إصلاح موسيقانا وأغانينا

عندما نستمع إلى حفلة موسيقية أوربية يغمرنا إحساس الوجدان والتعقل وليس إحساس العاطفة والشهوة، فنحن نقعد صامتين متأملين كأننا ندرس موضوعا فلسفيًّا، أو نتعقل مشكلة نحاول تعمقها، ولا نبالي أن تكون معنا نساؤنا من أخوات أو أمهات أو زوجات؛ لأننا لن نخشى عزفة نابية أو صوتًا فاضحًا.

ذلك أن الموسيقا قد ارتقت في أوربا إلى الوجدان والتعقل، وارتفعت بذلك عن العاطفة والشهوة اللتين لا تزالان تغمران الموسيقا والغناء في بلادنا.

وليس من السهل أن نمتحن الموسيقا والغناء، بحيث نقول هذا حسن وهذا سيئ، ولكن يمكن أن نمتحن النتيجة بأن نسأل ما هو إحساسنا عقب الدور الموسيقي؟
  • هل هو إحساس الارتياح الفلسفي؟

  • هل هو إحساس النشاط والإقدام؟

  • أو هل هو إحساس الشهوة الجنسية؟

  • أو هل هو إحساس التخاذل والضعف؟

ولست أشير هنا بالطبع إلى الموسيقا العامية الأوربية، ولا إلى الموسيقا النيوروزية الصاخبة الأمريكية، ولكني أشير إلى تلك العبقريات الخالدة التي تركها كبار المؤلفين الموسيقيين، والتي لا يزال الجمهور الراقي يستمع إليها ويطلبها في عواصم أوربا، بل في أصغر مدنها.

وقد سبق أن أوضحت الأسباب التي عملت على انحطاط أغانينا وموسيقانا، وخلاصة هذه الأسباب أن كلًّا منها قد نشأ ونما في حضانة الرقص الداعر الذي كان فاشيًا في مصر قبل ثلاثين سنة، وهذا الرقص كما يذكره الذين شاهدوه كان يمثل الاتصال الجنسي، ويبالغ في تألم المرأة وتوجعها بحركات وإيماءات تثير شهوة الرجال، وكان هذا الرقص هو الأصل، والغناء والموسيقا تابعين له ينغمان حركاته، فأصبح كلاهما لذلك حافلًا بالتوجع والشكاية.

بل إن هناك من المغنين المعاصرين من استمعت لهم فوجدت أنهم — لانسياقهم في المجرى الذي فتحه لنا هذا الرقص — يغنون في تألم وتوجع كأنهم نسوة يعملن لإثارة الشهوة عند الرجال!

وأحيانًا عندما أتأمل المستمعين المصريين لحفلة غنائية مصرية أجد فيهم إحساسًا وضيعًا، بل شاذًّا كذلك المبنج بالحشيش أو الخمر يروقه لحن ويقول «يا ولد»، ثم هم جميعهم قد أثير في أنفسهم توجع وألم يعبرون عنه بآهات متوالية، وهذا لا ينفي طبعًا أن بعض هذا الإحساس لا يعود إلى البؤرة الجنسية وحدها، وإنما يعود إلى أحزان العيش ومتاعب الحياة، وهي كثيرة في هذا الشرق العربى، يثيرها اللحن الشاكي كما تثير المرأة النادبة أحزان المعزيات في المأتم وتبكيهن.

ولكن البؤرة الكبرى للتوجع والشكاية من أغانينا هي بؤرة التوجع الجنسي، ولذلك فنحن الرجال نحس جميعًا خجلًا من هذه الأغاني، ولا نحب أن نصحب أمهاتنا أو زوجاتنا أو أخواتنا إلى حفلة موسيقية مصرية.

أما «مواويل» الريف فقد نشأت في وسط آخر، ولذلك ما زلنا نجد فيها رجولة، بل فحولة، بحيث نحس انتعاشًا سليمًا عندما نستمع إليها يخالف ذلك الانتعاش الذي يشبه الارتخاء الذي نحس به عندما نستمع إلى تلك الأغاني التي تحفل بما يسمى «المازوكية»؛ أي: التألم والتوجع.

وليست أغانينا وموسيقانا مما يجوز أن يهمل؛ لأنها جميعًا تربي النفس المصرية، واللحن الذي يتجاوب في الفضاء عقب إذاعته يعين لكل مستمع موقفًا واتجاهًا في الحياة أو في فترة منها، وليس من الخير أن نترك هذه الألحان تفشي في نفوسنا هذا التوجع النسوي، أو هذه العواطف الجنسية النسوية المازوكية، وهي بحالها الحاضرة إيحاء لا ينقطع يوحي إلينا الضعف، بل التخنث، بل هي ضباب يحول بيننا وبين الرؤية النفسية الحسنة أو الإحساس النفسي السليم.

وليس من شأني أن أضع برنامجًا للإصلاح، فإن هذا فوق طاقتي، وحسبي النقد مع الإيماء إلى بعض الوسائل الإصلاحية:
  • (١)

    يجب ألا ننسى تاريخ الغناء والموسيقا في مصر، وأن كلًا منهما قد نشأ وهو يلازم ويناغم الرقص النسوي الفاحش.

  • (٢)

    يجب أن نقيس الدور الموسيقي أو الغنائي بالإحساس الذي يعقبه عند المستمع؛ هل هو إحساس الشجاعة والشهامة والارتفاع أم هو إحساس الحزن والتوجع والانحطاط؟

  • (٣)

    يجب أن ندرس الدور الموسيقي الأوربي وننقل لحنه إلى الأغنية المصرية.

  • (٤)

    يجب أن نتوخى تنبيه الوجدان والتعقل وليس العاطفة والشهوة في الدور الغنائي أو الموسيقي.

  • (٥)

    لقد ألغينا الرقص المصري لدعارته، فواجبنا إلغاء أغانينا التي لا تزال تلازمه وتناغمه وتسير في مجراه.

  • (٦)

    البعوث إلى أوربا لدراسة الموسيقا ضرورة حتمية ملحة لإصلاح النفس المصرية.

هذه إيماءات وليست مقترحات للإصلاحات.

ويجب أن نذكر— كما قلت — أن النشاط البشري، أيًّا كان نوعه، يتخذ لونًا نفسيًّا معينًا. فالطبيب والمحامي والكاتب والتاجر حين يؤدون أعمالهم يتخذون لونًا نفسيًّا من هذا الأداء هو لون الشجاعة أو الجبن، والطرب أو الكمد، والتوتر أو التراخي، والأغنية التي نسمعها تعين لنا هذا اللون؛ لأن في نفوسنا أوتارًا تتجاوب مع الألحان التي نسمعها، فإذا كنا نكره أن نؤدي أعمالنا بفتور وتوجع، وضعف وتكسر، ونعاس وترهل، فإننا يجب أن نتجنب الأغاني التي تؤدي إلى هذه الإحساسات، وأغانينا وألحاننا جميعها في هذا الوقت الحاضر تؤدي إلى هذه الإحساسات.

إني أستمع أحيانًا لأحد الأدوار الموسيقية العالمية من المؤلفين الأوربيين فأحس في نهايته كأن الأكسجين قد زاد في الهواء، فأنا أتنفس وأنتعش وأنبعث إلى حركة أو تفكير، كأن هذا الدور قد زاد حياتي حيوية.

ويحدث العكس عندما أستمع إلى أغنية عربية؛ لأني أحس كأنها تنادي في نفسي عناصر الضعف والموت والرخاوة والانهيار والحزن، حتى لأقول «آه» في ألم؛ أجل إنه ألم لذيذ، ولكن يجب أن أكرهه؛ لأن هذا الألم يوحي إليَّ سائر النهار إيحاء الرخاوة والضعف.

إن إصلاح النفس المصرية يتوقف على إصلاح الألحان والأغاني.

ولست أقول شيئًا جديدًا عندما أقول هذا؛ فإننا نعرف أن شجاعة الجيش تثار بأدوار موسيقية معينة، والأرغن يستعمل في الكنائس الكاثوليكية لإيجاد حال نفسية تساعد على الخشوع والابتهال.

ولذلك عندما نؤلف لحنًا موسيقيًّا أو أغنية شعبية يجب أن نسأل: ما هي الحال النفسية التي نريدها منهما؟

هل هي حال التخنث والاستخذاء أم حال الإقدام والاجتراء؟

•••

وأنا أقرأ تجربة الطبع لهذا الفصل أحسست أني أهملت جانبًا أصيلًا في هذا البحث، هو أن المرأة المصرية بتقاليدها الأنثوية المسرفة هي التي صاغت الرقص والغناء على صورتيهما الزريتين الحاضرتين؛ ذلك أن نظرة الرجل للمرأة، من حيث إنها أنثى فقط يجب أن تتخصص لاستمتاعه، هذه النظرة هي التي جعلت الغناء كالرقص جنسيًّا مسرفًا، بل جنسيًّا متوحشًا.

فالرجل في أوربا يعلي إنسانية المرأة على أنثويتها، أما نحن — إلا القليل — فنضع الأنثوية فوق الإنسانية؛ ولذلك ترقص المرأة الأوربية فتثب وترتفع إلى أعلى ويداها تناجيان السماء، ولا تكاد تحس أن لها كفلين؛ إذ هي إنسان قبل أن تكون أنثى، ثم هي في الغناء تغني ورأسها إلى أعلى، فلا نغتمز فيها غنجة، ولكن المرأة المصرية تلفتنا وهي ترقص إلى كفليها وبطنها، وتذكرنا بالجماع، أما رأسها فلا نكاد نحسه، فإذا غنت نقلت إلينا بألحانها هذه الإحساسات أيضًا.

ولو كنا نعامل المرأة على قدم المساواة مع الرجل، ونطالبها بالجد والتعقل والنضج، لكانت هذه الإحساسات — عندئذ — تنتقل إليها، ولكانت — عندئذ — تغني وترقص في شرف وشهامة وقوة كما تفعل أختها الأوربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤