سيكلوجية الرجل المثقف

تحتفل العواصم الأوربية هذه الأيام بمرور خمس مئة سنة على ميلاد ليوناردو دافنشي الرسام، المثال، الميكاني، مخترع الآلات، مكتشف المحار على جبال الألب، الذي جمع بين العلوم والفنون ومارس الموسيقا، وألف فيها ونظم الشعر، ولم يترك ميدانًا من ميادين المعارف في وقته لم يدخل فيه دخول المستطلع أولًا، الممارس ثانيًا، وما هو أن كان ينتهي من ميدان حتى كان يثب إلى ميدان آخر، كأنه يريد أن يحتوي المعارف البشرية كلها في عصره.

وكانت أعظم ميزاته أنه لم يكن دارسًا فقط؛ إذ كان يعمل بيديه، وبهذا الجمع بين اليد والذهن كيان يزن موضوعه الوزن الصحيح، فضلًا عن أنه كان يقدر القيم الاجتماعية للموضوعات الثقافية التي كان يتصل بها.

وإذن لم تكن دراسته تفرجًا أو تسليًّا، وإنما كانت اشتباكًا عمليًّا في قيمة المعارف التي كان يدرسها الناس في عصره، فلم يكن الشعر عنده القراءة، وإنما كان أيضًا للتأليف، وكذلك الرسم والنحت والاختراعات الميكانية، فإنه مارسها جميعها وأسهم فيها، وهذا بعد دراسة عميقة للرياضيات.

واخترع طواحين الماء التي تدور بقوة التيار، وزوارق تدار مجاذيفها بالدواليب، ومناطق للسباحة، وآلة لفرم اللحم، ومدفعًا وبندقية، وبحث المواد الانفجارية يحاول الوصول إلى كنهها وعلة انفجارها، ونصح باستعمال البخار لتسيير السفن، وبحث القوة الجذبية المغنطيسية، والدورة الدموية في الحيوان، وكتب عن إيصال الأنهار بحفر أنفاق لها تحت الجبال، وسبق كوبرنيكوس في نظريته عن دورة الأرض، وسبق لامارك في تقسيم المملكة الحيوانية إلى قسمين: القسم الفقري والقسم غير الفقري، وأمضى سنين في بحث الطيران واخترع طائرة، وبحث الأصول الفلسفية، وانتهى إلى أن الإرادة هي الأساس للنشاط البشري.

لقد ذكرنا أن ميزة دافنشي أنه كان يدرس بذهنه ويعمل بيديه، وميزة أخرى أنه لم يتخصص؛ فلم يكن فنانًا فقط، ولم يكن عالمًا فقط؛ إذ كانت جميع المعارف البشرية ميدان نشاطه، وبهذا الاحتواء أو الإحاطة كان يقارن بينها ويربط ويستنتج.

وهو كان يعد بذلك أعظم رجل مثقف في عصره، وهذا من حيث الإحاطة للمعارف الشائعة في عصره، ولكنه من حيث المنهج لا يزال يعد أعظم رجل مثقف حتى في عصرنا؛ لأنه جعل الوسيلة للثقافة الذهن واليد، كما جمع كل ما استطاع من المعارف البشرية دون تخصيص.

ووفرة مخترعاته تعزى إلى هذا، إلى أنه كان يربط هذه المعارف فيعرف علاقاتها ومكانتها الاجتماعية، وإلى أنه هو نفسه كان عاملًا، فلم يكن يشطح في الخيال؛ لأن تجربة اليد كانت على الدوام ميزانًا يزن به الإمكان أو الاستحالة لما كان يتخيل.

ولو أننا فرضنا أن ليوناردو دافنشي كان يعيش في عصرنا فإنه بلا شك كان يدرس نظريات أينشتين ويتعمقها، كما كان يعمل ليل نهار في التجارب الذرية.

ولكن، لأنه كان يدرس الشعر والموسيقا والرسم والنحت؛ أي: يدرس الجمال البشري والاجتماعي والطبيعي، فإنه لذلك كان يأبى اختراع القنبلة الذرية التي تهلك البشر رجالًا ونساء وأطفالًا.

وصحيح أنه اخترع مدفعًا وبندقية، ولكن الوجدان البشري لم يكن — وقتئذ — بقوته الحاضرة في عصرنا؛ لأن الوجدان الوطني كان بازغًا في أيامه، وكان إقليميًّا محدودًا، وكانت له قوة النهضة والاندفاع.

•••

ما زلنا نقرأ أرسطاليس وأفلاطون، وما زلنا نسترشد بفقهاء الدين الذين عاشوا قبل ألف سنة أو ألفي سنة، مع أننا نرفض الاسترشاد بطبيب عاش قبل مئة سنة فضلًا عن ألف. كذلك لا نسترشد بكتاب عن الكيمياء أو الفلك أو النبات مضى عليه قرن أو قرنان.

وعلة ذلك أن الفلسفة انفصلت من المجتمع البشري، وانطلق المفكرون فيها يبحثون عن مشكلات ذهنية خالصة، وكذلك فقهاء الدين استسلموا للتفكير الغيبي الذي يتجاوز هذا العالم وينأى عن مشكلاته الصغيرة والكبيرة.

فالفيلسوف أصبح يقرأ الكتب كي يكتب الكتب، والفقيه في الدين كذلك يقرأ عن الفقهاء كي يكتب هو في الفقه، خواء في خواء، واجترار عقيم لطعام لا يغذو.

ولكن الكيماوي دخل المصنع وبحث عن مركبات جديدة يؤلفها كي ينتج بها في الصناعة أو الطب، وكذلك الطبيب درس الجسم البشري وأمراضه وعرف كيف يصل إلى الدواء الذي يشفي، ولذلك نحن كل يوم إزاء خبر جديد عن اكتشاف أو اختراع تتقدم به الصناعة أو ينجع به الدواء. فالكيمياء والطب والبيولوجية والجغرافيا والفيزياء، كل هذه علوم بشرية استمدت معارفها من المجتمع البشري؛ لأنها نافعة للبشر، تتصل بهم كل يوم في المطبخ وغرفة النوم وعلى مائدة الطعام وفي الملابس وفي مواد البناء أو زيادة المحصول من القمح أو القطن، وهي لذلك ترتقي وتنمو، ولا يمكن إلا أن ترتقي وتنمو.

ولو أن الفلاسفة كانوا يعالجون المشكلات البشرية أيضًا، ولو أنهم كانوا يتواضعون ويبحثون الأسباب الفلسفية التي تجعل أحدنا مستقيمًا والآخر معوجًا، أو لو أنهم كانوا يبحثون الأسباب التي تجعل إحدى الحكومات فاسدة والأخرى صالحة، أو لو أنهم كانوا يحاولون تنظيم المجتمع بحيث يستطيع تعليم كل فرد إلى سن الخامسة والعشرين أو يكفل لكل عائلة مسكنًا عصريًّا وطعامًا صحيًّا، لو أنهم فعلوا ذلك لكانت الفلسفة علمًا ارتقائيًّا يرتقي كل يوم كما ترتفع الكيمياء أو الطب أو الهندسة.

وكذلك الشأن في فقهاء الأديان.

إن انفصال الثقافة عن المجتمع البشري يجعلها غير بشرية؛ أي: عقيمة، وهذا هو حال التفكير الفلسفي والتفكير الديني في أيامنا، بل إن وصفها بالعقم لا يكفي؛ إذ إن هذا الانفصال يجعل التفكير فاسدًا ومفسدًا معًا؛ لأنه ينقل الاهتمام من شئون المجتمع ومشكلات الإنسان إلى عالم وهمي من الغيبيات والمشكلات الكاذبة التي لا أصل لها.

وقد أخصبت العلوم المادية في القرون الثلاثة الماضية لهذا السبب وحده؛ أي لأنها لم تنفصل من المجتمع، بل إن بيكون زعيم الحركة العلمية أصر على أن التفكير بالعقل وحده لا يكفي؛ إذ يجب أن نفكر بأيدينا؛ أي: نجرب.

والحضارة الأوربية القائمة حضارة الصناعة، هي حضارة التفكير باليد، والعلوم جميعها هي ثمرة الفكرة والتجربة؛ أي: الذهن واليد؛ ولذلك هي خصبة.

•••

وهنا يجب أن نميز بين الدراسة والثقافة، فقد يدرس أحدنا الكمياء ويعرف التفاصيل الدقيقة في تركيب الذرات والجزئيات، ولكنه هنا دارس فقط وليس مثقفًا؛ لأن التثقيف يجب أن يكون شاملًا عامًّا وليس محصورًا خاصًّا؛ أي: يجب أن تكون نظرته بشرية تجمع العلاقات بين الأرض والإنسان، وبين الإنسان والحيوان والنبات، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين ماضيه ومستقبله، بل بين الفن والعلم. نظرية شاملة مستنيرة للإنسان والكون.

والتخصص في علم أو فن من العلوم والفنون، لا يقل ضرره عن فصل الفلسفة أو الدين عن المجتمع، بل ربما يكون الضرر أكبر، ولقد عرفنا نحن في مصر هذا الضرر حين عمم المهندسون الماء للري الدائم في أنحاء الريف، فكانوا متخصصين يعرفون الهندسة فقط، كانوا دارسين ولكن لم يكونوا مثقفين.

وكانت النتيجة المحزنة لتخصصهم هذا أنهم عمموا مع الماء ديدان البلهارسيا والإنكلستوما للفلاحين، كما أنهم أفسدوا التربة بالارتشاح، كما كثرت أمراض النبات.

كان يجب على المهندسين، قبل أن يعمموا الري، أن يعينوا الهدف، هل هو خدمة الأرض المصرية أم الإنسان المصري؟ ولو أنهم سألوا هذا السؤال لاحتاجوا إلى دراسة الطب والبيطرة والزراعة إلى جنب الهندسة؛ أي إنهم كانوا يحتاجون إلى أن يكونوا مثقفين وليسوا دارسين فقط، وكانوا عندئذ يربطون ثقافتهم بالمجتمع المصري، لا يقدمون على مشروع إلا بعد أن يزنوه بميزان الخدمة لأفراد هذا المجتمع قبل أن يزنوه بمقدار الملايين من الجنيهات التي تعود من ثمن القطن. ألا لعنة الله على القطن الذي جلب على فلاحينا البلهارسيا والإنكلستوما!

كما يجب على مهندسي الري في مصر أن يكونوا أدباء وفنانين واجتماعيين؛ أي: كان يجب أن يكونوا مثقفين.

شرطان للمثقف لا بد منهما؛ الأول: أن تتصل ثقافته بالمجتمع، بحيث يربط تفكيره كله واهتمامه كله بما ينفع هذا المجتمع ويرقى بأفراده، والشرط الثاني: أن يطلب الشمول والعموم لا التخصص. وليس في هذا إنكار لقيمة التخصص الذي يحتاج إليه عصرنا، ولكن يجب على المتخصص ألا يكون دارسًا فقط، وإنما يكون مثقفًا إذا خرج من تخصصه المحدود إلى الشمول والعموم.

•••

وقد يقال هنا إني أشرط شروطًا قاسية للثقافة، وأنه يندر أن يثقف الإنسان نفسه بحيث يستطيع أن ينظر النظرة المستنيرة مع الشمول والعموم، ولكني هنا سيكلوجي.

ما هو الذكاء؟

هو النظرة العاملة الشاملة مع الاستنارة السابقة.

هو الجمع والمقارنة للعوامل والبيئة وتقديرها جميعًا، وفرز الخطير من التافه. وأخطر ما في هذه الدنيا، في هذا الكون، هو الإنسان، وأيما ثقافة تنفصل عن المجتمع والإنسان هي ثقافة البله والمغفلين.

فإذا اجتمع جماعة من الناس ثم فاجأهم خطر فإن الذكي هو الذي ينظر النظرة الشاملة لكل العوامل، كما أنه لا ينسى أن إنقاذ الناس هو المهمة الأولى التي لا يقارن بها شيء.

وهذه النظرة الشاملة هي العلامة الأولى للذكاء في جميع الناس، في أتفه المواقف وأخطرها.

والثقافة الشاملة هي الجهاز الذي يستضيء به الذكاء.

•••

والمثقفون قليلون في كل عصر؛ لأن الذين يستطيعون استغلال العمر القصير كي يصلوا إلى النظرة الشاملة قليلون، ولكننا عرفنا منهم ليوناردو دافنشي، كما عرفنا جيته أديب ألمانيا، ثم بعد ذلك برناردشو ثم أندريه جيد، وفي عصرنا كثيرون تنبهوا إلى قيمة الثقافة الشاملة؛ يدرسون الأدب والعلم والفن والاجتماع والسياسة وكل ما يتصل بالإنسان ومجتمعه.

•••

في كلمة سابقة قلنا إن الرجل الحكيم يتسم بأنه يجعل سعادته ممتدة شاملة لحياته كلها؛ فهو لا ينغمس في المجتمع ويهمل عائلته، وهو لا يلتزم عائلته فيهمل المجتمع، وهو لا ينكب على حرفته كأنها كل شيء في الدنيا، وهو يعنى بتثقيف ذهنه وصحة جسمه، نظرة شاملة للحياة كلها ليس فيها شطط في ناحية مع إهمال في أخرى.

وهكذا الشأن في الثقافة التي يجب أن تكون جامعة شاملة، لا نتخصص في جزء منها ثم نهمل الباقي؛ لأن هذه التجزئة في الثقافة تجزئ شخصيتنا وذكاءنا فلا نستوعب الدنيا، ولكنا نأخذ بجزء منها.

بل أكثر من هذا، فإن النظرة الشاملة الجامعة للحياة والثقافة تجعل رؤيانا للدنيا أوضح، كما تجعل فهمنا للمعارف البشرية أعمق ومنفعتنا أكبر، ومن هذا الشمول نستنبط الدلالة والعبرة من الحياة والثقافة.

إن الإنسان الحي الحكيم يجب أن يؤلف بين حياته وبين هذا الكون؛ أي: يجب أن يستوعب الكون ويكتسب منه أقصى ما يستطيع من اختبارات وهو على أقصى ما يستطيع من وجدان، وكذلك الرجل المثقف يجب أن يؤلف بين ما تخصص فيه وبين سائر المعارف البشرية حتى يستوعبها جميعًا ويستخرج دلالتها فيما تخصص هو فيه.

وأخيرًا هل نستطيع أن نقول إن الرجل المثقف هو الذي يجعل حياته ثقافته، أو ثقافته حياته، يؤلف بين الاثنتين ويمزجهما، لكن ليس كمزج الزيت بالماء، وإنما كمزج الأكسجين بالأيدروجين حتى يخرج منهما مركب جديد هو الماء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤