كيف نعالج المجرمين

الوسط أو الوراثة؟

كان هذا السؤال موضوع البحث عند البيولوجيين والاجتماعيين في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحاضر، وكان الاتجاه العام بين العلميين أن الوراثة هي كل شيء تقريبًا؛ فالمجرم يقترف آثامه لأنه ولد كذلك ليس لأنه ربي في وسطه، والإنسان ينبغ في فن أو علم أو قيادة أو مال لأنه ورث صفات النبوغ، وليس لأنه قد تعلمها في وسطه.

وقد كان هذا المذهب قاحلًا جامدًا يمنع التفكير في الإصلاح، ويسلم بأن الناس يعيشون تحت حكم الأقدار، والأقدار هي ما ورثوا مما لم يكن لهم يد في تغييره أو تحويله.

ولكننا قد تخلصنا هذه الأيام من هذا المذهب، والفضل في هذا التخلص للسيكلوجيين؛ وخاصة أدلر الذي أوضح لنا قيمة السنين الأولى في أعمارنا حين تتكون أخلاقنا وتكاد تجمد على ما تكونت عليه سائر حياتنا، إلا في القليل النادر الذي نستطيع فيه التغيير.

فحكم الأقدار هو حكم السنين الأربع أو الخمس الأولى من العمر، ولكن هذه السنين لا تزال تحت سيطرة الآباء، فالتنبيه عن قيمتها وتحذير الآباء بشأن أثرها في الطفل يؤديان إلى نتيجة مثمرة، أما التسليم بأن الطفل قد «ورث» صفاته وأخلاقه، وأنه سوف ينشأ عالمًا أو مجرمًا وفاضلًا أو رذيلًا، فلا يؤدي إلى بذل المجهود لتوجيه الطفل أو تدريبه على سلوك معين.

والمجرم هو في تعريفنا الجديد — باعتبار أن الوسط الأول هو الذي يكونه ويوجهه — هو رجل قد تجاوز العشرين إلى الستين أو السبعين، وقد وقف نموه الاجتماعي عند سن الخامسة أو السادسة، فهو طفل على الرغم من تقدمه في السن، أناني لا يعرف التعاون، يبطش بدلًا من أن يرفق، وهو يخطف ويغتصب، ويكره تأدية الواجبات، وهو يسير في طاعة عواطفه دون الاعتماد على التفكير المتزن.

ونحن الآباء كثيرًا ما نخطئ في تربية الأطفال، فنحن ندلل أو نضطهد أو نهمل أو نتحيز لطفل دون آخر، أو نكره أو نحب بلا سبب يبرر ذلك، ولكل هذه المعاملات المختلفة آثار مختلفة في الأطفال؛ فإن الطفل يستجيب لهذه المعاملات بعقله الطفلي؛ أي: بعواطفه فقط، فهو يعاند ويحتال ويخبث أو يتلصص ويسلك سلوك المجرمين، وقد نرى نحن الآباء هذه الأخلاق السيئة البازغة فنتعلل بأن الطفل سوف يقلع عنها حين يكبر.

ولكن الواقع أنه لن يقلع عنها، وإنما يحدث أنه يجد حين يكبر وسطًا حسنًا يهيئ له الكسب والاحترام فلا يرقد إلى سلوك الطفولة الذي تعلمه، ولكنه حين يصدم بخسار مالي أو بهزيمة أمام خصم أو بحرمان معين، يعود إليه هذا السلوك فيقع في الإجرام.

فالإجرام في نظرنا هنا هو سلوك طفلي قد كمن مدة طويلة في النفس، ثم طفر إلى السطح لطارئ معين أو لصعوبة أحدثت توترًا عاطفيًّا.

وهناك بالطبع حالات متطرفة، حين تكون الطفولة شاذة فيما لقيت من قسوة أو معاكسة، كما يحدث حين يربي الطفل مع زوجة أبيه التي تكرهه وتحرمه وتهينه، فإنه ينشأ على الاحتياط من المجتمع بطرق عدوانية؛ لأن المجتمع يأخذ هنا مكان زوجة أبيه التي كان يحتمي منها بالخداع والسرقة وأحيانًا بالبطش.

والعقوبات الحاضرة للمجرمين انتقامية أكثر منها تعليمية، بل هي أحيانًا انتقامية فقط؛ فالقاضي يعامل المجرم بمثل الأسلوب الذي كان هذا المجرم يعامل به المجتمع؛ أي: بالعاطفة، ولذلك يخرج المجرم من السجن وهو أسوأ مما كان حين دخله، ثم إن المعاملة التي يلقاها في السجن تزيده إصرارًا على الإجرام وابتعادًا عن الأساليب الاجتماعية التي يحتاج إليها كي يعيش في سلام.

وأسوأ ما في السجن هو الحبس الانفرادي؛ ذلك لأن المجرم في الأصل انفرادي؛ أي: غير اجتماعي، ونحن حين نجعله ينفرد في خلية السجن إنما نجعله يستسلم لعواطفه ويسترسل في أفكاره الانفرادية الاحتيالية، فإذا خرج ساءت معاملته لغيره لنقصه في الأخلاق الاجتماعية؛ إذ هو لا يعرف البشاشة أو الظرف أو الإيماءة الحسنة.

وأحيانًا حين يحبس مع غيره ويجتمع من سائر المجرمين تعمد إدارة السجن إلى أساليب بهيمية في معاملتهم، كأن تتركهم — مثلًا — «يتبرزون» على كنف مكشوفة، فيرى كل منهم الآخر وهو يتبرز، ومثل هذه الحال تزيدهم احتقارًا للبشر واجتراء على السلوك البهيمي.

ثم إن المجرم حين يجتمع بالرجال من جنسه، ويعيش في حرمان جنسي سنتين أو ثلاث سنوات، يلجأ إلى الاختلاط الجنسي الشاذ، ويخرج من السجن وقد تعلم شذوذًا آخر غير شذوذه الذي كان قد دخل من أجله السجن.

ثم هو قد يبقى السنين في السجن وهو لا يتعلم مهنة يتسلح بها حين يخرج، ولذلك يخرج شريدًا يعمل في الأعمال الطارئة التي لا تحتاج إلى مهارة، والتي ليس لها دوام، ولذلك يعود بسهولة إلى الإجرام للكسب أو للزيادة في الكسب.

•••

ماذا يجب أن نفعل مع المجرم كي نعالجه؟
  • (١)

    يجب أن نعلمه مهنة يحترفها، فإن كثيرًا من المجرمين لا يحترفون عملًا لأخلاق الطفولة التي لا تزال عالقة بهم، وفي الحرفة من الإحساس بالمسئولية وتأدية الواجب ما ينأى عن اتجاه الطفل والمجرم معًا، ولكن المجرم يزيد ابتعادًا عن المجتمع كلما تشرَّد وبعُد عن المهنة الكاسبة التي ترد إليه كرامته وتجعله يحس أنه رجل منتج نافع في المجتمع، وكم منا يستطيع أن يقول إنه يبتعد عن الإجرام لو أنه حرم عملًا كاسبًا؟

    لذلك يشير أدلر بأنه يجب على إدارة السجون تعليم المجرم عملًا يكسب منه ويحترفه بعد خروجه من السجن، وخير الأعمال التي يحترفها هو ذلك الذي اتجه إليه في الإجرام؛ إذ هو يتقن هذا العمل الأقل ويحس بكفاءة له، فإن المجرم الذي تخصص في كسر الأقفال أو فتحها يمكن أن يحترف عمل الأقفال وتصليحها، أو ما يقارب هذا العمل في المهارة الفنية، والمجرم المزور في الخطوط يمكن أن يقوم بالخبرة في الخطوط، وهلم جرًّا.

  • (٢)

    يجب أن يهيأ مجتمع حسن في السجن حتى يتدرب المسجون على عادات وواجبات اجتماعية تعاونية فيتخلص من انفراديته وأنانيته، وهذا المجتمع يجب أن يشبه المجتمع المدني الذي سوف يعيش فيه بعد خروجه؛ أي أن يكون لكل فرد فيه حقوق وواجبات.

    ولكن يجب أن هناك يكون تدريب تعاوني يخفف من الأنانية.

  • (٣)

    على كل مسجون أن يؤدي في السجن عملًا مأجورًا حتى يرسخ في نفسه أن الكسب يأتي من العمل.

  • (٤)

    الشذوذ الجنسي ينشأ من السجن ثلاث أو أربع سنوات، ولذلك يلتفت الرجل إلى الرجل للتخلص من الكظم الجنسي، فهو يتعود في السجن لونًا من الإجرام لم يكن يعرفه، في الأغلب، قبل دخوله فيه، وقد تثبت فيه هذه العادة بعد خروجه.

    يجب أن تكون مهمة السجن إيجاد رجوع انعكاسية مكيفة في المجرم، بحيث يعتاد منها عادات جديدة تلائم المجتمع، ومن الخطأ العظيم أن نحبس المجرم الذي ارتكب الشذوذ الجنسي في سجن لا يجد فيه غير الرجال الذين يمارس معهم الشذوذ نفسه الذي أدى به إلى السجن.

    ويجب أن نعود المجرم التعاون بدلًا من الانفراد، ونجعله يحس أن العمل المنتج هو الطريق إلى الكسب، وذلك بتعويده عملًا معينًا يكسب منه في السجن، ثم يكسب منه بعد خروجه إلى المجتمع.

إن الإجرام مرض في النفس لا يختلف عن السل أو الجذام في الجسم، وهو يحتاج إلى الطبيب النفسي المعالج أكثر مما يحتاج إلى القاضي القانوني المعاقب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤