سرايا خالد بن الوليد

اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.

النبي

بفتح مكة، انتهت الشفاعات، إحدى ركائز العقائد العربية والقرشية، وتم تدمير تماثيل الأرباب الوسيطة جميعًا؛ تلك التي كانت قائمة في فناء الكعبة، تتوسط لدى إله السماء لمن هم في الأرض من عُباده، وسقط عمود أساسي من أعمدة الوثنية المكية المرتبطة بالكعبة وبالتجارة، حيث كانت تلك الأرباب أربابًا للقبائل الضاربة في بطن شبه الجزيرة، استضافتها الكعبة المكية جذبًا لأتباعها نحو المركز التجاري المكي؛ لمزيد من الرواج التجاري، وإثباتًا لسيادة الإله المكي الأعلى السماوي على بقية الأرباب، بما يحمل ضمنيًّا التسييد القرشي على بقية القبائل؛ ومن ثَم سقطت الوساطات ودُمِّرت الشفاعات بتدمير تلك التماثيل، الذي جاء تدميرًا للرموز القبلية المُتعدِّدة وصهر تلك القبائل جميعًا في منظومة الأمة الواحدة، عبر العبادة المباشرة لإله واحد لا يقبل وساطة من أحد إلا بإذنه، وقد أذِن بذلك لصفيِّه النبي القرشي كشفيع أوحد، لتنتقل حالة التشتت القبلي الساعي نحو التوحيد بتماثيل مُتجاوِرة في الكعبة، إلى توحيد كامل بصهر جميع الشفاعات في شخص سيد أوحد من قريش هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لتضمن قريش بذلك سيادة أعظم، فينوب عنها جميعًا سيد الخلق سيدًا للعرب وشفيعًا أوحد للإله الأوحد في الدولة المُتوحِّدة المُوحِّدة.

وإعمالًا لذلك انطلقت سرايا المسلمين لتدمير هياكل الأرباب الوسيطة في مُحيط الجزيرة، وبين تلك السرايا كانت سرية خالد بن الوليد لتدمير العزى وبيتها في ناحية نخلة؛ ذلك الصنم الذي اجتمعت حوله قريش وكنانة ومضر؛ ليُفكِّك بذلك هذا التحالف القبلي السابق بين تلك القبائل ويصهرها في منظومة الدولة.

وتروي لنا كتبنا الإخبارية أن خالدًا انتهى إلى العزى فهدمها وقطع سمراتها الثلاث وكسر ما لحق بها من رموز مُقدَّسة، ورجع إلى النبي، لكن لتتدخل تلك الروايات مرة أخرى تُحاوِل التأكيد على ما كان وراء العزى من قوة غيبية، لكنها قوة مُخيفة شيطانية؛ فتسوق رواية تحكي أنه بعد عودة خالد إلى النبي سأله النبي : ما رأيت؟ فيرد أنه لم يرَ شيئًا، فيأمره النبي بالعودة مرة أخرى إلى العزى. ولا نتفهم السبب إلا باستمرار الرواية وهي تُؤكِّد أن النبي كان يعلم أن العزى ليست مجرد حجر وأشجار، حيث يعود خالد إلى المكان فتخرج إليه امرأة سوداء ناشرة شعرها تُولوِل، فيعلوها خالد بالسيف وهو يُنادي: يا عزى كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك. ويقتل خالد تلك الربة أو تلك الشيطانة فينكشف له ما في البيت المقدس من مال مخبوء، فيعود به إلى النبي، ليُعقِّب الرسول قائلًا: تلك العزى ولا تُعبَد بعد أبدًا.١
ويعود النبي فيُرسِل خالدًا في سرية أخرى، ترتبط أحداثها بمبدأ «الإسلام وقاء» وأهميته والتأكيد عليه، حيث سيُعلِن النبي تبرؤه من خالد بن الوليد وشكواه إلى الله؛ لكسره تلك القاعدة الأساس في بناء الدولة، حيث خرج خالد برجاله المُقاتِلين، بعضهم من المسلمين الأوائل، وبعضهم من الطلقاء والأعراب اللاحقين بالدولة طمعًا في المغانم أو الأمن، ليهبط على مياه بني جذيمة، وإعمالًا لمبدأ «الإسلام وقاء» يُؤكِّد ابن كثير المعنى ذلك في قوله: «بعث عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة … بعثه داعيًا ولم يبعثه مُقاتِلًا، ومعه قبائل من العرب.»٢
ويروي الطبري أن بني جذيمة ما إن رأوا خالدًا حتى أخذوا السلاح، فناداهم خالد:
ضعوا السلاح؛
فإن الناس قد أسلموا.٣
وهو النداء الذي يحمل معنى السلام بالإسلام، وما يستدعي الشعور بالأمان ووضع السلاح. ويُعلِمنا ابن سيد الناس من جهته أن جذيمة قد أسلمت بالفعل سلفًا قبل أن يصلها خالد برجاله، وهو ما يتضح في الحوار الذي ساقه بين خالد وبينهم حيث يقول لهم خالد: «ما أنتم؟» قالوا: «مسلمون قد صلَّينا وصدَّقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذَّنا فيها.» قال: «فما بال السلاح عليكم؟» قالوا: «بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح.» قال: «فضعوا السلاح.» فوضعوه، فقال لهم: «استأسروا.» فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتَّف بعضًا وفرَّقهم في أصحابه.٤
وتطفر هنا إشارة لا تفوت قارئًا مُدقِّقًا، حيث تُجمِع كتب الأخبار أن بني جذيمة عندما رأوا خالد بن الوليد، صرخ أحدهم واسمه «جحدم» صرخة الفزع يُنادي قومه مُحذِّرًا الاستجابة لخالد:
يا بني جذيمة، إنه خالد،
والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار،
وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق،
والله لا أضع سلاحي أبدًا.
فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم، إن الناس قد أسلموا، ووُضِعت الحرب وأمن الناس. فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم.٥

لكن يبدو أن «جحدمًا» هذا كان ذا وعي نافذ، لا يطمئن ولا ينسى، فهو لم ينسَ أبدًا ذلك الأمر الذي دعاه للفزع عندما رأى خالدًا، ويبدو أنه الأمر الذي لم يغرب عن بال خالد لحظة منذ خرج لبني جذيمة؛ ذلك الأمر الذي يشرح لنا ابن هشام أمره، عما كان بين بعض قريش وبعض جذيمة قبل الدعوة الإسلامية إذ يقول:

«وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وعوف بن عبد مناف بن الحارث بن زهرة، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، قد خرجوا تجارًا إلى اليمن … فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جذيمة بن عامر — كان قد هلك باليمن — إلى ورثته، فادعاه رجل منهم يُقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض جذيمة قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال ليأخذوه، وقاتلوه، فقُتِل عوف بن عوف، والفاكه بن المغيرة، فهمَّت قريش بغزو جذيمة، فقالت بنو جذيمة: ما كان مُصاب أصحابكم عن ملأ منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة فأصابوهم ولم نعلم، فنحن نعقل لكم ما كان لكم قبلنا من دم أو مال. فقبلت قريش ذلك ووضعوا الحرب.»٦

هكذا أدرك جحدم أن لخالد ثأرًا عند بني جذيمة، بعمه الفاكه بن المغيرة، ولم يثق الرجل في أن الإسلام قد غيَّر شأن خالد، بينما رأت بقية جذيمة أنه يجب الوثوق برسول رسول الله، بعد أن أسلم الناس وأمنوا الحرب، وطرحوا ما كان من شأن الجاهلية وراءهم، فأمنوا لخالد وأطاعوه مُوقِنين من السلامة في النهاية، لكن ظن جحدم كان هو الظن الصادق، فقد أمر خالد رجاله أن يقتل كل منهم أسيره.

وانقسم الصحابة فريقَين حول أمر خالد، حيث رفض المسلمون الأوائل تنفيذ أمر القائد، بل وأطلقوا ما كان بأيديهم من أسرى، أما بقية العربان وطلقاء قريش فقد نفَّذوا الأمر على الفور، واستحر القتل بليغًا في الأسرى.

وفي مقتلة مسلمِي جذيمة حادثة أوردتها كتب السير تحمل قصة حب رائعة، رواها الرواة عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، إذ يقول: «وأدركنا الظُّعُن — النساء — فأخذناهن، فإذا فيهم غلام وضيء الوجه به صفرة كالمنهوك، فربطناه بحبل وقدَّمناه لنقتله.» فقال لنا: «هل لكم في خير؟» قلنا: «ما هو؟» قال: «تُدرِكون بي الظعن في أسفل الوادي ثم تقتلونني.» قلنا: «نفعل.» فعارضنا الظعن، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته: «اسلمي حبيش على فقد العيش.» فأقبلت جارية بيضاء حسناء وقالت: «وأنت فاسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء.» قال: «سلام عليك دهرًا وإن بقيت عصرًا.» قالت: «وأنت سلام عليك عشرًا وشفعًا تترى وثلاثًا وترًا.» فقال:

إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع
هواك لهم مني سوى غلة الصدرِ
فأنت التي أخليت لحمي من دمي
وعظمي، وأسلبت الدموع على نحري

فقالت له:

ونحن بكينا من فراقك مرة
وأخرى، وواسيناك في العسر واليسرِ
وأنت فلم تبعد فنِعم فتى الهوى
جميل العفاف والمودة في سترِ

ليُجيبها الحبيب المُفارِق:

فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة
أثيبي بود قبل إحدى الصفائقِ
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى
وينأى الأمير بالحبيب المُفارِقِ
فقدَّموه فضربوا عنقه.٧
فجاءت فجعلت ترشفه حتى ماتت عليه.٨
ونعلم من رواية ابن كثير أن الشاب لم يكن من بني جذيمة المسلمين، لكنه جار لهم لحق بهم عشقًا وهيامًا في بنتهم حبيش؛ ومن ثَم ربما كان من المشركين، حيث يقول ابن كثير إن الشاب عندما قبض عليه رجال خالد قال لهم: «إني لست منهم، إني عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم.» فإذا امرأة أدماء طويلة، فقال لها: «اسلمي حبيش قبل نفاد العيش» … فقالت: «نعم فديتك.» فقدَّموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتَين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله أخبروه بالخبر، فقال: «أما كان فيكم رجل رحيم؟»٩
وكان أول المُحتجِّين على فعل خالد بمسلمِي جذيمة ذلك الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، وهو ابن عوف بن عوف، الذي عدت عليه جذيمة في الجاهلية وقتلته مع عم خالد الفاكه بن المغيرة، فقام عبد الرحمن بن عوف ينتهر خالدًا يقول له غاضبًا: «لقد عملت بأمر الجاهلية في الإسلام.» فأراد خالد أن يُشرِك الصحابي الأول في الجريمة الشنيعة، ويُلبِسه جميلًا غير جميل بقوله له: «إنما ثأر لأبيك.» لكن ليرد عليه عبد الرحمن بن عوف مُكذِّبًا مُحتجًّا فاضحًا:
كذبت؛
فلقد قتلت قاتل أبي،
لكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة.١٠
وأخذ المسلمون يتلاومون في أمر قتلى مسلمِي جذيمة المُستسلِمين لأمان الإسلام، حتى بلغ الأمر رسول الله بليغًا، فانتفض رافعًا يدَيه حتى رأى الناس ما تحت إبطَيه وهو يهتف بأعلى صوته أمام الكعبة، ليبلغ الجميع أن الإسلام ينبغي أن يكون وقاءً لأهله، مُردِّدًا من المرات ثلاث صارخات:
اللَّهم إني أبرأ إليك،
مما صنع خالد بن الوليد.١١
ثم أردف هتافه المُلتاع الغاضب الحزين بديات القتلى يُرسِلها إلى جذيمة حتى ترضى، وحتى ترى العرب ذلك واضحًا، لكن ابن كثير يلحظ الموقف بعين فاحصة واعية فيقول إنه رغم قتل خالد لعدد كبير من مسلمي جذيمة، وأنه «قتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضًا، فمع هذا لم يعزله رسول الله بل استمر به أميرًا … لهذا لم يعزله أبو بكر في خلافته حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة، وتأوَّل عليه ما تأوَّل حين ضرب عنقه واصطفى امرأته أم تميم، فقال له عمر بن الخطاب اعزله فإن في سيفه رهقًا. فقال له الصِّديق لا أغمد سيفًا سلَّه الله على المشركين.»١٢

وبالطبع — وفي المعنى المُضمَر — حتى لو ذبح حسب مزاجه وثاراته الكثير من المسلمين الأبرياء.

١  نفسه: ص٣١٤، ٣١٥.
٢  نفسه: ص٣١١.
٣  الطبري: تاريخ، سبق ذكره، ج٣، ص٦٧.
٤  ابن سيد الناس: عيون، سبق ذكره، ج٢، ص٢٣٩.
٥  ابن كثير: البداية، سبق ذكره، ج٤، ص٣١١.
٦  ابن هشام: السيرة في كتاب السهيلي، سبق ذكره، ج٤، ص١١١.
٧  ابن الأثير: الكامل، سبق ذكره، ج٢، ص٢٧٥.
٨  ابن سعد: الطبقات، سبق ذكره، مج٢، ج١، ص١٠٨.
٩  ابن كثير: البداية، سبق ذكره، ج٤، ص٣١٤.
١٠  نفسه: ص٣١٢.
١١  الطبري: تاريخ، سبق ذكره، ج٣، ص٦٧.
١٢  ابن كثير: البداية، سبق ذكره، ج٤، ص٣١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤