المقدمة

هذه الفصول التالية هي «محاولات» لا أكثر ولا أقل، وكما هو الشأن في كل محاولة قد يكون النجاح أو الخيبة نصيبها، فقد تناولت موضوعات كثيرة كانت معالجتها المألوفة الماضية إما أدبية وإما وعظية، فعالجتها من الناحية السيكلوجية. وتحدثت عن الموسيقا والأدب والعائلة والأجرام والمجتمع واللغة، وحاولت أن أتعمق الأصول التي تصوغ أو توجه أو تحرف هذه الأشياء وأمثالها، ونحن في مصر، بل في جميع الأقطار العربية، في مجتمع شاذ، وهو مثل الرجل الشاذ، يرتطم بعقبات قد اخترعها بخياله، فهو يخشى المستقبل ويتوهم الأخطار ويفر إلى الماضي، ويستند إلى ما يسميه تقاليد، ويخاف ويتردد، ثم هو في تركيبه شاذ؛ إذ هو يفصل بين الجنسين كأن الدنيا للرجال فقط وليست للنساء، وهذا الفصل وحده شذوذ خطير يحتاج إلى العلاج، وعندنا آلاف من الرجال والنساء، شبابًا وكهولًا قد حطمهم هذا الانفصال وأزاغ بصيرتهم في الدنيا، ففسدوا في سلوكهم، وارتدوا إلى مساوئ وانحرافات يتعرضون بها من هذا الانفصال على غير جدوى، بل أحيانًا في ضرر أو خطر بالغ.

وهو — أي: المجتمع — إلى جنب الكظوم والانحرافات الجنسية التي أوجدها بالفصل بين الجنسين قد أحدث أيضًا كظومًا اقتصادية أخرى خطيرة، كثيرًا ما تنتهي إلى حركات إجرامية تبدو في الظاهر كأنها دعوة إلى الانتهاض، ولكنها في الواقع انتهاض زائف أقرب الأشياء إلى النشاط الهستيري والحركة التشنجية.

وهذه الكظوم الجنسية والاقتصادية، قد أحالت جميع شبابنا — بل كذلك فتياتنا مع الأسف — إلى شاذين لا يعرفون الطريق السوي للعيش السوي.

وليس شيء في هذه الدنيا أدعى إلى التحسر والأسف من هذا البؤس السيكلوجي، الذي يحيا فيه شبابنا الذين حرموا شبابهم، قد حظرنا عليهم الاختلاط مع الجنس الآخر، ومنعناهم من مرانة الحب بمقاطعة الرقص، وجحدنا الرفقة بين الشاب والفتاة وهي التي تضيء النفس وتحيي العقل وتهذب المجتمع وترقى بالحب إلى مستوى الصراحة والشرف والشهامة.

وأصبح الشاب بهذا الانفصال ينكفئ إلى غرفته كي يخلو إلى نفسه ويجتر الخيالات الزائفة، ثم يفسد نفسه وجسمه، وكأن حالته هذه الحالة المثلى التي يدعو إليها المحافظون على التقاليد الذين يكرهون الاختلاط بين الجنسين.

إن بؤرة انحطاطنا النفسي والاجتماعي والسياسي والثقافي هو هذا الانفصال بين الجنسين، هذا الانفصال الذي لا يفصل بيننا وبين الجنس الآخر فقط، بل بيننا وبين الإنسانية؛ إذ هو يعلمنا من التعاليم الشاذة عن ضعة المرأة وخسة الرجل ما لا يكاد يصدقه رجل متمدن، رجل إنسان! ومع أني لا أتعامى عن عيوب المجتمع الأوربي فإني أجد هذه العيوب هي طفاوة على السطح بالمقارنة إلى العيوب العميقة في مجتمعنا، وهي عيوب قد أحدثت لنا مشكلات عديدة متنوعة؛ منها ما يهوي بنا إلى المارستان ونحن مجانين نصرخ من الدنيا ونفر منها كما لو كانت جهنم، ومنها ما نجد آثاره السيئة في الزي الذي نتخذه لملابسنا، أو بناء منازلنا، أو تعليم أبنائنا، أو أسلوب زواجنا وطلاقنا، أو تعيين أهدافنا في منهج الحياة كله.

وهذا الكتاب هو كما قلت، محاولة أكشف بها عن بعض الجروح السيكلوجية، أو أشير بها إلى علاج تجريبي، أو أوضح بها ما خفي من العلل التي أثمرها الظلم والظلام.

وإني أرجو القارئ أن يقرأه على أنه «محاولة» فقط، وأن يشاركني في التفكير في العلاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤