي الأشباح جيدًا في شرفة مكتومة بمشبك خشبي لو لم يكن الأمر كذلك لرأت عصمت هانم خدَّي ابنتها نعيمة يتوهجان بلهبات الجزع والاضطراب، ومع ذلك شعرتْ بارتعاب ابنتها، فقالت لها بكل رقة: ما بالك أُجفلت يا بنتي؟

– لأن دخولك كان مفاجئًا فإني لم أشعر به إلا وأنت هنا، وكم يحصل مثل هذه المباغتة فيعقبها هذا الإجفال.

وعند ذلك سكن روعها قليلًا، ولكن قلبها ما زال ينتفض.

– ماذا تفعلين هنا وحدكِ؟

– أستنشق الهواء النقي.

– أخاف أن يراكِ أحدٌ مطلَّةً منها يا نعيمة، فماذا يقول عن ابنة حسين باشا عدلي؟

– لم أطل منها ولن أطل يا أماه، وإن أطللت أحيانًا فمن وراء مصراعها الذي لا يزال منحدرًا فوقها بحيث لا يراني أحد.

وعند ذلك أطلتْ نعيمة كأنها تمثل لأمها ما تقول فلم ترَ المنديل في الزقاق، وأجالت نظرها في طوله فلم تجد أحدًا فوجف فؤادها، أين ذهب المنديل؟ مَن أخذه؟ ربما عثر عليه أحدٌ من الخدمة فعاد به وأعطاه لعصمت هانم فماذا تظن؟ أنها توجس من نعيمة، هذه الأفكار خطرت لنعيمة محفوفةً بالخوف والوجل.

عند ذلك أقفلتْ نعيمةُ النافذة واجتهدتْ أن تنتهز فرصةً موافقةً للخروج من أمام وجه أمها؛ لأنها خافت أن تدقق في تساؤلها، أو أن تتطرق في حديثها إلى الموضوع الذي فاوضها به أبوها، فقالت: إني عطشانة، وخرجت إلى غرفتها.

توقعت أن تحادثها أمها بالموضوع وتحاول إقناعها، فأبتْ أن تخوض معها فيه قبل أن ترى حسنًا، شعرتْ بضرورةٍ كلية لرؤية حسن في ذلك المساء، لم يكن لها متكل حينئذٍ سواه، هو ملاذُها، وهو الذي يبعث الحياة فيها ويمدها بالقوة. انقضى الربع بعد الخامسة فلا بد أن يكون حسن قد مرَّ فما رآها فماذا قال؟ لا ريب أنه يفترض أن أمرًا غير اعتيادي طرأ عليها، ما هذا الأمر؟ يفترض ألف أمر ويحسب ألف حساب، أفلا يخطر في باله أن تكون نعيمة منتظرة إياه عند باب الحديقة الخلفي، هذه الأفكار وأمثالها خطرت لنعيمة، لم يبقَ لها أدنى أمل في مصادفته من الشرفة؛ لأن الوعد فات وهَبْ أن حسن يعود فيمر مرةً أُخرى أو مرتين — بناءً على أمل ضعيف — فإن أمها لا تزال في الشرفة فهي لا تستطيع أن تشاهده، خطر لها أنه ربما يكون قد رأى المنديل وهو عابر فأخذه وفهم المقصود، ولكن هذا الفكر نفاه إطلالُها من الشرفة حين كانت تُكلم أمها، ولم يكن قد مر من الوقت حينئذٍ أكثر من نصف دقيقة، وهي لم تشعر بمرور عربة لكي يبادر إلى ظنها أن حسن مرَّ فأخذ المنديل؛ ولذلك رَجَّحَتْ أن المنديل وقع في يد غير يد حسن.

مع ذلك نزلت إلى الحديقة، نزلتْ إلى الحديقة لا لأملٍ بلقاء حسن بل لأن وجودها في غير الحديقة في ذلك الحين يكون محفوفًا باليأس، وكان الفرج لا يأتي إلا من باب الحديقة الخلفي، فنزلت تتيمَّن بذلك الباب.

أما حسن فمر بمركبته في تلك اللحظة عينها إذ كانت نعيمة تُخاطب أمها، ونظر كعادته في الشرفة فلم يرَ شبحًا كالمعتاد مع أنه رأى النافذة مفتوحة بعض الانفتاح فخَفَقَ فؤاده للحال، وما قارب موقع المنديل حتى رآه ملقًى على الأرض قرب الجدار فاستوقف العربة وتناوله وعاد، ودرجت به العربة حتى توارت في جنينة الزقاق، وحينذاك أطلت نعيمة فلم تجد المنديل فلم يخطر لها أن حسن مرَّ في تلك اللحظة القصيرة وتناول المنديل وتوارى؛ ذلك لأن وقت الجزع لا يقدر الإنسان مدته، فيكاد يكون كوقت الفرح يمر طويلُه كالحلم.

أما حسن فقلب المنديل فتأكد أنه منديل نعيمة، ولكن لماذا هو مرمي على الأرض؟ وأين نعيمة لم تظهر من النافذة كعادتها؟ تأكد أن أمرًا غير اعتيادي قد حصل فبعد ما توارت مركبته أمر الحوذي أن ينثني فألوى العنان، وكانت نعيمة حينئذٍ قد عادت من الشرفة فلم يرها، ولكن لاحظ في الشرفة حركة غير اعتيادية، ذلك أن عصمت هانم نظرت من النافذة فأبصرته في عربته ولعلها أدركت أنه ينظر إلى الشرفة.

قلق حسن لهذا الأمر جدًّا وحسب ألف حساب، ولكن رجح له أن نعيمة تبتغي مقابلته، وأن وقوع المنديل منها يدل على أنها كانت تلقيهِ على خشب النافذة فوقع، وأما من يدها فلا يقع، ومرموز إلقائه إنما هو المقابلة في اليوم التالي، ولكن ما الغرض من هذه المقابلة؟ ولماذا يقع المنديل على الأرض؟ ولماذا لم تظهر نعيمة؟ كل ذلك حير حسن وأقلق باله فخطر له أن يمضي إلى مكان اللقاء لعل نعيمة هناك ولو عرضًا، وهكذا إذا التبس الأمر على امرئٍ عاد إلى القاعدة الأصلية، وإذا استولى عليه اليأس عاد إلى مصدر الرجاء. كان حسن يطلب نعيمة فيجدها في باب الحديقة الخلفي فلما أضاعها حينئذٍ قصد إلى ذلك الباب لعله يجد أثرًا لها فترك العربة وقصده.

ما وضع عينه على أحد شقوق الباب حتى رأى نعيمة مقبلةً على مهلها، وهي تتلفت، وتتظاهر أنها تتمشى متنزهة، وكانت الشمس تأفل حينئذٍ ولا يزال الجو مكفهرًّا؛ لأنه كان يومًا غائمًا، وقبل أن تصل إلى الباب سمعت نقرًا لطيفًا عليه فوقفتْ تنظر إليه.

فأعاد حسن النقر، فعبرت في بدنها خلجة خفيفة، ووقفت وقفة الظبي بعد النفور، وهي تنظر إلى الباب ثم سمعت صوتًا يقول: «تقدمي» فالتفتتْ يمينًا وشمالًا، ثم قالت بصوت خافت: «مَن» ثم سمعت قوله: «تقدَّمي أنا حسن» فتقدمت حتى صارت على بعد خطوة فسمعت قوله: ما بالك واجفة؟ أنا حسن تقدمي.

– أأنت حسن؟

– أنا هو، ماذا جرى؟ لماذا أنت خائفة؟ افتحي.

– لا أفتح.

– لماذا؟

– أصبحتُ في ضيق.

– ماذا جرى؟ افتحي هنيهة.

– كَلَّا كَلَّا، لا أفتح، دعنا نتكلم والباب بيننا؛ لئلا يباغتنا أحدٌ.

– لا بأس قولي ماذا جرى؟

– من قال لك أن تأتي؟

– رأيت المنديل على الأرض فتناولته فعرفت أنكِ ألقيتِه على خشب نافذة الشرفة فسقط، ولكن سقوطه رابني فأتيت إلى هنا الآن؛ لأني لم أطق الصبر إلى الغد.

– عجيب، الله ساقك إليَّ فإني في حاجة شديدة إليك، والمنديل كان في يدي وسقط من الخوف.

– فماذا حدث، تكلمي؟

– باغتتني أمي في الشرفة.

– هل لاحظتْ أمرًا؟

– لا أدري، ولكني أُرجِّح أنها لم تلاحظ شيئًا.

– هل حدث شيء آخر؟

– نعم، ولأجل الشيء الآخر استدعيتك.

– ماذا؟

– كلمني أبي اليوم كثيرًا بشأن خليل بك مجدي كما نتوقع.

– وماذا قلتِ له؟

– رفضت تمام الرفض.

– وكيف فارقك؟

– فارقني غاضبًا وأنا لم أزل رافضة، ولكنه سوف يعيد عليَّ الكرة وستُكلمني أمي بالموضوع أيضًا، ومنذ الآن يبتدئ اضطهادي الحقيقي يا حسن.

– حياتي نعيمة، ماذا تريدين فأفعل؟ هل تتصورين أمرًا فآتيه؟ لا تستكبري أمرًا كل ما يمكن عمله جائز، ولو كان مفضيًا إلى بذل حياتي، أنا أعلم أنك ستُقاسين لأجلي كثيرًا يا نعيمة فأكدي أن كل دمعة من دموعك بقطرة من دمي.

– لا حاجة بنا إلى هذا التفاني يا حسن، فدعنا نتكلم بتعقُّل.

– قولي، ماذا تريدين؟

– على أي حال لست أُطيق أن أكون زوجة خليل بعد الذي عرفتُه عن سلوكه وسلوك أخيه مع زوجته زينب ابنة عمي — كما ذكرت لك — سواء كنت أنت نصيبي أو لم تكن.

– هل تزعزع عهدك يا نعيمة؟

– هذا سؤالي لك.

– عهدي لا يزعزعه شيء حتى الموت.

– وأين صار مشروعك الخطير؟

– لماذا تسألين هذا السؤال؟ هل يتوقف عهدك على مشروعي؟

– كَلَّا البتة، وإنما أسألك لأرى هل أبوح بحبي لك أو أنتظر ريثما تتأكد فوزك.

– مشروعي في منتصف الطريق يا نعيمة ونجاحي فيه أرجحُ من إخفاقي، ولكني ممن يحسبون حساب الإخفاق قبل حساب النجاح؛ ولذلك أُفضِّل أن تتمهلي في بث ما في ضميرك.

– ولكنهم سيضايقونني في الإقناع والاستجواب، وسيُحتِّمون عليَّ أن أُبين سبب رفضي، فماذا أجاوب؟

– متى ضويقتِ فجَاوِبِي ما تشائِين، وإذا اضطُررتِ أن تبوحي بحبنا فأقتل نفسي إذا لم أستطع إرضاء أبيكِ.

– أبي يعبأ جدًّا بالجاه وشرف الأصل.

– أما الجاه ففي الإمكان يا نعيمة، أجتهد أن أجمع ثروةً بالطرق العاجلة، وبالثروة أكسب الجاه والنفوذ، أما شرف الأصل فلا أستطيع الحصول عليه إلا إذا كان ممكنًا أن أولد ثانية.

– أعرف استحالة ذلك يا حسن فما أنا غبية، ولكن يمكنك أن تستعيض منه بما يمكن أن يقوم مقامه.

– ماذا؟

– أن تحصل على رتبة رفيعة أو نشان مجيد.

– هذا سهل جدًّا يا نعيمة.

– إذن متى ضايقوني في الاستجواب أعترف بحبي لك.

– لا تفعلي يا نعيمة قبل أن تخبريني؛ لأني أود أن يُعرَف هذا الأمر مني أولًا.

– تريد أن تطلبني من أبي رسميًّا؟

– نعم وإن كنت لا أفلح في بدء الأمر.

– صدقت هذا هو الأفضل؛ لئلا يحسب اعترافي قبل طلبك تبذُّلًا، ولكني يجب أن يصلني خبر عن يد أحد أهل البيت أنك طلبت يدي؛ لكيلا يكتم أبواي عني طلبك وإلا فيتعذر عليَّ أن أعترف بميلي إليك.

– أنا أتخذ وسيلة ظاهرة لإبلاغ الخبر إلى أحد الخدم.

– يجب أن تطلب مقابلتي كلما خطا مشروعك خطوة إلى الأمام، ماذا تم من أمره؟

– وعدنا بعضُ رجال الحكومة بتمهيد السبيل لأخذ الامتياز.

– إلى الملتقى إذن.

– إلى الملتقى، اسمعي، نعيمة نعيمة اسمعي.

– ماذا؟

– كيف كانت لهجة أبيكِ في مفاوضتكِ؟

– غير عنيفة، ولكنه ناقشني طويلًا وأصرَّ على رأيه، وأنا أصررت على الرفض، وأخيرًا خرج متغيِّظًا ولكنه حتى الآن لم يتهدَّدْني، ولا قال لي كلمة جارحة، على أني أتوقع عذابًا مُرًّا فيما بعد.

– فديتك يا حياتي، ماذا أفعل لأُنجيك من هذا العذاب؟

– اجتهدْ في مشروعك ورَفْع شانك، وكفى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤