الأخ الأكبر لص العائلة!

الابن الأكبر؛ أي الابن البكر في نظامنا الشرقي الحاضر، هو في الأغلب شاذ، له سيكلوجية خاصة كثيرًا ما تنتهي إلى إيذاء العائلة.

وفي أوربا وأمريكا تؤلف الكتب الخاصة لدراسة الحال النفسية للابن البكر؛ لأنه يشذ عن سائر إخوته في أخلاقه وأسلوب حياته ووجهته نحو المستقبل، ولكن هذه الأحوال جميعها تتفاقم في مصر لسببين؛ الأول: أن الابن دون البنت يجد تقديرًا كبيرًا جدًّا للعقلية الشرقية السائدة عندنا، والثاني: أن الأم عقب وفاة الزوج لا تستطيع إدارة شئون أولادها، ولذلك يتولى الابن الأكبر هذا العمل، ويتولاه بالأسلوب الذي نشأ عليه، والذي تكون له بمكانته الخاصة في العائلة.

أما الأسباب للشذوذ السيكلوجي للابن الأكبر فكثيرة؛ ذلك أنه وحيد أبويه لا يجد له مزاحمًا في البيت، وقد جاء على تشوق من الأبوين وهما لا يزالان عروسين، فهما لذلك يدللانه، وهما قادران على هذا التدليل من حيث الإنفاق؛ لأنهما لا يجدان غيره في البيت، ولذلك ينشأ على أن يفرض إرادته، وعلى أن يبطش كثيرًا إذا لم يجد ما يطلبه.

وقد لا يكون الابن البكر أول الأبناء؛ إذ قد يأتي بعد ثلاث أو أربع بنات حين يكون الأبوان في اشتياق له، فهو يأخذ مكانة الابن البكر من حيث المعاملة التدليلية التي يؤثره بها أبواه على أخواته البنات، وهما بذلك يحطمان أخلاقه في المستقبل، ويغرسان به شوكة واخزة في العائلة.

فإذا كان هذا الابن البكر وحيدًا في البيت نشأ — كما قلنا — على فرض إرادته، وإذا وجد له أخوات تعود التسلط عليهم، بل العدوان؛ لأن أبويه يتسامحان معه في ذلك.

وأخلاقنا أو أسلوب حياتنا الذي نتعلمه في السنين الأولى من الطفولة يثبت فينا ولو بلغنا الستين من العمر، ولذلك فإن هذا الابن الأكبر، أو الابن الوحيد بين أخوات من البنات، يعيش حياته وهو يعتقد أن له الحق في التسلط على أخواته والعدوان عليهن بالسرقة أو الاغتصاب أو الغش، وهو يمارس كل ذلك ولا يجد الضمير الواخز الذي يرده. وهموم العائلات في مصر ومتاعبها كثيرة بسبب هذا الابن الأكبر، فإنه عندما يموت أبوه يثب إلى ملء مكانه، والأم — كما قلنا — لا تستطيع ملء هذا المكان في مصر بخلاف الأم في أوربا؛ لأن هذه متعلمة اختلطت ونضجت في المجتمع وفهمت مشكلاته، أما في مصر فإننا بفضل الرجعيين المعتوهين نجعل الأم بعيدة عن المجتمع، بعيدة عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك سرعان ما يثب الابن الأكبر عقب وفاة أبيه فيستولي على تراث أخواته، بل تراث أمه أيضًا، ثم يصول ويتسلط وينهب، والرأي العام في مصر يقول ببقاء العائلة كتلة واحدة، أو «لمة» واحدة، ولذلك ينفر من الفرد الذي يطلب الانفصال. والابن الأكبر يستغل هذا الرأي فيبقى على استلابه لأموال العائلة كلها، والويل للأخت المسكينة التي تطلب حقها من إيجار فدانين أو ثلاثة أفدنة منه كي تستعين بها على تربية أولادها؛ لأنها في هذا الطلب تخالف التقاليد، والابن الأكبر وحده هو الذي يستمتع بريع هذه الأرض.

وهذا الموقف يحيل الابن الأكبر إلى لص، فهو يسرق وينهب ويخطف وهو راض عن نفسه؛ لأنه يجد «التسويل» السيكلوجي لكل جرائمه، بل هو قد يسرق أمه، وإحساسه هنا؛ أي: الإحساس الكامن في نفسه، أنه قد قام مقام أبيه، فلا حرج.

وفي المحاكم المصرية مئات بل آلاف القضايا عن هذا الابن الأكبر الذي سرق إخوته ونهب تراثهم، وهذا الابن الأكبر قد يأبى، بل هو قد لا يفكر بتاتًا في أن يسرق عشرة قروش من جيب جاره في الترام أو القطار، ولكنه لا يجد أية جريمة في أن يسرق عشرة أفدنة من أخيه الصغير أو أخته المتزوجة؛ وذلك لأنه — كما قلنا — قد نشأ في صباه، بل طفولته، على أنه هو المفضل في البيت، وإرادته هي النافذة، وليس لواحد من إخوته أن يعترض على طلباته، وكل هذا من تدليل أبويه له، هذا التدليل الذي يرجع إلى أنه كان أول الأولاد، أو كان ذكرًا وحيدًا عقب إناث مكرهات بحكم الرأي العام الشرقي الرجعي الذي يطلب استبقاء التقاليد ولو كانت تنطوي على الظلم والموت لأعضاء العائلة.

وكثيرًا ما يحدث أن يسوء مصير هذا الابن المدلل الذي تعود التسلط والعدوان على إخوته وسرقة تراثهم؛ إذ هو قد يرتكن إلى ذلك ويقنع به، فالعزبة أو المتجر أو المصنع الذي تركه أبوه لأمه وله ولإخوته عطاء المنح والتسمح وليس عطاء الحق، وقد ينجح ويثري من ذلك، ولكنه أيضًا قد يكف عن الارتزاق بعمل منتج، فتضيع عليه فرص الكسب.

وأرجو القارئ أن يجد في هذا التحليل السيكلوجي الموجز بعض ما يفتح بصيرته في المشكلات العائلية وخصومات الأخوة، فإن كثيرًا منها يرجع إلى هذا الابن البكر الذي لا يطيق المساواة مع إخوته، والذي يسرقهم ويغتصب أموالهم بلا حياء أو شهامة.

بل أرجو القضاة أن يفتحوا عيونهم لمثل هذه القضايا التي تقوم على خصومات الإخوة بشأن التركة؛ لأن مرجعها كلها هو مطامع الأخ الأكبر.

أما الآباء فإن مسئوليتهم خطيرة، ولذلك يجب أن يحذروا التدليل، وعليهم أن يذكروا أنهم يربون في شخص ابنهم البكر عدوًّا لسائر أبنائهم حين يدللونه، وهو عدو قد يتعس أمه وإخوته ثلاثين أو أربعين سنة.

وهناك بالطبع حالات لا يستطيع الابن الأكبر أن يؤذي فيها إخوته؛ كأن يحدث — مثلًا — أن يبقى الأب حيًّا إلى أن يبلغ جميع أبنائه سن الرشد، فإذا مات ورأوا طمعًا واستبدادًا من شقيقهم الأكبر عمدوا إلى صده ومنعه من التسلط والاستيلاء على ما ورثوا. وحتى هنا أجد أن عاداتنا الشرقية تحمل الابن الأكبر على أن يطمع ويسرق؛ وخاصة حقوق أخواته المتزوجات.

ولكن الضرر الفادح ينشأ من ذلك الحظ السيئ، وهو أن يموت الأب وللابن الأكبر أشقاء صغار، فإنه هنا يشرب دمائهم دون أي إحساس بما يرتكب. والخوف من الفضيحة، وكذلك رحمة الأم، يمنعانها من الشكوى، وهي مع ذلك أم جاهلة قليلًا ما تدري الحقائق؛ لأن التقاليد كانت تقول بالتزامها البيت دون التدخل في شئون زوجها. وهناك — بالطبع — ذلك الابن البكر أو الأخ الأكبر الذي لم يفسده التدليل أيام الطفولة ولم ينشأ على التسلط أو الاستبداد وتبرير السرقة من إخوته، فهو لذلك بارٌ بهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤