عام الوفود

والله، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله.

إربد بن مقيس
قال محمد بن إسحاق:

لما افتتح رسول الله مكة وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت؛ ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.

قال ابن هشام:

حدَّثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تُسمَّى سنة الوفود.

قال ابن إسحاق:

وإنما كانت العرب تربَّص بإسلامها أمر هذا الحي من قريش؛ لأن قريشًا كانوا إمام الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب لا يُنكِرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله وخلافه، فلما افتُتِحت مكة ودانت له قريش، ودوَّخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجًا، يضربون إليه من كل وجه.

يقول الله تعالى لنبيه :
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (سورة النصر).١
هكذا ارتأت كتب السير الإسلامية والأخبار الأسباب الواضحة لقدوم الوفود العربية من بلاقع الجزيرة وفيافيها لتُعلِن لسيد العرب خضوعها، وكان الإعلان عن إغلاق مكة دون المشركين، وتوجيه العسكرية العربية نحو الباب المفتوح شمالًا، مَدعاةً أخرى واضحة أوضحناها لقدوم تلك الوفود الكبرى. أما النبي بكرمه الذي يليق به، وعطاياه للوفود ما أفاء الله عليه، ومن خُمسه المُقرَّر وحيًا، فكانت عاملًا آخر ودافعًا غير منكور في كتبنا الإخبارية لقدوم الوفود تُعلِن انضمامها لدولة الإسلام. وبين كل وفد كان ينتقي رجلًا يتوسم فيه الشخصية القيادية والقادرة على فهم الأوضاع والمُتسِمة بالطاعة للسلطة النبوية، فيجعله أميرًا من قِبله على قومه. وللقرار بمنح الأعطيات وقطع الإقطاعات رواية أولى دفعت إلى سلوك ذلك الخط في تألُّف العربان، فيقول محمد بن إسحاق صاحب السيرة التأسيسية إن أول الوفود جاء بشموخ الأنف العربية وكان وفد القبيلة الكبرى تميم، وعلى رأسها عطارد بن حاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، والحتحات بن يزيد، أسماء جميعها ذات شرف ومنعة وسيادة في قومهم، وبصلف العربان دخلوا يثرب إلى مركزها الإداري مباشرة، إلى المسجد، فلم يجدوا سيد المدينة، فكان أن وقفوا يُنادون الرسول من وراء حجراته:

اخرج إلينا يا محمد.

لم يتحضر بعد الفكر ولا اللسان، ولا أدرك العربان أن خطابهم مع السيد يجب ألا يكون كخطابهم لبعضهم البعض، وهو ما جاء من بعد تنبيهًا للوفود وتقريعًا لأجلاف تميم في وحي يقول:

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الحجرات: ٤-٥).

لكن تميم ما كانت لتفهم لغة التمدين بسرعة، وظل غرورها الأجلف يركب حسها الغليظ، وأنفتها تمنعها من إعلان الطاعة بهدوء ومباشرة، إنما جاءت تُؤجِّل ذلك الإعلان ما أمكن، وتُعلِنه وهي عزيزة مُتعالِية في وهمها، ويتمثل ذلك في قول الوفد التميمي لسيد الخلق: «يا محمد، جئناك نُفاخِرك فأذنْ لشاعرنا وخطيبنا.»

لم تفهم تلك العقول مدى التحولات الكبرى، وأدرك النبي مغزى كل تلك المناورة؛ إنها لا تريد الخضوع دون إثبات عزتها، وتبسَّم سيد الخلق، فرد بهدوء الواثق المُطمئن: «لقد أذنت لخطيبكم فليقل.» ليقوم عطارد بن حاجب يُعدِّد مُمكِنات تميم وعظمها يقول:
الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟
فمن فاخرنا فليُعدِّد مثلما عدَّدنا، وإننا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكن نخشى من الإكثار فيما أعطانا وإنا نُعرَف بذلك.
أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا،
وأمر أفضل من أمرنا.
ويجلس عطارد يلبس أثواب التكبُّر الأنف، ويُصبِح المطلوب ردًّا مُناسِبًا يكسر ذلك الكبرياء ويُرغِم تلك الأنوف، فلا يرد عليه النبي بنفسه؛ حتى لا يُكسِبه قيمة لا تليق به، إنما يُشير إلى ثابت بن قيس بن الشماس الخزرجي، ويقول له: «قُم يا ثابت فأجِب الرجل.» ويقوم ثابت ليقول بهدوء هادر المعاني:
الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسَّع كرسيه علمه، ولم يكُ شيء قط إلا من فضله،
ثم كان من قدره أن جعلنا ملوكًا،
واصطفى من خيرته رسولًا،
أكرمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا،
فأنزل عليه كتابًا وائتمنه على خلقه،
فكان خيرة الله من العالمين،
ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه، وذوي رحمه أكرم الناس أحسابًا وأحسن وجوهًا وخير الناس فعالًا.
وينتقل ثابت بن الخزرج، أصحاب الحرب والحلقة إلى موجة أعلى في خطابه ليُردِف مُهدِّدًا مُنذِرًا مُتوعِّدًا:
ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله نحن!
فنحن أنصار الله ووزراء رسوله،
نُقاتِل الناس حتى يُؤمِنوا، فمن آمن بالله ورسوله مُنِع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات.
والسلام عليكم.٢
وتفهم تميم الرسالة، وتتهاوى العزة، لكن ليرأف بهم النبي الكريم فيقول ناقلًا الحديث إلى مستوًى آخر؛ تخفيفًا عنهم وتهدئة لروعهم: «اقبلوا البشرى يا بني تميم.» لكن ليرد الذين تفاخروا منذ قليل بمالهم وعددهم: «يا رسول الله، لقد بشَّرتنا، فأعطِنا.» وهكذا انتكس الرجال وارتكسوا عما قالوا، ووجدوا أنه إذا لم يكن من الطاعة بد، فليعودوا بمكاسب، ويستجيب الرسول، «فلما فرغ القوم أسلموا، وجوَّزهم رسول الله فأحسن جوائزهم.»٣
أما بنو عبد القيس فأرسلوا وفدًا عارفًا أقدار الناس، ومن أعلى من النبي قدرًا؟ لذلك ما إن هبطوا عن ركائبهم حتى هرعوا يتسابقون إلى الرسول ليأخذوا بيده يُقبِّلوها، فاستحقوا أن يصفهم النبي بقوله: «هم خير أهل المشرق.»٤
وتتوالى الوفود، ويقدم وفد أسد للمدينة ويقف حضرمي بن عامر رأس الوفد ليقول للنبي:
أتيناك نتدرع الليل البهيم،
في سنة شهباء،
ولم تبعث إلينا بعثًا.

يريد أن يقول إنهم أتوه طوعًا لا كرهًا، لترد عليهم الآيات يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا (الحجرات: ١٧).

ثم وفد عبس، ووفد فزارة، ووفد مرة «فأجازهم بعشر أواقٍ، عشر أواقٍ فضة»، ثم وفد ثعلبة وقد أجاز كل منهم بخمس أواقٍ فضة ثم وفد محارب فأجازهم بدورهم بالعطايا، ثم وفد كلب، ووفد عقيل بن كعب الذين أقطعهم النبي أرض عقيق بني عقيل وفيها عيون ونخل وكتب لهم بذلك كتبًا في أديم أحمر، ثم وفد جعدة، وأقطعهم الرسول ضيعة بالفلج وكتب لهم بذلك كتابًا، ثم وفد قشير بن كعب «فأقطعه الرسول قطيعة وكتب له كتابًا»، ثم وفد بني البكاء وقد أجازهم بدورهم فأحسن جوائزهم، ثم وفد كنانة ووفد أشجع ووفد باهلة ووفد هلال بن عامر، وربيعة عبد القيس وتغلب، وكانت تغلب نصارى جاءوا النبي يلبسون صلبان الذهب، فصالحوه، على أن يُقِرهم على دينهم فأقرهم، وأعطى المسلمين منهم عطايا.٥ أما وفد عامر بن صعصعة فقد جاء على رأسه عامر بن الطفيل وإربد بن مقيس. وعامر من القبائل الكبرى الشامخة، وما إن وقف عامر بن الطفيل أمام الرسول حتى دخل في المفاوضة مباشرة وبسرعة قائلًا: «يا محمد، ما لي إن أسلمت؟» فقال: «لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين.» قال: «أتجعل لي الأمر من بعدك؟» قال: «ليس ذاك ولا لقومك.» قال: «أفتعجل لي الوبر ولك المدر؟» قال: «لا، ولكني أجعل لك أعنة الخيل، فإنك امرؤ فارس.» وهو من رد على العربان الذين دعوه للإسلام:
والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأتبع أنا عقب هذا الفتى من قريش؟٦
فيغضب عامر بن الطفيل، ويُخرِجه الغضب عن جادة الصواب، فيهدر صارخًا:
أوليست لي (أي الخيل)؟
إذن،
لأملأنها عليكم خيلًا ورجالًا.٧
وخرج مع رفيقه إربد ليتبعهم النبي بدعوته: «اللهم اكفنيهما.» وتحكي كتب السير أن الدعوة لحقتهم فمات عامر في الطريق، أما إربد فوصل قومه، فاستقبلوه يسألونه عما عند محمد وما انتهت إليه المحادثات، ليرد عليهم:
والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله. فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل ليبيعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.٨

وتتتابع الوفود فتأتي شيبان وطي ونجيب وخولان وجعفي وصداء ومراد وزبيد وكندة والصدف وخشين وسعد هزيم وبلى وبهراء وعذرة وسلامان وجهينة وجرم والأزد والحارث بن كعب وحمدان وسعد العشيرة وعبس والداربين والرهاويين وغامد والنخع وبجيلة وخثعم وحضرموت وأزد عمان وغافق ويارق ودوس وثمالة والحدان وأسلم وجذام ومهرة وحمير ونجران وجيشان والسباع.

وهكذا استتمت جزيرة الجزيرة جميعًا وأوعبت طاعتها أمام النبي الكريم، تُؤكِّد أن التاريخ على وشك استكمال حلقته الانتقالية الكبرى؛ أن الوحدة العربية للجزيرة قد صارت واقعًا وحقيقة، وأن الدولة المركزية قد تسنَّمت أمر العرب وحشدتهم على أيديولوجية واحدة مُوحَّدة.

لكن لم يمر عام الوفود دون مُكدِّرات عكَّرت صفوه ونصره؛ فبين تلك الوفود جاء ذلك الوفد الغريب الشأن العجيب الأمر، وفد بني حنيفة من أهل اليمامة، وبين رجالهم رجل يبدو له شأن اسمه مسيلمة بن ثمامة، نزلوا دار بنت الحارث من الخزرج، واستلفت النظر وأوجست منه المدينة، وهم يرون وفده يُحيط به، يسترونه بالبُرد والثياب، وهو يسير إلى المسجد، ليقف أمام النبي وبيد النبي قضيب من عسيب النخل، ليقول للنبي رسالة برقية مُوجَزة:
إن شئت،
خلَّيت بينك وبين الأمر،
ثم جعلته لنا بعدك.
لكن ليرد سيد الخلق هادئًا مُستصغِرًا شأن ذلك المُتكبِّر الكبير في قومه: «لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه.»٩ فينصرف مسيلمة مع قومه، لتعلم المدينة أن الرجل كان في قومه نبيًّا، وأنه أعلن فيهم نبوته، وهذا سر سيرهم به متحوفًا بالاحترام مستورًا بالثياب، وإنه ما جاء يُعلِن ولاءً بل جاء يتفاوض على تقسيم الأمر دُولًا بين محمد وبينه، حيث أعلن في أهله من حنيفة اليمامة أنه قد أُشرِك مع محمد في النبوة والحكم (الأمر)، وأخذ يُرسِل لهم آيات مسجوعة يزعمها وحيًا، وشهد للنبي بالرسالة، لكنه أراد منه شهادة مماثلة، وقد وقفت وراءه حنيفة جميعًا، وأرسل بعد عودته بلاده للنبي الصادق رسالة تقول:
من مسيلمة رسول الله،
إلى محمد رسول الله،
سلام عليك. أما بعد،
فإني قد أُشرِكت في الأمر معك،
فإن لنا نصف الأرض،
ولقريش نصف الأرض،
ولكن قريشًا قوم يعتدون.
وتصل الرسالة الآبقة بإفكها إلى رسول الله الأمين، فيرد عليه من فوره ببرقية مُوجَزة صارمة المعاني هادئة الكلم تقول:
بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله،
إلى مسيلمة الكذاب (!)،
السلام على من اتبع الهدى (!).
أما بعد،
فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده،
والعاقبة للمتقين.١٠

وتسلم بلاد العرب وتدخل في طاعة الدولة الواحدة، ويرغب بعضها الآخر من الكتابيِّين في البقاء على دينهم على أن يخضعوا للدولة ويدفعوا الجزية، فيقبل النبي ذلك منهم، لتظل حنيفة وبلاد اليمامة وسط ذلك المحيط العربي المُتوحِّد ترفض الانضواء، بل ويتضخم أمرها تحت زعامة سيدها المُتنبِّئ مسيلمة الكذاب.

كانت سنة الوفود هي السنة التاسعة للهجرة، وكانت سنة قحط شديد، وهو دافع يُضاف إلى مجموع الدوافع التي حثَّت الوفود تدفعها دفعًا إلى يثرب، تطمع في حكمة قيادة يثرب إزاء الأزمة القاحطة النازلة بهم، لكن ذلك الظرف ذاته كان بدوره وراء الحركات الانشقاقية التي نشطت في ذات العام، يُمثِّلها مسيلمة في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن.

وقد وضح أن مسيلمة بن حبيب كان يطمح إلى مشروع اتحادي وليس وحدويًّا، فهو يطلب مشاركة حنيفة في أمر السيطرة على قبائل العرب، فلم يُدرِك مسيلمة أنه يسير عكس اتجاه السير الصحيح لخط التاريخ نحو توحُّد الجزيرة جميعًا، كلا ولا فهم كيف يمكن أن تتوارى القبيلة داخل إطار الدولة؛ ومن هنا قام يطرح رؤية إقليمية ضيقة محدودة، مُعبِّرة عن موقف قبلي يُعاكِس الحتمية وضرورتها، ومُفصِحة عن موقف قبلي إقليمي تجزيئي يريد أن يقلب وجهة التاريخ إلى القديم، وهنا بالتحديد كان مقتل الحركة جميعًا بعد ذلك.

أما اليمن التي كانت تُعاني بشدة من التسلط الفارسي على مُقدَّراتها، فقد كانت إبان تطوُّر أطوار الدعوة الإسلامية في وادٍ آخر؛ كانت تخوض ثورة كبرى ضد باذان الفرس، ويظهر بين الثوار ضد الفرس ذلك الفارس الأسطوري «الأسود العنسي» الذي قاد تحالفات قبائل اليمن ليكتسح بهم نفوذ الفرس، ويتمكن من تصفية بيت باذان ودخول صنعاء والاستيلاء على اليمن، بل وطرد الفرس من اليمن وتطهيرها من العسكر الكسروي. وفي تلك اللحظة الحاسمة وصلت رسل النبي إلى اليمن مع عُماله عليها، لكن الثوار يتمسكون بإقليمية اليمن باعتبارها دولة قديمة عريقة، ذات تاريخ مستقل إقليمي له خصوصية، ليقول عبهلة بن كعب الذي لُقِّب بالأسود العنسي لوفود يثرب وعُمال الرسول المنوبين من قِبله:
أيها المُتورِّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفِّروا ما جمعتم فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه.١١
وقام عبهلة يدفع المأزق الإقليمي نحو مزيد من التعميق والجفاء، ليعود باليمن إلى عبادة الرحمن القديمة، رب السماء١٢ العريق في حضارات الجنوب الحضرمي القحطاني، رافعًا إياها كأيديولوجيا وطنية خالصة من فرز مجتمع اليمن وتاريخه، مُعارِضًا بها «الله» رب الشمال العدناني.

أما النبي فقد وقف من تلك الحركات موقفًا مُتأنِّيًا يعتمد الصبر الهادئ؛ فاليمن قبائل كبرى عسكرية مُنظَّمة، كذلك اليمامة لم يكن أمرها بأقل شأنًا، والإسلام بحاجة إلى قواته ورجاله من أجل الهدف الأعظم، من أجل ميراث الأنبياء السوالف في امتداد بوادي الجزيرة نحو الشمال؛ ومن هنا نفهم السر وراء استخدامه سياسة الإلهاء بالمراسلات مع تلك الزعامات القوية، لإطالة زمن حالة اللاحسم؛ ليتيح لعُماله هناك فرصة الانقضاض من الداخل على تلك الزعامات مع من تابعهم من مسلمي تلك المناطق، وطال أمر تلك السياسة، ولم يتم القضاء على تلك الانشقاقات إلا بعد وفاة الرسول ولحوقه بالرفيق الأعلى، بعد أن أدَّى حجة الوداع، وترك الناس على الواضحة غير المُلتبِسة.

وفي تلك الحجة بدرت من النبي أقوال إلى شعوره بدنو أجله، «عن أبي الزبير عن جابر: أن رسول الله وقف عند جمرة العقبة وقال لنا: خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا»،١٣ ثم ما كان من آيات تحمل روح الختام، من قبيل إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (سورة النصر).

الأيام الأخيرة للرسول العظيم

عن ابن طاووس عن أبيه أن الرسول قال:
نُصِرت بالرعب، وأُعطِيت الخزائن وخُيِّرت بين أن أبقى حتى أرى ما يُفتَح على أمتي، وبين التعجيل،
فاخترت التعجيل.١٤
كان الشعور بدنو الأجل يتصاعد ويعلو، والرسول الكريم تزيد به أوجاعه، لكن سيد الخلق يُقاوِم الأوجاع، ويستمر في سياسة الدولة، وفي صفر بعد حجة الوداع بشهرَين، يُؤذِّن في الناس بغزو القياصرة في بلاد الشام، ويُؤمِّر على الناس أسامة بن زيد بن حارثة، ويأمر جميع المهاجرين الأوائل بأن يُوعِبوا مع أسامة باتجاه فلسطين، بما فيهم وزيراه أبو بكر وعمر، ويتجهز الناس صدعًا بأمر رسولهم ونبيهم وقائدهم، لكن ليقف التاريخ في مَواقفه الناقلة المُحوِّلة، لتُرهِف السمع إلى الصحابة يُسجِّلون في مسامع الرواة، أنه في أول شهر ربيع الأول يطلب النبي عبده أبا مويهبة؛ ليتحامل عليه ويأمره باصطحابه إلى مقابر أصحابه، الذين ماتوا في حروب إنشاء الدولة، ويذهب معه إلى البقيع مُتحامِلًا على نفسه؛ ليقف وسط المقابر يقول للموتى:
السلام عليكم يا أهل المقابر.
ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المُظلِم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى (؟!).
ويلتفت إلى أبي مويهبة يقول له:

إني قد أُوتِيت خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخُيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة.

ليُقاطِعه عبده المُخلِص:

بأبي أنت وأمي فخُذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلافة.

لكن ليرد عليه المصطفى، لهفي عليه:
لا والله يا أبا مويهبة،
لقد اخترت لقاء ربي والجنة.
ثم يروي أبو مويهبة أنه وقف يستغفر لأهل المقابر، ثم عاد أدراجه ليبتدئ وجعه يظهر عليه ويلحظه الناس.١٥
وهنا نُنصِت إلى أم المؤمنين الحميراء سيدة النساء عائشة بنت أبي بكر تقول:
رجع رسول الله من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه. فقال: بل أنا والله يا عائشة، وارأساه. قالت: ثم قال: ما ضرَّكِ لو متِّ قبلي، فقمت عليكِ وكفَّنتك وصلَّيت عليك ودفنتك؟! قالت: قلت: والله لَكأني بك لو فعلتَ ذلك، لرجعتَ إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسَّم رسول الله وتتامَّ به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن في أن يُمرَّض في بيتي، فأذِنَّ له … فخرج رسول الله يمشي بين رجلَين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر (تُؤكِّد الروايات أن ذلك الرجل الذي أغفلت عائشة اسمه كان علي بن أبي طالب)، عاصبًا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتي.١٦
ورغم اشتداد الوجع، فقد لحظ سيد الخلق أن الناس يتلكَّئون في طاعة أوامره، في بعثة أسامة على رأس الجيش إلى الروم، فخرج من بيت عائشة إلى المسجد عاصبًا رأسه، وصعد حتى جلس على المنبر ثم قال:

إن عبدًا من عباد الله خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.

وفهم أبو بكر المقصود فنشج بالبكاء يقول: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فيُسكِته الرسول، ثم يقول مُناديًا:

أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لَخليق للإمارة، كما كان أبوه خليقًا بها.

وعاد إلى بيت عائشة، وخرج أسامة بالجيش حتى نزل بالجرف على بعد فرسخ واحد من المدينة، فضرب هناك عسكره، ليبلُغهم أن الوجع قد اشتد بنبيهم، فتوقَّفوا هناك ينتظرون ما يُسفِر عنه الأمر.١٧

وهنا ننقل، فقط مُجرَّد نقل دون أي انحياز، من الشيخ شرف الدين الموسوي رؤيته لما يحدث في تلك الساعات الفاصلة من الزمان، فيقول بشأن أبي بكر وعمر وسائر القوم: «وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السير أولًا، وتخلَّفوا عن الجيش أخيرًا؛ ليُحكِموا قواعد ساستهم، ويُقيموا عمدها ترجيحًا منهم لذلك على التعبد بالنص، حيث رأوه أولى بالمحافظة وأحق بالرعاية؛ إذ لا يفوت البعث بتثاقلهم عن السير، ولا بتخلُّف من تخلَّف منهم عن الجيش. أما الخلافة فإنها تنصرف عنهم لا محالة إذا انصرفوا إلى الغزوة قبل وفاته وكان — بأبي وأمي — أراد أن تخلو منهم العاصمة، فيصفوا الأمر من بعده لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب على سكن وطمأنينة، فإذا رجعوا وقد أُبرِم عهد الخلافة وأُحكِم لعليٍّ عقدها، كانوا عن المُنازَعة والخلاف أبعد. وإنما أمَّر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة ليًّا لأعنة البعض، وردًّا لجماح أهل الجماح منهم، واحتياطًا من الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس لو أمَّر أحدهم كما لا يخفى، لكنهم فطنوا إلى ما دبَّر فطعنوا في تأمير أسامة، وتثاقلوا عن السير معه فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبي بربه، فهمُّوا حينئذٍ بإلغاء البعث وحل اللواء تارة، وبعزل أسامة تارة أخرى، ثم تخلَّف منهم عن الجيش وفي أولهم أبو بكر وعمر.»

ويحكي لنا ذلك الشيخ ما حدث والرسول بين الحياة والموت، عن عبد الله بن عبد الرحمن: «فتثاقَل أسامة وتثاقَل الجيش بتثاقُله، وجعل رسول الله في مرضه يثقل ويخف، ويُؤكِّد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتى قال له أسامة: بأبي أنت وأمي؛ أتأذن لي أن أمكث أيامًا حتى يشفيك الله تعالى. فقال: اخرج وسر على بركة الله. فقال: يا رسول الله، إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال، خرجت وفي قلبي قرحة. فقال: سر على النصر والعافية. فقال: يا رسول الله، إني أكره أن أُسائِل عنك الركبان. فقال: نفِّذ ما أمرتك به. ثم أُغمي على رسول الله وقام أسامة فتجهَّز للخروج. فلما أفاق رسول الله سأل عن أسامة والبعث، فأُخبِر أنهم يتجهزون، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، لعن الله من تخلَّف عنه. وكرَّر ذلك، فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يدَيه، حتى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين، ومن الأنصار أسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه، فجاءه رسول أم أيمن يقول له: ادخل فإن رسول الله يموت. فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه، فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله ورسول الله قد مات في تلك الساعة.»١٨
ويستمر الشيخ شرف الدين في قراءته لتلك السويعات الفاصلة في تاريخ الدنيا، ليرى أن استبعاد أبي بكر وعمر لم يُفلِح، وعادا للمدينة والرسول في النزع الأخير ومعه علي بن أبي طالب، ليُورِد لنا ما أخرجه البخاري بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن ابن عباس قال:

لما حُضِر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي: هلمَّ أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا؛ منهم من يقول قرِّبوا يكتب لكم النبي كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم قوموا. — قال عبد الله بن مسعود — فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

لكن الشيخ يُؤكِّد أن أصحاب السنن والأخبار، قد تصرَّفوا في قول عمر «إن النبي قد غلب عليه الوجع» فنقلوه بالمعنى؛ لأن لفظه الثابت: «إن النبي يُهجِر.» لكنهم هيَّئوا العبارة اتقاءً لفظاعتها في حق سول الله.١٩

وبعد …

فقد حاولنا السعي وراء أعتاب سيد الخلق المصطفى وسيرته كما أخبرنا بها الواقع المُدوَّن في مصادره الموثوقة، نصطفي أهم الأحداث المتعلقة بحروب دولته التي أنشأها وأقامها لعرب الجزيرة، ليتغير بها وجه العالم، وتتسق وجهة التاريخ مع خط سيرها المنطقي. وجعلنا مادة الوثائق مادة للعلم بقواعده الصارمة دون تدخُّل عاطفي أو وجداني، بغرض القراءة الأقرب إلى واقع الأحداث، ولا نزعم أننا فعلنا سوى المحاولة القابلة للصواب لنحوز الأجرَين، والقابلة أيضًا للسقوط في خطأ الإنسان بكل ما له وما عليه، وهو الخطأ الذي سنحوز به على ثواب الأجر الواحد، لكن الذي لا مُشاحَّة فيه أنه لا يصح أبدًا أن نضع ذلك العبد الإنسان العظيم المصطفى ضمن عظماء العالم، كما يفعل البعض، فأين هؤلاء من ذلك الإنسان المُتميِّز على العالمين، ولا جدال أنه بعد ما سردناه وقرأناه في عملنا هذا يجب أن نُخفِّف من غلوائنا، ونتحفظ قليلًا في إطلاق الصفات على قادة ورجال لم يصلوا أبدًا إلى قامة ذلك السيد الرائع، الذي توافقت خطواته مع خطوات التاريخ، واتسقت رائعته العظمى عبر سيرها التطوري الهادئ لإقامة الدولة وتأسيس أيديولوجيتها، مع السنن الكونية، فكان عكس كل السابقين الذين حُكِي لنا عن كسرهم لقواعد الكون ونواميسه بالمُعجِزات والمُلغِزات، ليُثبِتوا نبوتهم. لقد اتسق نبي الإسلام مع كل السنن الكونية دون خلل؛ فكان مُؤسِّسًا للعقل في النبوة وللنبوة في العقل، وخاتمًا للنبوات، وبادئًا لدور الإنسان على الأرض، وصانعًا لكرامة عربية جديدة.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فداك أولادي وأموالي ونفسي. صلَّى الله عليك وسلَّم، وعليك صلاتي وسلامي، وتسليمي، ولك ولرب العالمين إسلامي.

١  ابن كثير: البداية، سبق ذكره، ج٥، ص٣٧.
٢  نفسه: ص٣٨، ٣٩.
٣  نفسه: ص٣٥، ٤١.
٤  نفسه: ص٤٤.
٥  ابن سعد: الطبقات، سبق ذكره، مج١، ج٢، من ص٤٠–٥٦.
٦  ابن كثير: البداية، سبق ذكره، ج٥، ص٥١، ٥٢.
٧  ابن سعد: الطبقات، سبق ذكره، مج١، ج٢، ص٥١.
٨  ابن كثير: البداية، سبق ذكره، ج٥، ص٥٣.
٩  نفسه: ص٤٦.
١٠  نفسه: ص٤٧.
١١  ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، مكتبة المثنى، بغداد، د.ت، ص١٢٦.
١٢  ارجع في ذلك إلى كتابنا الحزب الهاشمي، سبق ذكره.
١٣  ابن كثير: البداية، سبق ذكره، ج٥، ص١٨٩.
١٤  نفسه: ص١٩٧.
١٥  ابن هشام: في الروض، سبق ذكره، ج٤، ص٢٤٦، ٢٤٧.
١٦  نفسه: ص٢٤٦، ٢٥٩.
١٧  نفسه: ص٢٦٠.
١٨  عبد الحسين شرف الدين الموسوي: النص والاجتهاد، مؤسسة الأعلمي، كربلاء، ١٩٦١، ص٩٠، ٩٣.
١٩  نفسه: ص١٥٥، ١٥٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤