زي اللغة!

إذا أردت أن تتعرف إلى أخلاق الكاتب، فابحث عن الكلمات التي تتكرر في كتاباته؛ إذ هو لا يكررها إلا لأن إغراءها قوي له.

وإذا أدرت أن تزيد هذا التعرف، فابحث عن الأسلوب الذي يتخذه، وعن اللهجة التي يكتب بها، هل هي حزينة أم بهيجة؟ ومتكبرة متعجرفة أم ذليلة مترددة؟ هل هو عدواني أو استكاني؟ إذ هو لا ينساق في نهجه معينة في أسلوب معين، إلا لأن عواطفه قد عينت له لحنًا محببًا إلى نفسه، وأسلوبه هو لحنه الذي يترنم به في صمت.

وإذا أردت أن تعرف أكثر وأكثر عن هذا الكاتب، فابحث عن الموضوعات التي تشغله عفوًا دون تكليف؛ إذ هو لا يختارها إلا لأن اهتمامه بها عظيم.

فالكلمة والأسلوب والموضوع، كل هذه تعين شخصيتنا، وتدل على أخلاقنا، بل هي تعين أفكارنا؛ نوعها ووجهتها وقيمتها.

ذلك لأن الأفكار كلمات.

•••

تقيم في القاهرة هذه الأيام سيدة أمريكية تدعى هيلين كيلر، وقد ولدت صماء عمياء، لا ترى ولا تسمع.

وقد احتاجت إلى جهود السنين من المعلمين الذين أرصدوا كل وقتهم لتعليمها الكلمات الإنجليزية.

وتعلمتها، وأصبحت فيلسوفة تؤلف وتستخرج العبرة من الحوادث، ولو أنها كانت قد أهملت ولم تتعلم الكلمات لبقيت عجماء في مركز الحيوان.

•••

قد يقال إن الملابس هي زي الجسم، وأن اللغة هي زي العقل، ولكن هذه المقارنة مخطأة؛ لأن اللغة هي العقل كله.

ولكن من الحسن أن نأخذ بهذه المقارنة المخطأة كي نزيد كلمتنا هذه إيضاحًا؛ ذلك أن كثيرين من شبابنا وفتياتنا يعنون أكبر العناية بهندام ملابسهم، ولا يعنون بهندام لغتهم، فهم يكرهون التبذل في اتخاذ حذاء بالٍ أو جورب قد تقادم زيه، ولكنهم لا يبالون أن يتبذلوا في لغتهم، فتخرج كلماتهم عوراء، أو هي تحمل المعاني الغثة، أو قد يتفكك حديثهم كأنه بلا أزرار لم يُحبَك.

وهم بهذا التبذل يكشفون عن نفوسهم ويفضحونها؛ لأن المستمع إليهم، الذي يدري قيمة الكلمة والأسلوب والموضوع، سرعان ما يسبر أعماقهم، ويصل إلى نخاع عظامهم، وكان أحرى بهم أن يعنوا بالتأنق في الزي الذي اختاروه لنفوسهم، من أن يتأنقوا في الزي الذي اختاروه لأجسامهم.

وليس شك أن التأنق في اختيار الزي النفسي أشق من التأنق في اختيار الزي الجسمي، ولكن هذه المشقة نفسها برهان على الذكاء والجمال، كما هي أدعى إلى السعادة.

إن المُحدَث، ثري الحرب، يُعرف بفجاجة ذوقه في اختيار الملابس، ولكن الطرزي يستطيع أن يعالجه من هذه الفجاجة، ثم تبقى فجاجة أخرى، وهي فجاجة لغته وشعث أسلوبه وتفاهة موضوعاته، وهي في حاجة إلى عمر جديد، كي يصل بإتقان هذه الأشياء إلى هندام النفس وجمال الشخصية.

ولنذكر على الدوام أن عنايتنا باللغة هي في النهاية عناية بالتفكير، بل بالأخلاق والشخصية، وأن الكلمات المختارة إيحاء مختارًا أيضًا يبعثنا على الرقي والسمو.

•••

هذه الكلمات السابقة عامة عن اللغة، ونحب أن نخصص هذه الكلمات التالية لبحث قيمتها من ناحية السلامة النفسية؛ أي: سلامة النفس واستقامة الأخلاق ونضج الشخصية.

ومن البدهيات أن نقول إننا لا نعرف الصحة؛ جسمية أو نفسية، إلا من المرض، فما دمنا لا نجد علامة من علامات المرض فنحن في صحة، فالصحة سلبية؛ أي إنها ليست مرضًا، ولغة المريض هي لذلك غير لغة السليم، فإذا نحن تعقبنا الكلمات، والأسلوب، والموضوعات، التي يستعملها المريض استطعنا أن نعرفه المعرفة السيكلوجية، وأن نهتدي إلى الأصول التي ينتمي إليها، وإلى المستقبل الذي يبينه أو يخشى أن يبينه.

•••

وأول مرشدنا إلى قيمة اللغة في إيضاح الحال النفسية هو الأستاذ يونج السويسري، فإنه ابتكر طريقة التحقيق اللغوي مع المجرمين أو المتهمين؛ ذلك بأنه كان يضع أمام المتهم المنكر كلمات معينة تتصل بالجريمة التي اتهمه بها، فإذا كان المتهم قد ارتكب هذه الجريمة فإنه لا يتمالك، عندما تذكر له كلمة ويطلب منه أن يذكر كلمة أخرى تتصل بها، لا يتمالك أن يقع؛ لأن الكلمة الأخرى تتصل بالجريمة التي تملك عليه عواطفه بالذكرى والخوف، وهو حين يرفض النطق السريع بالكلمة إنما يدل على أنه يحرص على الصمت، وفي هذا وحده اتهام، أما إذا كان بريئًا لا يعرف شيئًا عن الجريمة فإنه لا يبالي أية كلمة تخطر على باله، ولا يحتاج إلى أن يصمت ويتريث، فكلمة سكين قد تثير عند البريء كلمات: الفرخة، الصلب، الجزار، الخادمة، أما عند المجرم الذي استعملها في جريمته فإن ذكرها يثير عنده الخوف والصمت، أو إذا هو لم يصمت، فإنه يقع بسهولة في تفاصيل الجريمة التي ارتكبها، وهلم جرًّا في الجرائم الأخرى.

وعندما نجد مريضًا يشكو حالًا نفسية سيئة؛ كالخوف أو الشك أو التردد أو العجز الجنسي أو الرغبة في الإجرام، نستطيع أن نصل إلى بؤرة هذا الاضطراب في نفسه، بأن نلاحظ لغته ونلتفت إلى الكلمات التي تتكرر في حديثه؛ إذ هي لا تتكرر إلا لأنها قد ارتبطت بمركبات معينة في نفسه، وهو هنا لا يختلف من الكاتب الذي يفتأ يكرر كلمات معينة في مؤلفاته. غير أن مركبات الكاتب ثقافية تتصل بالعلم أو الفن أو الأدب أو الاجتماع، أما مركبات ذلك المريض فتتصل بهمومه الشخصية التي ترهقه وتؤلمه.

والمشابهة بين المريض وبين الكاتب كبيرة، فإن الكاتب يضيق بأفكاره حتى يبوح بها ويدونها في كتاب أو مقالة أو قصة؛ لأن هذا التدوين يحمله على شرحها وترتيبها بالكلمة والمعنى، فيذهب عنه الكظم، ومن هنا إحساسه بأنه يحمل رسالة كأنه نبي، وفي هذا الإحساس جنون حسن؛ إذ هو يكسبه وهمًا بأنه عظيم، فيرتفع بقوة هذا الإيحاء، إيحاء العظمة، ثم هو لذلك لا يطيق أن تقيد حرية الرأي، وكثيرًا ما يضحي بكل مصالحه الأخرى من أجل هذه الحرية.

والمريض كذلك، يحس أنه يكظم مخاوفه أو شكوكه، فهو حين نطلب منه أن يقعد في خلوة ويكتب شارحًا هذه المخاوف إنما نحيله إلى أديب، يحاول بالكلمات، أن يشرح كارثته، وأن يتعقلها باللغة؛ لأن كلمات اللغة هي أدوات للتعقل، وهو بهذا الشرح يفرج عن كظمه من ناحية، وأيضًا يوضح مشكلته بالكلمات؛ أي: بالمنطق، من ناحية أخرى، فيستريح.

واعتقادي أن دراسة اللغة، من ناحية القيمة السيكلوجية، لم تأخذ إلى الآن حقها، وإن كانت السيمائية قد فتحت لنا هذا الباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤