الخوف يسيطر على حياتنا

الخوف هو العاطفة العامة التي تسيطر على حياتنا، وهذه السيطرة تزيد أحيانًا حتى تبلغ حد الطغيان، وعندئذ تفسد النفس فنسلك في غير تعقل، وقد يعود هذا على أشخاصنا أو على غيرنا بالأذى والخسار.

ونحن نولد ونحن خائفين، فإن الطمأنينة والدفء والارتياح الذي كنا نجده ونحن أجنة في الرحم يعود قلقًا عقب الولادة، وأعظم ما نخشاه هو السقوط، ولذلك نجد أحلامًا وراثية في الأطفال هي السقوط، وقلّ أن يخلو طفل من هذا الحلم.

وليس هذا غريبًا إذا عرفنا أن أعظم ما كنا نخاف، ونحن بعد على غصون الشجر لم ننزل إلى الأرض الثابتة، هو السقوط؛ لأن حلم السقوط هو حلم الخطر القديم الذي كان يهددنا قبل ملايين السنين، ولذلك أيضًا يولد الطفل وبه غريزة لا شك فيها، هي أنه يقبض بأصابعه على كل ما يلقى؛ وخاصة شعر أمه التي تجد المشاق في تخليص أصابعه الدقيقة منه.

ثم ينشأ الطفل بعد ذلك في مخاوف عديدة: الظلام والعفاريت، ثم إذا بلغ الصبا وأدخل في المدرسة عرف عذاب الدروس والعقوبات والتوبيخات من معلمه أو من أبويه، ونحن نغرس فيه منذ هذه السن روح الغيرة والمباراة، وكلتاهما تعمل أيضًا لتخويفه؛ لأنه يخشى أن يتخلف ويفشل.

ثم بعد المدرسة تزيد المخاوف؛ فهو يخاف العجز عن كسب العيش، أو هو يخاف التأخر في مباراة الحياة، وحياتنا عامة تحفل بالمخاوف وخاصة في المدن؛ فالأم كثيرًا ما تحلم بأن ابنها قد سقط تحت الترام. وقد عرفت شبانًا في الجامعة يحلمون بالسقوط من سطح المنازل، وذلك مدة الامتحان، وليس الكابوس إلا رمزًا للخوف يتخذ صورة بدائية وحشية، وجميع هذه الأحلام برهان على أن الخوف مستقر في نفوسنا أطفالًا وصبيانًا وشبانًا وآباء.

ومجتمعنا القائم على المباراة يزيد الخوف؛ لأن للحظ أثرًا كبيرًا في النجاح أو الخيبة، وكذلك المستقبل غيب لا يعرف، ونحن نتوقع فيه جميع المحتملات، نتوقع المرض أو الموت، والكسب أو الخسار، وقد عرفت موظفين في الحكومة وقعوا في نيوروز؛ أي: العواطف القهرية المحتدة؛ لأن معاكسة الرئيس قد دست في قلوبهم الخوف من ضياع الوظيفة.

نستطيع أن نجد الأثر الواضح للخوف العام بين عدد كبير من السكان في الإقبال على ألعاب الحظ مثل السباق أو غيره، وكذلك الرغبة العامة بين الشبان في لعب الطاولة أو الورق.

والعلاقة هنا تحتاج إلى شرح موجز، فإن أحدنا عندما يخرج خائفًا في الصباح من بيته تراه يستطلع الجو، ويتشاءم أو يتيمن بكلمة يسمعها من أحد العابرين في الشارع أو القاعدين في الترام، فالكلمات البسيطة مثل: الحمد لله، خراب في خراب، بكرة تعمر، كله خير … إلخ، هذه الكلمات يعود لها معنى خاص له هو نفسه، كأنه يقول إذا سمعت كلمة طيبة فأنا ناجح، وإذا سمعت كلمة سيئة فأنا خائب.

فهو هنا يقامر بالكلمات التي يسمعها من الأفراد العابرين.

أو هو يأخذ المسبحة ويعد حبوبها.

أو هو يضرب بكفه أعمدة المصابيح كي يعرف هل ما في الشارع منها زوج أو فرد، وقديمًا كان التطير، وهو التشاؤم بالطير إذا طار عن اليسار، وهو التيمن إذا طار عن اليمين.

ولعب الورق والطاولة ينهض أيضًا على هذا الأساس، وهو أن اللاعب يحس خوفًا مستقرًّا؛ فهو يلعب حتى إذا انتصر غمرت نفسه سعادة وقتية بأن كل شيء سيسير على ما يحب، فللكلمات العابرة ولأعمدة المصابيح ولألعاب الحظ قيمة أو دلالة رمزية يحتاج إليها الخائف حتى يطمئن.

وقد يزيد الخوف فيؤدي إلى شرب الخمر هربًا من الألم أو القلق الذي يحدثه؛ لأن شارب الخمر يحس انتصارًا وقتيًّا وسيادة وشجاعة لا يحسهما الصاحي، وأعظم ما يحتاج إليه من يحكم عليه بالإعدام هو السجاير.

ومن هنا نعرف أن إدمان التدخين إنما هو خوف مستقر؛ ولذلك يزيد الإدمان وقت القلق؛ أي: عندما يبرز الخوف.

ولكن الخوف أحيانًا يؤدي إلى العدوان وإلى الشذوذ الجنسي بمختلف أشكالهما.

ذلك أن الخائف يحتاج إلى رموز تخفف عنه، والعدوان هو رمز الشجاعة والانتصار، فهو يعتدي لأقل إساءة بالسباب أو الضرب، بل هو يتحين الفرص كي يسب ويشغب ويضرب حتى يحس بأنه شجاع منتصر غير خائف.

عرفت زوجًا اتضح بعد زواجه أن به نقصًا جنسيًّا، فهو خائف من زوجته ومن الفضيحة إذا عرفت، فكان كل يوم يضرب زوجته حتى تركته بطلاق.

ولكن الخوف يحمل الخائف أحيانًا على الشذوذ الجنسي؛ لأن الشاذ الجنسي يحس أنه منتصر، إذ إن من يقع به الشذوذ مهزوم أمامه.

ومعنى هذا أن أسلوب الحياة الذي يعتمد على الخوف ينتقل إلى أسلوب التعارف الجنسي؛ عدوان في الحياة العامة ثم عدوان في التعارف الجنسي، والشذوذ هنا عدوان.

•••

وكلنا يعرف أن الضعف (الخوف) يؤدي إلى العنف، كما نجد — مثلًا — في وزير يخشى النقد والفضيحة فيبطش بلا حساب.

وأحيانًا يخاف أحدنا نقيصة في نفسه فيقسو أشد القسوة على غيره إذا كانت به هذه النقيصة نفسها؛ كالقاضي الذي يخشى الشذوذ الجنسي يحكم بأفظع العقوبة على المجرم الذي يتهم بهذه التهمة، كأنه يحاول أن يبعد نفسه عن هذه الجريمة بتكبير العقوبة وقسوتها، فللعقوبة هنا قيمة رمزية له كأنه يقول: يجب ألا أقع في هذه الجريمة لأنها فظيعة وعقوبتها قاسية جدًّا.

وأحيانًا تجد رجلًا ينعى على الحرية في الشواطئ؛ لأنه هو نفسه يحس خطورة هذه الحرية على غرائزه ويخافها.

وعندما يشتد الخوف نحتاج إلى الإيمان بأية عقيدة.

فالأم التي تخاف المرض أو الموت يقع أحدهما بطفلها تؤمن بالعوذة التي تربطها إلى وسطه، وقد لا يكون فيها غير ورقة بيضاء أو كلمات هي أسماء خرافية، وهي تعتقد في الفأل، وفي دعاء الرجل المسن، كما أنها تخشى العين.

ولذلك أيضًا تجد أن الناس لا يستطيعون النقاش بشأن العقيدة؛ لأننا عندما نناقشهم في هذا الموضوع ونحاول زعزعة العقيدة إنما نكون بمثابة من يقول لهم: عودوا إلى الخوف ودعوكم من هذه الطمأنينة، عودوا إلى القلق الذي يعذبكم.

والرجل المزعزع يجد في العقيدة سندًا عظيمًا.

والزعماء الذين يفشون عقيدة ما ينجحون أكثر من أولئك الزعماء الذين يخاطبون المنطق ويشرحون الصعوبات؛ لأن الجماهير المسكينة التي يعمها الخوف ترتاح إلى العقيدة المطمئنة.

•••

والخوف — كما قلنا — يعمنا بدرجات متفاوتة؛ لأن الواقع أن حياتنا منذ ميلادنا إلى يوم وفاتنا حافلة بالأخطار، ولذلك فإن الشجاعة هي السلامة النفسية، وعلى قدر ما يملك كل منا من الشجاعة يكون سليمًا.

ولكن من ناحية أخرى أيضًا يجب أن نقول إننا إذا كنا لا نحس الخوف بتاتًا فإننا لا نجد الحافز للتفكير والعمل؛ لأننا نحتاج إلى شيء من الخوف؛ أي: القلق الذي ينبهنا ويحثنا ويوقظنا. ولكن يجب ألا يكون هذا الخوف أو هذا القلق ثقيلًا طاغيًا؛ لأنه — عندئذ — يغم على النفس ويجمد الذهن والجسم. ويمكن أن نعرف السعادة بأنها الشجاعة دون أن نخطئ كثيرًا.

ولكننا هنا نعني شجاعة العقل البصير وليس شجاعة العاطفة العمياء.

عندما يخاف الحيوان أو الإنسان، يعمد أول ما يعمد، إلى الفرار مما يخاف، ونحن نفر من الخوف إلى التدخين أو الشراب، ولكن الفرار يتسم بالسرعة أو الهرولة.

فإذا وجدت رجلًا يهرول ويتعجل في أعماله فاعلم أنه خائف.

وأسلوبه هذا في أعماله ينتقل إلى التعارف الجنسي، فهو متعجل مهرول من حيث لا يدري، وهو سيئ العلاقة الزوجية لهذا السبب.

وقد تجد رجلًا رجعيًّا يكره أخلاق الشبان والفتيات، ويدعو إلى الماضي المعروف بدلًا من أن يجابه هذا المستقبل المجهول؛ لأن هذه العادات الجديدة قد تعرضه لأخطار جديدة.

والخوف من الحرب يحمل الأمة الخائفة على السرعة في الاستعداد للحرب، ثم يؤدي هذا الاستعداد نفسه إلى الحرب.

وخوف الزوجة على بقاء زوجها يؤدي إلى غيرة جنونية … إلخ، إلخ. وإذن نقول: إن المجتمع الحسن هو الذي تقل فيه المخاوف وتعم فيه الشجاعة أكبر مقدار منها.

•••

وقد قلنا: إن الخوف يعمنا بدرجات متفاوتة، والأصل في هذا التفاوت أننا، ونحن أطفال، ننشأ على شجاعة وإقدام، أو جبن وحذر، فإن الأسلوب الذي نأخذه عن أبوينا يبقى أصيلًا في سلوكنا إلى أن نبلغ الشيخوخة ما لم تحدث حوادث جسيمة تغيره، فالطفل الذي قضى طفولته بين أبوين خائفين حذرين ينشأ على الخوف والحذر، والطفل الذي لم يكن مطمئنًّا عن حياته؛ لأنه كان يضرب في طفولته أو لأنه كان يجد شجارًا لا ينقطع بين أبويه يهدده بالخطر، هذا الطفل لا يجابه الدنيا في شجاعة بل يحاول الفرار، وهو يخنس ويتراجع كلما دهمته كارثة، ويبقى قلقًا طوال عمره. أما ذلك الطفل الآخر الذي قضى طفولته وهو يجد الشجاعة والصراحة والجرأة من والديه وسائر أعضاء أسرته، كما أنه قد هنئ ببيت هادئ يعمه الوفاق والحب، هذا الطفل إذا شب ووقعت به كارثة استطاع أن يتحملها ويجابهها في قوة وعزم؛ لأن أسلوب الطفولة قد لازمه.

وإني أكتب هذا في ديسمبر من ١٩٤٩ وقد عرفت أن في مستشفى الأمراض العقلية تسعة من المثقفين وسبعة عشر من طلبة الجامعة يعانون جميعهم انهيارًا نفسيًّا من النيوروز إلى السيكوز، وتعليقي على هذه الظاهرة المؤلمة هو هذا:
  • (١)

    أن هؤلاء جميعهم لم يهنئوا بطفولة مطمئنة؛ إذ كانوا يضربون أو يخوفون، أو كان آباؤهم على غير وفاق يعممون القلق في بيوتهم.

  • (٢)

    أن هناك كظمًا جنسيًّا في كثير منهم، وهذا الكظم يحدث توترًا متعبًا، ومنطق التوتر إزاء النفس البشرية أحد، وهو قلق حاد؛ فالكظم الجنسي، والخوف من الخيبة في الامتحان عند الطالب، والخوف من الخيبة في المباراة العامة عند الأطباء، كل هذا يحدث في النفس رجعًا واحدًا هو القلق الذي لا يطاق، والذي يجر في آثاره نيوروزًا أو سيكوزًا.

  • (٣)

    كان هذا القلق أحرى أن يخف أو يزول تمامًا لو أن الطفولة كانت هنيئة، أو لو أنه لم يحدث كظم جنسي، أو لو أن المباراة للكسب عند الأطباء أو الخوف من الامتحان عند الطلبة لم يبلغا حدًّا طاغيًا.

  • (٤)

    وأيضًا كان هذا القلق يخف لو أنه كانت هناك فترات من الراحة والاسترخاء، فإن طالب الطب يقضي السنوات الثلاث الأخيرة من دراسته بلا إجازة يستريح فيها ويسترخي، وهذا إجرام.

وعلاج الخوف يتضح من ذكر أسبابه، فإذا ألغينا الأسباب ألغينا الخوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤