الفصل الخامس

هولندة وبلجيكا: الكفاح القومي والدستوري في الأراضي المنخفضة

تمهيد

كان إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة التي ضمت بلجيكا وأسقفية لييج إلى هولندة، من صنع مؤتمر فينا كإحدى الدعامات التي قرَّر السياسيون في هذا المؤتمر أن يقوم عليها التوازن الأوروبي، وذلك بإنشاء دولة حاجزة على حدود فرنسا الشمالية الشرقية، تستطيع المحافظة على استقلالها بمواردها وإمكانياتها الخاصة بها، يكون في قدرتها — لذلك — الصمود في وجه أي اعتداء جديد من جانب فرنسا؛ حتى تأتي جيوش الدول الكبيرة لنجدتها، ولدفع الاعتداء الفرنسي عن أوروبا الشمالية الغربية.

ولكن إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة، لم يلبث أن صار مبعث اضطراب في هذه المنطقة ذاتها التي حرصت الدول على تقويتها، وذلك عندما أراد البلجيكيون الانفصال عن هولندة والظفر باستقلالهم، فقاموا بالثورة (١٨٣٠)، وصارت المسألة الهولندية البلجيكية في عداد المسائل التي شُغل بها السياسيون في الفترة التي خضعت فيها أوروبا «لنظام مترنخ» الرجعي، ولقد كان من أجل الوصول إلى حل لهذه المسألة أن وُضع «الاتحاد الأوروبي» موضع الاختبار مرة أخرى، وعلى غرار ما حصل في أزمتي اليونان ومصر، ولقد تقدَّم كيف نالت اليونان استقلالها، وحصلت الباشوية المصرية على الحكم الذاتي الوراثي في نطاق الإمبراطورية العثمانية؛ وبسبب التدخل الأوروبي، بالرغم من أن موضوع الإمبراطورية العثمانية لم يكن في عداد المسائل التي بُحثت في مؤتمر فينا، وترتب على نجاح الاتحاد الأوروبي في معالجة المسألتين اليونانية والمصرية العثمانية، نقض إحدى القواعد التي كان قد استرشد بها المؤتمرون في فينا وهي قاعدة «الشيوعية»، وهذا إلى جانب هدم المبدأ الإقليمي الذي انبنت عليه تسوية فينا، وهو بقاء الوضع الراهن على الحالة التي أوجدته بها التسوية الإقليمية، ومع ذلك فقد كان من نتائج الثورات التي حصلت في فرنسا في يوليو ١٨٣٠ وفي فبراير ١٨٤٨، والتي انتشرت في أوروبا في هذه الحقبة، نقض قاعدة «الشيوعية»، وهدم مبدأ الوضع الراهن الإقليمي، ولو أن هذا قد حدث في حالات معينة ومحدودة، منها طرد البربون والأورليان من الحكم في فرنسا، ثم فصل بلجيكا من هولندة، وهو تغيير إقليمي طرأ على التسوية الإقليمية التي وُضعت في فينا، وينطوي على معارضة صريحة «لنظام مترنخ» من حيث الاعتراف فيما نالته بلجيكا من استقلال، بنجاح المذهب القومي، وفي هذه المرحلة المبكرة من مراحل النضال بين القومية والمذهب الحر، وبين قوات الرجعية في أوروبا.

مملكة الأراضي المنخفضة

أما الأراضي المنخفضة (وتشمل هولندة وبلجيكا) فكانت من أملاك أسرة برغنديا التي آلت بحكم الوراثة في القرن السادس عشر إلى إسبانيا، ثم قام الهولنديون بثورتهم المعروفة على الحكم الإسباني، وظفروا باستقلالهم الذي لم يتم الاعتراف به رسميًّا إلا بعد سنوات عديدة من الكفاح المتصل، وذلك في صلح وستفاليا (١٦٤٨)، ولقد بقيت بلجيكا، وهي القسم الجنوبي من الأراضي المنخفضة في حوزة إسبانيا، إلى أن انتقلت ملكيتها إلى النمسا في صلح يوترخت (١٧١٤) التي أنهت حروب الوراثة الإسبانية، ولقد عُرف هذا القسم الجنوبي من ذلك الحين باسم الأراضي المنخفضة النمسوية Austrian Netherlands، ثم بقيت هذه من أملاك النمسا حتى إذا قامت حروب الثورة «الفرنسية» ونابليون، دخلت الأراضي المنخفضة بأكملها (هولندة وبلجيكا) في حوزة فرنسا، سواء بإدماج القسم الجنوبي (بلجيكا)، أو بإنشاء الجمهورية البتافية أو المملكة الهولندية في نطاق الإمبراطورية النابوليونية وتحت سلطات فرنسا.
وكان بعد شهر واحد من هزيمة الإمبراطور نابليون في واقعة ليبزيج، أن قامت الثورة في هولندة ضد الفرنسيين في أمستردام، ولاهاي في نوفمبر ١٨١٣، وأعلنت هولندة استقلالها في لاهاي في ٢١ نوفمبر، وتألَّفت حكومة مؤقتة باسم أمير أورانج Orange الذي عاش في المنفى مدة الثماني عشرة سنة الماضية، والذي جاء إلى البلاد الآن (٣٠ نوفمبر) ليتسلم أَزِمَّة الحكم رسميًّا في أمستردام في اليوم التالي باسم وليم الأول، وبادر من فوره بتشكيل لجنة لوضع القانون الأساسي Fundamental Law للدولة الجديدة، وقد دُعيت للاجتماع في أمستردام هيئة من الأعيان لبحث هذا القانون بعد إنجازه، فوافقت عليه هذه الهيئة بأكثرية كبيرة يوم ٢٨ مارس ١٨١٤.
ويتألَّف هذا القانون الأساسي من ١٤٦ مادة اشتملت على تقرير نظام الحكم الوراثي، وتخويل الْمَلِك السلطة التنفيذية، والقسط الأوفر من السلطة التشريعية إلى جانب الإشراف العام على المالية، وإدارة البحرية والجيش، وحق إعلان الحرب، وإبرام الصلح، بينما انتقلت إليه كذلك كل حقوق السيادة التي كانت تمارسها الولايات ومجالس البلديات، فلم تعد تمارس هذه غير شئون الإدارة المحلية وحسب، وتلك التي تمتع بها رئيس الدولة (أو الْمَلِك) كانت سلطات واسعة، جعلت الحكم بمقتضى هذا القانون الأساسي حكمًا أوتوقراطيًّا، لم تُجْدِ فيه شيئًا كثيرًا الضمانات التي أُعطيت بمقتضى هذا القانون لحريات أو حقوق الشعب، فقد أُنشئت مجالس تمثيلية أو نيابية States للولايات، تنتخب بدورها أعضاء عددهم خمسة وخمسين، لمجلس نيابي أو تمثيلي عام States General ومدة نيابتهم ثلاث سنوات.

وكان لهذا المجلس مثلما كان «لِلْمَلِك» حق اقتراح القوانين، وحق الاعتراض عليها، كما كان من حقه أن تعرض عليه الحكومة سنويًّا أبواب النفقات الاستثنائية، ومع ذلك فلم تكن هناك مسئولية وزارية، ولم يقرر القانون الأساسي حرية الصحافة، ولم ينص على نظام المحلفين، بالرغم من جعل القضاء مستقلًّا، وفيما عدا ذلك نصَّ القانون على ضمان المساواة لكل المذاهب (أو العقائد) الدينية.

ووافق الحلفاء على إنشاء هذه الدولة الجديدة التي أوحى إليهم إنشاؤها في الوقت نفسه، أن من الأفضل، لوقف أطماع الفرنسيين من الامتداد إلى هذا الجزء من أوروبا الشمالية الغربية، تأسيس دولة تكون أكبر حجمًا من هذه الدولة الهولندية، وذلك بضم الأراضي المنخفضة جميعها؛ هولندة وبلجيكا، وتوحيدها في دولة واحدة قوية، وكان كاسلريه أول مَنْ عالج هذه الفكرة في اجتماع شومونت (فبراير ١٨١٤)، حتى إذا أبرمت معاهدة باريس الأولى في ٣٠ مايو ١٨١٤، خرجت هذه الفكرة إلى حيز الوجود عمليًّا، في صورة المادة السادسة من هذه المعاهدة، التي نصَّت على أن هولندة الموضوعة تحت حكم أسرة أورانج وسلطانها، سوف تنال «زيادة إقليمية» تضاف إلى أراضيها. وأما الغرض من هذه الزيادة الإقليمية، فقد أوضحه الحلفاء في مادة سرية أُلحقت بالمعاهدة، كما تحددت في هذه المادة السرية المنطقة التي سوف تشمل هذه «الزيادة الإقليمية». فجاء بها ما نصه:

إن تأسيس توازن صحيح للقوى في أوروبا، الأمر الذي يتطلب أن يتم إنشاء هولندة وتكوينها بصورة تجعلها في مركز تستطيع به المحافظة على استقلالها بمواردها الخاصة بها، يقتضي أن تضم إلى هولندة وتتحد بها اتحادًا أبديًّا، الأقاليم المحصورة بين البحر «الشمالي»، وحدود فرنسا كما ترسمها المعاهدة الحالية، ونهر الموز.

وبذلك يكون قد تقرَّر ضم بلجيكا إلى هولندة على أساس أن هذا الضم مجرد «زيادة إقليمية» وحسب، ودون أن يقيم الحلفاء وزنًا لأية اعتبارات أخرى متصلة برغبات البلجيكيين أنفسهم، أو متفقة مع مصالحهم، وذلك كان إجراء أقل ما يوصف به أنه يخلو من الحكمة السياسية، ومن المنتظر أن يكون مبعث تذمر من جانب البلجيكيين، لا داعي له.

وكانت الخطوة التالية في إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة، أن حضر ممثلو الحلفاء وممثلو أمير أورانج (في مؤتمر لندن) ليضعوا في ٢٠ يونيو ١٨١٤ بروتوكول المواد الثماني Protocol of Eight Articles الذي عرضه الحلفاء على الأمير، ووافق هذا عليه في ٢١ يوليو بوصفه الأمير المتمتع بحقوق السيادة العليا، ولم يُذع شيء من هذا البروتوكول إلا بعد مضي عام من وضعه.
وأهمية هذا البرتوكول أنه يُبَيِّن الشروط التي يتحقق بها الاتحاد بين أقاليم الأراضي المنخفضة الشمالية (هولندة) والجنوبية (بلجيكا). فجاء في المادة الأولى؛ أن الاتحاد بين هولندة وبلجيكا سوف يكون كاملًا ووثيقًا، حتى تتألَّف من البلدين دولة واحدة، يكون الحكم فيها وفق القانون الأساسي الجاري العمل به الآن في هولندة، على أن يصير تعديل هذا القانون بناءً على رغبة البلدين المشتركة، وحسب الظروف التي تنشأ. وقالت المادة الثانية: إنه لن يحدث مع ذلك أي تغيير في مواد القانون الأساسي التي تكفل حماية العقائد الدينية وما لها من حقوق ومزايا حماية متساوية، ثم تلك التي تضمن حق كل المواطنين، مهما كانت عقائدهم الدينية، في الالتحاق بالوظائف العامة، وفي تكريم الدولة لهم. وفي المادة الثالثة تقرَّر أن يكون للولايات البلجيكية حق التمثيل بطريقة مناسبة في المجلس النيابي Stales General الذي سوف يعقد جلساته في أوقات السلام بالتناوب مرة في مدينة هولندية، وأخرى في مدينة بلجيكية وهكذا. وجاء في المادة الرابعة أنه لما كان سكان الأراضي المنخفضة جميعهم يتمتعون بحقوق دستورية متساوية، يتعين أن يكون لهم جميعًا حقوق متساوية في التجارة وغير ذلك من الحقوق التي تجيزها لهم ظروفهم، دون أن تثار العقبات والعوائق في طريق أحد ليفيد من ذلك آخرون. وفي المادة الخامسة أعطيت الولايات (المقاطعات) والمدن البلجيكية حق التجارة والملاحة في المستعمرات الهولندية. ثم نَصَّت المادة السادسة على أن الديون التي كانت اقترضتها الولايات الهولندية من جانب، والولايات البلجيكية من جانب آخر، تقوم الخزانة العامة «لمملكة» الأراضي المنخفضة بتحملها وتأديتها، وذكرت المادة السابعة أن على الخزانة العامة للدولة الجديدة أن تتولى النفقات اللازمة لبناء الحصون في الحدود وصيانتها؛ حيث إن ذلك متعلق بأمن الولايات وسلامة الأمة جميعها، والمحافظة على استقلال الدولة. وفي المادة الثامنة وقع واجب الاتفاق على إنشاء السدود وصيانتها على عاتق الجهات التي يهمها الأمر مباشرةً، ما عدا الحالات التي تحدث منها كارثة استثنائية.
وهذه المواد الثمان كان يصحبها برتوكول بتاريخ ٢١ يونيو (١٨١٤) أوضح فيه الحلفاء غرضهم من اتخاذ هذا الإجراء، فقالوا: إنهم قد أخذوا فيما فعلوه بعين الاعتبار مصالح كل من هولندة وبلجيكا، وذلك حتى يستطيعوا إدماج هذين الإقليمين في بعضهما بعضًا إدماجًا Amalgame على أعظم درجة من الكمال، وأنهم في تقرير مصير بلجيكا إنما استندوا فيما قرَّ رأيهم عليه إلى حق الفتح الذي لهم. ثم طلبوا من أمير أورانج أن يصدق رسميًّا على هذا الاتحاد (أو الإدماج)، وأن يُعَيِّن حاكمًا عامًّا (حكمدارًا) لحكومة البلجيك بصورة مؤقتة، وأن يتخذ في روح متحررة ومسالمة، الخطوات القمينة بإخراج هذا «الاندماج» المنشود إلى حيز الوجود.

وهكذا تقرَّر مصير بلجيكا — بإدماجها في هولندة — على أساس أن الولايات البلجيكية بلدان افتتحها الحلفاء بعد أن هزمت جيوشهم الفرنسيين وطردتهم منها، وساعد على تصرف الدول الكبرى في مستقبل البلجيكيين تصرف الفاتحين، أن النمسا لم تكن تريد استرجاع أملاك بعيدة، ومعرضة على الدوام للغزو الأجنبي، ومن ناحية فرنسا خصوصًا؛ في حين أنها كانت تبغي «تعويضًا» في أماكن أخرى سوف يساعدها على الظفر به الموافقة على أي حل تريده الدول، وأن بريطانيا كانت تعمل في وفاق تام مع هولندة وأميرها وليم أورانج، فأرجعت إليها بعض مستعمراتها التي كانت استولت عليها، واستبقت في حوزتها البعض الآخر، وكان البعض الذي استبقته بريطانيا على جانب كبير من الأهمية؛ ومن ذلك مستعمرة رأس الرجاء الصالح، ومستعمرات هولندة في أمريكا الجنوبية في جويانا وغيرها، (معاهدة لندن في ١٣ أغسطس ١٨١٤)، وكان تنازل هولندة عن هذه المستعمرات الثمن الذي نالته بريطانيا مقابل جهودها في مسألة «إدماج» بلجيكا في هولندة.

وبعد موافقته على «المواد الثماني»، تسلم وليم أورانج زمام السلطة على رأس الحكومة المؤقتة في أول أغسطس ١٨١٤، وذلك إلى أن يتم في فينا تقرير الوضع النهائي للمملكة الجديدة ورسم حدودها، ولكن صادفت المؤتمر «في فينا» صعوبات كثيرة، ولم يكن المؤتمر قد وصل إلى قرار عندما وصلته الأنباء (في ٨ مارس ١٨١٥) بفرار نابليون من جزيرة إلبا، فاتخذ أمير أورانج لقب الملك، وأصدر باسم وليم الأول ملك الأراضي المنخفضة ودوق لكسمبورج نداء يدعو فيه رعاياه للاتحاد من أجل الدفاع عن وطنهم المشترك ضد الخطر الذي يتهدده، وقوبلت هذه الخطوة بالترحيب في هولندة وبلجيكا، ولم تتوانَ الدول في الاعتراف بالأمر الواقع، فاعترفت رسميًّا بالمملكة الجديدة في ٢٣ مايو ١٨١٥، وسنحت الفرصة لأن يقف الهولنديون والبلجيكيون صفًّا واحدًا في الدفاع عن الوطن، عندما غزت جيوش نابليون البلجيك في ١٥ يونيو، واشتركوا معًا وتحت قيادة الأمير أورانج ولي عهد المملكة الجديدة في المعارك التي دارت رحاها في كاتربرا، وواترلوا (١٧-١٨ يونيو)، وأصيب ولي العهد بجرح في واترلوا، وأبلى الهولنديون والبلجيكيون بلاءً حسنًا في الحرب، وتدعم الاتحاد بفضل الدماء التي بذلها المواطنون في الدفاع عن الوطن المشترك.

مصاعب الدولة الجديدة

ومع أن هذه المشاركة في الحرب، جعلت — ولا شك — الطريق ممهدًا بعض الشيء أمام وليم الأول لتسوية المشكلات التي سوف تنجم من عملية «الإدماج» بين الجنوب والشمال، فقد كانت الصعوبات التي صادفتها هذه المحاولة على درجة كبيرة من الخطورة، حينما كان أمرًا مفروغًا منه أن إدماج بلاد عدد أهلها ٣٤٠٠٠٠٠ نسمة (هي بلجيكا) في بلاد أخرى (هي هولندة) لا يزيد سكانها على ٢٠٠٠٠٠٠ نسمة، كمجرد «زيادة إقليمية» لها؛ سوف يثير الشك في نفوس البلجيكيين، والغضب من إجراء يعده هؤلاء — وهم يؤلفون مجتمعًا أكبر — إجراءً تعسفيًّا، ولم يكن هناك مناص من تذمر البلجيكيين حتى ولو كان يربط بينهم وبين الهولنديين روابط لغوية أو دينية، أو تقاليد سياسية ومصالح مادية مشتركة.

على أن مثل هذه الروابط لا وجود لها بتاتًا بين هولندة وبلجيكا، فالأراضي المنخفضة الشمالية؛ أي هولندة كانت تتمتع بالاستقلال الفعلي حوالي قرنين من الزمان، واستطاعت الأمة الهولندية خلالهما أن تسجل نشاطًا ملحوظًا في ميادين التجارة والتوسع الخارجي (الاستعماري) فيما وراء البحار، وتلعب دورًا مرموقًا في السياسة الأوروبية، في حين أن الولايات الجنوبية (بلجيكا) طوال هذه المدة لم يكن لها تاريخ خاص بها، فهي تارة من نصيب إسبانيا (معاهدة وستفاليا ١٦٤٨)، وأخرى من نصيب النمسا (معاهدة يوترخت ١٧١٣)؛ ليجعل منها الهابسبرج حاجزًا يحمي الولايات المتحدة الشمالية (أي هولندة) ضد أي هجوم فرنسي عليها، ثم تارة ثالثة تكون من نصيب فرنسا ذاتها (أيام الثورة ونابليون)، ومن شأن هذا كله أن يضع البلجيكي في نظر الهولندي في مرتبة أدنى.

أضف إلى هذا أن بلجيكا ذاتها لم يكن أهلها ينتمون إلى أصل واحد أو يتكلمون لغة واحدة؛ بل ينقسم سكان الولايات البلجيكية إلى فلمنك Flemmish في ولاية فلندرا Flanders والجزء الأكبر من ولاية برابانت Brabant ويؤلفون حوالي ثلثي عدد سكان البلجيك، وتختلف لغتهم عن الهولندية اختلافًا بسيطًا، وينحدرون أساسًا من نفس الأصول التي ينحدر منها الزيلنديون Zeelander والهولنديون Hollander مع امتزاج أكثر بالجنس الكلتي، وأما القسم الآخر من السكان؛ فهم من الوالون Walloon، في ولايات هينولت Hainault ونامور Namour ولييج Liége، وهم من الكلت ولغتهم قريبة جدًّا من الفرنسية، وفي سنة ١٨١٥ كان هذا الاختلاف بين الفلمنك والوالون، لدرجة كبيرة مختفيًا وراء ستار من الثقافة وآداب السلوك الفرنسية، ولم يكن أهل الطبقات العليا والتجارية يتخاطبون بغير اللغة الفرنسية، وبلغ من كراهية البلجيكيين الفلمنك للسيطرة الهولندية — والهولنديون من أصل فلمنكي — أنهم وجدوا في استخدام اللغة الفرنسية ما يرضي كبرياءهم الوطنية، ويشفي غليلهم من الهولنديين المتسلطين عليهم، ولقد كان من المتيسر بمضي الزمن زوال هذه الكراهية بفضل المنافع التي سوف يجنيها الفلمنكيون البلجيكيون أهل فلندرا وبرابانت من فتح نهر الشلد للملاحة الحرة، وأن يتم الاتحاد بينهم وبين «أقربائهم» عبر الحدود الهولندية، لو أنه لم يكن يفرق بين هؤلاء والهولنديين اختلاف المذهب والعقيدة.
فقد كانت ولايات الأراضي المنخفضة الجنوبية — بلجيكا — بسبب سياسة الكثلكة التي اتبعتها إسبانيا بالحديد والنار أيام فيليب الثاني، ودوق ألفا Alva ولايات يدين أهلها بالكاثوليكية، في حين أن الولايات الشمالية — هولندة — بالرغم من وجود أقلية كاثوليكية، قد بقيت من أيام وليم الصامت يدين أهلها — شعبًا وحكومة — بالعقيدة الكلفينية.

زِدْ على ذلك أن النبلاء في الولايات الشمالية (هولندة) من مدة طويلة كانوا قد فقدوا كل سلطة سياسية، وأخذ رجال الدين البروتستنت يفقدون كذلك هذه السلطة رويدًا رويدًا، وذلك على خلاف ما كان عليه الحال في الولايات الجنوبية (بلجيكا)؛ حيث كان لرجال الدين نفوذ عظيم مارسوه في مهارة متزايدة، ثم إنه كان في وسعهم أن يعتمدوا على مؤازرة طبقة قوية من النبلاء الكنسيين لهم.

واعتمد أهل الولايات الشمالية (هولندة) في تنمية اقتصادهم، وجلب الرخاء لبلادهم على نشاطهم فحسب كأمة من التجار والملاحين؛ لأنهم يعيشون في أرض استنقذوا أكثرها من البحر بإقامة السدود الصناعية، ضعيفة التربة فقيرة الإنتاج، تكاد تنعدم منها المنتجات الطبيعية. واعتمد الهولنديون على الواردات من الخارج لإمدادهم بضروريات الحياة. أما البلجيكيون فلم يكن لهم قبل الاتحاد موانئ بحرية، ولكن بلادهم كانت غنية بأرضها الخصبة، وبمواردها المعدنية، وعاشوا في رخاء لاشتغالهم بالزراعة والصناعة، ولقد كان من المنتظر — ولا شك — أن يفيد البلجيكيون من الاتحاد الذي كان من أثر القواعد التي قام عليها فتح نهر الشلد للملاحة، وإحياء ميناء أنتورب (أنفرس) البلجيكي القديم، والذي يقع عند مصب هذا النهر، ثم إعطاء البلجيكيين حق التجارة والملاحة في المستعمرات الهولندية.

القانون الأساسي

على أن هذه الاختلافات لم تلبث أن صارت مبعث صعوبات عديدة، منذ صدور بيان الملك وليم الأول في ١٦ مارس ١٨١٥، والذي يعتبر أن الاتحاد بين الشمال والجنوب قد بدأ يتنفذ من وقت صدوره، ذلك أن الملك سرعان ما أَلَّف لجنة من اثني عشر عضوًا هولنديًّا، ومثل عددهم من البلجيكيين (في ٢٢ أبريل) لإدخال التعديلات التي ذكرت «المواد الثماني» ضرورة إدخالها على «القانون الأساسي» لهولندة الصادر في ٢٨ مارس ١٨١٤، والذي صار اعتماده للاتحاد أو الدولة الجديدة، وذلك «بناءً على رغبة البلدين المشتركة»، وحرص وليم الأول على أن يكون التمثيل في هذه اللجنة متساويًا بين الكاثوليك والبروتستنت، وأن يكون أعضاؤها من الذين حنكتهم التجارب، والذين يمثلون كذلك مختلف الاتجاهات والآراء السياسية.

ومع أن مناقشات حامية دارت حول مسائل كثيرة شائكة أثناء العمل، فقد تناول الأعضاء الموضوعات المطروحة على بساط البحث بروح مسالمة، ورغبة خالصة في الوصول إلى نتيجة مرضية، وأما بحوثهم فقد أسفرت عن وضع نظام للحكم، لم يفرض أية قيود تحد من السلطة الواسعة التي كانت للملك في «القانون الأساسي» لسنة ١٨١٤، بل على العكس من ذلك تزايد نفوذ الملك في النظام الجديد. فقد تقرَّر إنشاء «مجلس طبقات» States General أو برلمان، يتألَّف من مجلسين؛ أحدهما وَيُسَمَّى الغرفة أو المجلس الأول First Chamber من ستين عضوًا يعيِّنهم الملك لعضويته مدة حياتهم، والآخر وَيُسَمَّى الغرفة أو المجلس الثاني Second Chamber من مائة وعشرة أعضاء تنتخبهم مجالس States الولايات، ومدة عضويتهم ثلاث سنوات، نصفهم بلجيكيون، والنصف الآخر هولنديون، ولم تكن الحكومة (الوزارة) مسئولة أمام هذه الهيئات التمثيلية، ولم يكن في وسع أعضاء «الغرفة الأولى» وهم الْمُعَيَّنون؛ إلا أن يخضعوا لمشيئة الملك، واقتصر حق أعضاء «الغرفة الثانية» على رفض مشروعات القوانين المعروضة عليهم، وحُرموا من حق تعديلها، ثم إنهم كانوا لا يستطيعون مراقبة مالية الدولة والإشراف عليها إلا حين تُعرض عليهم الميزانية، وذلك بحكم هذا القانون الأساسي مرة واحدة كل عشر سنوات، وبفضل هذا النظام إذن تركزت السلطة في يد الملك في النهاية.

ولم يجد أعضاء اللجنة مشقة في الوصول إلى اتفاق بصدد القواعد التي أسفر عنها النظام إلا فيما تعلق منها بمسألتين على درجة كبيرة من الأهمية؛ أولاهما: تساوي عدد الأعضاء الهولنديين والبلجيكيين في الغرفة الثانية من «مجلس الطبقات». وثانيتهما: ما أريد للمذاهب والعقائد الدينية من مساواة كاملة أمام القانون. وحول هاتين المسألتين حصل الاصطدام بين فريقي اللجنة من الهولنديين والبلجيكيين، وكان الاختلاف بينهما اختلافًا جوهريًّا، وكان مؤتمر لندن الذي صدر عنه بروتوكول المواد الثماني قد قرَّر مبدأ المساواة بين العقائد الدينية أمام القانون؛ فتصدى البلجيكيون (الآن) لمعارضة هذا المبدأ معارضة شديدة، ويلقون في موقفهم تأييد الطبقات المتسلطة من الكاثوليك؛ فلم تقبل اللجنة تقرير هذا المبدأ إلا بعد مشقة وعناء عظيم. على أن مسألة التمثيل المتساوي كانت أكثر مشقة وعناء من مسألة المساواة الدينية، واكتنفتها الصعاب من كل جانب، حتى إنه تعذر ابتداع حل مرضي لها من الناحية العملية؛ ذلك أن البلجيكيين تمسكوا بضرورة التمثيل النسبي، حسب تعداد السكان في الولايات الشمالية (هولندة) والجنوبية (بلجيكا)، فيكون للبلجيكيين — الذين يبلغ عددهم ثلاثة أخماس سكان المملكة بأسرها — الأكثرية في المجلس (أي الغرفة الثانية)، في حين تشبث الهولنديون بمبدأ المساواة العددية في التمثيل، كأقل ما يجب الأخذ به في هذه المسألة، بدعوى أن الولايات الشمالية من الأراضي المنخفضة، ظلت تؤلِّف مدة قرنين من الزمان دولة مستقلة ذات سيادة، وأن الولايات الجنوبية (بلجيكا) قد صدر قرار الدول الكبرى بإدماجها في كيان هذه الولايات الشمالية، باعتبار أنها «زيادة إقليمية» وأن لهولندة مستعمرات آهلة بالسكان، وذات موارد غنية فيما وراء البحار، وعبثًا حاول كل فريق الظفر باستعلاء نفوذه عن طريق الأكثرية العددية في «الغرفة الثانية»، وتعذر الوصول إلى حل لهذه المشكلة إلا بتقرير مبدأ المساواة.

وفي ١٨ يوليو ١٨١٥، أعلن الملك أن اللجنة قد انتهت من عملها، وأن «القانون الأساسي» سوف يُعرض على ممثلي الأمة لينال موافقتهم عليه، وأُذيع في الوقت نفسه بروتوكول المواد الثماني الذي كان قد بقي في طي الكتمان حتى هذا الوقت منذ صدوره في العام السابق. وفي ٨ أغسطس ١٨١٥ وافق «مجلس الطبقات» الهولندي بالإجماع على «الدستور» الجديد، ولكن الحال كان على خلاف ذلك في بلجيكا؛ عندما اجتمع الأعيان البلجيكيون في بروكسل في ١٨ أغسطس، فحضر ١٣٢٣ فقط من ١٦٠٣ كانت وُجِّهت لهم الدعوة للحضور، ورفض الحاضرون القانون الأساسي بأكثرية ٢٦٩ صوتًا، الأمر الذي أثار دهشة الملك، مما جعله يشعر بحروجة مركزه، فلجأ إلى وسيلة جريئة لإنقاذ الموقف، تتلخص في اعتبار أن الأفراد الذين وُجِّهت لهم الدعوة وتغيبوا وعددهم (٣٨٠)، إنما هم موافقون على القانون الأساسي، ثم اعتبار الذين اقترعوا ضد القانون من الحاضرين لمعارضتهم مبدأ المساواة الدينية وعددهم (١٢٦)، أنهم قد فقدوا أصواتهم بدعوى أن اقتراعهم جاء مناقضًا لقرارات مؤتمر لندن والمواد الثماني، التي صدرت عنه، ويتعين ضم هذه الأصوات التي فُقدت إلى جانب تأييد القانون الأساسي، وبذلك أمكن إعلان أن القانون الأساسي قد صار التصديق عليه بأكثرية (٢٦٣) صوتًا (٢٤ أغسطس)، وكان ذلك إجراء تعسفيًّا، وليس من شأنه استمالة البلجيكيين لتأييد الدستور الجديد، والذي يرجع الفضل في صدوره والتصديق عليه إلى ما سَمَّاه هؤلاء «بعلم الحساب الهولندي»،١ وهكذا جاء هذا الدور الجديد يحمل في طياته — ومن مبدأ الأمر — بذور الانحلال السريع.

حكومة وليم الأول

وفي ٢٦ سبتمبر ١٨١٥ وصل الملك وليم الأول بروكسل في احتفال رسمي، وفي اليوم التالي حلف الملك اليمين في حضور «مجلس الطبقات» للمحافظة على الدستور، وبهذه الخطوة تنفذ الاتحاد بين هولندة وبلجيكا، وبدأت مملكة الأراضي المنخفضة حياتها إداريًّا وقانونًا (٢٧ سبتمبر ١٨١٥)، وخططت حدود الدولة الجديدة نهائيًّا بالصورة التي كان قد وافق عليها مؤتمر فينا (منذ ٣١ مايو من السنة نفسها)، فصارت المملكة الجديدة تشمل جمهورية الولايات المتحدة (الهولندية) القديمة والأراضي المنخفضة النمسوية (بلجيكا) وأسقفية لييج، مع عدد من المقاطعات الصغيرة، وتخلى الملك عن أملاك أسرته (أسرة نساو Nassau في ألمانيا)، في نظير تعويضه عنها بإعطائه لكسمورج التي جُعلت غراندوقية (في ٨ يونيو)، ولقد ضُمت إلى المملكة الجديدة كذلك دوقية بويلون Bouillon وجهات ماريا نبورج Marionbourg وفيليبفيل Philippeville، وقد تنازلت فرنسا عن هذه الأقاليم لمملكة الأراضي المنخفضة في معاهدة باريس الثانية في ٢٠ نوفمبر ١٨١٥، ثم لم يلبث أن حصل تعديل للحدود الشرقية من ناحية بروسيا الغربية (الراينية) بمقتضى معاهدات تكميلية في ٢٦ يونيو و٧ أكتوبر ١٨١٦.

وفي الخمس عشرة سنة التالية التي حكم فيها وليم الأول الأراضي المنخفضة، مملكة واحدة متحدة، تتابعت الحوادث التي أظهرت بوضوح أن هذا الاتحاد (أو الاندماج) كان تجربة فاشلة؛ وذلك بسبب الاختلاف العميق بين أهداف كل من الشعبين الهولندي والبلجيكي ومصالحهما المادية، مما جعل الاتحاد مقضيًّا عليه عاجلًا أو آجلًا. فانفصل البلجيكيون وخرجوا على الاتحاد عندما قاموا بالثورة في سنة ١٨٣٠، وأنشئت بلجيكا دولة مستقلة في السنة التالية، واضطر وليم الأول الذي صار ملكًا لهولندة فقط عند اعتراف الدول باستقلالها — بلجيكا (في ١٨٣١) — إلى الاعتراف هو الآخر باستقلالها بعد ذلك بثماني سنوات (١٨٣٩)، ثم إنه لم يلبث أن تنازل عن العرش في سنة ١٨٤٠.

إلا أنه قبل الكلام عن العوامل التي أدت إلى قيام الثورة في سنة ١٨٣٠ وقضت على الاتحاد (أو الاندماج)، يجب تقرير أن هذه السنوات الخمس عشرة من وقت إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة إلى وقت انفصال بلجيكا وتحطيم الاتحاد، كانت سنوات انتعاش ورخاء بالنسبة لبلجيكا في ظل حكومة الملك وليم الأول.

فقد اعتقد الملك أن النفع المادي؛ أي رعاية مصالح البلجيكيين المادية، وكذلك نشر التعليم، كفيلان وحدهما بكسب رضاء هؤلاء واستمالتهم إلى تأييد الاتحاد، ونجاح هذا الاتحاد في النهاية، فأكثر من المنشآت العامة، مثل: إنشاء الطرق الكبيرة، وبناء القنوات لتحسين وسائل النقل، فبُنيت في بلجيكا قناة ماستريخت-بواليدوك Maastricht-Bois le Duc (١٨٢٢)، وقناة غنت-ترنوتزن Ggent-Terneuzen (١٨٢٧)، وعنى بتنمية موارد البلاد الطبيعية، وأمد المصانع بالمال، فانتعشت صناعة «الحديد، والصوف، والقطن»، وأضحت لييج وغنت وفرفيية Verviers وغيرها مراكز صناعية نشيطة، وأفادت تجارة البلجيكيين من فتح أسواق المستعمرات الهولندية لهم إلى جانب الأسواق الأجنبية الأخرى التي للهولنديين علاقات بها؛ لتصريف منتجاتهم في هذه الأسواق وجلب حاجاتهم من الخامات منها. وساعد على زيادة هذا النشاط التجاري كما ترتب عليه أن عنيت حكومة الملك وليم الأول بإصلاح المواني البلجيكية مثل: مينائي أنتورب (أنفرس) وأوستند. أما عنايته بالتعليم في بلجيكا فقد تبدت في إعادته إنشاء جامعة لوفان Louvin (١٨١٧)، وكانت هذه قد أُلغيت في سنة ١٧٩٧، ثم إنه أسس جامعة أخرى في غنت سنة ١٨٢٦، وسار على خطة التوسع من ناحية أخرى في التعليم الابتدائي.

وتلك كانت منافع مادية، لا شك في أنها كانت تستميل الولايات الجنوبية إلى التمسك بالاتحاد وتأييده لو أن الحكومة القائمة بالأمر اتبعت سياسة حكيمة تستهدف المسالمة، وتعمل على كسر حدة الاحتكاكات التي لم يكن هناك مفر من حدوثها في نظام يراد تطبيقه لإدماج شعبين إدماجًا كليًّا بكل وسيلة، وبالرغم من الفوارق العميقة التي كانت تفصل بينهما؛ حتى إذا مضت فترة من الوقت كافية، قَلَّت هذه الاحتكاكات رويدًا رويدًا إلى أن ينتهي الأمر باعتراف كل فريق منهما بالمزايا الاقتصادية والسياسية التي تعود عليه من هذا الاتحاد أو الاندماج، في نظير تنازله عن بعض الحقوق التي له وتضحيته بها من أجل الصالح العام، ولكن الذي حدث كان على خلاف ذلك؛ لأن الملك وليم الأول اتبع سياسة كان محورها ترجيح مصالح الهولنديين — في نطاق الاتحاد — على كل ما عداها، والمحافظة على هذه المصالح وتأييدها.

وأما المسائل التي أثارت المتاعب، وتجمعت بسببها العوامل التي أدت إلى اشتعال الثورة، فكانت خمسًا: عدم المساواة السياسية والإدارية، الخلافات الدينية، اللغة، المالية، والصحافة.

ولقد سبق الحديث عن عدم المساواة السياسية والإدارية، عندما أشرنا إلى احتجاج المندوبين البلجيكيين في اللجنة التي عُهد إليها بتعديل القانون الأساسي (الهولندي)، على ما جاء في مادة الدستور التي جعلت عدد النواب البلجيكيين مساويًا لزملائهم الهولنديين في «الغرفة الثانية» أو المجلس الثاني في البرلمان، أو «مجلس طبقات» المملكة، بالرغم من أن تعداد البلجيكيين ٣٤٠٠٠٠٠ نسمة، في حين أن تعداد الهولنديين كان ٢٠٠٠٠٠٠ نسمة وحسب. فكان الذي حدث بعد إنشاء «الاتحاد» أو المملكة الجديدة ووضع هذا الدستور موضع التنفيذ أن جرى التصويت داخل «البرلمان» في المسائل التي اختلفت بشأنها مصالح الفريقين، من شماليين (هولنديين) وجنوبيين (بلجيكيين) على أساس قومي، وكثيرًا ما كان ينضم عدد من الأعضاء البلجيكيين مِمَّنْ يقومون بأعمال إدارية أو حكومية إلى جانب الهولنديين، لاعتمادهم في البقاء في وظائفهم على إرادة الحكومة، ففاز فريق الهولنديين بالأكثرية في المجلس في معظم الأحايين، وبهذه الطريقة تمكنت الحكومة من فرض ما أرادته من ضرائب كانت مبعث تذمر وسخط شديد بين البلجيكيين؛ من ذلك على وجه الخصوص فرض ضريبتين (في ٢١ يوليو ١٨٢١) بتصديق من «البرلمان» بأكثرية ٥٥ صوتًا، منها صوتان بلجيكيان، وذلك ضد ٥١ صوتًا (الأقلية البلجيكية)، ثم مثال آخر، هو ما حدث عند عرض الميزانية السنوية على البرلمان في سنة ١٨٢٧، فقد صدَّق عليها المجلس (٢٨ أبريل) بأكثرية تتألَّف من ٤٩ صوتًا هولنديًّا وأربعة أصوات بلجيكية. أضف إلى هذا أن القانون الأساسي كان قد نصَّ في مادته الثامنة والتسعين على أن يجتمع مجلس الطبقات (البرلمان) بالتناوب في مدينة شمالية وأخرى جنوبية، ولكن هذه المادة لم توضع موضع التنفيذ إطلاقًا، فبقيت الوزارات في لاهاي، وبقي في هولندة مقر المصالح والمؤسسات الإدارية والعسكرية الرئيسية.

أما الوزراء الذين بلغ عددهم سبعة في ١٨١٦، فكان واحد منهم فقط بلجيكيًّا، وفي سنة ١٨٣٠ كان لا يزال هناك ستة وزراء هولنديون من بين سبعة، ومن بين ٣٩ دبلوماسيًّا كان ثلاثون من الهولنديين، وفي مختلف الإدارات كان عدد الهولنديين في وزارة الداخلية ١١٧، والبلجيكيين ١١ فقط، وفي المالية ٥٩ هولنديًّا وخمسة فقط من البلجيكيين، وفي وزارة الحرب ١٠٢ هولندي و٣ بلجيكيون، وأما الذين شغلوا الوظائف الكبرى في المؤسسات والأسلحة الخاصة بالجيش فكان أكثرهم من الهولنديين، فمن بين ٤٣ ضابط أركان حرب، كان عدد البلجيكيين ثمانية، ومن بين ٤٣ من كبار ضباط المدفعية، وُجد ضابط بلجيكي واحد، ومن بين ٢٣ ضابطًا في سلاح المهندسين لم يكن هناك ضابط بلجيكي واحد، ويدخل تحت عدم المساواة السياسية والإدارية، جعل مقر محكمة الاستئناف في لاهاي بمقتضى أمر صدر في ٢١ يونيو ١٨٣٠، بالرغم من أن عدد قضايا البلجيكيين المستأنفة كان يفوق كثيرًا قضايا الهولنديين بنسبة خمس إلى واحدة، وكان هذا الإجراء من العوامل التي زادت من حدة التوتر والسخط قبيل انفجار الثورة.

ولقد شاهدنا كيف أن «القانون الأساسي» أو الدستور قد قرَّر في مواده (١٩٠–١٩٣) المساواة بين مختلف العقائد الدينية أمام القانون، وجعل لكل رعايا الملك مهما اختلفت عقائدهم الحق في شغل مناصب الحكم والإدارة، وذكرنا أن تقرير هذه القواعد كان قد قوبل بالعداء الشديد من جانب الحزب الكاثوليكي المتطرف في بلجيكا، وكان في مقدمة الناقمين على مبدأ المساواة الدينية أمام القانون أسقف غنت (موريس دي بروجلي) Maurice de Broglie الذي أَعَدَّ احتجاجًا على لسان رؤساء الأبروشيات للاحتجاج لدى الملك ضد الاعتداءات التي حصلت على حقوق الكنيسة الكاثوليكية في الأراضي المنخفضة الجنوبية (بلجيكا)، وفي ٢ أغسطس ١٨١٥، أصدر أسقف غنت نفسه تعليمات أو توصيات لأهل أبروشيته (أو أسقفيته) يمنع الأعيان في حدود أسقفيته، والذين دُعوا للاجتماع في بروكسل من الاقتراع في صالح قانون أساسي يشمل — كما قال — مواد متعارضة مع حقوق الكنيسة الكاثوليكية التي لا يمكن التخلي عنها، ولم يلبث أن أصدر «حكمًا عقائديًّا» بعد أن أعلن الملك في ٢٤ أغسطس اعتماد القانون الأساسي، يعتبر أن حلف اليمين لتأييد الدستور الجديد خيانة يرتكبها صاحبها ضد صالح الدين نفسه، ونال موقف «موريس دي بروجلي» كل تأييد من جانب البابا الذي امتنع عن اعتماد تعيين كونت دي ميان Méan مطرانًا لمطرانية مالين Maline (مايو ١٨١٧) إلا إذا أقرَّ الْمُعَيَّن لهذه المطرانية أن حلف اليمين للدستور، إنما يعني في فهمه للمساواة الدينية المذكورة به أنها مساواة في الحماية التي ينالها الأفراد — الذين تنوعت عقائدهم — في كل ما يتصل بالشئون المدنية فقط، ولقد درج الكاثوليك المعارضون للدستور على حلف اليمين له من الآن فصاعدًا فيما صار معروفًا — بالمعنى الذي حلف به المسيو دي مالين.

أما أسقف غنت، فقد عزمت الحكومة على محاكمته في بروكسل، ولكنه رفض الحضور إلى بروكسل وطعن في صلاحية المحكمة التي عُرضت عليها مسألته، ولجأ إلى فرنسا؛ فأدانته هذه المحكمة بدعوى تحقيره لها وتمرده على أوامرها (٩ أكتوبر ١٨١٧) وحكمت بنفيه، ثم عمدت الحكومة إلى نشر صورة هذا الحكم بتعليقه في السوق العام في غنت بين مشهرين (والمشهر آلة خشبية يدخل فيها رأس المجرم) لاثنين من اللصوص، وكان هذا التشهير إجراء غير حكيم زاد من تعلق البلجيكيين به، كما لم يفد شيئًا، حينما ظل أسقف غنت يدير شئون أسقفيته من باريس بواسطة نائبه، ويطيع «المؤمنون» أوامره ونواهيه في رسائله لأبرشيته، وعندما قُدِّم نائبه للمحاكمة في سنة ١٨٢١، بَرَّأته المحكمة، وتدخل البابا بيوس السابع بنفوذه، وكان صاحب آراء معتدلة في صالح السلام، لمنع جماعة الكاثوليك المتطرفين من المضي في عنفهم.

ولكن سياسة الملك التعليمية، لم تلبث أن أدت إلى استئناف الاحتكاك في سنة ١٨٢٥، فقد نجم من توجيه عنايته للتعليم العالي إنشاء جامعة «لوفان»؛ وذلك منذ ١٨١٧ — كما عرفنا — فأراد الآن، تحدوه الرغبة نفسها في تقدم التعليم العالي ونهضته — أن يشترط على كل مرشح للكهنوت أن يدرس مدة سنتين بكلية الفلسفة التي أسسها في جامعة لوفان، وذلك قبل التحاقه بالمدرسة أو الكلية الأكليريكية (أو الكهنوتية)، واستصدر بذلك قرارًا في ١١ يوليو ١٨٢٥، ثم أردفه بقرار آخر (في ١١ أغسطس) حَرَّمَ فيه تلقي العلم في الجامعات الأجنبية، وعُوقب مَنْ يفعل ذلك بحرمانه من الالتحاق بالوظائف مدنية كانت أم دينية، وكان الغرض من هذا القرار الأخير: منع الذين يريدون الكهنوتية من تلقي العلم في كليات اليسوعيين (الجزويت) في الخارج.

وعارض «الحزب الكنسي» هذه الإجراءات معارضة شديدة داخل البرلمان، ولكن الحكومة لقيت أنصارًا من البلجيكيين «الأحرار» داخل المجلس، فأيَّدت هذه القرارات أكثرية كبيرة، بينما قدَّمت الحكومة للمحاكمة عددًا من الذين تطرفوا في معارضة الحكومة وإظهار نقمتهم عليها، وأراد الملك تهدئة النفوس الثائرة بمحاولة التفاهم مع الفاتيكان لعقد اتفاق«كونكردات» من نمط الاتفاق الذي أُبرم بين البابا وفرنسا (أيام نابليون)، وفي يونيو ١٨٢٧، أمكن إبرام «الكونكردات» المنشودة، ونصَّت المادة الثالثة منها على أن يكون عدد الأسقفيات في الأراضي المنخفضة جميعها ثمانية بدلًا من الأسقفيات التي كان عددها خمسًا فقط في بلجيكا، ووافق البابا على أن يكون للملك الحق في الاعتراض على أي مرشح لملء منصب الأسقفية لا يرضى عنه، ومن ناحية أخرى جُعلت الدراسة لمدة سنتين في «كلية الفلسفة» بجامعة لوفان أمرًا اختياريًّا، ولا جدال في أن هذه الاتفاقية — ولا سيما بسبب ما جاء بالمادة الثالثة منها — تُعَدُّ نصرًا ظاهرًا للملك، ولكن البابا عند إعلان إبرام الاتفاقية، أغفل الإشارة إلى تخليه للملك عن حق الاعتراض على تعيين المرشحين لمناصب الأسقفية، كما قال فيما يتعلق بدراسة المرشحين للكهنوت: إن تحديدها منوط الأساقفة الذين يخضعون لما يصدر من قرارات في هذا الشأن عن رومة. وحينئذٍ فقد عمدت الحكومة على الفور إلى إرسال التعليمات السرية لحكام الولايات (المقاطعات) لتأجيل تنفيذ الاتفاقية، وهكذا ذهبت هباءً جهود طيبة كان الغرض منها التهدئة وكسر حدة الاحتكاك بين الحكومة والكاثوليك البلجيكيين.

وفيما يتعلق باللغة كان حوالي الثلثين من أهل المقاطعات الجنوبية بالأراضي المنخفضة (أي بلجيكا) يتكلمون — كما عرفنا — لغة تختلف اختلافًا يسيرًا جدًّا عن اللغة الهولندية، وكان يريد الملك من أول الأمر تقوية ما أَسَمَاه «باللسان الوطني» وتعميم استخدامه، وأيَّده في هذه الرغبة أكثر سكان الولايات (أو المقاطعات) التي تتكلم الفلمنكية، ولكن الملك وجد عند تأسيس مملكة الأراضي المنخفضة أن الفرنسية كانت لغة التخاطب الرسمية في الولايات البلجيكية مدة السيطرة الفرنسية (أيام الثورة ونابليون)، بل وكانت قبل ذلك بمدة طويلة لغة الحكومة في كل شئونها، حتى إن أكثر أهل الطبقات الثرية في ولايات مثل فلاندرا وبرابانت صارت تجهل لسانها الوطني، وعلى ذلك فقد استصدر وليم الأول قرارًا في أكتوبر ١٨١٤، يجعل قانونيًّا استخدام الفرنسية والهولندية، ثم استصدر بعد خمس سنوات (١٥ سبتمبر ١٨١٩) قرارًا آخر يجعل معرفة اللغة الهولندية مؤهلًا لازمًا للالتحاق بالوظائف العامة جميعها، وأخيرًا صدر قرار في ٢٦ أكتوبر ١٨٢٢ باعتماد اللغة الهولندية لسان التخاطب الرسمي في الدولة، واعتبارها لغة البلاد الوطنية، وكان معنى ذلك فرض هذه اللغة الهولندية على البلجيكيين فرضًا، الأمر الذي جعل هؤلاء ينظرون إلى هذا الإجراء التعسفي كأحد مظاهر السيطرة الهولندية؛ مما أثار تذمر البلجيكيين وغضبهم الشديد منه، ولا سيما الوالون الذين كانت هذه اللغة الوطنية المزعومة بالنسبة لهم لسانًا أعجميًّا. كما عارض هذا القرار المحامون البلجيكيون عمومًا، وعظم السخط لدرجة أن الحكومة لم تلبث أن اضطرت في سنة ١٨٢٩ إلى التخفيف من حدة هذه القرارات شيئًا، ولكن هذه كانت خطوة جاءت متأخرة، فبقيت مشكلة اللغة من العوامل القوية التي أدت إلى قيام ثورة البلجيكيين ضد هولندة.

وكانت مسألة تسوية الدَّين العام ذات أثر بالغ في تحريك هذه الثورة لا يقل عن آثار العوامل السابقة، فقد عرفنا كيف أن المادة السادسة من بروتوكول الاتحاد — أو بروتوكول المواد الثماني — جعلت البلجيكيين يتحملون نصف مقدار الدَّين الذي كانت هولندة مدينة به قبل الاتحاد، وأما هذا الدَّين الذي استدانته الولايات الشمالية — أي هولندة — فكان يبلغ في سنة ١٨١٥ مليارين من الفلورينات (والفلورين عملة هولندية)، بينما بلغ دَين الأراضي المنخفضة النمسوية — أي بلجيكا — ٣٢ مليونًا فقط، وكانت هولندة قبل الاتحاد تعاني صعوبات مالية قاسية من أيام السيطرة الفرنسية. وفي سنة ١٨١٤ بلغ العجز في ميزانية هولندة ستة عشر مليونًا من الفلورينات، وفي سنة ١٨١٥، ارتفع إلى أربعين مليونًا بسبب حملة واترلو. وكان طبيعيًّا أن يتذمر البلجيكيون من إرغامهم على تحمل أعباء مالية (وديون) لم يكونوا هم مسئولين عنها ولا يد لهم فيها، وكان من المنتظر من ناحية أخرى أن يلقى البلجيكيون في فتح الأسواق الهولندية في المستعمرات الهولندية الغنية فيما وراء البحار ما يعوضهم عن هذه الأعباء المكروهة، ولكن حدث في سنة ١٨٢٥، أن قامت الثورة في «جاوه»، وكانت ثورة كبيرة كبدت الحكومة نفقات جسيمة، فصارت المستعمرات بابًا آخر من أبواب الإنفاق المتزايدة، بدلًا من أن تكون مصدر ربح يخفف من أعباء ميزانية الدولة. وأدى استمرار العجز في الميزانية إلى لجوء الحكومة لعقد القروض من ناحية ولزيادة الضرائب من ناحية أخرى، ولما كان القانون الأساسي قد قصر حق «البرلمان» على بحث الميزانية مرة كل عشر سنوات؛ فقد انحصرت كل سلطة في الهيمنة على مالية البلاد في يد الملك وحده، الذي عُدَّ لدرجة كبيرة مسئولًا عن الحالة السيئة التي وصلت إليها مالية الدولة.

ولقد زاد مركز الملك وليم الأول حرجًا وزاد سخط البلجيكيين عليه وعلى الهولنديين بسبب الإجراءات التي اتخذها لمعالجة العجز المزمن في الميزانية. من ذلك أن الحكومة قرَّرت نوعين من الضريبة الجديدة في ١٨٢١؛ إحداهما على القمح المطحون Mouture، والأخرى على الحيوان المذبوح Abbatage، وبمعنى آخر على الخبز واللحم، فبلغت حصيلة الضريبة الأولى ٥٥٠٠٠٠٠ فلورين، انتزعت معظمها من الطبقات الفقيرة في المجتمع، ووقع عبؤها على البلجيكيين الذين يعتمدون في غذائهم على الخبز. أما الهولنديون فيتألَّف استهلاكهم من البطاطس والخضروات، ولا يستهلكون من الخبز القدر الذي يستهلكه البلجيكيون، وبلغت حصيلة الضريبة الثانية ٢٥٠٠٠٠٠ فلورين، ولم يقع عبؤها الثقيل على الفقراء، ولو أن كل الطبقات كرهت هذه الضريبة، والمبدأ الذي قامت عليه. ويتضح مدى سخط الرأي العام في بلجيكا على هاتين الضريبتين من الطريقة التي جرى بها الاقتراع عليهما في «الغرفة الثانية» من «مجلس الطبقات العام» في ٢١ يوليو ١٨٢١، عندما تَمَّ التصديق عليهما، فقد بلغت الأكثرية ٥٥ صوتًا كان من بينها صوتان بلجيكيان فقط، أما الأقلية — أي المعارضة — فقد بلغت ٥١ صوتًا كانت جميعها بلجيكية. فكان تجاهل استياء البلجيكيين الظاهر للضريبتين عملًا بعيدًا عن كل حكمة سياسية من جانب الحكومة، ومع ذلك فقد بقيت هذه الضرائب حتى أُلغيت أخيرًا في سنة ١٨٢٩، ولكن الاقتراع الذي حدث في يوليو ١٨٢١ كان قد ساعد على إحداث هوة عميقة فصلت بين الشمال والجنوب بصورة مستديمة. فقد عمد النواب البلجيكيون من ذلك الحين، وبزعامة خطبائهم وخصوصًا دوترنج Dotrenge وريفان Reyphins، إلى معارضة الحكومة «الهولندية» والتذرع بكل وسيلة لتعطيل أعمالها، وقابل النواب الهولنديون هذه المعارضة بالتكتل من ناحيتهم، والوقوف جبهة متحدة (كحزب وزاري) لتأييد كل أعمال الحكومة، واستطاع الملك باستخدام نفوذه وسلطته الأوتقراطية إنقاذ الحكومة كلما تحرج الموقف، وتعادلت أصوات الفريقين، بأن يجذب عددًا ضئيلًا من النواب البلجيكيين للاقتراع إلى جانب الحكومة، وواضح أن هذا الانقسام الذي كان يتزايد سنة بعد أخرى، قد جعل من المتعذر أن يحدث أي اندماج بين الشمال والجنوب.
وإلى جانب هذا كله لم تقم أية محاولة لتنفيذ المادة ٢٢٧ من القانون الأساسي، التي كفلت حرية الصحافة، بل على العكس من ذلك فقد طغت إرادة الملك ورغباته الشخصية في هذه المسألة وغيرها، مثل عدم التعرض للقضاء، على كل الحقوق التي نَصَّ عليها الدستور، فهو قد استصدر في ٢٠ أبريل ١٨١٥ قرارًا صارمًا، كان الغرض منه درء الأخطار التي تهددت الأراضي المنخفضة بسبب فرار نابليون من منفاه في إلبا وعودته إلى الحكم (حكم المائة يوم) في فرنسا، وبمقتضى هذا القرار فرضت عقوبات شديدة — منها فقد الحقوق المدنية، والسجن من سنة إلى ست سنوات، والتغريم من مائة إلى عشرة آلاف فرنك، والكي والتعذيب — على كل مَنْ تثبت إدانته بأنه يذيع أخبارًا أو معلومات تؤذي الدولة أو تنشر الاضطراب بها، ويجري توقيع هذه العقوبات على يد محكمة يختار الملك أعضاءها «التسعة»، ودون أن يكون هناك محلفون، وقد يكون هناك ما يدعو لمثل هذا الإجراء أثناء الأزمة، ولكن بانتهاء أخطار الغزو النابليوني، ووضع القانون الأساسي كان يجب تنفيذ الدستور، ومع ذلك فقد حوكم (في سنة ١٨١٧) بناءً على قرار ٢٠ أبريل ١٨١٥، أحد رجال الدين أبيه دي فير Abbé de Foere بدعوى أنه نشر عددًا من المقالات في صحيفة بلجيكية سبكتاتور بيلج Spectateur Belge يؤيِّد فيها أسقف غنت، فصدر الحكم بحبسه سنتين، وَحُكم على الطابع بغرامة فادحة، وفي ١٨ فبراير ١٨١٨ صدر قانون بناءً على اقتراح الحكومة، نال بفضله قرار ٢٠ أبريل ١٨١٥ «المؤقت» تصديق مجلس الطبقات (البرلمان) فأصبح «مستديمًا»، وبذلك كممت أفواه الصحافة؛ لأن الحكومة صارت تحرص على تنفيذ «القانون» بكل شدة، وغضب الشعب عندما حوكم في سنة ١٨١٩، أحد الْكُتَّاب فان درستراتن Van Der Straeten وَغُرِّمَ ثلاثة آلاف فرنك؛ لأنه نشر كتابًا يحوي مطاعن على الحكومة، واكتتب الشعب في دفع هذه الغرامة، ومع أن الحكومة نجحت في إغلاق عدد من الصحف المعارضة، وتوقيع العقوبة على نفر من الناشرين والْكُتَّاب، إلا أن المعارضة ضد «الحكومة الهولندية» استمرت عنيفة، وانبرى كثيرون من الكُتَّاب لتوجيه الانتقادات المُرَّة ضدها، ولقيت دائمًا كتاباتهم بين البلجيكيين رواجًا لتعبيرها عن شعور التذمر والسخط المنتشر بينهم.
ولقد كان من أثر النفور المتزايد بين الشمال (هولندة) والجنوب (بلجيكا)، أن اتحد في الجنوب في سنة ١٨٢٨ البلجيكيون الكاثوليك، والأحرار، وكانا حزبين متنافرين، لم تلبث أن جمعت بينهما المطالبة المشتركة لإزالة المساوئ مصدر الشكوى، والدفاع عن الحريات المدنية والدينية. فمع أن أهل البلجيك كلهم كاثوليك، فقد ظلوا طوال مدة «الاتحاد» مع هولندة منقسمين إلى مجاعتين أو حزبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما، هما حزب متطرفي الكاثوليك أو الكنسيين Clericals وحزب الأحرار الذين اعتنقوا المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، ولقد اتحد الحزبان دائمًا داخل مجلس الطبقات (البرلمان) في تأييد المصالح البلجيكية ضد السيطرة الهولندية، ولكنهما كانت تفرقهما العداوة المتبادلة وعوامل الحسد، وفي وسع الملك إذا اتبع سياسة حكيمة أن يجذب إليه جماعة الأحرار لتأييده في نضاله ضد تعصب «الكنسيين» وتطرفهم، ولكن وليم الأول آثر أن يمضي في طريقه، ويتخذ ما يشاء من إجراءات تعسفية لتنفيذ «سياسته» دون اكتراث بشعور رعاياه البلجيكيين، سواء من الكنسيين أو من الأحرار، إلى أن تألَّف في سنة ١٨٢٨ اتحاد Union يجمع بين الفريقين على أساس تنسيق جهود الحزبين في الدفاع عن حرية العبادة (العقيدة) والتعليم والصحافة.

المعارضة في بلجيكا

بدأ يشتد القلق ويقوى التذمر في بلجيكا في أواخر سنة ١٨٢٨ بدرجة تنبئ بتأزم الأمور، وتعرض «الاتحاد» أي المملكة الناشئة للخطر، واتخذ هذا القلق والتذمر شكل إهاجة الخواطر ضد الحكومة، على أساس المطالبة بالإصلاح وإزالة أسباب الشكوى، وأرسلت المجالس الإقليمية في هينولت، ولييج، ونامور عرائض تطلب فيها إلغاء ضريبتي القمح المطحون والحيوان المذبوح، ولما لم تلقَ هذه العرائض قبولًا حسنًا بدعوى أن مسألة الضرائب ليست مسألة إقليمية، وإنما يخص الأمة بأكملها، استبدلت بهذه العرائض الإقليمية عرائض عامة يشترك في تقديمها أهل البلاد من كل الطبقات؛ من نبلاء وكنسيين وتجار ومحامين وَصُنَّاع (في المدن) وفلاحين (في الريف)، فتسلمت «الغرفة الثانية» عرائض عديدة كان من بينها عريضة بلغ عدد الموقعين عليها سبعين ألفًا.

وأثارت هذه العرائض ثائرة الحكومة، بدلًا من استمالتها إلى إلغاء الضرائب المشكو منها أو إزالة أسباب التذمر، وعمد الملك إلى الطواف في البلاد البلجيكية، فزار موكبه الملكي خلال شهري مايو ويونيو ١٨٢٩ عددًا من المدن، ولما كان لا يزال يكن له الشعب احترامًا كبيرًا فقد قوبل بالترحيب في كل مكان، الأمر الذي جعله ينخدع بهذه المظاهر الشعبية ويعتقد أن بوسعه إخماد المعارضة، فألقى خطابًا في لييج أشار فيه إلى ما سَمَّاه «بالشكايات المزعومة» التي تضمنتها العرائض، ووصف مسلك المنظمين لهذه العرائض بأنه مسلك مدموغ بالعار والفضيحة، وكان انزلاق الملك في حملته على أصحاب العرائض عملًا بعيدًا عن الحكمة، ويدل على قصر النظر، وكان لعباراته هذه التي ذكرناها وقع أليم في النفوس. ولقد عَبَّرَ أهل فلندرا عن مشاعرهم باستعادة ذكرى حادث «الشحاذين» — وهو الوصف الذي أطلقه الإسبان على الثوار في الأراضي المنخفضة ضد حكمهم في سنة ١٥٦٦ — فهزئوا من هذا الوصف الذي وصف به الملك مسلكهم، وأنشئوا على سبيل السخرية بالحكومة «فريق العار والفضيحة»، وصنعوا له وسامًا منقوشًا عليه شعارهم «خلصاء وأوفياء لدرجة العار والفضيحة».

ولم يقتصر الأمر على تقديم العرائض، بل صحب هذه الحركة معارضة نشيطة من جانب النواب البلجيكيين في «الغرفة الثانية» من جهة، وحملة عنيفة من النقد ومهاجمة أعمال الحكومة في الصحف من جهة ثانية. فقد تَقَدَّم أحد النواب البلجيكيين دي بروكير de Brouckére باقتراح (في ٣ ديسمبر ١٨٢٩) لإلغاء قرار ٢٠ أبريل ١٨١٥، فرفضه النواب الهولنديون بالإجماع وانحاز إليهم سبعة من البلجيكيين. وفي ١١ ديسمبر تلقى مجلس الطبقات (البرلمان) رسالة ملكية كان لها دوي غير قليل، إذ وصفت المعارضة ضد الحكومة في بلجيكا بأنها من صنع حفنة من المهيجين السياسيين، وأعلنت عزم الحكومة على استصدار قانون بدلًا من قرار ١٨١٥، يكبح جماح الصحافة المتطرفة. وفي حين أن هذه الرسالة تضمنت وعدًا بالاستجابة لبعض المطالب الخاصة باللغة والتعليم والضرائب، فقد رفضت إقامة وزارة مسئولة، وتأكد بصورة قاطعة مبدأ الملكية المطلقة، وفي ١٢ ديسمبر أصدر وزير العدل فان مانين Van Maanen منشورًا يطلب فيه من جميع الموظفين المدنيين إعلان موافقتهم التامة، خلال أربع وعشرين ساعة على كل المبادئ التي جاءت في الرسالة الملكية، أو يتركوا وظائفهم، ومن هذه اللحظة أصبح «فان مانين» موضع حملة استهجان عظيم من جانب كل الْكُتَّاب والناشرين في بلجيكا.

ولم تلبث أن ظهرت آثار موقف الملك، وعلى نحو ما كان متوقعًا، عندما عُرضت الميزانية على النواب في دورها العشري — وقد عرفنا أنها تُعرض بموجب الدستور مرة كل عشر سنوات على الغرفة الثانية — في آخر ديسمبر من السنة نفسها، فتعالت صيحة النواب البلجيكيين بمبدئهم الذي تمسكوا به الآن: «لا مال حتى يسبقه إزالة المظالم.» فرفض قسم الميزانية الخاص بالإيرادات بأكثرية ٥٥ صوتًا ضد ٥٢، ولو أن المجلس وافق على قسمها الخاص بالنفقات بأكثرية ٦١ صوتًا ضد ٤٦ صوتًا، واضطرت الحكومة لتقديم ميزانية جديدة للإيرادات، ولمدة سنة واحدة بدلًا من عشر سنوات، وبعد أن حذفت ضريبة القمح المطحون المكروهة، وعندئذٍ صودق على هذه الميزانية بالإجماع.

وغضب الملك من موقف المعارضة وفشل الحكومة غير المرتقب، وجعله الغضب يتخذ إجراءً غير حكيم؛ هو أنه استصدر مرسومًا ملكيًّا في ٨ يناير ١٨٣٠ يحرم به ستة من النواب الذين اقترعوا مع الأكثرية من وظائفهم ومرتباتهم. وكان الغضب قد بدأ يستبد بالملك لدرجة خطيرة، من جراء الحملات المستمرة العنيفة في الصحف البلجيكية ضد سياسة الحكومة، والتي كان غرض هذه الصحف منها؛ إهاجة الخواطر واستفزاز الشعور العام ضد الحكومة.

ولقد بلغ من عنف هذه الحملة الصحفية، وحدَّة العبارات التي «نُقدت» بها أعمال الحكومة، أن صار متعذرًا على الملك وحكومته السكوت عليها أو عدم إعارتها الاهتمام اللازم، وكان أكثر الذين يقودون هذه الحملة الصحفية العنيفة من المحامين الشبان، وفي مقدمة هؤلاء؛ لويس دي بوتر Potter وكان يُحَرِّر في جريدة لوبيلج Le Belge، وكان له زميل من المحامين الأحرار، وصاحب شهرة هو جاند بيان Gendebien وقد اشترك «دي بوتر» كذلك مع آخرين، منهم فان دي وير Weyer في تحرير جريدة كورييه دي باييه با Courrier Des Pays-Bas، ثم بارتيل Barthels، وكان يُحَرِّر في جريدة لوكاثوليك Le Catholique، وهذه الصحف تصدر في غنت. أما في لييج فكان لوبو Lebeau وروجيه Rogier يُحَرِّران صحيفةلوبولتيك Le Politique.
ولعل أكبر هؤلاء أثرًا وأعظمهم نشاطًا كان «لويس دي بوتر»، فقد نشر في سنة ١٨٢٩ مقالًا في «كورييه دي باييه با» يحمل فيه على «المستوزرين»، ويحط من قدرهم، ويحذر قراءه من أخطارهم، فَحُوكم وَسُجن ثمانية عشر شهرًا، كما دفع غرامة مالية كبيرة (١٠٠٠ فلورين) ولكن هذا الحكم القاسي لم يسكته، بل استمر يكتب في سجنه الكراسات الصغيرة والرسالات يملؤها مطاعن على الحكومة، واعتبره مواطنوه «شهيدًا»، وقرءوا كل ما دَبَّجه يراعه بنَهَم وحماس شديدين، وزاد هياج الخواطر بسبب هذا كله حدة على حدته. على أن أشد خطاب وُجِّه للملك أو الحكومة من صنعه كان ذلك الذي نشره «لويس دي بوتر» ردًّا «على الرسالة الملكية السالفة الذكر في ١١ ديسمبر ١٨٢٩ لمجلس الطبقات». فقد كتب «دي بوتر» مخاطبًا الملك:

كلا يا مولاي! أنت لست سيد البلجيكيين كما يريدك الناس أن تعتقد ذلك، وإنما أنت الأول فقط بينهم، وأنت لست سيد الدولة، وإنما أنت تتخذ مكانك على رأسها بوصفك أعلى موظفيها درجة ورتبة.

وفي ذلك تحدٍّ صريح للملك ونقض للمبدأ الذي جاء في رسالته الملكية، مبدأ الملكية المطلقة، حينما قال:

ولم يكن من رغبتنا بتاتًا ممارسة حقوقنا (في الحكم) بصورة لا حدود لها، بل لقد حرصنا دائمًا وعن إرادة صادرة منا أنفسنا على أن نحد من سلطة هذه الحقوق (المطلقة) عند ممارستها.

وفي ٣١ يناير ١٨٣٠، نشرت سبع عشرة صحيفة معًا وفي وقت واحد مشروعًا بدأه «دي بوتر» بجمع تبرعات من الأمة البلجيكية لتعويض النواب الستة الذين حُرموا من وظائفهم ومرتباتهم لاقتراعهم ضد الميزانية، وعثرت الحكومة على الرسائل المتبادلة بين «دي بوتر» وأحد أصدقائه تيليمان Thielemans، حين كان يعمل رئيس تحرير لجريدة «لوبيلج» و«لوكورييه دي باييه-با»، واعتبرت ما جاء في هذه الرسائل طعنًا عليها، فقدمت الاثنين إلى المحاكمة، كما قدمت «بارتيل» رئيس تحرير «لوكاثوليك»، وطابع هذه الجريدة دي نيف Nève إلى المحاكمة، وَحُكم على الأربعة بالنفي؛ دي بوتر لمدة ثماني سنوات، وتيليمان وبارتيل لسبع سنوات، ودي نيف لخمس.
ثم أرادت الحكومة أن تكون لها صحيفة تنطق بلسانها، وتذود عن سياستها ضد هذه الحملة الصحفية العنيفة، فأصدرت في بروكسل صحيفة دعتها لوناشونال National، وعينت لرياسة تحريرها ليبري باينانو Libri-Bagnano، وكان اختيارًا جانبه التوفيق؛ لأن «ليبري باينانو» مع مهارته ككاتب ومحدث ومجادل، لكنه كان من أصل إيطالي، وسبق أن حُكم عليه بالأشغال الشاقة مرتين في فرنسا لارتكابه جريمة التزوير. أضف إلى هذا أن رئاسة تحريره للصحيفة سرعان ما جعلت من «لوناشونال» أداة لزيادة النار اشتعالًا، عندما أخذ يعلن على صفحات «لوناشونال» «أن البلجيكيين يجب أن تكمَّم أفواههم كما تكمم الكلاب.» واعتبر البلجيكيون أن «ليبري باينانو» إنما يعبر في صحيفته عن رأي وزير العدل «فان مانين»، وثارت ثائرة هؤلاء عندما تَبَيَّن كذلك أن «ليبري باينانو» قد نال من الحكومة ثمنًا لخدماته مبلغ ٨٥٠٠٠ فلورين، أُخذت من أموال عامة مخصصة للصناعة.

الثورة

وهكذا انقضت الشهور الستة الأولى من عام ١٨٣٠، وشعور الشماليين (هولندة) والجنوبيين (بلجيكا) بأن محاولة إدماج الشعبين في مملكة واحدة قد أخفقت، لا يفتأ يتزايد، وأن أحدًا صار لا يريد في الحقيقة أن يتم هذا الاندماج، ومع ذلك فمما يجدر ذكره أن أحدًا في هذه المرحلة حتى من أشد المناوئين للهولنديين في بلجيكا لم يكن يفكر إطلاقًا في فصم عرا هذا الاتحاد. فشعور الولاء نحو الأسرة المالكة كان لا يزال قويًّا. فقد قطع البلجيكيون شوطًا كبيرًا في التقدم الصناعي، وانتعشت تجارتهم تحت رعاية الملك وليم الأول الشخصية، وعظم ولاء الطبقات المشتغلة في التجارة والصناعة، ومن الحرفيين، لآل أورانج في بعض المدن الكبيرة، خصوصًا أنتورب (أنفرس) وغنت. ولقد كان الهولنديون يحسدون البلجيكيين على الفوائد والمغانم التي جناها هؤلاء من انتعاش صناعتهم وتجارتهم، وانتشار الرخاء في الولايات الجنوبية، ونقموا على نظام الضرائب التي فُرضت لحماية الصناعة، رعاية لصالح البلجيكيين، وهم من الصُّنَّاع، في حين أن هذه الضرائب الجمركية كانت تعطل نشاط الهولنديين الذين اعتمدوا على تجارة النقل مع مستعمراتهم عبر البحار. ونظر أهل أمستردام وروتردام بعين الحسد للنمو والانتعاش الذي أدركته أنتورب، وعلى ذلك فقد كان متيسرًا اجتياز الأزمة، واسترضاء البلجيكيين إلى بقاء الاتحاد، لو أن مطالبهم قوبلت بشيء من التسامح، وأزيلت المظالم التي شكوا منها، فإن البلجيكيين لم يكونوا قطعًا يريدون — كما ذكرنا — فصم علاقاتهم مع الهولنديين في هذه المرحلة، بل إن كل الذي أرادوه أن تكون لهم إدارة منفصلة عن إدارة هولندة تحت تاج واحد؛ أي التمتع باستقلال إداري داخلي وحسب، فهم كانوا يعترفون بما أفادته البلاد من التقدم المادي الذي حصل في عهد وليم الأول، كما كانوا يعرفون عنه هو نفسه اهتمامه بتشجيع العلوم والفنون، وإنشاء المكتبات، وكانت أسرة أورانج على وجه العموم موضع محبة وتقدير طبقة البورجوازي الأحرار، الذين وإن كانت لهم مطالب من أجل إزالة المظالم التي اشتكوا منها، فقد كانوا في الوقت نفسه يشعرون بالولاء الصادق للأسرة المالكة.

وعلى كل حال فقد بدأ من جانب وليم الأول في ربيع ١٨٣٠، ما يدل على أنه قد بدأ يميل للتسامح والاستجابة — على الأقل — لقدر من المطالب التي ينادي البلجيكيون، وذلك عندما أصدر مراسيم ملكية في ٢٧ مايو و٤ يونيو (١٨٣٠) لتعديل القواعد الخاصة بالتعليم العام واستخدام اللغة الهولندية، في صالح البلجيكيين، إلا أنه سرعان ما ضاع أثر هذا الإجراء الذي جاء كذلك متأخرًا، عندما أصدر الملك قرارًا في ٢١ يونيو يجعل مركز محكمة الاستئناف العليا في لاهاي. أضف إلى هذا أن استبقاء «فان مانين» في وزارة العدل، و«ليبري باينانو» في رئاسة تحرير «لوناشونال» نهض دليلًا على أن الملك لم يكن ينوي حقيقة الاستجابة لضغط الرأي العام في بلجيكا.

ولكن تلك كانت أوقاتًا عصيبة، فالثورة لم تلبث أن اندلعت في باريس يوم ٢٨ يوليو ١٨٣٠، وأطاحت بعرش البربون في فرنسا، واهتاجت الخواطر في بروكسل، ولكن ثورة ما لم تقُم في بروكسل أو في غيرها من المدن البلجيكية، والسبب في هذا أن «الكنسيين» في بلجيكا لم يعطفوا على ثورة باريس التي قامت ضد شارل العاشر، وهو ملك كنسي (أو إكليريكي)، وعلى ذلك لم يترتب على هياج الخواطر في بروكسل قيام أية مظاهرات ثورية بها، بل بقيت العاصمة البلجيكية تحتفل احتفالًا يشبه الأعياد بمعرض للصناعات الوطنية، كان مقامًا بها وقتئذٍ، وزار الملك والأمراء المعرض زيارة سريعة، ولم يعكر شيء صفو هذه الزيارة، وكان في النية اختتام هذه الاحتفالات بعرض للألعاب النارية يوم ٢٣ أغسطس، يليه في اليوم التالي (٢٤ أغسطس) إيقاد الزينات احتفاء بعيد ميلاد الملك (التاسع والخمسين).

ومع ذلك فقد كان هناك من الدلائل ما يشير إلى اقتراب العاصفة، فقد وجدت المنشورات مبعثرة في كل مكان تحمل هذه العبارات: «يوم ٢٣ أغسطس عرض الألعاب النارية، يوم ٢٤ أغسطس عيد ميلاد الملك، يوم ٢٥ أغسطس الثورة»، وخطت على الجدران عبارات مليئة بالمطاعن على الهولنديين وعلى «فان مانين» و«ليبري باينانو»، ولم يكن حاكم الولاية (أو المقاطعة) المدني، البارون فان درفوس Van Der Fosse، ولا الموظفون المحليون يجهلون أن هناك مهيجين ينشطون بين الأهلين لحضهم على الثورة، ولكن أحدًا لم يتخذ أية إجراءات للمحافظة على الهدوء والسلام؛ فالملك بالرغم من التحذيرات العديدة التي بلغته لم يجد ضروريًّا فعل شيء لتعزيز جانب الحكومة بالبقاء في بروكسل، فبقي (يستريح) في قصره في لو Loo، ثم رفض طلب حاكم برابانت (الولاية) العسكري الجنرال بيلاندت Bylandt، الذي أراد تعزيز قواته العسكرية، والتي لم تكن تزيد على (١٨٠٠) من المشاة، و(٢٦٠) من الفرسان، وست قطع مدفعية.
وبدت السلطات المسئولة بالمدينة ضعيفة عندما قررت في آخر وقت إلغاء الألعاب النارية والزينات بدعوى رداءة الجو، الأمر الذي زاد من هياج الخواطر، لاسيما وأن السماء كانت صافية. ثم دل على ضعف هذه السلطات وترددها أنها — وكانت قد منعت قبلًا تمثيلية معينة، لم تلبث أن عادت الآن تأذن بعرضها على مسرح لامونيه De Lamonnaie مساء ٢٥ أغسطس ١٨٣٠، وهو مسرح كان شيده الملك وليم الأول نفسه؛ أما هذه المسرحية فكانت غنائية من نوع الأوبرا، عنوانها: خرساء بورتيشي La Muette de Portici — وبورتيشي إحدى مدن نابولي — تتناول حوادث الثورة التي قامت في نابولي بزعامة مسانيللو Masaniello ضد الحكم الإسباني في سنة ١٦٤٧.
وفي الموعد المحدد ازدحم المسرح بالنظارة الذين ألهب حماسهم موضوع المسرحية الثوري؛ فتعالت الصيحات بحياة فرنسا وسقوط هولندة، ثم امتد الحماس إلى خارج المسرح، حيث كانت الشوارع مكتظة بالناس الذين احتشدوا بها بمناسبة الاحتفالات، فحصلت مظاهرات صاخبة والتحامات دموية، وكانت بروكسل في هذا الحين مأوى اللاجئين السياسيين من كل مكان في أوروبا، ولم يكن يرحب أحد بالثورة قدر ترحيب هؤلاء بها، وعلى ذلك فقد انقلب الصخب إلى ثورة عارمة، فاقتحم الثوار مكاتب جريدة «لوناشونال» وأحرقوها، وأحرقوا كذلك مسكن «فان مانين»، وهوجمت دور الحاكم الإقليمي ومدير البوليس وعديدين من الموظفين، وكثرت حوادث النهب والتخريب طوال الليل دون أن تفعل السلطات شيئًا لوقفها؛ بل أبدى كل من الحاكم العسكري الجنرال «بيلاندت»، وقومندان البوليس الجنرال ووزييه Wauthiers تخاذلًا، لا سبب ظاهرًا له، فقد كان لديهما من القوات والذخيرة ما يكفي لمطاردة الثوار وإخلاء الشوارع منهم، لو أنهما أظهرا شيئًا من صدق العزيمة والإرادة القوية، وهكذا انتصرت الثورة في يومها الأول. أما في اليوم الثاني (٢٦ أغسطس) فقد اتخذت الثورة صبغة وطنية قومية، فرُفعت راية «برابانت» على مبنى البلدية، ومُزِّق العلم الملكي؛ ولما كان البوليس قد عجز عن إعادة الأمن إلى نصابه، فقد اجتمع المسئولون بالبلدية مع الأعيان والتجار، لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة على الأمن العام، فنظموا حرسًا أهليًّا استطاع أن يعيد الأمن والهدوء بعد مصادمات دموية، وفي ٢٨ أغسطس اجتمع مجلس من الأعيان في مبنى البلدية، حيث تقرَّر تأليف وفد من خمسة — كان من بينهم «جاندبيان»، وفيلكس كونت دي ميرود Félik de Mérode، يحمل إلى الملك التماسًا يرجونه فيه أن يأخذ بعين الاعتبار أسباب شكاواهم العادلة من المظالم التي أثقلتهم، والتي أدت إلى حدوث الأزمة الراهنة، ويرجونه دعوة مجلس الطبقات (البرلمان) إلى الانعقاد.
وتردد الملك في اختيار الطريق الذي وجب عليه أن يسلكه، وكان يمنعه كبرياؤه من طرد «فان مانين» نزولًا على إرادة الثوار، ومن الاستجابة لشيء من مطالب هؤلاء، وبالرغم من أنَّ وليَّ عهده أمير أورانج، كان لا يفتر يلحُّ عليه بوجوب اتباع طريق المسالمة، فقد كان كل ما وافق عليه الملك أن يأذن لولي عهده بزيارة بروكسل، ولكن دون أن يكون مزودًا بالسلطات الكاملة لاتخاذ ما قد يراه من إجراءات ضرورية للتهدئة، بل أن يذهب في بعثة فحص وتحقيق فحسب، واصطحب ولي العهد معه في هذه «الزيارة» شقيقه الأصغر الأمير فردريك، فوصل الاثنان أنتورب في ٢٩ أغسطس، ثم فيلفورد Vilvorde يوم ٣١ أغسطس، وكانت تعسكر بهذه الأخيرة قوات كثيرة، تسلم قيادتها الآن الأمير فردريك. أما ولي العهد فبعد أن استقبل وفدًا من بروكسل، وافق على الذهاب إلى العاصمة من غير قوات عسكرية، ولا يصحبه غير مرافقيه الخصوصيين فقط، فدخل بروكسل يوم أول سبتمبر، واخترق شوارعها وسط صفوف متراصة من الحرس الأهلي، وحشود من الأهلين المعادين له، والذين لم يهتف منهم أحد للترحيب به، بل كانت تعلو صيحاتهم من وقت لآخر بالمناداة بسقوط فان مانين وسقوط الهولنديين.

ولم يفلح ولي العهد في «مهمته» بعد أن أمضى أيامًا ثلاثة (١–٣ سبتمبر) في مباحثات مع «الثوار» في بروكسل. لقد كان ولي العهد نفسه شخصية محبوبة في العاصمة البلجيكية، ولم تكن حتى هذا الوقت قد قامت حركة ظاهرة من أجل تغيير الأسرة الحاكمة، ولكن ولي العهد لم يكن في وسعه إلا أن يعد بعرض رغبات البلجيكيين على الملك، ثم إنه أمر القوات العسكرية الملكية بمغادرة المدينة، وقد كان الغرض من هذا الجلاء إظهار روح المسالمة من جانب الحكومة، ولكن البلجيكيين الذين انتقل إلى أيديهم زمام السلطة لأول مرة في بروكسل، نظروا لهذا الإجراء كدليل على ضعف الحكومة التي عجزت عن مقاومة الثورة ضد سلطات الملك.

ومع أن الملك نفسه لم يلبث أن استجاب إلى بعض المطالب التي كانت قد قُدِّمت إليه في التماس الأعيان البلجيكيين من أيام قلائل مضت، فأقال «فان مانين» من الوزارة يوم ٣ سبتمبر، ودعا مجلس الطبقات للانعقاد في دورة غير عادية حَدَّدَ لها يوم ١٣ سبتمبر، فقد جاءت هذه الخطوة متأخرة؛ وذلك لأن جماعة من المتطرفين من أهل لييج، حوالي أربعمائة ثوري في عدادهم كثيرون من الأقاليم ومن الأجانب، وبزعامة شارل روجيه Rogier، كانوا قد دخلوا بروكسل عاقدي العزم على السير في طريق الثورة إلى النهاية. فلما نُشر قرار الملك (بدعوة مجلس الطبقات) يوم ٧ سبتمبر، مزقته الجماهير، ووقع الاصطدام بين الحزبين؛ المعتدل والمتطرف، داخل المدينة، واستمر النضال بضعة أيام، عندما أَلَّف المعتدلون «لجنة للأمن العام»، عارضها المتطرفون الثوريون الذين استولوا على مبنى البلدية (أوتيل دي فيل)، وأنهوا حياة هذه اللجنة (٢٠ سبتمبر).

ولم يتخذ الملك أثناء هذه الحوادث المنذرة بكل الخطر، إجراءً حاسمًا لمجابهة الموقف، وكان في رأي كثيرين أن الملك لو أنه أعلن صراحة عزمه الصحيح على إزالة المظالم التي يشكو منها البلجيكيون، ووعد بإصدار العفو الشامل، لكان استطاع اجتياز الأزمة بسلام، ولكن الملك بدلًا من ذلك لم يلبث أن أعلن في خطابه عند اجتماع مجلس الطبقات (البرلمان) في لاهاي، تصميمه القوي على المحافظة على الأمن والنظام، وعدم التسليم بشيء تحت ضغط الشغب والعصيان الحزبي، الأمر الذي زاد من غضب الجماهير ونقمتهم على الملك في بروكسل، حتى إنهم أحرقوا علنًا في شوارعها كل النسخ التي وصلت إلى أيديهم من خطابه. أما الملك فقد عرض على «البرلمان» مسألتين لبحثهما: هل دلت التجربة على أن هناك ما يدعو لإدخال تعديل على النقابات الأهلية؟ وهل يجب تغيير العلاقات القائمة بين جزأي المملكة حاليًّا؟ فكان جواب «الغرفة الثانية» — مجلس النواب — على هذين السؤالين بالإيجاب بأكثرية ٥٠ صوتًا ضد ٤٤، و٥٥ صوتًا ضد ٤٣، وذلك في ٢٩ سبتمبر.

ولكن بينما كان النواب يتباحثون في لاهاي، كانت حوادث ذات أثر حاسم تقع في بروكسل، فقد سيطر الثوريون المتطرفون على العاصمة البلجيكية، وذلك — كما عرفنا — منذ ٢٠ سبتمبر، وقرَّرت الحكومة الهولندية بمجرد أن بلغها ذلك إرسال التعليمات إلى الأمير فردريك في فيلفورد بالزحف مع جيشه على بروكسل «لحماية الأموال» والأرواح بها، وزحف الأمير بجيشه على المدينة، ودخلها يوم ٢٣ سبتمبر؛ ليلقى مقاومة مسلحة عنيفة كبدت جنده خسائر عظيمة، ولقد استمر الكفاح ثلاثة أيام بطولها ودون توقف، حتى إن فردريك لم يلبث أن ارتد عن المدينة وخرج منسحبًا منها في ليل ٢٦ سبتمبر، وكانت هذه هزيمة بالغة، خَلَّفت آثارًا عميقة في أذهان الثوار الذين بادروا في اليوم التالي (٢٧ سبتمبر) بتأليف حكومة مؤقتة كان من بين أعضائها: جاندبيان، وروجيه، وفان دي وير، وإمانويل دهوجفورست D’Hoogvorst، وفيليكس دي ميرود، ثم لم يلبث أن انضم إليهم بعد أيام قلائل، لويس دي بوتر الذي عاد من المنفى ودخل بروكسل وسط مظاهر الحماس الشديد، وانضم «المعتدلون» بعد هذا النصر إلى «المتطرفين» (أو الأحرار) ليؤلِّفوا جماعة واحدة غرضها الآن طرد جيوش الملك من بلجيكا، وإرغامها على التقهقر إلى هولندة.

ودخل الأمير فردريك بجيشه إلى أنتورب (أنفرس) يوم ٢ أكتوبر، ولكن لم يمضِ أكثر من أسبوعين حتى كانت كل البلدان الأخرى في بلجيكا قد انحازت إلى تأييد قضية الوطن، واضطرت الحاميات بها بعد انضمام الفرق البلجيكية إلى مواطنيهم، إلى الانسحاب منها. وفي يوم ٤ أكتوبر أعلنت الحكومة المؤقتة في بروكسل، أن الولايات البلجيكية قد تأسست دولة مستقلة، ثم وجهت الدعوة لانعقاد مؤتمر وطني.

واجتمع المؤتمر الوطني في بروكسل يوم ١٠ نوفمبر، وكان عدد أعضائه مائتين، انتخبهم المواطنون البلجيكيون الذين فوق سن الخامسة والعشرين. وفي ١٨ نوفمبر أعلن هذا المؤتمر بالإجماع استقلال بلجيكا، ولقد اختلفت الآراء حول نوع الحكم في الدولة الجديدة، ولكن الأكثرية كانت للملكيين في المؤتمر، فتقرَّر في ٢٢ نوفمبر أن تكون الملكية هي طراز الدولة البلجيكية، ثم تقرَّر بعد يومين إقصاء بيت أورانج نساو، ومنعه من اعتلاء عرش بلجيكا (٢٤ نوفمبر)، وهكذا اتسم المؤتمر الوطني بطابع الاعتدال، فلم يرضَ الديمقراطيون المتطرفون (الجمهوريون وعددهم ثلاثة عشر في المجلس) بزعامة «لويس دي بوتر» عن فشل الآراء الجمهورية، وتأسيس النظام الملكي، فاستقال لويس دي بوتر من الحكومة المؤقتة، وغادر الوطن إلى فرنسا مرة أخرى، وانكب المؤتمر على وضع دستور للبلاد استغرق إعداده بضعة شهور، وعند الفراغ منه صدر «القانون الأساسي» الجديد في ٧ فبراير ١٨٣١، وبمقتضاه وُضعت السلطة التنفيذية في يد ملك وراثي، يحكم بطريق وزراء يصدر عنه تعيينهم، وإنما يكونون مسئولين أمام هيئة تشريعية من مجلسين، ثم كفل الدستور استقلال القضاء وحرية الصحافة والعبادة والتعليم والاجتماع، وحق تقديم العرائض — ولقد كان المؤتمر يرغب في الحقيقة في إقامة ملكية دستورية، وذات أنظمة برلمانية، من نمط تلك المعمول بها في إنجلترة.

استقلال بلجيكا

على أنه في الوقت الذي كان المؤتمر الوطني منشغلًا فيه باتخاذ الإجراءات لإعلان استقلال بلجيكا وإنشاء الدولة الجديدة، انتقلت المسألة البلجيكية من مسألة داخلية «محلية» بين الهولنديين والبلجيكيين، إلى بساط البحث الدولي كمسألة «أوروبية» تثير اهتمام الدول، ومن واجب «الاتحاد الأوروبي» أن يعنى بها، والسبب في ذلك أن الاتحاد بين هولندة وبلجيكا كان من الموضوعات التي عالجها السياسيون في مؤتمر فينا، وكان وجود مملكة الأراضي المنخفضة نفسه نتيجة لاتفاق كلمة الدول: النمسا، وبريطانيا، وبروسيا، وروسيا في سنة ١٨١٤، على إقامة دولة حاجزة تقف في وجه الأطماع الفرنسية؛ والدول لذلك من حقها النظر في كل ما يطرأ على هذا الترتيب الإقليمي من تغييرات قد تؤدي إلى زوال الغرض الذي كان في الأصل مرجوًّا منه، وتلك حقيقة لم يفُت الملك وليم الأول إدراكها، فهو منذ ٥ أكتوبر ١٨٣٠ كان قد أبلغ الدولة الموقعة على بروتوكول المواد الثماني في لندن، بحقيقة الحال في الولايات البلجيكية، وطلب إلى الدول معاونته بقواتها المسلحة في إعادة النظام والهدوء إليها.

ولكن الموقف في أوروبا في سنة ١٨٣٠ كان مغايرًا لما كان عليه في سنة ١٨١٤، فإن وليم الأول كان يريد استرجاع سلطانه المفقود في بلجيكا عن طريق تدخل مسلح من جانب الدول، وأن يستند في حكومة «مملكة الأراضي المنخفضة» بعد إعادة «الاتحاد» بالقهر والقوة، على ما هو بمثابة الانتداب من دول أوروبا، ولكن التدخل الأوروبي لم يحقق شيئًا مما كان يريده الملك الهولندي؛ بل إن الاتحاد الأوروبي، بتناوله المسألة البلجيكية، لم يلبث أن اتخذ من القرارات ما كفل في النهاية نجاح الثورة، واعترف لبلجيكا باستقلالها.

فقد شاهدنا عند الكلام عن عهد المؤتمرات في أوروبا كيف أن إنجلترة وفرنسا قد وصلتا إلى تفاهم بشأن العمل المتحد فيما بينهما لتأمين السلام في أوروبا، ولقد كانت فرنسا تبدي عطفًا ظاهرًا على قضية البلجيكيين، ولكن سرعان ما امتنع لويس فيليب عن التدخل منفردًا في المسألة البلجيكية بالرغم من إلحاح البلجيكيين عليه أن يفعل؛ بل إنه طلب من سفيره في لندن (تاليران) أن يعمل بالاتحاد مع الحكومة الإنجليزية في هذه المسألة، وكانت إنجلترة كذلك تعطف على قضية البلجيكيين، ولكن بشريطة أن لا يترتب على هذا العطف إهمال الحيطة والحذر من ناحية التوسع الفرنسي، فكان من رأي الحكومة الإنجليزية «وزارة ولنجتون» أن تحل المسألة البلجيكية على أساس إعطاء بلجيكا «حريات دستورية» ما دام ترتيب ذلك ممكنًا (بشكل قانوني ومتفق مع مصالح أوروبا)، وحينئذٍ تقدمت الدولتان إنجلترة وفرنسا باقتراح باجتماع ممثلي الدول الخمس التي تألَّف منها الاتحاد الأوروبي منذ انضمام فرنسا إلى النمسا وبروسيا وروسيا وبريطانيا، في مؤتمر ينعقد في لندن لبحث المسألة البلجيكية الهولندية، وكانت روسيا (وقيصرها نيقولا الأول) تريد التدخل المسلح، وخشيت النمسا (ووزيرها مترنخ) — كما خشيت روسيا — شيطان الثورة، ولكن مترنخ والقيصر كانا يشعران كذلك بجسامة الأخطاء المتوقعة من حرب أوروبية عامة قد يتسبب التدخل المسلح في إشعالها، فتنازلت روسيا عن فكرة التدخل المسلح أمام تصميم الدولتين الغربيتين (فرنسا وإنجلترة) على حسم الخلاف بالطرق السلمية، وزيادة على ذلك فإن روسيا والنمسا لم تلبث أن شغلتهما (منذ آخر نوفمبر) الثورة المندلعة في بولندة عن كل رغبة في تدخل مسلح في أي مكان آخر (الأراضي المنخفضة)، وكانت بروسيا مستعدة كذلك لمؤازرة وليم الأول بقوة السلاح، لما كان هناك من وشائج قوية تربط بين الملك الهولندي والبيت المالك في بروسيا، ولكنها لم تستطع فعل شيء أمام تصميم إنجلترة وفرنسا الذي أشرنا إليه.

وعلى ذلك فقد انعقد مؤتمر من ممثلي الدول الخمس التي ذكرناها في لندن يوم ٤ نوفمبر، ووافق هؤلاء على اقتراح بعدم التدخل «المسلح» تقدَّم به تاليران، وقرَّر المؤتمر بعد توسطه بنجاح بين هولندة وبلجيكا، عقد هدنة بين الطرفين، من شرائطها انسحاب العسكر الهولندي إلى ما وراء الحدود البلجيكية الهولندية، وذلك ريثما يتم البت في مصير العلاقات بين بلجيكا وهولندة.

ولقد كان بعد مضي أقل من أسبوع من صدور قرار بالهدنة أن اجتمع في بروكسل المؤتمر الوطني، الذي ذكرنا أنه أعلن استقلال بلجيكا في ١٨ نوفمبر، ثم قرَّر الملكية نظامًا للدولة الجديدة في ٢٤ نوفمبر، ولا جدال في أن من الأسباب الرئيسية كذلك للإقلاع عن فكرة «التدخل المسلح» في المسألة البلجيكية نهائيًّا، كان إعلان النظام الملكي في بلجيكا، الأمر الذي جعل الدول تطمئن إلى أن الآراء الجمهورية قد باء أصحابها بالفشل في هذه الدولة التي يُراد الاعتراف بمولدها.

وعلى ذلك؛ فقد قرَّر مؤتمر لندن في بروتوكول بتاريخ ٢٠ ديسمبر ١٨٣٠، الموافقة على مبدأ استقلال بلجيكا وانحلال مملكة الأراضي المنخفضة وانتهائها، لاستحالة«الاتحاد» بين بلجيكا وهولندة، ثم طلب إلى الحكومة البلجيكية المؤقتة أن ترسل مندوبيها إلى لندن حتى يمكن تسوية المسألة البلجيكية في نطاق المعاهدات الأوروبية. فكان بروتوكول ٢٠ ديسمبر ١٨٣٠ بمثابة اعتراف من جانب أوروبا باستقلال بلجيكا، وصار ممكنًا القول بأنه قد تأسست نهائيًّا بفضل هذا البروتوكول مملكة بلجيكا المستقلة.

ولقد تبع هذه الخطوة المبدئية الاتفاق على بروتوكولين آخرين في ٢٠، ٢٧ يناير ١٨٣١؛ فاشتمل الأول (بتاريخ ٢٠ يناير) على الشروط التي بمقتضاها يجري فصل بلجيكا من هولندة، فأُعيد لهولندة خط الحدود الذي كان لها في سنة ١٧٩٠، في حين تأسست من بقية الأراضي المنخفضة — فيما عدا غراندوقية لكسمبرج التي أُعطيت لبيت نساو الحاكم في هولندة — دولة بلجيكا الحديثة، والتي ضمنت الدول في هذا البروتوكول كذلك حيادها بصورة مستديمة أو أبدية. أما البروتوكول الثاني (بتاريخ ٢٧ يناير) فقد سويت بفضله مشكلة الديون المشتركة بين هولندة وبلجيكا بأن تتحمل بلجيكا ستة عشر جزءًا من واحد وثلاثين جزءًا منه، وأعلن المؤتمر عدم الاعتراف بأي مَلِك لبلجيكا إلا إذا وافق على ما جاء في هذين البروتوكولين من شرائط، وكان على العموم مقبولًا من الدول.

ولم تكن هذه الشرائط التي اقترنت بتقرير استقلال بلجيكا مما يرضى عنها إطلاقًا المؤتمر الوطني في بروكسل، فالبلجيكيون كانوا يريدون أن تشمل دولتهم الجديدة غراندوقية لكسمبورج، وإقليم مايسترخت Maestricht، ثم فلندر الهولندية، كما أنهم كانوا قد شرعوا يختارون الملك الذي يريدونه لدولتهم دون التشاور مع أحد في ذلك؛ ولذلك فقد قوبل البروتوكولان بامتعاض وغضب، وفي أول فبراير (١٨٣١) احتج المؤتمر الوطني على ضم لكسمبورج إلى هولندة، وفي ٣ فبراير وقع اختياره على دوق دي نيمور Nemours الابن الثاني للويس فيليب ملك فرنسا، ملكًا على البلاد، فأعلن البلجيكيون باتخاذ هذا القرار أنهم يؤثرون توثيق صلاتهم بالأسرة الحاكمة في فرنسا، بالرغم مما كان معروفًا عن الدبلوماسية الأوروبية وقتئذٍ أنها لن تسمح بأن يعتلي عرش بلجيكا أحد أعضاء الأسر الحاكمة في أوروبا وعلى الخصوص في فرنسا، وكان اختيار الدوق دي نيمور بعد مباحثة طويلة، وتقليب مختلف وجوه الرأي في المؤتمر الوطني، ومنذ نوفمبر من العام السابق كان الاختيار منحصرًا بين اثنين من المرشحين أحدهما؛ أغسطس دوق ليختنبرج Augestus de Leuchtenberg، (وتقع هذه على الحدود بين بفاريا وبوهيميا) وكان ابنًا ليوجين بوهارنيه، وهو يمثل التقاليد البونابرتية، وأما الآخر؛ فكان لويس دي نيمور من بيت أورليان، والذي يمثل لذلك المبادئ التي قامت عليها «ملكية يوليو» في فرنسا، ولقد كان هناك إلى جانب هذين مرشحون آخرون تميز من بينهم؛ الأرشيدوق شارل النمساوي، ولكن عند الاقتراع (يوم ٤ فبراير ١٨٣١)، فاز دوق دي نيمور بسبعة وتسعين صوتًا، في حين نال دوق ليختنبرج أربعة وسبعين، والأرشيدوق شارل واحدًا وعشرين صوتًا فقط.

ولقد كانت هذه نتيجة طيبة ولا شك، يرضى بها لويس فيليب، الذي سرَّه انهزام ممثل التقاليد البونابرتية، ولكنه ما كان ليوافق في الوقت نفسه على قبول التاج لولده، فهو إنما كان يتبع في المسألة البلجيكية سياسة تقوم على العمل المتحد مع إنجلترة، ويؤثر أن يسود السلام أوروبا وبالنسبة لفرنسا خصوصًا، ومن أجل استقلال ملكية الأورليان، على كل اعتبار آخر؛ وكان لويس فيليب قد حَذَّرَ لذلك البلجيكيين من قبل أنه لن يستطيع تعريض تفاهمه مع إنجلترة للخطر، وإثارة المشاكل في أوروبا بالموافقة على ترشيح نيمور لعرش بلجيكا، وعلى ذلك فقد أعلن لويس فيليب رفض التاج البلجيكي، ولم يكن هناك مفر من أن يعقل الملك الفرنسي ذلك، إلا إذا كان قد صح عزمه على تنصيب ولده على عرش بلجيكا، وإنشاء أسرة حاكمة أورليانية في هذه البلاد بالقوة المسلحة. ذلك أن مؤتمر لندن سرعان ما أظهر (في ٧ فبراير) أنه لن يستطيع الاعتراف بالدوق دي نيمور ملكًا على بلجيكا.

وجاءت فترة بعد الرفض الفرنسي، سادت فيها الاضطرابات بلجيكا عندما شرع أنصار بيت أورانج (الأسرة الحاكمة البولندية) يحيكون المؤامرات في أنتورب (أنفرس) وغنت وغيرهما من المدن، ومع أن البلجيكيين بادروا بتعيين وصي على العرش في ٢٤ فبراير وهو البارون سيرلت دي شوكيه Surlet de Chokier؛ لتعزيز السلطة التنفيذية، وأمكن بفضل ذلك إخماد الاضطرابات وإعادة الأمن والنظام إلى نصابهما، فقد كان واضحًا؛ لتأمين استقلال بلجيكا وسلامتها أن يبادر البلجيكيون باختيار ملك بكل سرعة، ترضى عنه الدول، وكان مبعث الخطر العاجل على بلجيكا أن الملك الهولندي وليم الأول لا يفتأ يرقب تطور الحوادث بعين ساهرة، ثم إنه عمد لاستمالة الدول (في مؤتمر لندن) إلى الموافقة على الشرائط التي تضمنها بروتوكولا ٢٠ و٢٧ يناير ١٨٣١.
وكان آنئذٍ أن عرض على بساط البحث بصورة جدية في المؤتمر الوطني ترشيح ليوبولد أمير ساكس كوبرج Saxe Cobeurg، وكان يؤيِّد هذا الترشيح وزير الخارجية في الحكومة البلجيكية الجديدة وهو لوبو Lebeau، ولو أن سلفه في هذه الوزارة فان دي وير Van de Weir كان أول مَنْ اقترح ترشيح هذا الأمير الألماني، وكان الأمير ليوبولد الابن الأصغر لدوق ساكس كوبرج، إرنست الأول Ernest، الذي كان قد قَبِلَ التاج اليوناني ثم عاد فرفضه، وكان ليوبولد بروتستنتي ويعيش في إنجلترة وينال تأييد الحكومة الإنجليزية، ولما كان البلجيكيون يريدون ملكًا كاثوليكي، فقد اتفقت الحكومتان الإنجليزية (وبلمر ستون وزير خارجيتها)، والفرنسية (تاليران وزيرها في لندن) على حل لهذه المشكلة، على أن يتزوج ليوبولد من أميرة فرنسية، وتنشئة أبنائهما على العقيدة الكاثوليكية، ومع ذلك فقد كان هناك مرشح آخر، إلى جانب الأمير ليوبولد، هو الأمير أوتو البافاري الذي صار فيما بعد ملكًا على اليونان، فأسرع «لوبو» الآن يجس النبض لمعرفة موقف كل من إنجلترة وفرنسا من ترشيح الأمير ليوبولد، واستطاع إبلاغ الوصي على العرش والمؤتمر الوطني أن هاتين الدولتين لن تعارضا في ترشيح أمير ساكس كوبرج، وحينئذٍ ذهب وفد من أربعة قومسيريين إلى لندن ليوضح الموقف للأمير ليوبولد، وليعرض عليه التاج مشروطًا بتصديق المؤتمر الوطني، كما كانت مهمة الوفد في حالة قبول ليوبولد الترشيح لعرش بلجيكا أن يحصل من مؤتمر لندن على تعديلات للبروتوكولين الصادرين في ٢٠ و٢٧ يناير، لا سيما أنه كان قد صدر بروتوكول آخر في ١٧ أبريل (١٨٣١)، يعلن أن البروتوكولين السابقين أساسيان ولا يمكن إبطالهما.

وبعد مباحثات شاقة نجح الوفد في مهمته المزدوجة؛ ففيما يتعلَّق بمسألة العرش البلجيكي؛ أعلن المؤتمر الوطني اختيار ليوبولد ملكًا على بلجيكا بأكثرية ١٥٢ صوتًا ضد ٤٣، وذلك يوم ٤ يونيو ١٨٣١، وفيما يتعلق بالمسألة الثانية؛ أسفرت جهود الملك الجديد والقومسيريين الأربعة عن إبرام مقدمات الصلح بين هولندة وبلجيكا فيما يُعرف باسم «المواد الثماني عشرة» في ٢٤ يونيو، للاستعاضة بها عن بروتوكولي ٢٠ و٢٧ يناير. وفي المواد الثماني عشرة هذه؛ ظفر البلجيكيون بأهم مطالبهم عندما تقرَّر أن يُعاد البحث في مسألة الحدود المتعلِّقة بلكسمبورج ومايسترخت؛ لتكون موضع مفاوضات منفصلة، وأن يكون نصيب بلجيكا من الديون، هو مقدار الدَّين الذي كان عليها فعلًا عند حدوث الاتحاد، وعلى أن تتحمل إلى جانب ذلك جزءًا من الديون التي جدَّت بعد سنة ١٨١٥. وفي ٢٦ يونيو وَقَّعَ مندوبو الدول الخمس في لندن؛ إنجلترة، فرنسا، روسيا، بروسيا، النمسا، على «معاهدة المواد الثماني عشرة»، وقد تضمَّنت هذه المعاهدة إلى جانب ما تقدم، الاعتراف بحياد بلجيكا «المادة التاسعة». وفي ٩ يوليو ١٨٣١ بعد مناقشات عاصفة، صَدَّقَ المؤتمر الوطني في بروكسل على هذه المعاهدة بأكثرية ١٢٦ صوتًا ضد سبعين صوتًا، ولم يكن المؤتمر الوطني يريد الموافقة على مبدأ حياد بلجيكا، ولم يقبله إلا مرغمًا. أما الملك الجديد فقد وصل إلى مملكته يوم ١٧ يوليو، وقوبل في كل مكان بحماس شديد، وفي ٢١ يوليو حلف ليوبولد الأول يمين الولاء للدستور في احتفال رسمي في بروكسل (في القصر الملكي) بحضور الوصي على العرش والوزراء وحشود من الشعب، وسط مظاهر الابتهاج لنجاح الحركة الوطنية.

على أن البلجيكيين وسط هذه الابتهاجات، أغفلوا احتمال أن الملك الهولندي قد يرفض التنازل عن الأراضي التي يريدها البلجيكيون في لكسمبورج ومايسترخت، واعتمد هؤلاء على أنهم — وعلى نحو ما أعلن ليوبولد أنه فاعل — سوف يرغمون هولندة إرغامًا وبطريق الحرب إذا لزم الأمر، على التخلي عن لكسمبورج ومايسترخت، ولكن وليم الأول الذي كان واضحًا أنه لن يرضى بالتسليم بسهولة، كان قد حشد جيشًا قويًّا على الحدود، ومنذ ١٢ يونيو أبدى استياءه من أن تتراجع الدول بهذه الصورة عن تصريحها الرسمي (في ١٧ أبريل سنة ١٨٣١) بأن بروتوكولي ٢٠ و٢٧ يناير الذَين تضمنا قواعد الصلح بين هولندة وبلجيكا لا يمكن نقضهما وإبطالهما، وأعلن أنه يعتبر عدوًّا لبلاده أي امرئ يقبل التاج البلجيكي على غير الشروط التي كفلها بروتوكولا ٢٠ و٢٧ يناير.

وحذَّرت الدول (في ٢٥ يوليو) الملك وليم ضد استئناف العمليات العسكرية والحرب مع بلجيكا، ولكن الملك والشعب الهولندي معًا كانا لا يزالان يشعران بالمهانة التي لحقت بهما في نظر أوروبا؛ بسبب نجاح الثورة البلجيكية في سهولة في شهري سبتمبر وأكتوبر من العام السابق (١٨٣٠)، وقرَّر الملك متحديًا في جرأة تحذير الدول له، إقامة الدليل على أن هولندة في وسعها منفردة ودون أية مساعدة خارجية لها، الذود عن حقوقها وعن سلامة أراضيها، واندفع الشعب الهولندي وراء مليكه يريد الاقتصاص من البلجيكيين على ثورتهم، وتلقينهم درسًا قاسيًا لن ينسوه أبدًا.

وعلى ذلك فقد صدر مرسوم ملكي في ٢٩ يوليو بوضع ولي العهد، أمير أورانج على رأس القوات الهولندية — وقد بلغت هذه ٣٦٠٠٠ مقاتل و٧٢ مدفعًا — وفي ٢ أغسطس اجتازت هذه القوات الحدود البلجيكية، ولم يكن البلجيكيون مستعدين تمامًا لمواجهة هذا الزحف، فلحقت بهم الهزيمة، بالرغم من بسالة الملك ليوبولد الذي اشترك في القتال وعرَّض نفسه للمخاطرات عدة مرات، فارتد البلجيكيون على «لييج»، وصمد ليوبولد عند لوفان Louvain في ١٢ أغسطس، ولكنه أُرغم على إخلائها، وانفتح أمام القوات الهولندية الطريق إلى بروكسل العاصمة، وباتت البلاد بأسرها وبعد عشرة أيام فقط من بدء العمليات العسكرية تحت رحمة الملك الهولندي، وصار واضحًا أن حياة الدولة الجديدة ذاتها قد أضحت مهددة بالخطر، لو أن تدخلًا سريعًا لم يأتِ لنجدتها من جانب الدول.
وكان ليوبولد قد قرَّر الاستنجاد بفرنسا، ولو أنه بقي ممتنعًا عن تقديم الدعوة لها لنجدته، طالما كان لا يزال لديه الأمل في صد الهجوم الهولندي، ولكن بعد هزيمته في «لوفان» لم يتوانَ لحظة هو ووزراؤه عن طلب هذه المعونة من فرنسا، ووافقت الدول على ذلك. فدخل جيش فرنسي بقيادة المارشال جيرار Gerard بلجيكا، واحتل بروكسل، ولكن الهولنديين وقد نالوا بغيتهم — أي هزيمة البلجيكيين وإذلالهم — لم يكونوا إطلاقًا يريدون الدخول في حرب مع فرنسا.

وحينئذٍ أمكن بفضل وساطة الإنجليز إبرام الهدنة، وحصل الاتفاق على أن يخلي أمير أورانج (ولي العهد) الأراضي البلجيكية، فاجتاز الهولنديون الحدود عائدين هذه المرة إلى بلادهم (في ٢٠ أغسطس)، وأسرع الفرنسيون — بدورهم — بالانسحاب بقواتهم من بلجيكا، واجتمع المؤتمر في لندن ثانية للنظر في المسألة.

وعندما شرع المؤتمر يعمل لوضع حل جديد للمشكلة الهولندية البلجيكية، كان واضحًا تمامًا — وعلى حد قول البلجيكيين أنفسهم — «أن المواد الثماني عشرة قد عفت آثارها في لوفان»، وأن بلجيكا يجب أن تدفع ثمن هزيمتها، وبالفعل فإن مؤتمر لندن لم يلبث أن أصدر في ١٥ أكتوبر ١٨٣١ برتوكول أو معاهدة انفصال جديدة (بين هولندة وبلجيكا) من أربع وعشرين مادة، أُعطيت بمقتضاها (مايسترخت) لهولندة، بينما حصلت بلجيكا على الجزء الغربي من لكسمبورج، وذلك في نظير أن تنال هولندة بعض أجزاء ليمبورج Limburg. ثم إن الديون وُزِّعت بطريقة لم تكن في صالح بلجيكا، وَعُوِّقت الملاحة في نهر الشلدت، حيث قد طُلب من البلجيكيين أن يدفعوا رسومًا لهولندة، وتلك كانت شروطًا قاسية ولا ريب، ولكن ليوبولد أدرك أنه لا معدى عن قبولها لإنقاذ حياة الدولة الجديدة ذاتها.

وهدد ليوبولد بالاستقالة إذا رفض المؤتمر الوطني قبول معاهدة الانفصال الجديدة، فوافق المؤتمر بالتصديق على المواد الأربع والعشرين في مجلس النواب بأكثرية ٥٩ ضد ٣٨ صوتًا، وفي مجلس الشيوخ بأكثرية ٣٥ ضد ثمانية أصوات، وعندئذٍ تم التوقيع على المعاهدة في لندن يوم ١٥ نوفمبر ١٨٣١، وبذلك اعترفت الدول نهائيًّا ببلجيكا دولة مستقلة ذات سيادة، وضمنت للدولة الجديدة استقلالها.

وتحدثت مقدمة المعاهدة عن الحوادث التي وقعت في شهر سبتمبر ١٨٣٠؛ أي الثورة التي أفضت إلى ضرورة تعديل التسوية التي وُضعت في سنة ١٨١٥ من أجل المحافظة على السلام في أوروبا، ورسمت المادة الأولى الحدود البلجيكية، بالصورة التي جاءت في بروتوكول ١٥ أكتوبر، فبقيت في حوزة هولندة مقاطعاتها التاريخية القديمة، وقلعة مايسترخت، ثم قسمت بين الدولتين كل من ليمبورج ولكسمبورج، وحصلت هولندة على الجزء الأصغر من لكسمبورج (ثلث مساحتها فقط)، بما في ذلك مدينة لكسمبورج ذاتها، على أن تكون للملك الهولندي السيادة عليها بوصفه غراندوقا لها فقط، وأما مصب نهر الشلدت بضفتيه فقد بقي في حوزة هولندة، كما أن هذا النهر (المادة التاسعة) قد فُتح للملاحة الحرَّة وفق المبادئ التي قرَّرها مؤتمر فينا بشأن الملاحة النهرية، وبمقتضى المادة الثالثة عشرة وُزِّعت الديون العامة القديمة بصورة جعلت نصيب بلجيكا منها ستة عشر جزءًا من واحد وثلاثين (وقد أُنقص هذا القدر إلى الثلث تقريبًا بعد ذلك في سنة ١٨٣٩)، ونصَّت المادة الخامسة عشرة على أن يكون ميناء أنتورب (أنفرس) ميناءً تجاريًّا فقط، وامتنع تحصينها. ثم إن المعاهدة اعترفت بحياد بلجيكا الدائم (المادة السابعة)، ومما تجدر ملاحظته أن حكومة بروسيا هي التي أَيَّدت أن تكون بلجيكا دولة محايدة من طراز الحياد السويسري.

ولقد صدَّقت كل من إنجلترة وفرنسا على هذه المعاهدة في ٣١ يناير ١٨٣٢، وصدَّقت عليها كل من النمسا وبروسيا في ١٨ أبريل، ثم جاء أخيرًا تصديق روسيا عليها في ٤ مايو ١٨٣٢.

إلا أن إبرام الدول لمعاهدة لندن (١٥ نوفمبر ١٨٣١) وتصديقها عليها، لم يكن معناه أن الدول قد وصلت إلى تسوية نهائية مع هولندة، فقد تقدَّم كيف أن وليم الأول قد رفض (منذ ١٢ يوليو) وقبل «حرب الأيام العشرة» بروتوكول الثماني عشرة مادة، ولم يكن منتظرًا وقد كان النصر حليفه في هذه الحرب الأخيرة أن يبدو أقل تصميمًا وتعنتًا؛ بل إن الأمل كان يحدوه لتوقع الحصول على شروط أفضل من تلك التي تضمنتها معاهدة لندن، فرفض التوقيع على «الأربع والعشرين مادة»، ورفض إخلاء أنتورب (أنفرس) — على مصب الشلدت — وكانت جيوشه لا تزال تحتلها، أو إخلاء أي مكان آخر لا يزال في حوزته فعلًا، وإن كانت تدخل — حسب المعاهدة — ضمن الأراضي البلجيكية.

وحينئذٍ لم تَرَ الدول بُدًّا من إرغام الملك الهولندي على الإذعان قسرًا لأحكام معاهدة لندن، وعهدت الدول إلى إنجلترة وفرنسا بمهمة طرد الهولنديين من الأراضي البلجيكية، فضربت الأساطيل الإنجليزية والفرنسية المتحدة نطاق الحصار على الساحل الهولندي، وخصوصًا على مصب الشلدت، في حين تقدم جيش فرنسي بقيادة المارشال جيرار ثانية في نوفمبر ١٨٣٢ ليزحف على أنتورب، وليضع الحصار عليها، ولقد استمر الحصار على أنتورب من ٣٠ نوفمبر إلى ٢٢ ديسمبر، حتى اضطرت الحامية الهولندية بعد دفاع مجيد بقيادة الجنرال شاسيه Chassè إلى التسليم، ومن ناحية أخرى استمر الحصار البحري مدة أطول وبدرجة ألحقت الأذى الكبير بتجارة هولندة، حتى إن وليم الأول لم يلبث أن وجد نفسه مرغمًا على طلب الصلح.
وفي وفاق أُبرم في لندن في ٢١ مايو ١٨٣٣، لحين عقد المعاهدة النهائية، ثم الاتفاق على عدم تجدد الحرب ضد بلجيكا، وعلى أن يبقى نهر الشلدت ونهر الموز Meuse مفتوحين دائمًا للملاحة الحرَّة، ولكن الملك الهولندي رفض بتاتًا الاعتراف باستقلال بلجيكا على أساس الشروط الواردة في «المواد الأربع والعشرين». فلم تعد أهمية وفاق لندن أنه وثيقة تقر استمرار «الوضع الراهن»؛ أي بقاء ليمبورج دون مايسترخت، ولكسمبورج دون قلعتها في حوزة بلجيكا، وأن تستمر بلجيكا تدفع رسومًا لهولندة نظير الملاحة في نهر الشلدت. (ولقد نُظمت الملاحة في نهر الموز بمقتضى اتفاق خاص أُبرم بعد ذلك في زونهوفن Zonhoven من أعمال ليمبورج في ١٨ نوفمبر ١٨٣٣).

وخلال خمس سنوات لم تُتخذ خطوات ما لتغيير الوضع الراهن، أو لتحويل وفاق لندن (٢١ مايو ١٨٣٣) إلى معاهدة نهائية، وحاول الملك الهولندي استمالة الحكومة الإنجليزية «بلمر ستون» لاستئناف المفاوضة ولكن دون طائل (أكتوبر ١٨٣٦)، وصار بمضي الزمن ينظر أهل لكسمبورج وليمبورج إلى انضمام إقليمهم إلى بلجيكا كأنما قد أصبح أمرًا مفروغًا منه، وساد الاعتقاد في بروكسل أن الأمر كان كذلك فعلًا، ولم يعد يزعج المملكة الجديدة أن معاهدة نهائية لمَّا تُبرم بعد مع هولندة.

ولكنَّ الهولنديين — على خلاف الحال في بلجيكا — كان يزعجهم أن يشهدوا بلجيكا وقد أخذ يزداد رخاؤها سنة بعد أخرى، وأن تبقى في حوزتها أقاليم وافقت الدول على إعطائها لهولندة (في ليمبورج ولكسمبورج)، وأن تزداد أعباؤهم المالية، وأن تُثقل الضرائب كاهلهم بسبب الجيش الذي اضطروا إلى تهيئته على قدم الاستعداد دائمًا لمواجهة الطوارئ، وأخيرًا فإن الملك نفسه لم يلبث أن رأى عدم جدوى الاستمرار في تعنته للأسباب نفسها التي ذكرناها، ولأنه صار يرى كذلك من الأفضل لصالحه عدم استئناف المفاوضة على الأسس التي قامت عليها في سنة ١٨٣٣ (والتي تضمنها وفاق لند المبرم في ٢١ مايو من هذه السنة)، والعودة إلى بروتوكول ١٥ أكتوبر ١٨٣١ بمواده الأربع والعشرين، كأساس للمفاوضة الجديدة، الأمر الذي يكفل إنهاء «الوضع الراهن» الذي كان قرَّره وفاق لندن، ويجعل ممكنًا استخلاص ليمبورج ولكسمبورج من قبضة بلجيكا.

وعلى ذلك أصدر وليم الأول تعليماته في ١٤ مارس ١٨٣٨، إلى مبعوثه في لندن ديدل Dedel أن يبلِغ لورد بلمر ستون أنه قد قرَّر الموافقة على معاهدة الانفصال (أي بروتوكول ١٥ أكتوبر ١٨٣١)، والالتزام بشرائطه وهي التي أعلنت الدول الخمس أنها نهائية ولا يمكن نقضها، وأنه لذلك متهيئ لتوقيع هذه المعاهدة ذات المواد الأربع والعشرين.

وأثار اتخاذ هذه الخطوة من جانب الملك الهولندي — وعلى نحو ما كان متوقعًا — بلبلة في الأفكار كبيرة في بلجيكا، فقد حزَّ في نفوس البلجيكيين أن يُطلب إليهم وبعد مضي سبع سنوات التنازل عن أقاليم في حوزتهم لهولندة، كانوا قد أُرغموا على وجوب التخلي عنها إرغامًا بسبب هزيمتهم في الحرب (في سنة ١٨٣١)، وغضب البلجيكيون غضبًا شديدًا، وراح سياسيوهم يبذلون قصارى جهدهم مع الدول ذات الشأن للوصول إلى شرائط أوفق لمصالحهم، باعتبار أن الملك الهولندي كان رفض التوقيع على معاهدة الانفصال (والمواد الأربع والعشرين) في سنة ١٨٣١، وأنه قد اشترك بعد ذلك في المفاوضات التي أُجريت في عام ١٨٣٣ وأسفرت عن «وفاق لندن» في شهر مايو من هذه السنة، وكلاهما أمران يترتب عليهما إلغاء معاهدة الانفصال واعتبارها كأن لم تكن.

وأصرَّ مؤتمر لندن على ضرورة تنفيذ معاهدة الانفصال في القسم الخاص منها بالتسوية الإقليمية، فلم تفِد محاولات البلجيكيين في تعديل بنود هذه المعاهدة إلا في موضع واحد فقط؛ هو إنقاص نصيب هؤلاء من الديون التي كان عليهم سدادها بموجب هذه المعاهدة.

وفي ١٩ أبريل ١٨٣٩ وقَّعت هولندة معاهدة مع الدول الخمس «في لندن» إنجلترة وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا، حلَّت محل معاهدة لندن القديمة المبرمة في ١٥نوفمبر ١٨٣١، والتي لم تكن هولندة مشتركة في التوقيع عليها؛ فاعترفت هولندة رسميًّا الآن بانحلال الاتحاد مع بلجيكا (المادة الثالثة)، وفي ملحق لهذه المعاهدة من أربع وعشرين مادة رُسمت الحدود بين بلجيكا وهولندة، ووُضعت تسوية لمسألة الديون، ونُظمت شئون الملاحة في نهري الشلدت والموز، وتقرَّر حياد بلجيكا الذي وُضع بفضل ما جاء في صلب المعاهدة وفي ملحقها تحت ضمان الدول الخمس، وفي اليوم نفسه أُبرمت معاهدتان أخريان؛ إحداهما مترتبة على المعاهدة السابقة، وبين بلجيكا وهولندة لتقرير صلات الود والسلام بينهما، والأخرى بين الدول الخمس وحدها لتأكيد ضمان حياد بلجيكا مرة ثانية. ثم إن بلجيكا وهولندة أبرمتا معاهدة لتأكيد صلات الود والصداقة على أسس دائمة، وذلك في لاهاي في ٥ نوفمبر ١٨٤٢.

ولقد بقيت معاهدة ١٩ أبريل ١٨٣٩ الوثيقة الدولية التي صار يستند عليها الوضع في بلجيكا في كل السنوات التالية، إلى أن أُلغيت بمقتضى المادة الواحدة والثلاثين من معاهدة الصلح في فرساي في ٢٨ يونيو ١٩١٩.

الأراضي المنخفضة بعد الانفصال

احتفظت الولايات الهولندية باسم مملكة الأراضي المنخفضة، بالرغم من الانفصال الذي حدث باستقلال بلجيكا، وخروج هذه بصورة عملية من الاتحاد منذ ثورة ١٨٣٠، ولقد شاهدنا كيف أيَّد الهولنديون ملكهم وليم الأول بكل ما وسعهم من جهد وحيلة في مقاومته الثورة البلجيكية، ولكن لم يلبث الهولنديون منذ سنة ١٨٣٢ خصوصًا أن بدءوا ينفضون من حوله شيئًا فشيئًا بسبب عناده، والنفقات الطائلة التي اقتضتها عملياته العسكرية ضد البلجيكيين، وطالب الهولنديون بإنهاء الحكومة الشخصية التي جرَّت عليهم كل هذه المتاعب، ومع أن الملك لم يلبث أن شعر بصدق الحاجة إلى إدخال تعديلات إدارية وسياسية في نظام الحكم السائد، فقد آثر النزول عن العرش عن الاستجابة لرغبات رعاياه، وترك وليم الأول العرش (١٨٤٠) لولده وليم الثاني، وغادر البلاد التي أثارها زواجه من بلجيكية كاثوليكية هي الكونتس دولترمونت D’Oultremont، وقضى بقية حياته في عزلة في أملاكه الخاصة في سيلزيا، وبعد ثلاث سنوات (١٨٤٣) تُوفي في برلين.
ووليم الثاني هو ولي العهد، أمير أورانج الذي شهد الكفاح في مراحله المتعددة ضد البلجيكيين، وأظهر منذ ١٨١٥ أنه يدين بمبادئ الأحرار، وحاول أثناء ثورة ١٨٣٠ كسب ثقة البلجيكيين بفضل سياسة الملاينة التي اتبعها، وكان من واجب الملك الجديد التغلب على المصاعب المالية التي كانت تعانيها البلاد عندما ترك والده العرش، واستطاع وزيره فان هال Van Hall إنقاذ الدولة من الإفلاس بإقناع الأمة بالاكتتاب في قرض أهلي، ساعد على موازنة الميزانية، في حين أن المستعمرات الهولندية في الهند الشرقية لم تلبث أن صارت تدر أرباحًا كبيرة على الدولة، كانت عاملًا هامًّا كذلك في موازنة الميزانية.

وشمل تشجيع وليم الثاني غزو المبادئ الحرة الكنيسة، وكان القائمون على هذه الحركة جماعة من رجال الدين الذين أرادوا مقاومة التَّزمت الصارم الذي عُرفت به العقيدة الكلفينية، وبدءوا من سنة ١٨٣٤ ينفصلون علنًا عن الكنيسة الكلفينية (الرسمية)، ولم تفِد اضطهادات الحكومة شيئًا في وقف هذه الحركة، بل تزايد نجاح «الانفصاليين»، ولم يلبث وليم الثاني أن وافق على الترتيبات التي أجازت لهؤلاء الانفصاليين أن يؤسسوا كنيسة معترفًا بها وذات كيان خاص بها.

ولقد كان مرجوًّا أن يستجيب الملك لرغبة مواطنيه الذين نشدوا التمتع بحرياتهم (حقوقهم) السياسية عن طريق إعادة النظر في الدستور، وَعَزَّزَ هذا الرجاء إقبال الشعب على الاكتتاب في القرض الأهلي لإنقاذ الدولة من الإفلاس، ولكن الملك وليم الأول بالرغم من أنه دأب على المغالاة في إظهار شعور العرفان بالجميل نحو شعبه، فقد كان عاجزًا عن اتخاذ قرار حاسم من تلقاء نفسه، وعلى ذلك فقد تقدم في سنة ١٨٤٤ تسعة أعضاء من «الغرفة الثانية»؛ أي المجلس النيابي، بزعامة ثوربيك John Rudolf Thorbecke — وكان أستاذًا للقانون بجامعة ليدن — باقتراح محدد لمراجعة الدستور وتعديله، ولكن الملك أعلن معارضته للمشروع، فرفضه المجلس، وفي سنة ١٨٤٥ تقدم آخر، Nedermeyer Van Rosenthal باقتراح مشروع للتعديل، في حدود أضيق بكثير مما جاء في المشروع السابق، ولكن هذا الاقتراح كان نصيبه الرفض كذلك. فإن وليم الثاني — وهو زوج آنا باولوننا Anna Paulonna الروسية، شقيقة القيصر نيقولا الأول — لم يكن يريد نظامًا برلمانيًّا في بلاده.

وساد التذمر بسبب موقف الملك من مطالب البلاد الدستورية، وتزايد هذا التذمر وسط الطبقات العاملة؛ بسبب انتشار وباء أصاب محصول البطاطس، غذاء الطبقات الفقيرة الرئيسي، وقد ظل هذا المرض يفتك بالمحصول خلال سنوات ١٨٤٥–١٨٤٧؛ حتى وجد أهل هذه الطبقات أنهم صاروا محرومين من أهم عنصر غذائهم، في حين ارتفعت أسعار المأكولات؛ فقامت الاضطرابات والمظاهرات الصاخبة والالتحامات في كل مكان، وعمدت الحكومة إلى استخدام القوات العسكرية لإخماد هذه الاضطرابات، ولقد كانت هذه القلاقل مع ذلك مظهرًا من مظاهر رد الفعل العام الذي حدث من مدة طويلة ضد مبدأ الأوتقراطية الذي قامت عليه الحكومة، والذي ظل يقوى شيئًا فشيئًا، ويتزايد خلال كل السنوات السابقة، حتى بلغ ذروته في سنة ١٨٤٨.

وسنة ١٨٤٨ هي التي شهدت حدوث ثورة فبراير المعروفة في باريس (٢٤ فبراير)، وإقصاء لويس فيليب عن العرش، ثم سجلت تجاوب أصداء هذه الثورة في كل عاصمة تقريبًا من عواصم الدول في أوروبا، وكان آنئذ أن لمس وليم الثاني الخطر الذي يتهدد عرشه لو أنه بقي مصرًّا على تجاهل رغبات شعبه، وعلى ذلك فقد تألَّفت في ١٧ مارس ١٨٤٨ لجنة من خمسة أعضاء منهم أربعة من الزعماء الأحرار، أحدهم «ثوربيك»، والخامس يمثل الكاثوليك في برابانت الشمالية Brabant؛ لتضع برنامجًا للإصلاح الدستوري المطلوب، ثم تألَّفت في ١١ مايو وزارة جديدة للاضطلاع بمهمة تعديل الدستور، فوافق مجلسا البرلمان على القانون الأساسي الجديد، الذي أعلن رسميًّا بعد تصديق الملك عليه في ٣ نوفمبر ١٨٤٨.

وبفضل التعديلات التي أُدخلت على الدستور وصدر بها القانون الأساسي الجديد، أُنقصت سلطات الملك، بينما زيدت حقوق البرلمان وسلطاته زيادة كبيرة، فلم يعد الملك هو الذي يعين أعضاء «المجلس الأعلى» أو الغرفة الأولى (وعددهم ٣٩ عضوًا)، بل صارت المجالس (البرلمانات) المحلية في الولايات هي التي تنتخب هؤلاء مِمَّنْ يدفعون أعلى قدر من الضرائب المباشرة، وصار أعضاء «المجلس الأدنى» أو الغرفة الثانية ينتخبهم مباشرة المواطنون الناخبون الذين يدفعون ضرائب عقارية اختلفت فئاتها باختلاف المكان أو المقاطعة، وتحدد عدد أعضائه بنسبة واحد لكل خمسة وأربعين ألفًا من السكان، وفي حين تُركت للملك السلطة التنفيذية، وللبرلمان السلطة التشريعية، صار الملك يتولى سلطاته بواسطة وزرائه الذين تقرَّرت مسئوليتهم أمام البرلمان الذي صار من حقه إلى جانب اقتراح القوانين تعديل مشروعات ما يُعرض عليه منها، والموافقة على الميزانية أو رفضها، وهي التي تقرَّر عرضها عليه سنويًّا، وقد جُعلت جلسات البرلمان علنية، وفيما عدا ذلك نصَّ الدستور على حرية العبادة، وتوسيع سلطات البرلمان لتشمل شئون المستعمرات، ووضع التعليم الابتدائي تحت رقابة الدولة مع منح الحرية التامة للتعليم الخاص، وضرورة إصلاح الإدارة المحلية في المقاطعات والقرى وتنظيمها على أساس العمل بمبدأ الانتخاب.

ولقد تناول الإصلاح فيما بعد «مجالس الطبقات» أو البرلمانات المحلية، فقُسمت هولندة إلى إحدى عشرة مقاطعة لكل منها مجلسها، ولكن بعد أن أُلغي مبدأ الطبقات القديم الذي قامت عليه هذه المجالس، فصار الناخبون الذين لهم حق انتخاب أعضاء البرلمان الأعلى هم الذين ينتخبون أعضاء هذه المجالس المحلية التي غدت هيئات تشريعية صحيحة وإن احتفظت باسمها القديم: مجلس الطبقات.

ومنذ ١٨٤٨، أُدخل على الدستور تعديلات طفيفة، كان أهمها ما حدث في سنة ١٨٨٧ من حيث توسيع حقوق الانتخاب، حتى صارت تشمل كل مَنْ يملك عقارًا للسكنى، أن يدفعوا أجرًا لسكنهم — على غرار ما كان يحدث في إنجلترة — فزاد عدد الناخبين بسبب هذا التعديل من مائة وأربعين ألفًا إلى حوالي الثلاثمائة ألف. ثم لم يلبث أن زاد عدد الذين صار لهم حق الانتخاب بفضل تعديل آخر في سنة ١٨٩٦ — أُدخل في عداد هؤلاء فئات جديدة من طراز الأولين، فارتفع العدد إلى حوالي سبعمائة ألف ناخب، أو بنسبة واحد لكل سبعة من السكان (وأما حق الانتخاب العام ومبدأ التمثيل النسبي فقد أخذ بهما الدستور في سنة ١٩١٧).

ولقد تُوفي وليم الثاني فجأة في تيلبورج Tilburg (من أعمال برابانت الشمالية بهولندة) في ١٧ مارس ١٨٤٩، وخلفه ابنه وليم الثالث — من زوجته الروسية — على العرش، وقد بقي هذا في الحكم حتى سنة ١٨٩٠، فاحتلت العرش ابنته ولهلمينا Wilhelmina.

بلجيكا بعد الاستقلال

لقد رضخ البلجيكيون للشروط القاسية التي أملتها عليهم الدول في سنة ١٨٣٩ بشعور مختلط من الحزن والغضب، لإرغامهم — كما عرفنا — على التخلي لهولندة عن أجزاء من لكسمبورج وليمبورج اللتين اعتبروهما أراضي بلجيكية منذ ١٨٣١، واللتين شاطر أهلوها هذا الشعور نفسه، وهم الذين صاروا بلجيكيين تمامًا في عواطفهم ومشاعرهم، ولكنَّ البلجيكيين صاروا الآن ينعمون باستقلالهم، ووجب عليهم أن يصونوا هذا الاستقلال بالتغلب على المصاعب التي تولدت من معاهدة ١٩ أبريل ١٨٣٩؛ اضطلاعهم بقسم من ديون هولندة، وتعويق ملاحتهم في نهر الشلدت بسبب القيود التي وُضعت عليها.

ولما كان السبب الأكبر في نجاح الثورة البلجيكية، ما حصل من اتحاد وثيق بين جماعتي الكاثوليك والأحرار، فتناسى الفريقان اختلافاتهما في سبيل قضية الوطن، فقد صح عزم الملك ليوبولد الأول على المحافظة على هذا الاتحاد بكل ما وسعه من جهد وحيلة، ونجح ليوبولد فيما أراده. فتألَّفت وزارة ائتلافية سنة ١٨٣٤، استمرت في الحكم ست سنوات، وخلفتها وزارة كانت أكثر تجانسًا، ولو أنها اتصفت بالاعتدال كذلك (١٨٤٠)؛ ولكنها عجزت عن الاستمرار طويلًا، فتشكَّلت وزارة ائتلافية أخرى برئاسة نوثومب Nothomb، صاحب النشاط الكبير في حوادث ١٨٣٠-١٨٣١.

وكان من أخطر المسائل التي جابهتها وزارة «نوثومب»، والتي اختلف بشأنها الكاثوليك الأحرار اختلافًا عظيمًا، مسألة التعليم الابتدائي العام، ومع ذلك استطاعت الوزارة استصدار قانون في ٢٣ سبتمبر ١٨٤٢ لتنظيم شئون هذا التعليم بصورة تنال رضى المعتدلين من الفريقين، أدخل التربية الدينية ضمن برنامج التعليم العام، وألزم المجالس الريفية أو مجالس القرى (القومونات) بنفقات مدرسة ابتدائية على الأقل في كل «قومون»، على أن تقوم الدولة والولاية (أو المقاطعة) بنفقات المدارس التي لا يتوفر لدى هذه المجالس الريفية الموارد اللازمة للإنفاق عليها.

وأبدت وزارة «نوثومب» مهارة واعتدالًا في ممارسة شئون الحكم، مكَّناها من البقاء مدة طويلة، إلى أن أُجبر «نوثومب» على الاستقالة في يونيو ١٨٤٥، عندما أتت الانتخابات الجديدة بأكثرية في البرلمان معارضة لحكومته؛ والسبب في ذلك أن البلاد كانت تمر منذ سنة ١٨٤٣ في أزمة صناعية ومالية خطيرة، وعندما عجزت صناعة النسيج اليدوية في بلجيكا — في فلندرا وبرابانت خصوصًا — عن منافسة هذه الصناعة التي استخدمت الآلات في إنتاجها، في إنجلترة؛ فنقصت تجارة الصادر من الكتان البلجيكي إلى النصف في أقل من أربع سنوات، ومن بين حوالي نصف مليون عامل يعتمدون في عيشهم على هذه الصناعة، صار كثيرون متعطلين ويعمد أكثرهم إلى التسول، ويهلك جوعًا عديدون منهم. ومثلما حدث في هولندة في سنة ١٨٤٥، فتك الوباء بمحصول البطاطس، غذاء الطبقات الفقيرة، ثم جاء محصول القمح في سنة ١٨٤٧ رديئًا، وارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعًا فاحشًا؛ فاكتظت الشوارع والقرى بالمتسولين، ولم يمنع وقوع الاضطراب إلا تدخل الحكومة السريع، التي اتخذت من الإجراءات ما كفل تخفيف شدة الأزمة.

فقد ظلت تزدهر في الجنوب والشرق صناعات الفحم والحديد والقطن والأقمشة، فأخذت الحكومة على عاتقها إلحاق المتعطلين في هذه الصناعات، بأن تكفلت الدولة بإنجاز عدد من المشاريع العامة النافعة مثل؛ التوسع في بناء السكة الحديد في فنلندرا وغيرها، وإنشاء قناة تيرنهوت Turnhout وتعبيد مئات الأميال من الطرق الجديدة، كما اتخذت الخطوات لاستخدام الآلات في صناعة الكتان لإحياء هذه الصناعة، ثم أنشئت الورش النموذجية والمدارس الفنية الصناعية لتلقين العمال أحدث الأساليب المتبعة في صناعة النسيج خصوصًا، وهكذا أمكن اجتياز الأزمة.
إلا أن استقالة وزارة «نوثومب» أوجدت أزمة سياسية لا تقل في خطورتها عن هذه الأزمة الاقتصادية والمالية؛ لأن الملك الذي كان يؤثر دائمًا الوزارات «المحايدة»، ويريد أن يسود الاعتدال بين الأحرار والكاثوليك (أو الكنسيين) بإقامة الوزارات «الائتلافية» التي ترتكز معالجتها للأمور على حلول وسط، كان يأبى أن تتولى الحكم وزارة من الأحرار؛ فعهد إلى أحد الأحرار المعتدلين (فان دي وير) — وكان موضع احترام الجميع لما أسداه من خدمات للوطن — بتشكيل وزارة ائتلافية (يوليو ١٨٤٥)، ولكن «فان دي وير» لم يلبث أن استقال في مارس من العام التالي للصعوبات التي أحاطت بوزارته، فلم يجد الملك مناصًا حينئذٍ من دعوة أحد زعماء الأحرار المعروفين، هو شارلس روجيه Rogier — وكان مثل دي وير من الذين ساهموا في حوادث استقلال بلجيكا بنصيب وافر — لتأليف الوزارة، ورفض «روجيه» تشكيل الوزارة قبل أن ينال من الملك موافقته على حل البرلمان؛ فاستدعى ليوبولد أحد زعماء الكاثوليك ثو دي ميلاند Theux de Meyland لتأليف وزارة كاثوليكية متجانسة. الأمر الذي أثار معارضة شديدة ضد الحكومة.
فقد دعا حزب الأحرار لمؤتمر عام ينعقد في بروكسل في ١٤ يونيو ١٨٤٦، حضره ثلاثمائة وعشرون مندوبًا من جميع أنحاء بلجيكا؛ فأقرَّ المؤتمر برنامجًا للإصلاح استطاع بفضله الأحرار أن يدخلوا الانتخابات العامة التي أُجريت في السنة التالية (١٨٤٧) في جبهة متحدة، فظفروا بأكثرية كبيرة من الأحرار، فشكَّل شارلس روجيه الوزارة في هذه المرة، ولم يتردد ليوبولد بوصفه ملكًا دستوريًّا في تأييد وزارته، فكان تصرفه تصرفًا حكيمًا، جعل ممكنًا أن تجتاز البلاد بسلام الأزمة التي نجمت من ثورة ٢٤ فبراير ١٨٤٨ في باريس، والتي أدت إلى طرد لويس فيليب والد زوجه من العرش، وبينما انتشرت القلاقل والثورات في كل مكان تقريبًا في أوروبا، بقيت بلجيكا يسودها الهدوء، وأبدى البلجيكيون رضاهم عن الحريات التي حصلوا عليها والتقدم الذي أحرزته بلادهم، في عهد ملك اختاروه هم أنفسهم، نجح في إدارة شئون الحكم بحكمة واعتدال، وصارت الثقة في مستقبل البلاد لذلك كله تملأ نفوسهم. ولقد حاولت بعض عصابات الثوار الفرنسيين غزو بلجيكا، ولكن البلجيكيين سرعان ما تصدوا لهم؛ ليوقعوا بهم الهزيمة بسهولة عند ريسكونز توت Risquons-Tout بالقرب من موسكرون Mouscron في ٣٠ مارس ١٨٤٨.

ولقد استطاعت وزارة روجيه بعد انقضاء أزمة ١٨٤٨، أن توجه عنايتها لإنجاز ما وعدت به وهو تنفيذ برنامج واسع للإصلاح النيابي والبرلماني، فجعل حق الانتخاب للذين يدفعون ضرائب مباشرة قدرها عشرون فلورين فقط، سواء عند الانتخاب للبرلمان أو لمجالس المقاطعات (الإقليمية) أو مجالس القرى (الريفية)، وكان ذلك في صالح الأحرار — الطبقة البورجوازية — حيث قد ضوعف بسببه عدد الناخبين في المدن، في حين لم يزِد عدد الناخبين في الريف بالنسبة نفسها، وظهر أثر هذا التغيير في نتيجة الانتخابات التالية؛ إذ كان عدد الأحرار خمسة وثمانين، في حين بلغ «الكاثوليك» ثلاثة وعشرين فقط. فاستطاعت الوزارة الاعتماد على أكثرية عظيمة في «الغرفة الثانية»، فتسنى لها اتخاذ عدة إجراءات عادت بالنفع على الطبقات العاملة، والمشتغلة في التجارة؛ من ذلك تأسيس بنك أهلي، وبنك للتوفير والضمان، وإنقاص أو إلغاء ضرائب الوارد على الأغذية والمأكولات، وتمويل الدولة لعدة مشروعات عامة لصالح المتعطلين والفقراء، وعنيت الحكومة ثانية بشئون التعليم.

واستمرت وزارة «روجيه» في الحكم إلى سنة ١٨٥٣، ومن أهم الحوادث التي وقعت في أثنائها وفاة الملكة لويز ماري ابنة لويس فيليب في ١١ أكتوبر ١٨٥٠ في أوستند، بعد أن أضعفها المرض على أثر حوادث الثورة التي أقصت والدها عن العرش، ثم اضطرار الحكومة إلى زيادة الضرائب، مما أفقد الوزارة قسمًا كبيرًا من أنصارها في انتخابات ١٨٥٢، فاستقال «روجيه» في العام التالي، فألَّف الوزارة دي بروكير Brouckére وكان من المعتدلين، ليستقيل هو الآخر في مارس ١٨٥٥، حتى تتشكل وزارة من الوسط واليمين، ولكن في سنة ١٨٥٧ لم يلبث الأحرار أن ظفروا بأكثرية في الانتخابات، فَشَكَّل «شارلس روجيه» الوزارة، ولقد بقي روجيه في الحكم مدة طويلة، من سنة ١٨٥٧ إلى ١٨٧٠.

أما الملك ليوبولد فقد وافاه أجله في ١٠ ديسمبر ١٨٦٥ وهو في سن الخامسة والسبعين بعد حكم استمر أربعًا وثلاثين سنة، أظهر خلالها من صفات الحكمة والكياسة في توجيه البلاد، ما ساعد الدولة البلجيكية الحديثة على التغلب على الصعوبات العديدة التي اعترضت طريقها، حتى تدعمت أركانها، ونال الملك بفضل الخدمات الوطنية التي أسداها احترام شعبه له وثقته في شخصه، واحترام أوروبا كذلك.

١  Dutch Arithmatic.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤