الفصل السادس والثلاثون

ولَمَّا كانت الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي قصد حسين باشا إلى منزل عزيز باشا وسورة الغضب لا تزال تُزلزل عضلاته من مواضعها، فلما وصل دخل تَوًّا إلى دار الحريم، فوجد عزيز باشا يُحاول تجريعَ زينب الشربة التي أَعَدَّها لها في اليوم السابق، وهي تُمانع بدعوى أنها تتقيأ إذا شربتْها، فلما رأتْ عمها مقبلًا هبط قلبها في فؤادها؛ لأنها خشيتْ أن يُكرهها على شربها، فلما رآه عزيز باشا قال: أتيتَ في حينِك يا حسين باشا، حاولْ لعلك تستطيع تجريعَها الشربة.

فكظم حسين باشا غيظه في أول الأمر، وقال لزينب: لماذا لا تشربينها وفيها شفاؤك؟

– رحماك عماه، أَنْقِذْني من هذه الشربة.

فشعر حسين باشا كأنَّ الضراعة نبلةٌ طعنتْ فؤادَه، وخطر له — في الحال — أن زينب موجسةٌ شرًّا من هذه الشربة، وإلا لَمَا مانعتْ كل هذه الممانعة في تجرُّعها، ولكنه أَحَبَّ أن يتأنى؛ ليرى ماذا تكون خاتمةُ هذا المشهد؟ فقال: مَنْ وصف لها هذه الشربة يا عزيز باشا؟

– الدكتور ﻓ… وقال: إنها ضروريةٌ جدًّا لها؛ لأن معدتها مختلَّةٌ الآن، وقد مرَّ عليَّ ساعةٌ وأنا أحاول أن أجرعها إياها، وهي تمانع كأنها ولد صغير.

فنظر حسين باشا في زينب وقال لها: خذيها يا زينب خذيها.

فأمسكت الكأس بيدها وهي ترتجف جازعة من نظرة عمها، وقالت: ربي ارحمني، وعند ذلك مد حسين باشا يده وقبض على ذراعها يريد أن يمنعها عن شربها، وفي تلك اللحظة عينها اندفع طاهر أفندي من غير استئذان وقال عن بعد: لا تشربي يا زينب لا تشربي.

فالتفت الكل إليه مستغربين وحينذاك عَلَتْ صفرة الوجل وجه عزيز باشا، فقال: ما شأنك يا هذا في دار حريمي؟

– لي كل الشأن. إن كنتَ مخلصًا لهذه المرأة فاشربْ نصفَ هذه الشربة ودَعْ لها النصف.

فجزع عزيز باشا كل الجزع، ولكنه شدد قواه، وقال: هلم فاخرج من منزلي؛ فما أنت ولي أمري ولا وكيل زوجتي.

– بل أنا كل ما تقول؛ لأني مرسَل من الله لكي أُخلِّصَ العباد من شرك يا سفاكَ الدماء.

وعند ذلك هجم عزيز باشا على زينب يريد أن يختطف الكأس من يدها فاعترضهُ طاهر أفندي وقال: حافظْ على الشربة يا حسين باشا؛ لأجل التحقيق، فإنها تحتوي على مقدارٍ كبير من الزرنيخ، فأخذها حسين باشا وأَفْرَغَها في زُجاجتها وسَدَّها، وبقي قابضًا عليها، وعند ذاك كان عزيز باشا قد أخذ منه الوجل كُلَّ مَأْخَذٍ فقال: ويحكم ماذا تريدون مني؟

وكانت حينئذٍ قد عَلَت الجلبة في الدار، وسمع اللغط في الخارج حتى وصل الخبر إلى مكتب الدائرة، وكان فيه ديمتري ألكسيوس والكاتب وعلي حامد ومحمد حفيظ — وهذان الأخيران يأتيان إلى المكتب كل يوم لعل لهما نَفْعًا منه في مقابل خدمة — وكان حسن بك بهجتْ قد أتى إلى المكتب أيضًا بإيعاز طاهر أفندي؛ لكي يُطالب بالكمبيالتين، وخليل بك مجدي سمع أيضًا اللغط من غرفته.

كل هؤلاء لَمَّا سمعوا بما في البيت من اللغط اندفعوا إلى دار الحريم فوجدوا طاهر أفندي قابضًا على ذراع عزيز باشا وهو يقول له: لا نريد بك سوءًا وإنما نُريد أن نحفظ أرواح العِبَاد من شَرِّك، نُريد أن نُسلِّمَك للعدل.

– ماذا فعلت؟

– إن لم يكن في هذه الشربة زرنيخ فاشربْها الآن. وإن نجوتَ من هذه التهمة فلا تنجو من تهمة البيع الإكراهيِّ؛ فها هي الحُجَّة التي أكرهتَ زوجتك على إمضائها، وأشهدتَ عليها هذا وهذا وهذا — وأشار طاهر أفندي إلى ديمتري وعلي حامد ومحمد حفيظ.

ثم استرسل في كلامه قائلًا: «وإن كنتَ تتبرأُ من كل هذه الأُمور فلا تقدر أن تُنكر الثمانية وخمسين ألف جنيه التي استدنتَها مني أنت وأخوك في باريس وبَدَّدْتُماها في القمار والبطالة، وهذان سندان بها في يد حسن بك بهجت المحامي (وحينذاك فتح حسن بك الملف الذي معه وأَرَى الجمهور الصكين) وإن استطعت أنْ تأكل هذا المبلغ أو تُنكره فلا تقدر أن تنجوَ من عقاب جنايةٍ تَعَمَّدْتَ ارتكابَها بالاشتراك مع هذا الشرير ديمتري ألكسيوس، وهي دَسُّ السم في هذه البرشامات التي جهزتَ لعائدة ابنتِك، ابنتك من كارولين عشيقتِك القديمة، تلك العشيقة التي حَرَّضْتَ هذين (وأشار إلى علي حامد ومحمد حفيظ) على قَتْلِها، فقَتَلَاها في الجزيرة ثم أَلْصَقْتَ التهمةَ بي حتى اضطررتَني أن أفرَّ إلى أوروبا وأُنَكِّرَ حياتي فيها.»

– ويلاه، شاكر بك نظمي؟

عند ذلك جَعَلَتْ ساقا عزيز باشا تتلاطمان وبالجهد استطاع أن يبقى واقفًا، وكذلك ديمتري وعلي ومحمد المشتركون بكل هذه الآثام؛ وَهَتْ قُواهم وعَلَتْ صفرةُ الموت وجوهَهم، وبقي طاهر أفندي يتكلم، فقال: ارتكبتَ تلك الجريمةَ الفظيعةَ؛ لكي تحرمني هذه المرأة التي أَحَبَّتْنِي وأحببتُها، فنجحتَ وتزوجتَها، فلماذا تُعذبها وترتكب هذه الجرائمَ فيها؟ حتى التجأتَ في المرة الأخيرة أن تَجُرَّها إلى مكان دنس في الجزيرة وتتهمها بالعهارة؛ لكي تَبْتَزَّ مالَها، أيُّ نذل يلجأ إلى هذه الدناءة يا خسيس يا لئيم.

– أتنتقمُ مني الآن يا شاكر بك؟

– لست أنتقم منك، ولكنك أنت تنتقم لي من نفسك، لم أَحْمِلْكَ على ارتكاب شيء من هذه الجرائم، ولكني راقبتُك بعينٍ لا تنام حتى أَقِيَ الناسَ شَرَّك، وأخيرًا لم أرَ بُدًّا من تسليمك إلى يد القضاء.

وعند ذلك اندفع رجالُ الشرطة إلى الدار لِيقبضوا على مَنْ فيها من المتهمين ذلك؛ لأن سالم رحيم كان قد أَوْعَزَ إلى المخفر فقَدِمَ الشرطةُ في تلك الساعة الرهيبة، ولَمَّا رآهم عزيز باشا يدخلون هرع إلى غرفته وأطلق مسدسًا في رأسه، فخَرَّ صريعًا لا حراك به.

فانتهز أولئك الثلاثة — شركاء عزيز باشا في الجرائم — فرصة دهشة الجمهور من انتحاره واهتمامهم به وفروا هاربين، ولجأ خليل بك مجدي في الحال إلى غُرْفَةٍ أُخرى انسلَّ منها إلى خارج المنزل، فلم يُعلمْ أين ذهب إلا بعد زمانٍ حيث شُوهد في الديار الأوروبية مُتَنَكِّرًا.

وأما حسين باشا عدلي فشكر الله على انفضاح تلك الجرائم، وأثنى الثناء العظيم على شاكر بك نظمي مندهشًا مِن تنكره الطويل ومستغربًا من مساعيه السرية، وحامدًا الله على سلامة فتاته من شر ذلك البيت الجهنميِّ.

ورأى حسين باشا عدلي أنه لم يعد فائدة من إشهار هذا الحادث الفاجع في قاعات القضاء وعلى صفحات الصحف، فاهتم بكَتْمِ الأمر، وسعى لدى أرباب الحل والعقد بحفظ هذا السر، وأُشيع أن عزيز باشا مات موتًا طبيعيًّا.

بعد هذه الحوادث بأشهُر قليلة زُفَّتْ نعيمة بنت حسين باشا إلى حبيبها حسن بك بهجت. وأما زينب فلما نقهت من المرض الذي اعتراها على إثر تلك المشاهد الهائلة ذهبت إلى شاكر بك نظمي؛ أي طاهر أفندي، وارتمت على قدميه تبلهما بدموعها وتقول له: هل أنت ناقمٌ عليَّ يا مُخَلِّصِي؟

– لو كنت ناقمًا عليك يا زينب لَمَا سعيتُ إلى خلاصك.

– نعم إنك تنتقم مني الآن؛ لأن عذابي في جَفائك أشدُّ جدًّا من عذابي الماضي، فارحمني يا شاكر؛ إني امرأةٌ ضعيفة.

– لم يكن في ودي أن أعاتبك يا زينب ولكنك تحوجيني إلى العتاب. حافظت على عهدي لك إلى الآن، وسأبقى إلى الأبد، وأما أنتِ فلَمَّا يئستِ من عودتي نزعتِ حبي من قلبك وتزوجتِ ذلك الخائن، وبعد ذلك أشعتُ عن نفسي أني مُتُّ؛ لكي أسكن ضميرك إذا كان يحاربك لأجلي، ولكني علمتُ أنك معذبةٌ فأتيتُ لكي أخلصك، وها أنا لديك أحرص على كل ذرة منك.

– لم تأتِ إليَّ، ولا سألتَ عني منذ ذلك اليوم الرهيب، يوم عاقب زوجي نفسه.

– لم تكوني في حاجة إليَّ.

– إني في حاجة عظيمة إلى تعزيتك، فلماذا تهملني؟

– لا أُهملك؛ فإنك إذا انتابتْك نائبةٌ كنت في أقل من لمحة برق بين يديك.

– ما معنى هذا القول يا شاكر؟

– معناه بسيط: إذا شعرتِ أنك في ضيق هرعتُ إليك؛ أدفع الضيق عنك.

– وإذا لم يكن شيءٌ من ذلك أفلا تسأل عني، ألا تدعني أن أراك؟

– وما الغاية من ذلك يا زينب؟

– يظهر لي أنك لم تسامحْني، ولم تزل ناقمًا عليَّ.

– كلَّا، بل نحن صديقان يا زينب، فأنا لك كل حين تحتاجين إلى معونتي.

– إني أحتاجك الآن؛ لأني في كرب عظيم من جفائك، لقد أثمت إليك إثمًا عظيمًا يا شاكر، فماذا تريد كفارة عنه؟

– هل تردُّك الكفارةُ إلى عذريتك السابقة يا زينب؟

– بالطبع لا.

– فما الفائدة إذن من هذا التقرب؟ لَمَّا تعاشقنا تعاهدنا على أن يصون كُلٌّ منا نفسه للآخر، فقضت الظروف أن تقعي أنتِ في يد نذل ابتذلك وأنا بقيت كما وعدتُ، وهكذا لم يبقَ العهد الذي بيننا سليمًا، بل نكثتِ به، لا فرق عندي إن كان ذلك برضاك أو بالرغم منك؛ فإنك لم تبقي زينب التي عاهدتُها منذ بضع عشرة سنة، بل صرتِ أرملةَ عزيز باشا نصري وأُمَّ ثلاثة أولاد.

فاسترسلتْ زينب بالبكاء وهي تقول: صدقتَ، إني سيئةُ الحظ، هل كنتَ تنتظر يا شاكر أن أقدر على المحافظة على العهد مثلك؛ وأنت لا تجهل أَنَّ الفتاة في الشرق مُسيَّرة غير مخيَّرة؟ أيُّ فتاة تستطيع أن تحافظ على العهد الذي نقضتُه أنا مرغمة؟!

فرَقَّ شاكر بك لدموعها، وجعل يكفكفها ويقول لها: لا ألومك يا زينب، وإنما ألوم التقادير.

– أتُعاقبني بجريرة التقادير؟

– لا أعاقبك، ولكني لا أقدر أن أُحقق أُمنيَّتنا، فدعينا صديقَين؛ لأنه يعز عليَّ جدًّا أنْ تكون أرملةُ عزيز نصري زوجتي، وأنا شريككِ في هذا المصاب يا زينب فَاقْنَعِي بصداقتي، كما أني قانع في صداقتك، كما قنعت فيما مضى بحبك.

وخرجت زينب بعد هذا الجدال الرقيق حزينة باكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤