يجب أن نتكاسل!

كنا نعد الجد والاجتهاد والمثابرة والنشاط وسائر ما يتصل بهذه الكلمات من المعاني فضائل يجب أن نلقنها الصبيان والشبان، وهي كذلك إذا التزمنا فيها حدود الاعتدال، أما إذا أسرفنا وبالغنا فإننا نحيل هذه الفضائل إلى رذائل؛ لأنها أحدثت من المؤثرات النفسية عند كثير من أولئك «المجدين» المجهودين ما لا يطيقونه، فهم في مرض وقلق يحتاجون إلى العلاج منهما.

وكلمات الجد والاجتهاد وما شابههما إنما هي تراث قديم نشأ في بيئة زراعية كانت تحث على هذه الفضائل لأنها كانت تحتاج إليها؛ لأن التراخي والتكاسل من الأخلاق الريفية، ولكننا نعيش هذه الأيام في بيئة المدن، حيث السرعة بل الهرولة، وحيث المواعيد التي تعيَّن بالدقائق قبل الساعات، وحيث السهر لتأدية العمل المتأخر من النهار، بل حيث الهموم والاهتمامات المالية والاجتماعية التي لا يعرفها الريفيون، وكل هذه الأحوال تجعلنا متوترين، بل أحيانًا متشنجين. ولذلك يصح علينا القول بأننا لا نعيش هذه الأيام بعضلاتنا قدر ما نعيش بأعصابنا.

ومن هنا هذا القلق الذي يعمنا جميعًا؛ فإننا نتحمل أعباء كثيرة من الواجبات الاجتماعية التي تجر في أثرها تبعات ثقيلة لا تتركنا في راحة حتى عندما ننكفئ إلى السرير للنوم، بل إننا كثيرًا ما نحلم ونحن نيام بهموم النهار واهتمامات اليقظة، وأحيانًا عندما أجد أتومبيلًا في الشارع، قد دار موطره فجعله يتذبذب وهو واقف مكانه، أحس أن في هذا المنظر فتنة سيكلوجية، بل رمزًا اجتماعيًّا، هو أن كثيرًا من الناس يتذبذبون بالقلق ويتوترون ويتشنجون مثل هذا الأتومبيل، على الرغم مما يبدو عليهم من سكينة وجمود.

ولذلك نحن في حاجة إلى الكسل والاسترخاء في ظروفنا الحاضرة أكثر مما نحن في حاجة إلى الجد والنشاط، وعلينا أن لا ننسى أن التفكير المثمر الناجح يحتاج إلى حضانة يرقد فيها المخ ولا يثار بمجهود، وهذه الحضانة هي في النهاية كسل واسترخاء يتيحان للذهن تقليب الموضوع على مهل، وقد تبلغ هذه الحضانة أيامًا أو شهورًا، وليس هناك عبقري يبتكر فكرة أو يهيئ مشروعًا إلا وهو يحتاج إلى هذا الكسل.

بل يحدث أن يكون المرض الذي يلزمنا السرير شهرًا أو شهرين، بعد عملية جراحية — مثلًا — تضطرنا إلى الاعتكاف ووقف النشاط وقفًا تامًّا، يحدث في مثل هذه الحالات أن يجد المريض فترة من الكسل والاسترخاء والتثاؤب تحمله على مراجعة ماضيه، والتفكير في مستقبله، ومراجعة أخلاقه وتصرفاته، وعندئذ يهب في نهاية هذه الفترة وهو ليس معافى فقط، بل يحمل في صدره برنامجًا جديدًا في التفكير، بحيث إننا نجد فيه شخصًا آخر، غير ذلك الشخص الذي كنا نعرفه من قبل، وعندئذ يكون مثل هذا المرض نعمة في صورة نقمة، وكثير منا من أولئك المسوقين في تيار المجتمع الذاهلين عن الحقائق يحتاجون إلى مثل هذا المرض الذي ينبههم ويعيد إليهم القيم والأوزان الصحيحة للحياة وهم مسترخون كاسلون في السرير.

إن القلق والهم يتسلطان علينا نحن سكان المدن، وقد فقدنا سكينة الريفي الذي قنع بمعاشه واستمتع بالطبيعة، واقتصرت همومه على زيادة محصوله وصحة ماشيته، فنحن نقلق في الصباح عندما نقرأ أخبار العالم المفزعة في الجريدة، بل نحن نقرأ وعيننا على الساعة لئلا نتأخر عن ميعاد نكره اللقاء المنتظر فيه، ونحن نسمع عن الغلاء فنتنهد ونذكر مصروفات الأولاد وأثمان اللحوم والبقول والأقمشة، ونقلق عندما نفكر في المستقبل المجهول، وكل هذا يجعلنا — كما قلت — نتذبذب كالأتومبيل الذي يدور موطره وهو واقف في مكانه.

ولهذا يجب أن نعد الكسل من الفضائل التي تتطلبها ظروفنا الحاضرة؛ أي: يجب أن ننكفئ إلى سريرنا ونتثاءب ونسترخي، وأن ننفض همومنا، وإذا وجدنا أننا عاجزون عن نفضها فعلينا — عندئذ — أن نقصد إلى الخلاء حيث الربيع في نضرته الزاهية، أو الشتاء في برودته المنعشة، فننشط ونجري ونلعب، وقلَّ أن يبقى لأعصابنا هذا التوتر المضني بعد هذا اللعب والمرح في الحقول النائية عن المدينة.

وفي الجمعة أو الأحد يجب أن نتعلم كيف نلهو ونلعب بدلًا من أن نقضي هذا اليوم ونحن نركد على القهوة أو نلعب الورق أو غيره من ألعاب الحظ التي نقتل بها الوقت دون أن نصيب منها راحة أو استرخاء؛ لأن هذه الألعاب تزيد القلق والانتباه بدلًا من أن تنقصهما، كما أن الركود على القهوة ليس راحة وإنما هو اهتمام صامت.

ومن أنواع اللهو المنعش الذي تسترخي به النفس صيد السمك بالشص، فإن هذا اللهو كثير في أوربا، ولكنه قليل عندنا، مع أن في النيل مساحة عظمى لممارسته، وهو لهو الساسة والأدباء ورجال الأعمال وجميع من يعملون في الرياسة والإدارة ممن تجابههم الصعوبات والمشقات، وهؤلاء يجدون الاسترخاء، وأيضًا يجدون الحضانة لمشروعاتهم واختراعاتهم، وهم إلى الماء ينتظرون السمك الذي يعض دودة الشص.

والاسترخاء ضروري للتفكير المثمر، فإن أرخميدس لم يصل إلى اكتشافه المعروف إلا وقت الاسترخاء حين كان في الحمام يلعب بالماء، وقد هب وهو يصيح أوريكا، أوريكا (وجدتها، وجدتها).

وقد عمد هوهلر إلى تجربة توضح لنا ضرر التوترات النفسية للتفكير، فإنه وضع أمام قرد في قفص قطعة من الحلوى تحت أنفه ولكنها خارج القفص، ثم فتح الباب للقرد كي يخرج ويأكلها، ولكن لأن القرد كان قد اشتهى الحلوى وتوترت نفسه بالهم، لم يستطع الالتفات للباب ولم يخرج؛ أي: لم يفكر.

وكذلك حدث حين وضع خارج القفص موزة ووضع بين يدي القرد عصى منفصلة، ولكنها تتداخل فتؤلف عصا طويلة تبلغ الموزة، وحاول القرد أن يصل إلى الموزة بالعصا فلم يبلغها، ولم يفكر في مداخلة العصى حتى تطول فيبلغها ويجرها؛ لأن الجوع قد أحدث في نفسه توترًا يمنع التفكير، فلما يئس وتركها إلى ناحية أخرى من القفص هدأ قليلًا، وذهب عنه توتر الجوع، وعندئذ هب إلى العصى فجمعها وداخلها حتى صارت عصا طويلة استطاع أن يبلغ بها الموزة ويجرها، ومن هنا قيمة الاسترخاء وضرر التوتر.

وخلاصة القول أننا يجب أن نتئد في عيشنا ولا نهرول، وأن نعرف للكسل قيمته كما نعرف حدودًا للجد والاجتهاد، والكسل قيمته كما نعرف حدودًا للجد والاجتهاد، والكسل بعد ذلك قناعة مريحة، أما الجد والاجتهاد فهما طمع، وأحيانًا جشع مقلق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤