متى تصير المرأة إنسانًا؟

هناك التباسات لغوية كثيرة تؤدي إلى مركبات وارتباكات ذهنية بعيدة المدى، من ذلك — مثلًا — كلمة «الطهارة» و«النجاسة»؛ فإن الوثنيين في عصرنا هم أعظم من يبالي الشعائر التي تستدعيها هاتان الكلمتان اللتان تلصقان بالشئون الجنسية في الأكثر، وتشملان الشئون الأخرى للحياة على الأقل، ولا تزال المرأة الريفية في الهند تقضي نحو ساعتين كل يوم في «تطهير» آنية الطبخ.

وقد كنت أظن أن الهنود وحدهم هم الذين كانوا يعتقدون النجاسة في الأرملة، ولكني وجدت الزمخشري يقول في «غريب الحديث» إن الأرملة نجسة، وأنها إذا مست شيئًا أتلفته.

وقد ورثنا نحن كثيرًا من المعاني الملتبسة من كلمة الطهارة؛ فنحن — مثلًا — نعد الفتاة العذراء طاهرة، ولا يمكن أن ترتفع المرأة المتزوجة إلى مستوى العذراء، وننسى أننا بذلك نعد الأمومة أقل طهارة من العذرية، وهذا مبدأ خطر؛ إذ هو بمثابة القول بأن الراهب من الرجال أكثر طهارة من الأب، بل كذلك الراهبة أكثر طهارة من الأم.

والرهبنة مبدأ انتحاري ضد الأمومة وضد الأبوة، ولكنها تقوم على توهم الطهارة عند كل من يمتنع عن الاتصال الجنسي؛ سواء أكان رجلًا أم امرأة، مع أن هذا الاتصال الجنسي هو أساس البقاء البشري، وإذا كان هناك معنى للطهارة، بل القداسة، في أعضائنا فإن تلك الأعضاء التي نتسل بها إلى التناسل هي أشرف وأقدس ما في أجسامنا، ولو أننا كنا قد أسبغنا عليها هذه المعاني السامية لما كان هناك مكان للتبذل أو الامتهان أو الهوان في استعمالها.

وأنه لما ينفع ويثمر أن نقول إن الزهور، وهي أجمل ما في النبات، هي الأعضاء التناسلية، وكان يجب من منطقنا الاجتماعي أن نسمي الزهر: عورة.

والتاريخ يدل على أن معنى النجاسة قد لصق بالمرأة منذ آلاف السنين، فإن رجال القبيلة الذين يتهيئون للصيد جماعة يتجنبون نساءهم قبل خروجهم لرحلة الصيد بنحو أسبوع أو أكثر، وذاك كي يبقوا طاهرين ترضى عنهم الآلهة وتبارك لهم في الصيد، والتفسير السيكلوجي لهذه الظاهرة أن الإنسان البدائي كان يؤمن بالعدوى السحرية، وبما أن المرأة إنسان ضعيف العضل لا يقوى على مواجهة الوحوش، فإن الاتصال بها قبيل الصيد ينقل إلى الرجل عدوى ضعفها، ولذلك يجب أن يتجنبها، وإذا اتفق أن لامسها فإنه يجب أن يتطهر حتى يتخلص من ضعفها.

وهذا هو تفسير النجاسة في الأرملة، فإن ترملها يعدي، فإذا مستها زوجة مات زوجها، وإذا رآها زوج خيف عليه الموت، كما مات زوجها، بالعدوى السحرية.

وقد تخلص الغربيون من هذه المعاني، إن لم يتخلصوا منها كل التخلص، أما الشرقيون فلا يزالون يتعلقون بهذه المعاني التي اندست في نفوسهم فأوجدت مجتمعاتهم الانفصالية التي تفصل بين الجنسين.

واعتقادي أن الأصل للحجاب هو هذا الخوف من النجاسة؛ لأن الفكرة الأولى أن توضع المرأة في مكان لا يتيح لها الاختلاط المستمر بالرجل، إنما يجاز هذا الاختلاط بشروط وفي حدود.

وقد كانت جميع المجتمعات القديمة تمارس شيئًا من الحجاب للمرأة يزيد في الأمم البدوية التي يرحل رجالها للصيد أو الغزو، ثم ينقص في الأمم الزراعية لاحتياج الرجل إلى زوجته في الحقل، وأخيرًا يزول في الأمم الصناعية العصرية حيث تستقل المرأة وتعمل كاسبة في المصنع أو المكتب، لا تحتاج لأن يعولها الرجل.

ولكن شيئًا من هذا الحجاب لا يزال يلازم المرأة حتى حين تعيش في وسط صناعي متقدم، وذلك بقوة التقاليد الموروثة، فإننا نفرض على المرأة قيودًا تمنعها من الاختبارات التي نجيزها للرجال. وبكلمة أخرى نقول إن للرجل في المجتمع الحديث الحق في أن يعمل ويصيب ويخطئ، أما المرأة فلا يجوز لها أن تتعرض للخطأ، ومن هنا احتجازها؛ فهي لا تقدم إقدام الرجال، وهي لا تدرس دراسة الرجال، وهي لا تغامر مغامرات الرجال؛ إذ هي تحس أنها في حجاب اجتماعي، وهي لذلك تخشى الخطأ أكثر مما يخشاه الرجال. وفي أحوال كثيرة، وخاصة في الشرق، تقنع بالنظر إلى الدنيا من خلف الباب، من صير القفل، ولا تنتج، بل تتفرج، وهي حتى هنا لا تحسن التفرج.

وهذا الحجاب، هذا الاحتجاز، ينتهي بها إلى إيثار الجهل على العلم، والسلامة المأمونة في ركن البيت أو زاوية المكتب على التجربة التي قد تؤدي إلى خسارة المال أو المجهود أو غير ذلك، وهذه حال تسير بها نحو المهانة الذاتية، نحو الإحساس بأنها غير مسئولة عن المجتمع؛ إذ هي تعيش وكأنها على الرف، لا تساهم في أخطاره أو مساره.

ومن هنا هذا الجمود، الذي يصل أحيانًا إلى الذهول العام عند كثير من النساء؛ فإن الجريدة اليومية بما تروي لنا من أحداث عالمية — مثلًا — لا تجد عند المرأة ذلك الاهتمام الذي تجده عند الرجل؛ لأن الموقف السيكلوجي هنا واضح، وهو أن المرأة تجد أنها ليست حرة في العمل أو الانتقاد أو الخطأ، فهي لذلك غير مسئولة، هي غير مهتمة، هي على الرف.

لقد ساوينا في التعليم بين الشبان والفتيات، ولكن هذه المساواة لا تكفي، فقد تكون المرأة خريجة الجامعات، ولكنها، لأنها لا تشترك في الحياة العامة، ولا تنتج، ولا تعمل في المصنع أو المتجر أو المكتب، لا تتخرج من جامعة الحياة، ولذلك لا تحصل على الحكمة التي يحصل عليها الرجال الذين لا يقتصرون على ما تعلموا في الجامعة، بل يضيفون إلى ذلك تجارب الأيام وعبرها وحوادث الدنيا ومسراتها، وهم يتزودون من ذلك حكمة ونضجًا لا تحصل عليه المرأة.

ليست المساواة أن يستوي الجنسان في التعليم، إنما المساواة أن يستويا في فرص الحياة، في كوارث الدنيا، في كل ما ينادينا به عقلنا وغرائزنا وحقنا وواجبنا بوصف أننا من البشر، وأن كلًّا منا إنسان قبل أن يكون رجلًا أو امرأة، زوجًا أو زوجة.

نحن الرجال نهتم، ونغامر، ونقدم، ونجرب، ولذلك نتعلم، ولا نبالي أن نخطئ؛ لأننا نعد الخطأ بعض تعليمنا.

ولكننا نحرم المرأة كل ذلك، وبذلك نحرمها ضمنًا التعليم الذي تحتاج إليه كي تصير إنسانًا؛ لأن الإنسان ينمو وينضج بالتجارب، باضطراب الحوادث، بالإصابة والخطأ، فيستنير ذهنه بتقليب الاختبارات المتوالية، وتكتسب نفسه الحكمة التي يعتصرها من الحوادث التي تمر به.

المرأة تعيش بلا حوادث، وهي لذلك لا تنمو.

والمرأة تخشى التجارب، وهي لذلك لا تعرف.

يجب على المرأة، كي تكون إنسانًا، أن تعيش على مستوى الرجال من اكتساب الخبرة والتجربة والانغماس في الحياة، والاشتراك في النشاط البشري والاجتماعي.

يجب أن تخرج من الحجاب النفسي الذي لا يزال يلازمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤